التعليم ودوره في الخطة الوطنية لتعزيز النزاهة
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتربوية في مجلس الدولة
لمّا كانت النزاهة محطات إنجاز تستجلي من مواقف الحياة وشواهد الأيام مرتكزات القوة وأساسيات النجاح، لتتجلى فيها قيم الأمانة والصدق والإخلاص والشفافية والرقابة والمحاسبة والمساءلة وحياة الضمير، لذلك بات الحديث اليوم عن دور أعمق للتعليم في ترسيخ معايير النزاهة والرقابة في حياة الأجيال وإكسابهم مبادئها منذ نعومة أظافرهم ضرورة ترتبط ببناء الإنسان وتكوينه النفسي والاجتماعي والفسيولوجي والعاطفي والقيادي، وتصبح مقولة “التعليم في الصغر كالنقش على الحجر” تلك الصورة الذهنية التي تلتصق بذهن المتعلم ووعيه وترافقه في دربه التعليمي وتتفاعل معه في ممارساته اليومية داخل المدرسة وحرم الجامعة، وتستدعيها ذاكرته المجتمعية عندما يخرج لمحيطه الخارجي، ذلك أن استدامة تأثيرها سوف يكون مدد له في حياته القادمة المهنية والأسرية والوظيفية، ويصبح حس التعليم خلال هذه الفترة نافذة حياة ممتدة تعيد إنتاج الواقع المتغير الذي يعيشه الفرد في إطار الرقابة والنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد.
وإذا كان التعليم الطريق لبناء المواطنة المنتجة وترسيخ قيمها وغاياتها كنماذج حيّة في حياة الفرد والمجتمع، وكانت المحافظة على المال العام والرقابة والمسؤولية جزء من المواطنة، فإن النزاهة بما تحويه من مبادئ الخيرية والصلاح والإصلاح وموجهات الأمانة والصدق والشفافية والالتزام تعبير دقيق عن امتلاك الفرد لحس المواطنة، وروح التغيير الذي يسري في مواقف حياته وتصرفاته، وترفّعه عن الأنانية والفوقية والسلطوية والطمع والجشع والأثرة التي تتجافى مع مفهوم النزاهة، فيصنع من ممارساته وإخلاصه ميزة فارقة تظهر في أداء واجباته نحو وطنه، والحفاظ على موارده وثرواته، ليظهر دور التعليم في إعادة هندسة السلوك وبناء الضمير وتربية النفس وترقية الروح؛ في استنطاق القيم والأخلاق والمبادئ المعززة لقيم النزاهة، بدءا من محاسبة النفس وإصلاح الذات، ووصولا إلى حسن استخدام الموارد وصون الممتلكات العامة واستشعار الصدق والمسؤولية في أداء المهام الوظيفية.
من هنا يأتي دور التعليم في تعزيز النزاهة وترسيخ قيمها ومبادئها وأخلاقياتها وممارساتها القويمة تجاه المال العام والوظيفية العامة، انطلاقا من الميزة التنافسية التي يمنحها التعليم لهذا المنظور الحضاري الراقي، في بناء وعي رقابي مستدام، عبر مناهجه وطرائقه وأساليب التدريس والخطط الدراسية والأنشطة والبرامج والمحتوى التعليمي ذاته، وتطبيقاتها، وفق نماذج محاكاة عملية للواقع الذي يعيشه المتعلم، وتبني أفضل الممارسات الداعمة لتعزيز النزاهة، وترسيخ مبادئها وتأصيل قيمها وأخلاقياتها وبناء أطرها، وإعادة فرص إنتاجها في مجتمع التعليم، وتمكين الأطر التعليمية بما تمتلكه من موجهات وفرص وبرامج ومساقات تدريسية ومناهج تعليمية وأنشطة ومساحات احتواء ومنصات التقاء في تعظيم قيمة المال العام وأخلاقيات الوظيفة في حياة الأجيال وتنشئتها على هذه المعاني النبيلة لتصبح حصون داعمة لها في حياتها القادمة، ومنطلقها في التعامل مع المواقف الحياتية وتشعباتها المختلفة، وعندها يصبح دور التعليم مساحة أمان لاستنطاق القيم واستنهاض العزائم، وترقية الفضائل، وتصحيح الانحرافات التي قد تسيء إلى المال العام وتؤدي إلى تراكمات واختلالات غير سارة ترفع من سقف الفساد.
إن التعليم عندما يصاحبه حسن التوجيه، وجودة المحتوى، وكفاءة المعلم وعمق المنهج، ويمنح الطالب فرصا أكبر للتدريبات والتطبيقات العملية ونماذج المحاكاة، فإنه الأقدر على بناء ثقافة الرقابة الوقائية وترسيخ أبجديات النزاهة في حياة الأجيال، وتعميق حضورها في بيئات التعليم ليصبح نماذج وطنية، يحمل قدسية الوطن ويحترم موارده، ويسعي لتحقيق العدالة، وينتزع من ذات أفراده حاجز الأثرة وعقلية الندرة واستغلال النفوذ والمصالح الشخصية، ويمتلك إرادة التغيير الذاتي وحس المنافسة وتقييم الذات، فتتولد لديه فرص نجاح قادمة ناتجة عن إخلاصه وإيمانه بمبادئ الكفاءة والإنتاجية والمنافسة والإيمان بمبدأ الشفافية والموضوعية والمصداقية والتزام نهج الصدق والأمانة.
عليه فإن تجسيد دور التعليم في الخطة الوطنية لتعزيز النزاهة 2022- 2030 التي أطلقها جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، وفي إطار مبدأ: الشراكة، تعاون فاعل من كافة الأطراف ذات العلاقة، يتأكد اليوم من خلال تبني سياسات تعليمية تتفاعل أنشطتها نحو تحقيق هذا المبدأ من خلال:
▪ تضمين المحتوى التعليمي في المناهج الدراسية لمفاهيم ومبادئ النزاهة من خلال دمج وتبسيط مفاهيم الشفافية والإفصاح ومكافحة الفساد وأخلاق الوظيفة العامة والشراكة الرقابية والحس الرقابي والتكامل المؤسسي الرقابي والتعاون الدولي في مكافحة الفساد وحماية المال العام.
▪ تعزيز بناء فقه المسؤولية لدى الطلبة وترسيخ ثقافة المحافظة على الموارد والممتلكات العامة.
▪ تعزيز فرص المبادرة وإعادة إنتاج الموارد والتثمير فيها بالشكل الذي يضمن توجيهها نحو الاستدامة الاقتصادية، وتفعيل دور البحث العلمي والريادة والشركات الطلابية كنموذج للتثمير في الموارد والمحافظة على المال العام.
▪ إعادة إنتاج القدوات وصناعة النماذج في بيئات التعليم من خلال دعم النماذج الإيجابية من القيادات الطلابية وإخراجها بالشكل المطلوب داخل المجتمع التعليمي (صناعة القدوات في المدارس والجامعات).
▪ إعادة إنتاج القيادات الطلابية وإكسابها روح التغيير وقيم الأمانة والصدق والموضوعية والإخلاص
▪ تعريض الطلبة لبرامج ومواقف محاكاة للواقع تبرز فيها مساحة الأمانة والإخلاص وتجسد روح النزاهة والمحاسبة في سلوك المتعلمين.
▪ ترسيخ مفاهيم وقيم المواطنة والولاء والانتماء باعتبارها موجهات أساسية لتأصيل معايير النزاهة وتوجيه القدرات نحو الوطن والإخلاص له.
▪ تعظيم دور الخطاب الديني في ترسيخ النزاهة والرقابة في حياة الطلبة من خلال بعض النماذج والمواقف الإيمانيّة التي أبرزت صورة راقية من النزاهة في حياة الأنبياء والصالحين الذين قص القرآن الكريم سيرتهم، وأحاديث الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام والتي أبرزت اهتمام الإسلام بمبادئ النزاهة والمحافظة على المال العام والممتلكات العامة وحسن استخدامها، واحترام المسؤوليات والأمانة فيها.
▪ تعظيم دور التشريع العماني في ترسيخ النزاهة والرقابة سواء من خلال النظام الأساسي للدولة وخطابات جلالة السلطان أو جملة القوانين التي تضبط سلوك الموظف وأخلاقيات الوظيفة.
▪ التعريف بدور جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة واختصاصاته في تعزيز مبادئ النزاهة والرقابة، والنماذج أو المواقف التي تعامل معها الجهاز.
▪ توظيف قانون التعليم المدرسي وقانون التعليم العالي وقانون جامعة السلطان قابوس في تعزيز المحاسبة والمساءلة سواء من حيث تطبيق الجزاءات والعقوبات، أو ترقية مبادئ الإخلاص، واحتواء القيادات والكفاءات المخلصة من أعضاء الهيئات التعليمية والأكاديميين.
▪ توجيه طلبة مؤسسات التعليم العالي من حملة الماجستير والدكتوراة أو الباحثين المستقلين نحو التأصيل العلمي والبحثي لمسار النزاهة في سلطنة عمان والعوامل والمتغيرات الداعمة لها والفرص المتحققة منها والأحكام القضائية الصادرة حول بعض القضايا في الادعاء العام والمحاكم ذات الصلة باختلاس المال العام والإساءة للوظيفة والرشوة والفساد الإداري والمحسوبية وغيرها.
▪ تبني معايير وطنية لقيم النزاهة تساعد المدارس والجامعات على ترجمتها إلى كفايات، والاسترشاد بها في عمليات تطوير المناهج التعليمية.
▪ استحداث منهج أو مساق تدريسي في النزاهة يتدرج مع الطالب في مختلف مراحل التعليم المدرسي وصولا إلى التعليم الجامعي، يتناول المحتوى الرقابي بلغة سهلة وبسيطة ونماذج عملية يستوعبها الطالب وتشكل قيمة مضافة في تعلمه، بحيث يكون للأفعال والسلوكيات المرتبطة بـ : مكافحة الفساد المالي والإداري، التي يجرمها القانون العماني، أو التي يؤكد عليها كالشفافية والمساءلة والرقابة والمحاسبة حضورا واسعا في هذه المساقات للوصول إلى تطبيقات عمليه تتكامل فيها مكونات الدعوى الرقابية والقانونية والإجراءات المتخذة.
أخيرا يبقى على التعليم اليوم البحث عن خيارات أوسع، وتنشيط بدائل أنضج، وتبني برامج تدريبة وتأهيلية مجربة، بما يسهم في وضع الخطة الوطنية لتعزيز النزاهة موضع التطبيق، وأن تعيد مؤسسات التعليم، ترتيب أوضاعها وأولوياتها التعليمية، وعبر حضور المسار الرقابي في بيئة التعليم وموارده ووقوفه، وتحقق النزاهة في القائمين على مؤسسات التعليم، في مشهد رقابي متجدد، تقدم فيها المدارس والجامعات وغيرها نماذج تطبيقية في إدارة المال العام ومكافحة الفساد وتعزيز الكفاءة الوظيفية في ميدان العمل، وإنتاج المخلصين الذي يحملون أهداف الخطة الوطنية لتعزيز النزاهة وينفذون أدواتها.
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: الخطة الوطنیة لتعزیز النزاهة النزاهة والرقابة تعزیز النزاهة المال العام دور التعلیم النزاهة فی التعلیم فی من خلال فی حیاة
إقرأ أيضاً:
نشاط مكثف لوزارة الأوقاف بمراكز الثقافة الإسلامية لتعزيز قيم الوطنية وبناء الإنسان
شهدت مراكز الثقافة الإسلامية على مستوى محافظات الجمهورية نشاطًا ملحوظًا ضمن مبادرة "بناء الإنسان" التي أطلقتها وزارة الأوقاف، بهدف تعزيز قيم الوطنية والقيم النبيلة بين الشباب وتوعيتهم بالقضايا الدينية والاجتماعية.
نظمت الوزارة (35) ندوة ثقافية ناقشت موضوعات متنوعة، مثل "التنشئة الإيمانية للشباب" و"حسن العشرة بين الزوجين وأثرها في الأسرة"، حيث حاضر فيها نخبة من أساتذة الجامعات وأئمة وزارة الأوقاف.
يأتي هذا النشاط في إطار دور وزارة الأوقاف الرائد في نشر الوعي الديني والتوعوي، انسجامًا مع رؤية الدولة المصرية في بناء الإنسان، وتفعيلًا لمبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي "بداية جديدة لبناء الإنسان".
وشملت الندوات محافظات القاهرة، الجيزة، الإسكندرية، القليوبية، كفر الشيخ، المنوفية، الشرقية، الغربية، الدقهلية، البحيرة، دمياط، بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، البحر الأحمر، الوادي الجديد، شمال سيناء، جنوب سيناء، مطروح، الفيوم، بني سويف، المنيا، أسيوط، سوهاج، قنا، الأقصر، وأسوان.
أقيمت الندوات في مراكز الثقافة الإسلامية بمختلف المساجد الكبرى، مثل مسجد النور بالعباسية في القاهرة، ومراكز الثقافة الإسلامية بالعجمي ومحرم بك في الإسكندرية، بالإضافة إلى مراكز أخرى في مناطق مثل العاشر من رمضان والزقازيق ومدينة العريش وغيرها، حيث تناولت الندوات قضايا تعزز من روح الانتماء الوطني وتعكس رؤية الدولة في نشر قيم التسامح والسلام والمحبة.
حظيت الندوات بإشادة واسعة من الحضور لما لها من أثر كبير في بناء شخصية الشاب المصري، ليصبح نموذجًا يحتذى به في حب العلم والانتماء للوطن، ومنفتح الفكر ومحبًا للسلام والإعمار.
وتعمل مراكز الثقافة الإسلامية بذلك كمنارات ثقافية وعلمية تسهم في رفع الوعي المجتمعي، وتطوير البناء الفكري للمجتمع، وتعزيز القيم الإنسانية السامية.
ويؤكد هذا النشاط على التزام وزارة الأوقاف بتكثيف الأنشطة التثقيفية والعلمية، كجزء من دورها الريادي في بناء الإنسان المصري على أسس قوية من العلم والتسامح والانتماء للوطن.