حرب جنرالات السودان.. الأساس الخاطئ «10»
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
حرب جنرالات السودان.. «10»
الأساس الخاطئ
مهدي رابح
(( ان المنتصر في الصراع الطويل من اجل السيطرة علي الدولة يجب ان يعرف هدفه بوضوح، وأن يسعي اليه في صرامة وقسوة وليس بأيّ وسيلة أخري.))
مقتطف من تصريح د. عبد الوهاب الأفندي، الاسلاموي المعروف والملحق الاعلامي لسفارة السودان في لندن حينها وممثل لحكومة انقلاب يونيو 1989م “ثورة الإنقاذ الوطني” خلال منتدي ابسالا بالسويد… أغسطس (آب) من العام 1991م.
…………………………………………………………………………
قصدت افتتاح هذا المقال بالمقتطف اعلاه, والذي يمثل محاولة غير متقنة لتبرير الانتهاكات المروعة التي ارتكبها نظام “الإنقاذ الوطني” في نفس تلك الفترة والتي يمكن ان تُقرا في سياق التأسيس النظري لما سيليها حتي ما بعد سقوطه عام 2019م, والصادرة من قبل الدكتور عبد الوهاب الافندي, الاسلاموي المعروف كونه يمثل احد الوجوه التي تعطي المراقب الحالي وغير المتعمق جيدا في الشأن السوداني انطباعا مخادعا بالاعتدال, ذلك بهدف توضيح طبيعة أيديولوجيا الإسلام السياسي الحقيقية وان تبدلت تمظهراتها الخارجية او حاملي خطابها, ثم للولوج لاحقا لتقييم موجز لحجم التشوهات السياسية, الاقتصادية والاجتماعية التي تسبب فيها التنظيم الاسلاموي منذ دخوله المعترك السياسي السوداني نهاية ستينات القرن الماضي وخلال استيلائه علي الحكم بالقوة لمدي ثلاثة عقود منذ عام 1989م, والتي مثلت الأساس الموضوعي لما وصل اليه السودان اليوم من وضع كارثي, ذلك بالطبع دون اغفال لدور عناصره المباشر في اشعال فتيل حرب 15 ابريل 2023م وسعيهم الحثيث في الأشهر التالية لاستمرارها مهما يكن الثمن.
جاء الفكر السياسي الاسلاموي كنتاج وامتداد لما سمي بالصحوة الإسلامية, والتي يمكن ان نرجع جذوره الي بدايات القرن التاسع عشر كرد فعل علي الصدمة المدوية التي اصابت العالم الإسلامي الغارق حينها في قرون من العزلة والتكلس العلمي والمعرفي, او ما سمي بعصور الانحطاط, ذلك عقب استيقاظه على دوي اصوات مدافع جيش نابوليون وهو يكتشف البون الشاسع الذي يفصله من العالم الغربي الناهض بعيد عصر التنوير وعلي اعتاب الثورة الصناعية والتي مثلت الحملة الفرنسية علي مصر 1798-1801م اهم لحظاتها بما جلبته من أسلحة متطورة واختراعات مستحدثة ومعارف جديدة كليا.
يمتد عصر الانحطاط في تقدير محمد عابد الجابري كما ذكر ضمن مشروعه الفكري المهم “نقد العقل العربي” منذ ما بعد الامام الغزالي مباشرة 1058-1111م , حيث عرّف الجابري في كتابه المشار اليه الأنظمة المعرفية التي شكلت بنية العقل العربي، وأشار إلى الازمة التي تسبب فيها تصادم وتداخل ثلاثة من تلك الأنظمة – أي البيان والعرفان والبرهان – واعتبر أن شخصية أبي حامد الغزالي تجسد هذا التصادم والتناقض, والذي تجلى في أزمته الروحية المذكورة في كتابه “المنقذ من الضلال” والتي أفقدته توازنه مرتين. كما أشار الجابري إلى مرحلتين متمايزتين في العقل العربي: الأولى، تمتد من بدايات عصر التدوين من العصر الجاهلي إلى لحظة الغزالي التي كان فيها العقل العربي فاعلا منتجا. والثانية، ما بعد لحظة الغزالي والذي ابتدأ فيها ما أسماه بالتداخل التلفيقي بين النظم المعرفية الثلاث وأصبح العقل العربي فيها جامدا لا يخرج عن التكرار والاجترار.
ربما اكثر الحقب تعبيرا عن ذلك الجمود هو القرن السادس عشر الميلادي ، ففي حين كان ليوناردو دافينشي يرسم لوحة الموناليزا 1503م ويقدم اختراعاته المذهلة, و اميريكو فيسبوتشي يرسم خارطة جديدة للعالم تحوي أراضي الأمريكيتين 1507م، وكوبيرنيكوس يضع نظريته التي صدمت العالم القديم واثبتت ان كوكبنا ليس مركزا للكون 1539م، و جاليلي يخترع اول ثيرموميتر 1589م قامت جموع من الغاضبين في عامي 1511م و1534م بتحطيم المقاهي في كل من مكة و القاهرة أثر صدور فتاوي متعددة بتحريم شرب وصناعة وبيع القهوة Coffee من كبار “العلماء” كالشيخ الحنفي والسيد البليدي والشيخ الدمياطي والشيخ عمر الطحلاوي وغيرهم ممن تصدروا منابر تلك الحقبة في المدينتين اللتان كانتا وما تزالان تمثلان مركزي الاشعاع الديني والمعرفي العالم العربي والإسلامي.
بُني تيار الصحوة الإسلامية في الأصل حول محاولة الإجابة علي التناقض المركزي بين الوعي الذاتي الاستعلائي للامة “خير امة”* و مدي ضعفها وتخلفها عن ركب الأمم علي ارض الواقع, وكانت الإجابة التبسيطية المتاحة هي ابتعاد المسلمين عن الدين الصحيح والسلوك القويم, وهو ما اطلق حراكا ثقافيا كبيرا يسعي الي استعادة امجاد الماضي التليد والي ربط النهضة المستقبلية الممكنة واستعادة ريادة العالم بالرجوع الي الجذور, الي الأصل, عبر التقوى والالتزام بالشريعة وبالقيم والأخلاق من منظور ديني سلفي وإعادة اسلمة المجتمع والدولة هذا بجانب اعتماد بعض السمات الخارجية التي ارتبطت بالثقافة العربية-الإسلامية كاللباس والمصطلحات، والفصل بين الجنسين, كل ذلك داخل اطار مفاهيمي يعتمد علي تفسير قرآني محدّد ويرسخ من الايمان القاطع بحتمية سيادة الامة الإسلامية علي الأرض “ليستخلفنهم في الأرض”**.
يذكر محمد رشيد رضا في كتابه “الوسطية”: (والحق أقول إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس، حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
بينما يذكر سيد قطب في كتابه “في ظلال القرآن”: (وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة، لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض، ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية, إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها).
سبق محمد رشيد رضا وسيد قطب, وهما من اهم مفكري الإسلام السياسي دعاة اخرين لنهضة الامة من ابرزهم الشيخ جمال الدين الافغاني 1838-1897م وتلميذه الشيخ محمد عبده 1849-1905م بينما أسس حسن البنا 1906-1949م تنظيم الاخوان المسلمين ذو التطلعات السياسية المعلنة, لكن علي عمومه فقد تأثر الفكر الاسلاموي السياسي بسياق التغيرات الجيوسياسية العميقة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتزامنت مع ارتخاء القبضة الاستعمارية وتطلع الشعوب المستعمَرة للانعتاق, واتسم بمنظور تحرري حاد وانعزالي رافض ومشكك في الاخر المختلف ولا يتبني مفاهيم التعدد الفكري والسياسي والديموقراطية الليبرالية, عمقته لاحقا مأساة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية “النكبة” 1948م والهزائم المتتالية التي منيت بها الدول العربية, وهو ما عبرت عنه غالب اعمال المفكرين الاسلامويين, للذكر وليس للحصر أمثال الجزائري مالك بن نبي والهندي أبو الاعلي المودوي والنبهاني وغيرهم.
لكن يمكن اجمال العقيدة السياسية الاسلاموية بانها عقيدة تدعي امتلاك الحقيقة الوحيدة والمطلقة, والوصاية الأخلاقية علي الاخرين, بالاخص أصحاب المعتقدات او الافكار المخالفة, ومثلها و العقائد السياسية الدوغمائية الأخرى يؤمن المنتمون اليها بحتمية حدوث طفرة في لحظة تاريخية ما , تتخطي فيها الجماعة المؤمنة حقيقة تناهي قدرات الانسان واستحالة سيطرته علي مجري التاريخ وتحديد نتائجه مسبقا, او ما يمسيه الفيلسوف الكبير ايمانويل كانط بشروط الإمكان Conditions of Possibility , والوسيلة الي تحقيق ذلك هو ظهور شخصيات ملهمة باستطاعتها استشراف المستقبل , تقوم بقيادة طليعة ثورية “جهادية” وتنجح في تطويع عناصر صناعة التاريخ باستخدام القوة القاهرة ممهدة السبيل نحو قطف الثمرة الأخيرة “المقدّرة” والمتمثلة في سيادة هذه الجماعة علي العالم حتي تتمكن من القيام بمهمتها النبيلة في ربط قيم الارض بقيم السماء “الذين ان مكنٓاهم في الأرض”***.وهو ما يجعل من استخدام العنف ضد المعارضين لهذه المسيرة المقدسة ضرورة بما انهم يقفون في طريق ما يعتبرونه المشيئة الإلهية.
ولضمان اكبر قاعدة سياسية واجتماعية داعمة ورغم أصوله السلفية السنية التي لا تخفي علي احد فقد اتخذ الفكر الاسلاموي منهجا فقهيا شموليا Comprehensive الي حد كبير لتخطي معضلة الاختلافات الفقهية القديمة والعميقة بين الفرق الاسلامية الاساسية، كالسنة والشيعة والخوارج والمعتزلة المتصوفة ومذاهبها المختلفة التي تفوق المئات، والتي تصل بعديد منها حد تكفير الآخر وجواز إهدار دم المنتمين اليه. بل وبهدف ربط الماضي العظيم بالحاضر واضفاء درجة من المصداقية علي ادعاء القدرة علي استعادة النهضة والريادة تبني ارث بعض الفلاسفة والعلماء والأدباء القدامي الذين عرفوا بوجهة نظرهم المخالفة للتيار العام او النقدية لبعض المفاهيم الدينية الأساسية “ابو العلاء المعري وبن حيان وبن سينا وبن رشد وبن الراوندي والرازي وبن المقفع”. ما جعل منه علي المستوي الديني خليطا غير متجانس بينما ظل متماسكا سياسيا بما ان الفكرة الجوهرية تتمحور أساسا خول سيطرة مجموعة “مختارة” علي مقاليد الحكم واستخلافها في الأرض.
بناء على الإطار المفاهيمي السابق وباستخدام تفاسير مختارة للنصوص المقدسَة يتبني الإسلامويين فرضية ان الإسلام ليس ديانة تخص الفرد المسلم فقط بل هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي متكامل يصلح لبناء مؤسسات دولة لكنها في هذه الحالة بالطبع دولة “خلافة” دينية اممية عابرة للحدود الجغرافية وللنظام الدولي المعترف به.
وهو في حقيقة الامر إعادة انتاج مستحدثة لعين الفرضية التي استندت عليها أنظمة الخلافة الإسلامية المتعاقبة واخرها العثمانية لترسيخ شرعية حكمها. ففي كتابه المرجعي “الإسلام واصول الحكم …بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام” الصادر عام 1925م استطاع العالم الازهري والقاضي والوزير لاحقا، الدكتور علي عبد الرازق، تقويض هذه الفرضية والدفاع عن الحكم المدني , ناكرا حق الخلافة الإسلامية، ورافضا إضفاء القدسية عليها، باعتبارها مكوناً من مكونات عقيدة الإسلام، مبرهنا على انها اختراع تاريخي ودنيوي خالص، لا شأن له بصحيح الدين، فلم تكن يوماً فرضاً إلهياً، ولا واجباً شرعياً. مقارِناً بين قيادة الرسول، صلى الله عليه وسلّم، وزعامة الملوك، ناقداً أدلة الفقهاء على الخلافة، وعلى وجود بناء واضح ومعتمد للدولة في الإسلام، وانتهى إلى التمييز بين الشريعة والسياسة، مُحدِداً وظيفة الأولى برعاية مصالح البشر الدينية، والثانية بجلب وحماية الأغراض والمصالح الدنيوية التي “جعل الله الناس أحراراً في تدبيرها” ودفع المضار. ففي تفسيره يخلص الدكتور علي عبد الرازق ان الله قد ترك للبشر إدارة شؤونهم الدنيوية والاجتماعية، وفق ما توصلوا إليه عبر التجربة، وما اكتسبوه من خبرة وحكمة أخلاقية تحفظ مقاصد الشريعة، دون أن تؤول من وسائلها القديمة ما يُعطّل المقاصد ذاتها ويؤكد: “إنّ الحكم والقضاء ومراكز الدولة هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرّفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى إحكام العقل، وتجارب الأمم”.
لم تخرج تجربة الاسلامويين السودانيين عن الفرضيات والاطر المفاهيمية المذكورة ولم تُضِف مساهماتها الفكرية الشحيحة الكثير الي ارث الفكر الاسلاموي الموجود اصلا, بل كانت حركتهم السياسية تعبيرا منصفا لهذه الايديولوجيا الشمولية والاقصائية, والتي تتبني ضرورة استخدام أدوات القهر من اجل الوصول الي قمة السلطة وفرض مشروعها علي المجتمع وتحقيق أهدافها السياسية. والتي اعتمدت علي عين النظرة التحررية الانعزالية مستبدلة العدو المستعمِر بالمشروع الشيوعي الناهض في المشهد السياسي السوداني منذ مطلع الستينيات من القرن. وظلت بعض مفاهيمها الاساسية تتناقض بدرجة او بأخرى مع منظومة القيم الإنسانية المعاصرة كالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. و تستثمر الإمكانات الهائلة الكامنة في العاطفة الدينية للبسطاء في بلد متدين الي حد بعيد تتفشي فيه الامية بصورة كبيرة. الأخطر من ذلك انها استخدمت مفهوم التفويض الإلهي القديم قدم التاريخ الإنساني المدون , لكن ليس لفرض شرعية حكم ملكي كما هي العادة بل لحكم جماعة تدعي ان الله اختصها بالحكم للقيام بمهمة مقدسة علي الأرض يقودها زعيم كانت اول الخطوات التي أخذها عقب تدبيره الانقلاب العسكري في الثلاثين من يونيو 1989م و بعد القمع المفرط حد الاغتصاب والتصفية الجسدية للمعارضين هو تكوين ما سمي بالمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي , كمنصة دولية جديدة قد تسمح له يوما تحقيق حلمه بقيادة العالم العربي والإسلامي وربما ابعد من ذلك!.
………………………………………………………………………..
((المشايخ انما يتحدثون عن الدين بحسبانه منهجا شخصيا لا يعني أحدا غير الفرد في خاصة امره مع الله, لكن الدين اليوم اصبح نظاما سياسيا واقتصاديا وثقافيا يعني العالم كله ولا بد من ان يشترك في معرفته المسلم وغير المسلم.))
مقتطف من لقاء الدكتور حسن الترابي, الأمين العام للمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي عام 1992م في برنامج وجها لوجه التلفزيوني لدي زيارته الولايات المتحدة الامريكية مع المذيعين عباس متولي وحافظ الميرازي.
…………………………………………………………………………
*الآية 110, سورة آل عمران
**الآية 55, سورة النور
***الآية 41, سورة الحج
يتبع…
الوسومالجيش الدعم السريع حرب جنرالات مهدي رابحالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش الدعم السريع حرب جنرالات
إقرأ أيضاً:
ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.
ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.
هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.
فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.
لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.
أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.
وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟
في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.
إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.
لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري