الثورة نت:
2025-03-16@14:18:47 GMT

تفرد وإبداع الشعراء اليمنيين في المدائح النبوية

تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT

تفرد وإبداع الشعراء اليمنيين في المدائح النبوية

 

الثورة / خليل المعلمي

تحل علينا مناسبة المولد النبوي الشريف كل عام بروحانيتها وفعالياتها المختلفة فتعم الاحتفالات كل قرية ومديرية ومدينة، ويعبر اليمنيون جميعهم عن حبهم وابتهاجهم بحلول هذه المناسبة بالأهازيج والاحتفالات والمسابقات والكلمات المعبرة والقصائد والأناشيد والمدائح، وإقامة الندوات الفكرية والثقافية والخطابية لاستخلاص العبر من سيرة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وإله وسلم.


ويرافق هذه الاحتفالات تنشيط الحركة الإبداعية والثقافية والفنية في مجالات مختلفة كالشعر وإلقاء الأناشيد والرسم والنحت وغيرها من الأنشطة التي يتهافت إلى المشاركة فيها الشباب من مختلف المحافظات.
وعلى مر التاريخ فاليمنيون يحتفلون بهذه المناسبة بطرقهم الخاصة والمتعددة في إقامة الموالد وإحياء الليالي المحمدية عبر الأهازيج والأناشيد، وقد برع من الشعراء اليمنيين الكثير عبر التاريخ أبدعوا وكانت نتاجاتهم في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فالمديح النبوي هو من أهم موضوعات الشعر العربي وقد نظم الشعراء المسلمون فيه قصائد عديدة، فمنذ بزوغ فجر الإسلام أقبل الشعراء على مدح النبي صلى الله عليه وسلم معبرين عن حبهم وعواطفهم الجياشة تجاهه، مستعرضين صفاته الخلقية والخلقية، واصفين الشوق لرؤيته وزيارة قبره وغير ذلك من الأماكن المقدسة التي تتصل بحياته، ذاكرين لمختلف معجزاته ومراحل سيرته وأحداثها، ومتتبعين لغزواته وما إلى ذلك، ويعتبر لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع، لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص.
ويختلف هذا المديح عن المدح التكسبي أو مدح التملق، الذي يوّجهه الشعراء المتكّسبون بشعرهم إلى السلاطين والوزراء وغيره، فهذا المدح يوّجه إلى أفضل خلق الله، محمد صلى الله عليه وسلم، ويطبعه الصدق والمحبة والوفاء والإخلاص. ومن المعهود أن هذا المدح النبوي الخالص يتسم بالتضحية والانغماس في التجربة العرفانية والعشق الروحاني اللدني.
خصائص المديح النبوي
تكمن خصائص المديح النبوي في أنه شعر ديني ينطلق من رؤية إسلامية، تطبعه الروحانية الصوفية من خلال التركيز على الحقيقة المحمدية التي تتجلى في السيادة والأفضلية باعتباره سيد الكون والمخلوقات، وأنه أفضل البشر خِلقة وخُلقاً. ويتميز المديح النبوي أيضاً بصدق المشاعر ونبل الأحاسيس ورقة الوجدان وحب النبي محمد بن عبد الله طمعاً في شفاعته ووساطته يوم الحساب.
ظهور المديح النبوي
المديح النبوي فن قديم متجدد، أرسى قواعده كعب بن زهير وتبعه شعراء آخرون في بيان مناقب الرسول تعبيراً عن مشاعر الحب والإعجاب والرجاء ومتنفسا ببؤس الحياة الإنسانية ووسيلة للشفاعة والتقرب من الله تعالى، وكانت قصيدة الشاعر كعب بن زهير التي بدأها بالتالي:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيمٌ إثرها لم يفد مكبول
وقال كل خليل كنت آمله
لا ألفينك إني عنك مشغول
حتى وصل إلى البيت:
إن الرسول لنورٌ يستضاء به
مهندٌ من سيوف الله مسلول
ومع انتشار الدعوة الإسلامية بدأ شعر المديح النبوي ينتشر ويظهر شعراء تلو الشعراء ومن جميع الأقطار الإسلامية، وارتبط بالشعر الصوفي مع ابن الفارض وغيره، ولكن هذا المديح النبوي لم ينتعش ويزدهر ويترك بصماته إلا مع الشعراء المتأخرين وخاصة مع الشاعر “شرف الدين البوصيري” في القرن السابع الهجري.
ومن اليمن ظهر العديد من شعراء المديح النبوي في فترات متعددة من التاريخ منهم العارف بالله عبدالرحيم البرعي، وأحمد بن علوان، والشاعر والملحن جابر رزق، والشاعر الحسن الهبل، والعديد من الشعراء في العصر الحديث والمعاصر أمثال الشاعر صالح سحلول والمحضار وغيرهم، نستعرض أهم الشعراء اليمنيين وأهم المؤلفات في المديح النبوي.
تراث نادر وفريد
يتميز اليمن بامتلاكه تراثاً لا مادي نادر وفريد هو الأكثر حضورا في مختلف الأزمنة، وذلك لأن اليمني بفطرته يمتلك طاقة إبداعية متميزة، فقد ضمت الرقوق والمخطوطات في المكتبات والدور الرسمية والخاصة عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف من القصائد التي كان أبرزها قصائد المديح النبوي، وقد عمل المبدعون على مر التاريخ على إنشادها في موشحات وأناشيد يفضل اليمنيون استحضارها في كل أوقاتهم..
وتختلف الأنماط الإنشادية بين المناطق اليمنية، ففي صنعاء تتخذ نسيجا ابتهاليا، وفي حضرموت يلتقي مع الأشكال الفولكلورية مثل الدان والعُدة، بينما امتدت الموشحات والأناشيد الصوفية من تهامة إلى مرتفعات المناطق الوسطى ومراكز التصوف في تعز، ومن بين ذلك يبدو الموشح الصنعاني أكثر تمسكاً بهويته التاريخية وأكثر تشدداً في الحفاظ عليها، على عكس بقية المناطق التي سارت في ركب التطور إلى حدٍ ما أو أدخلت الآلات الموسيقية على أناشيدها كحضرموت وتهامة، وهذا ما أكده المنشد علي محسن الأكوع رئيس جمعية المنشدين اليمنيين.
عبدالرحيم البرعي
شاعر ومتصوف يمني من أبناء منطقة برع في تهامة اليمنية، عاش في فترة العصر الرسولي، وله ديوان منشور، أغلب قصائده تصب في الثناء على الله وإظهار نعمه والدعاء والتضرع إلا أن لب ديوانه المنشورة في مدح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومما جاء في قصيدة البرعي في مدح المصطفى:
كأني بزوار الحبيب وقد رأوا
بيثرب نوراً في السماء تصعدا
وهبَّت رياح المسك من نحو روضةٍ
أقام بها الداعي إلى سُبلِ الهدى
محمدٌ الحاوي المحامد لم يزل
لمن في السماء السبع والأرض سيدا
ثمالي ومأمولي ومالي وموئلي
وغاية قصدي حيث لم ألق مقصدا
شددت به أزري وجددتُ أنعُمي
وأعددتهُ لي في الحوادث مُنجدا
وجاءت أشهر قصائد “البرعي” التي قالها وأصابته في مقتل الشوق إلى الحج “يا راحلين إلى منى”، حيث توفي قبل أن يصل إلى مكة بسبب الاجهاد والتعب، وقال فيها:
يا راحلين إلى مِنى بقيادي
هَـيَّـجتُمُ يومَ الرَّحيلِ فؤادِي
سِرتُم وسَارَ دلِيلُكم يا وَحْشَتِي
الشَّوقُ أقْلَقني وصَوتُ الحادي
أحرمتمُ جَفْنِي المنامَ بِـبُـعدِكُم
يا سَاكِنين الْمُنحنَى والـوادي
فإذا وَصَلْتُم سالِـمِـينَ فَبَلّـغُـوا
مِنَّي السَّلامَ إلى النَّبيَّ الهـادي
ويَلُـوحُ لِي مابَـينَ زمزمَ والصَّفا
عِندَ المَقامِ سَمِعتُ صوتَ مُنادِي
ويقولُ لِي يَـا نائما جِدَّ السُّرى
عَرفاتُ تَجلِي كُلَّ قَلبٍ صادِي
تاللهِ مَـا أَحلى المَبيتَ علَى مِنَى
فِي لَـيْـلِ عِيدٍ أَبرَك َالأعيادي..
مَن نَالَ مِن عَرَفات نَظرة سَاعَةٍ
نَالَ السُّرورَ ونَالَ كُلَّ مُرادِي
ضَحُّوا ضَحَايَـاهُم وسَالَ دِماؤُهَا
وأَنَا المُتَيَّمُ قَد نَحرتُ فُـؤَادي
لَـبِسُوا ثِيَابَ البِيضِ شَارَات الرَّضـا
وأنَا المتَـيَّـمُ قد لَبِستُ سَوادِي
يَا رَبَّ أنتَ وَصَلْـتَـهُم صِلنِي بِـهـمْ
وبِـحَـقّـهِم يا رَبَّ حُلَّ قِـيَـادِي
بِـالله يَـا زُوَّار قَـبر مُحَمَّدٍ
مَن كَـانَ مِنْكُم رائِحاً أَو غَـادِي
يُبْـلِـغ إلى الـمُخْتارِ ألَفَ تَحِيَّـةٍ
مِن عاشِـقٍ مُتَـفَـتّتِ الأَكْبـادِ
قُولُوا لَـهُ عَبْدُ الرَّحيمِ مُتَيَّمٌ
وَمُفَارِقُ الأَحْبَـابِ والأَوْلادِ
صَلَّى عَلَيكَ الله يَا عَلَمَ الْـهُـدَى
مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّـمَ حَادِيْ
طبع ديوانه مرات كثيرة في (مطبعة الحلبي)، و(البولاقية) في مصر، و(بومباي) في الهند، وقد حقق الديوان الباحث المصري محمد عبداللطيف قناوي في رسالة ماجستير في جامعة القاهرة، وصحح النصوص الشاعر اليمني المعاصر (حسن بن صغير بن حمود بن يغنم البرعي).
جابر رزق
هو شاعر وملحن ومنشد يمني، من أبرز الشخصيات الأدبية اليمنية نهاية القرن التاسع عشر، كان يعزف ويغني قصائده قبل أن ينتقل إلى الإنشاد، ولد عام 1842م في قرية القابل في ضواحي صنعاء، درس في صنعاء وعمل في الحديدة في السلك الحكومي آنذاك، برز كشاعر حميني رقيق ومنشد. له ديوان مطبوع باسم «زهرة البستان في مخترع الغريب من الألحان.
من قصائده في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم:
من رُوي أن الحصى في كفه السامي نطق
يا من به قد طاب زمزم والحرم
أزكى الصلاة تغشاك من رب الفلق
والآل والأصحاب قومٌ لا ترى إلا الحدق
إذ أقبلوا فالفرد فيهم كالأشم
يوم افتتاح البيت من أسند صدق
صلى عليه الله تعداد الخلائق والفِرق
والآل والأصحاب ما البرق ابتسم
والعفو يا منان عن عبد أبق
تمثل موشحات جابر رزق (1842-1905م) الدينية أحد الجوانب الخفية للسيرة الغنائية اليمنية، فإليه تعود أقدم ألحان يمنية معروفة باسم مؤلفها، غير أن ألحان جابر رزق تمتلك خصائص تفردت فيها عن الغناء التقليدي المعروف، جعلته صاحب بصمة واضحة من خلال الموشحات الدينية التي تُنسب إليه شعراً ولحناً.
فمنذ وقت مبكر بدأت ميول الشيخ جابر رزق الغنائية، حد أنه خرق التقليد المُتبع في الإنشاد الديني الشائع بصنعاء، وتعلم العزف على القنبوس.
وفي الطرائق المعروفة للغناء الديني شكل جابر نقطة التقاء بين الغناء الصنعاني التقليدي وبعض السمات الشعبية التهامية، وبعض طرائق الإنشاد الصوفي الشائع هناك، وهذا التلاقح مده بالجرأة لخرق بعض التقاليد الراسخة في الغناء اليمني عموماً والصنعاني خصوصاً.
يشير الفنان جابر علي أحمد إلى السمة التعبيرية التي صاغها جابر رزق في توظيفه الإيقاع، وتحديداً في كسره القاعدة الشائعة في الغناء التقليدي باستخدام إيقاع واحد، وهو التلوين الإيقاعي الذي سيصوغه في الموشحة المذكورة سابقاً بمقام الراست، في نسج الإيقاع العربي مع الإيقاع المحلي بين السؤال والجواب.
وفي مقال نشره الكاتب جمال حسن بعنوان “ابتكار اللحن في حضرة الدين” يقول: يمكن ملاحظة جانب تعبيري في لحنه الأشهر وهو موشح “دع ما سوى الله” من مقام الحسيني المتفرع من البيات، لينتقل مباشرة في ثاني نغمة أربع درجات نغمية أي من “دو” الجواب في غناء “دع” إلى “فا” الجواب في “ما سوى الله”. وللعلم فإن درجة “فا” الجواب هو آخر الأوكتاف والنصف الذي تتيحه آلة القنبوس في الغناء التقليدي، وكما لو كان تعبيراً عن اعتماده الكامل على الله. لكن الأرجح أن هذا المدى التعبيري لم يتسم بمنهجية انتقلت إلى الغناء العربي المتأثر بالموسيقى الأوروبية. فالموسيقى اليمنية لم تتح أي ملامح تنظير سواء في المقامات أو الإيقاعات أو أي جوانب شكلية، واعتمدت كلياً على النقل.
ويضيف: في موشح “ربّ حسّن المختم”، والذي وظف فيه مفردات تهامية، يعتمد على درجات منخفضة؛ طبيعة النظم أيضاً تؤثر على طبيعة اللحن، وتميل أكثر إلى الصيغة الصوفية. ففي “دع ما سوى الله”، نلاحظ سمة غير التماثل في البناء السلمي للحن، لكنه أكثر تماثلاً في موشحه “رب حسن المختم”، على رغم التباين الأكثر وضوحاً في طول الخلايا اللحنية. هل كان أيضاً هناك أثر من احتكاكه بالأتراك في الصيغة اللحنية، أو بالشوام الذين عملوا مع الأتراك في اليمن؟ وهذا يعيدنا إلى مصدر استلهامه إيقاع “المصمودي الكبير”. هكذا تبدو صيغة جابر رزق كمرحلة استكشاف مبكرة لإمكانية التجديد في الغناء اليمني، وإن ظلت مقيدة ببيئة محلية منعزلة وأكثر تقليدية، ومناخ غير متسامح للغناء. لكنه أعاد النشيد في قالب الغناء والعكس، واستحضر النشيد المتصوف بالتجاور مع التواشيح الصنعانية.
ويقول في قصيدة “يا من لك الشأنُ العظيم”:
يا مَنْ لك الشأن العظيمْ
صلِّ بتسليمٍ على خير الملا
من قام بالإسلام والدين القويم
المصطفى طه الرحيمْ
سعدت بوطأته السموات العلا
لما رقى ليلاً وكلَّمَه الكليمْ
ما لي إذا هبّ النسيمْ
يزداد شوقي بالذي حاز الحلا؟
باهي المحيّا مائسُ القدِّ القويم
ريمٌ يُباهي كلَّ ريم
وفي قصيدة “يا منجّي”:
يا منجّي من اليمّ ذا النونْ
نجِّنا من جميع البليّهْ
واكشف الكرب عن كلّ محزونْ
واستر الأمّة الأحمديّه
جيرة الشعب ماذا يقولونْ
هل يقيمون حقّ الوصيّه
كم رأوا جامع الحسن محزونْ
ما بقيْ منه إلا بقيّه
أقعدوني وقاموا لجيحونْ
أسهروني وناموا سويّه
لو يقيلون مشتاقَ مفتونْ
واقفًا تحت حكم المشِيَّه
يرحمُ الله من كان مغبونْ
وارتضى بالأمور الرضيّه
أحمد بن علوان
هو صفي الدين أحمد بن علوان شاعر وفقيه شافعي، عاش في القرن السادس الهجري في تعز. ويعتبر إمام الصوفية وفيلسوفهم في عصر الدولة الرسولية في اليمن، نشأ في أحضان الرئاسة والعلم، وكان والده في خدمة السلطان ومن كتابه، وكاد الشيخ أن ينتهج طريق والده في خدمة السلطان، إلا انه تحول إلى طريق التصوف تحت تأثير خارق، ولزم الخلوة والعبادة، واشتهر بحب الوعظ، فقد كان يسلك في وعظه طريقة ابن الجوزي حتى لقب بجوزي اليمن، وله رسائل كثيرة ومؤلفات جمعت في مجلدات منها كتاب (الفتوح المصونة والأسرار المخزونة)، فضلاً عن ديوانه الشعري الذي جاء أغلبه في التصوف، وفي المديح النبوي، وبعد أن توفي صار لضريحه مكانة مقدسة وتقام زيارة سنوية له في منتصف شهر ربيع الأول من كل عام، ومن قصيدة له يصف الشوق لزيارة مقام المصطفى في المدينة المنورة وحبه لآل بيت رسول الله:
ذكر المقام لدى المقام وزمزما
فارتاح بلبله الفصيح ورنما
صبٌّ أطار الشوق واصف سره
فبحيث خيمت الأحبة خيما
إقليمه إقليم آل محمد
في الأرض كان مقامهم أو في السما
تسري سرائرهم إلى أسراره
فلذاك أفصح سره وتكلما
يهدي النسيم إليه من نفحاتهم
سراً تحيط به العقول ومعجما
أرواحهم مزجت بروح فؤاده
فإليهم اتخذ العزائم سلما
الحسن بن علي الهبل
ولد الحسن بن علي بن جابر الهَبل في صنعاء في القرن السابع عشر الميلادي، ونشأ فيها محباً لرسول الله وآل بيته، في بيئة أدب وعلم زيدية. كتب الهبل معظم أشعاره في محبة آل البيت. ويُعد الهبل من أبرز الشخصيات الزيدية التي خلدت إرثاً أدبياً مميزاً في التراث الإسلامي والإنساني. وللهبل قصائد كثيرة في المصطفى وآل بيته. ومما قاله:
قالوا امتدحْ سيِّد الكونين. قلت لهم
يجلّ عن كَلِمي قدراً وأَشعاري
ماذا عساه يقول المادحون وقـد
أثنى عليه بما أثنى به البَاري
وقال الهبل في آل بيت رسول الله:
مَدْحِي لكم يا آلَ «طهَ» مَذْهبي
وبهِ أفُوزُ لَدى الإِلهِ، وأُفلحُ
وأودُّ -من حُبّي لكُمْ- لو أن لِي
في كلِّ جارحةٍ لسَاناَ يَمْدَحُ
وقال أيضاً:
أولئك أبناء النبي محمد
فقل ما تشاء فيهم فإنك لا تغلو
فروع تسامت، أصلها سيد الورى
وحيدرة يا حبذا الفرع والأصل
المديح النبوي في حضرموت
ويذكر لنا الباحث الدكتور أحمد هادي باحارثة في كتابه أدوار الأدب الحضرمي: “أن الأدب الصوفي يشمل الكلام في التصوف برموزه وإشاراته ومفاهيمه ومصطلحاته وغزله وخمرياته، وفي الزهد والوعظ وفي المدائح النبوية والموالد، شعراً تفاوت بين الإجادة والركاكة، فالشعر تم التطرق لأبرز شعرائه كعلي بن أبي بكر السقاف، وأبي بكر بن عبدالله العيدورس، وعبدالله بن علوي الحداد، وعبدالرحمن بن عبدالله بلفقيه، من العصر الوسيط، وفي العصر الحديث أتت المشاركة في الشعر الصوفي من أغلب الشعراء الحضارم ولاسيما المدائح النبوية، سواء منها المعارضة للبردة والهمزية وما يتبعها من المعاني التقليدية والصور المكررة أو المنطلقة من ذلك التقيد وسابحة في رحاب أوسع مغلفة بالذاتية والأفكار أو الصور المستجدة، ومن ذلك قول الشاعر حسين البار:
يا سيد الخلق يا من جئت تهدم في
دنيا الورى كل رب حادث عاد
ضل الورى حين راحوا يرمزون إلى
رب السماء بأصنام وأرصاد
وحين ترجم ما تخفي صدورهم
من لهفة فعل كهان وعباد
ضلوا السبيل على جهل فكنت لهم
خير الدليل إلى خير وإسعاد
سللت منهم أساطيراً يضيق بها
صدر المفكر من كفر وإلحاد
ورحت تصنع منهم ثورة بقيت
رمز الخلود لأجيال وأحفاد
ومن الشعراء الحضارم الذين أثروا المدائح النبوية الحبيب عبد الله بن علوي الحداد الحسيني الحضرمي الذي عاش في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين في حضرموت. لقب بشيخ الإسلام، وهو من أبرز الشخصيات الإسلامية في المناطق الجنوبية والشرقية من بلادنا. له مؤلفات عديدة في التربية والسلوك والمواعظ والحكم، وديوان منشور. ومما جاء في إحدى قصائده في مناجاة المصطفى:
أنت باب الله نال المرتجى
والأماني من عليه وقفا
أنت حبل الله من أمسكه
فاز بالخير وبالعهد وفا
يا رسول الله يا شمس الهدى
كل ضرٍّ بكم قد كُشفا
يا رسول الله يا بحر الندى
كل جودٍ منكم قد عرفا
وتشفع يا رسول الله في
كشف هذا الكرب حتى يكشفا
ومن روائع الشاعر الكبير / حسين ابوبكر المحضار قصيدته “عيدي معك في احسن الأعياد” يقول فيها:
عيدي معك في أحسن الأعياد
طابت بطيبه عندك أعيادي
يا مصطفى يا سيد الأسياد
وجميع أهل البيت اسيادي
نسري بهم في الليلة السودة
عدنا إلى طيبة عسى عوده
***
جيتك بحبّي وهو نعم الزاد
يا بخت من زاده كما زادي
لا حزب قدّمته ولا اوراد
يا خاتمة حزبي واورادي
وانت دواء كل نفس ماروده
عدنا إلى طيبة عسى عوده
عمارة اليمني
هو عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني، مؤرخ ثقة، وشاعر فقيه أديب، من أهل اليمن، ولد في تهامة ورحل إلى زبيد سنة 531هـ، وقدم مصر.
ومن أشعاره في المديح النبوي:
يا خير من نظم المديح لمجده
وتنزلت سور الكتاب بحمده
يا حجة الله التي بضيائها
هديت بصيرة حائر عن قصده
أنت الذي بلغ النهاية في العلى
عفواً ولم يبلغ بداية جهده
ورث الهداة الراشدين إمامة
أحيا معالمها بواضح رشده
إن يفتخر بنبوة ووصية
فهما تراث عن أبيه وجده
وإذا تنزل دون ذلك لم يجد
إلا ولي خليفة في عهده
البردوني
وقد أبدع الشاعر الكبير عبدالله البردوني في قصيدته بشرى النبوة والتي مطلعها:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغـار
وحيا وأفضت إلـى الدنيـا بأسـرار
بشرى النبوّة طافت كالشـذى سحـرا
وأعلنت في الربـى ميـلاد أنـوار
وشقّت الصمت والأنسـام تحملهـا
تحـت السكينـة مـن دار إلـى دار
وهدهدت ” مكّة ” الوسنـى أناملهـا
وهـزّت الفجـر إيذانـا بإسـفـار
واختتمها:
نحن اليمانيون يا ” طـه ” تطيـر بنـا
إلـى روابـي العـلا أرواح أنصـار
إذا تذكّـرت “عـمّـارا” ومـبـدأه
فافخر بنا: إنّنـا أحفـاد “عمّـار”
“طه” إليك صلاة الشعـر ترفعهـا
روحـي وتعزفهـا أوتـار قيـثـار
صالح سحلول
صالح سحلول هوَ شاعر شعبي يمني، لقب بشاعر الثورة، وعرف بمناهضته للحكم الملكي في ثورة 26 سبتمبر اليمنية عام 1962، كتب الكثير من القصائد الشعبية في مختلف المجالات، ولد سحلول عام 1919م في قرية (بيت العميسي) من مخلاف (العرش) بلاد (رداع) محافظة البيضاء.
وله قصيدة بعنوان (مسك الختام) في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قالها بتاريخ ربيع الأولى 1405هـ.
وقد اختتم بهذه القصيدة ديوانه الثوري في مولد الثائر الأول على الجهل والفساد والظلم والاستبداد الثائر الأعظم محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد أوجز في عنوانها حيث أسماها مسك الختام، سواء قصد بهذا العنوان النبي محمد لأنه مسك ختام الأنبياء، أو قصد به القصيدة نفسها لأنها ختام ديوانه أو ختام أشعاره او ختام عمره يقول فيها:
لك الحمد تم الشكر يا يارى القسم
ويا منبت الحية ويا فالق النواة
عدد كل لمحة عين منذ أقدم القدم
من الدهر إلى يوم انقراضه ومنتهاه
شكرته على الإسلام وهو أكثر النعم
وبعثة نبينا المصطفى خاتم انبياه
شهر ربيع أول ولد سيد الأمم
محمد عليه أزكي التحيات والصلاة
محمد حبيبي سيد العرب والعجم
ولد عام غزو الفيل والموت للغزاة
نبي أدبه مولاه ذو الفضل والكرم
وهذب صفاته خالق الخلق واجتباه
فلله من مولود كم حاز من عظم
فخير الخلق خلقه وخير التقى تقاه
أتى والبشر في جهل مطبق وفي ظلم
وفي رق واستعباد تندي له الجباه
أتى والبرية أكلها ميتة ودم
إلى أن قال:
ولم يغضبه معنى الخصيم الذي عناه
ألا ياشفيع الخلق اشفع لمن نظم
قصيدة بها من خالقه يبتغي جزاه
محبك أسير الوزر والذنب واللم
وبين الرجاء والخوف مما جنت يداه
وأخشى من العثرة ونم زلة القدم
ومن يوم كل إنسان يجزى بها جناه
إلهي بفضل العرش واللوح والقلم
تجير العباد في ذلك اليوم من لظاه
وفي ختمها صلوا على سيد الأمم
محمد عليه أزكى التحيات والصلاة
صلاتي وتسليمي عدد أحرف الختم
على المصطفى والآل والتابعين هداه
لقد حرص اليمنيون على مر العصور أن يجعلوا من ذكرى ميلاد رسول الله أعظم وأهم مناسبة على مر التاريخ، منطلقين من ثقافة القرآن التي تجدد علاقة المسلم برسول الله وتزيدها تماسكا، مواجهين بذلك هجمات اليهود الشرسة على الإسلام ورسول الله وهرولة أعداء اليمن للتطبيع مع أعداء الله ورسوله، ولعل ذلك ما أسهم في ظهور مئات المبدعين من شعراء ومنشدين بأعمال جديدة ومحدّثة.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

(نص) المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 13 رمضان 1446هـ 13 مارس 2025م

يمانيون/ صنعاء

(نص) المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 13 رمضان 1446هـ 13 مارس 2025م

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في سياق الحديث على ضوء الآيات المباركة القرآنية من (سورة الشعراء)، في مقامٍ مهمٍ من مقامات نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وهو يسعى لهداية قومه، وإنقاذهم من الشرك، والاتِّجاه بهم إلى عبادة الله وحده “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وجدنا كيف أنه اتَّجه إلى استخدام أسلوبٍ، يختلف عن الأسلوب في المقام الذي تم الحديث عنه، على ضوء الآيات المباركة من (سورة الأنعام)؛ لِيُنَوِّع معهم الأساليب، ويعرض لهم أيضا المزيد من الحجج والبراهين، وكذلك ليعرض لهم الحقائق المهمة كذلك بطريقةٍ جديدة، وهدفه هو: السعي للوصول بهم إلى الهداية، وإلى إنقاذهم مما هم فيه من الضلال، والاتِّجاه بهم إلى عبادة الله وحده “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

استخدم معهم أسلوب (الأسئلة التي تستنطق الحقيقة)، فبعد أن سألهم: {مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، وكان ردهم كما تلوناه في الآية المباركة: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71]، وجَّه لهم أيضاً أسئلة تصل بهم إلى الحقيقة، عن أن تلك الأصنام غير جديرة إطلاقاً بأن يتوجَّهُوا إليها بالعبادة: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}[الشعراء:72-73]، وهنا كان جوابهم يتضمن ضمنياً الاعتراف بأنها لا تسمعهم، ولا تنفعهم، ولا تضرهم؛ وإنما يعتمدون فقط في عبادتهم لها باعتبار أنها من موروثهم الاجتماعي، الذي ورثوه عن آبائهم، وكان فيهم رموز يعتمدون عليهم، ويتقبَّلون منهم كل أشكال الضلال، بما فيه هذا المعتقد.

حينها اتَّجه إليهم بموقفه الحاسم، بعد أن تبين- حتى لهم هم- أنهم لا يمتلكون أي حُجَّة، ولا برهان، يعتمدون عليه في عبادتهم لها، والتَّوجُّه بالعبادة لها؛ وإنما اتَّجهوا كموروث اجتماعي، ولكن المسألة خطيرة جدًّا، هي خرافة يتشبَّثون بها، وهم يدركون في أنفسهم بأنها مجرد جمادات، لا تنفعهم بشيء، لا تسمعهم، لا تمتلك الحياة، ليست متفاعلةً معهم بأي مستوى من التفاعل.

ولكنَّ الخطير جدًّا في هذا الموضوع هو: أنَّهم انصرفوا بذلك عن عبادة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بمفهومها الشامل، بما في ذلك: الالتجاء إلى الله، والسير على نهجه وهديه؛ وهذا هو الخطر الكبير في ضلال الشرك وباطل الشرك:

أنه يصرف الإنسان عن الله، عن نهجه، عن هديه، يصرفه بشكلٍ كامل، انصراف تام، وهذه قضية خطيرة جدًّا. إضافةً إلى أن ذلك تنكُّر لأكبر الحقائق، التي هي: أن الله وحده هو الإله، الإله الحق، الذي لا معبود بحقٍ إلا هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

فهنا اتَّجه بالموقف الحاسم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، مسألة اعتمادهم على الإرث الاجتماعي في مسألة الشرك، وخطورتها الكبيرة، مسألة خطيرة؛ ولهـذا كانت براءته تشمل ما كان عليه أيضاً آباؤهم، وهم يتَّبعون آباءهم من باب العصبية، ومن باب الارتباط الاجتماعي، ومن باب التأثُّر بمن في آبائهم من رموز الضلال، ولكن لأن المسألة خطيرة جدًّا وجَّه هذا الموقف الحاسم، وأتى بهذا التعبير: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، وكما قلنا في المحاضرة الماضية: هذا قمة البراءة عندما يعلن العداء.

واختار هذا التعبير: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}؛ لأن معنى ذلك أنه سيسعى للتصدي لهذا الضلال والباطل، سيسعى لإزالته؛ لأنه يعمل من أجل ذلك: من أجل إزالة ذلك الباطل، واختار عبارة: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]، لماذا، مثلاً: لم يختر عبارة [فإنني عدوٌ لهم]، (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي)؟ وهنا فوائد متعددة لهذا الاختيار بنفسه في هذا التعبير.

عندما نتحدث عن مسألة العبادة لغير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فإن من أخطر ما فيها: أنها- كما قلنا- تصرف الإنسان عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بكل ما يترتب على ذلك من مخاطر كبيرة، وتُعرِّض الإنسان لغضب الله وسخط الله، فالعبادة لغير الله هي مصدر خطر كبير على الإنسان، وشر كبير على الإنسان، وعواقبها السيئة، وآثارها الخطيرة، كبيرة على الإنسان.

ولـذلك، ولأنها مصدر شر على الإنسان، يجب أن ينظر الإنسان إليها هذه النظرة: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]؛ لأن عبادتهم هي مصدر خطر، مصدر شر، وشيءٌ لا يمكن أن أتقبله على الإطلاق، هو باطلٌ فظيع، باطلٌ شنيع، فيه إنكارٌ لأكبر الحق والحقائق، تعدٍ على أكبر الحقوق، وفي نفس الوقت مصدر شرٍ كبير في الحياة؛ فلـذلك النظرة إليه كعدو، وخطر لابدَّ من التصدي له، والسعي لإزالته، فهذه مسألة مهمة جدًّا في هذا التعبير، يعني: ليست مسألة يمكن التأقلم معها، التغاضي عنها، تعتبر- مثلاً- تأثيراتها السلبية والسيئة في واقع الحياة محدودة.

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، ونلاحظ كيف أن المسألة هي- فعلاً- عبادةٌ للعدو، عندما يتَّجه الإنسان بالعبادة لغير الله بكل ما يُشكِّله ذلك من شر، من خطر، من ضر، من مفاسد، من أضرار كبيرة جدًّا، فمعناه: أن الإنسان يتَّجه بالعبادة للعدو، وهذا هو سخافةٌ وحمقٌ، وفي نفس الوقت غباءٌ كبيرٌ، وضلالٌ رهيبٌ مبينٌ، الاتِّجاه بالعبادة للعدو، يعني: بدلاً من أن تعبد الله، الذي هو ربُّك، الخالق لك، المنعم عليك، ملك السماوات والأرض، ربُّ العالمين، الذي يجازيك، والذي إليه مصيرك، والذي يربطك به كل شيء- وسيأتي الحديث عن هذه المسائل، فيما ذكره نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وهو يعرض براهين ودلائل مهمة- يتَّجه الإنسان لِيُعَبِّد نفسه لمن؟ لعدو، لعدوه! حالة خطيرة على الإنسان، وغباء رهيب، وضلال مبين بكل ما تعنيه الكلمة، وخسارة على الإنسان، الإنسان يخسر بذلك، حينما يتوجَّه إلى عبادة العدو، مما يُشكِّل عليه ذلك من خطر.

ولهـذا ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يس:60]، الشيطان عدوٌ لكم، كيف تتوجهون بالعبادة له عندما تجعلون طاعته فوق طاعة الله، وتطيعونه في معصية الله؟! حينها أنتم أعطيتموه ما لا ينبغي أن تعطوه إلَّا لله؛ لأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو ربُّنا الذي هو الجدير بأن نطيعه فوق كل طاعة، وأن تكون الطاعة له طاعةً مطلقة، فوق طاعتنا لأي أحد؛ فعبادة العدو غباءٌ، وضلالٌ، وخسارةٌ رهيبةٌ جدًّا.

والحالة المشابهة لذلك في واقع العرب اليوم: عندما يتَّجهون بالعبادة لأمريكا، كيف ذلك؟ عندما يجعلون أوامر أمريكا فوق أوامر الله، فوق كتاب الله، فوق تعليمات رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، عندما يتَّجهون إلى تحريف دينهم، في المناهج الدراسية، والخطاب الديني، من أجل من؟ من أجل أن يتأقلموا مع أمريكا ومع اليهود، ويحذفون ما يريد اليهود حذفه من الآيات القرآنية من المناهج الدراسية، ويقومون أيضاً بالتزييف للمعاني للآيات القرآنية ودلالاتها، بما يتناسب مع الأطروحات اليهودية؛ من أجل التطبيع، ومن أجل التأقلم مع الأمريكي والإسرائيلي، ومراعاة مشاعر اليهود.

فهم عندما يجعلون أمر أمريكا وإسرائيل واليهود فوق أمر الله، فوق دين الله، وفوق توجيهات الله، ويتَّجهون اتِّجاها معاكساً لمبادئ دينهم، حتى على مستوى الموالاة والمعاداة، حينما يوالون أعداء الإسلام، والله نهاهم عن ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]، فيخالفون أمر الله، ونهي الله، ويرمون بتوجيهات الله في كتابه الكريم عرض الحائط، ويتَّجهون باتِّجاه معاكس لذلك، فهذه هي من عبادة العدو، جعلوا أمرهم فوق أمر الله، جعلوا طاعتهم فوق طاعة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يخشونهم أكثر من الله، {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:13]، {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:175].

والذي يتأمل في وضع الأنظمة الرسمية في أغلبها، يجد أنهم يعيشون هذه الحالة: إنهم يخشون أمريكا وينسون الله، وإنهم يطيعونها فوق طاعتهم لله، ويجعلون أمرها فوق أمر الله، والتعليمات الصادرة منها، والإملاءات التي تقدمها، فوق القرآن الكريم، وما فيه من هدى وتعليمات من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه خسارةٌ عليهم، لماذا؟ لأن أولئك أعداء لهم، وكل ما يوجهونهم به، وكل ما يأمرونهم به، فينصاعون لأوامرهم، هو مما فيه شرٌّ على العرب، وعلى الأنظمة نفسها، وعلى شعوبها وبلدانها، وما يؤدي إلى ذُلِّهم، وهوانهم، وضياعهم، لخدمة أعدائهم.

أمَّا ما يأتينا من الله فكله رحمة، هداية لما فيه الخير لنا في الدنيا والآخرة؛ لأن الله غنيٌ عنَّا، ثم هو ربُّنا الرحيم بنا، ليس عدواً لنا، عندما نستجيب له يمنحنا رحمته، رعايته، يَمُنُّ علينا من واسع فضله، ويحيطنا برعايته في النصر، والمعونة، والتأييد، والتسديد، ورعايته الواسعة، يخرجنا من الظلمات إلى النور؛ أمَّا أولئك فهم يخرجون الناس من النور إلى الظلمات، هم طاغوت بكل ما تعنيه الكلمة.

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]، فأولئك رموزهم من رموز الضلال، لا ينبغي أن يخلِّدوا الباطل من أجلهم، آباؤهم الأقدمون الذين كانوا منحرفين، لم يكونوا مهتدين؛ ولـذلك ليس لهم مبرر أن يتشبَّثوا بما قدَّموه لهم من الضلال، وأن يُخَلِّدوا الباطل من أجلهم، والباطل هو الطارئ في واقع البشر.

{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، ربَّ العالمين هو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، شرحنا عن كيف كان يعتمد في خطابه لهم، أن يتحدث مثل ما ذكر في المقام السابق في الآيات المباركة من (سورة آل عمران)، كذلك استخدام عبارة (ربّ)؛ لأنه كان هناك حظر على استخدام كلمة (الله)، هو يريد أن يراعيهم هم؛ أمَّا من جانبه فهو يُصرِّح؛ ولـذلك عندما دخل في نقاش معهم، في الآيات السابقة من (سورة الأنعام)، كان صريحاً في الحديث عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، ولأن المقام المرتبط في مسألة الألوهية، هو مرتبط أيضاً بالربوبية، يعني: الذي له الحق أن نعبده هو ربُّنا، ربُّنا هو الله؛ لأنه المالك لنا، المنعم علينا، المربِّي لنا، الخالق لكل شيءٍ في العالم، فهو الربّ، المالك والمنعم.

{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، هم يعرفون أن ربَّ العالمين هو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهم لا يدَّعون لأصنامهم الربوبية المطلقة، وهذا كان من المعروف في واقع المشركين، يعني: يعتبرون أصنامهم آلهة محلِّية في معتقدهم الباطل، بل أحياناً على مستوى محدود جدًّا، يعني: أحياناً على مستوى منطقة معيَّنة، أو قبيلة معيَّنة معها صنم، وقبيلة أخرى معها صنم آخر، وليس عند القبيلة تلك إشكالية لماذا لا تعبد تلك القبيلة صنمهم هم، عادي عندهم الموضوع، الموضوع متعدد، هم يعتمدون مبدأ تعدد الآلهة، بل أحياناً على مستوى الأسر: أسرة معها صنم خاص بها، تعتبره آلهة لها في معتقدها الباطل، أسرة أخرى معها صنم آخر، ولا تؤمن بصنم تلك الأسرة… وهكذا، يعني: حالة فوضى، حوَّلوا مسألة الألوهية إلى حالة من الفوضى؛ فلـذلك هم كانوا يعتبرون أصنامهم آلهة محلِّية، يعني: في مستوى محدود.

بل أحياناً في مجال التخصصات، يعني: من المعروف عن الرومان، أنهم وصلوا في مرحلة من المراحل إلى أن كانت آلهتهم في معتقدهم الباطل أكثر من ثلاثمائة، ووزَّعوا عليها تخصصات كثيرة: إله الحب، إله العشق، إله النصر، إله الحرب، إله المطر، إله… حتى في نهاية المطاف تعبوا، تعبوا من كثرة ما وزَّعوا هذه المسألة: مسألة الآلهة والألوهية، وأصبحت فوضى إلى درجة لا تطاق في واقعهم، فتعبوا في الأخير من ذلك.

فهم يدركون عندما يقول: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، أن الربوبية المطلقة- الذي هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الله “جَلَّ شَأنُهُ”، هو ربُّ العالمين- أن ذلك ليس إلَّا لله، فهو الإله الحق، الذي لا معبود بحقٍّ إلَّا هو، يعني: هم يعترفون أن ربَّ العالمين هو الله، أن الذي له الربوبية المطلقة هو الله على العالمين جميعا، فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الإله وحده، الذي لا معبود بحقٍّ إلَّا هو؛ لأنهم يعترفون حتى هم أنَّه ربُّ العالمين، فعندما يأتي بهذا الاستثناء: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، يعني: فأنا أتولاه، وأعبده وحده، أتوجَّه إليه بعبادتي له وحده “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

ثم اتَّجه معهم إلى العرض المهم، لما يربطنا بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أولاً: هو ربُّ العالمين، يعني: ربُّ الخلائق أجمعين، ربُّ هذا الكون بكله، والمالك له بأجمعه، فلماذا يتَّجه الإنسان بالعبادة لغيره، هذه قضية خطيرة، تَنَكُّرٌ لأعظم حق، اعتداءٌ على حق الله في العبادة، وفي نفس الوقت إساءةٌ إلى الإنسان عندما يُعَبِّد نفسه لغير الله، هذا لا يُشرِّفه، ثم في نفس الوقت أيضاً الإنسان بذلك ينصرف عن نهج الله، قضية خطيرة، يترتب عليها ضلال واسع، باطل كثير، يمتد إلى حياة الناس، يتحوَّل إلى إجرام، إلى طغيان، إلى مفاسد، إلى مساوئ، إلى رذائل… إلى أشياء كثيرة في الحياة، وشقاء عظيم في الدنيا والآخرة.

ما يربطنا بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو كل أساسيات ومتطلبات حياتنا، ووجودنا كذلك، وجودنا هو من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولـذلك ليس للإنسان من مبرر أن يبحث له عن إلهٍ آخر، ما الذي تريده من الإله الآخر، الذي تريد أن تتَّجه بعبادتك إليه، فتتولاه، وتخشاه، وتخضع له، وتُعبِّر عن عبوديتك له، ما الذي تريده منه؟ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو مصدر كل النعم، كل أساسيات حياتك، كل متطلبات حياتك، هي- أصلاً- مرتبطة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لا يمكن أن تكون من عند غيره.

ولـذلك أتى يُذَكِّرهم، وباستعراضٍ تأمُّلي؛ ليُبَيِّن لهم أن الله وحده هو الجدير بأن نتولاه، وأن نعبده، ونثق به، ونتَّجه إليه، وهو الربُّ الرحيم، العظيم؛ ولذلك أتى بهذا الاستعراض، الذي يعرض فيه هذه الحقائق؛ لِتُبَيِّن أنَّ كل شيء مهم هو يربطنا بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولا مبرر للانصراف عنه.

{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، ابتدأ في سرد هذه النعم، والدلائل الواضحة على احتياجنا وافتقارنا إلى الله، وأنَّه الإله الحق “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في مقابل أنَّ تلك الأصنام لا تسمع، ليس فيها حتى الحياة، أنَّ كل الكائنات لا تقدر على أن تكون في مستوى الألوهية، لا تمتلك الجدارة بذلك أبداً، كلها مفتقرة إلى الله، كلها ضعيفة، كلها محتاجة، كلها مرتبطة بالله في أسباب بقائها، وفي وجودها، وما يتصل بذلك، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الخالق.

اختار نبي الله إبراهيم أن يعبِّر بهذا الأسلوب الشخصي، عندما قال بدءاً: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]، ثم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:78-80]، مع أنَّ هذا لكل الناس، لكل الخلق، الله هو الذي خلقهم، والله هو الذي يهديهم، والله هو الذي يطعمهم، والله هو الذي يسقيهم أيضاً، فلماذا اختار أن يعبِّر بطريقة شخصية؟ هو يعبِّر لأسباب متعددة، منها: أنه يبيِّن لهم أنَّ هذه قناعة أنطلق منها، وإيمانٌ وتوجُّهٌ أنا على ثقةٍ منه، يعني: ليست مسألة أنه يريد أن يدفع بهم إلى شيءٍ هو بعيدٌ عنه، بل شيءٌ يثق به، يعتمد عليه، شيءٌ يرتضيه لنفسه، ويثق به لنفسه، ويتَّجه فيه بنفسه، وهذا ليطمئنهم على أنه يريد أن يدفعهم في الاتِّجاه الذي هو اتِّجاهٌ ارتضاه لنفسه، ليس أنه يريد أن يورِّطهم في اتِّجاه هناك، أو في قضية هناك، بل يتَّجه بهم فيما ارتضاه لنفسه، فيما يثق به كل الثقة، فيما يعتمد عليه هو، ويسير فيه؛ ليعزز الثقة بهذا الاتِّجاه الذي يدعوهم إليه، هذا واحدٌ من الأسباب.

كذلك نجد مثل هذا العرض أيضاً في مقامات أخرى، لأنبياء آخرين، لمؤمنين آخرين، ولأسباب أخرى يمكن أن نشير إليها إن شاء الله.

{الَّذِي خَلَقَنِي}[الشعراء:78]، الله هو الذي خلقني، فهو المالك لي، والمنعم عليّ، والذي خلق الجميع، كل المخلوقات والكائنات هو الذي خلقها.

نعمة الخلق في الوجود هي نعمةٌ كبيرة، وفي مسألة الإقرار بأنَّ الله هو الخالق، هذه مسألة يقرُّ بها المشركون عبر التاريخ، حتى في الاستبيان الذي في القرآن الكريم، يبيِّن هذه الحقيقة، لم يكونوا ينكرون أنَّ الله هو الذي خلقهم، بل يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[الزخرف:87]، فهم يقرُّون بهذه الحقيقة: أنَّ الله هو الخالق، وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بما أنَّه الخالق هو المالك، هو المنعم، ونعمة الخلق نعمةٌ عظيمة، في مقدِّمة النعم أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلقك، وهبك الحياة، وهبك الوجود، هو الذي أتى بك إلى هذا العالم أنت كإنسان.

ثم في نعمة الخلق للإنسان نعمٌ كبيرة، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال عن خلقه للإنسان: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4]، فالوجود بنفسه نعمة، والوجود بهذه الصورة، بهذه القدرات التي وهبك الله، بهذه النعم التي وهبك الله، هي نعمةٌ كبيرة، الخلق في أحسن تقويم نعمةٌ عظيمةٌ على الإنسان، ومن التكريم له أنَّه خلقه في أحسن تقويم، وما وهبك الله في خلقه لك من جوارح، من أعضاء، من حواس، من مدارك، من طاقات، من قدرات، من مواهب، هذا كله نعمةٌ عظيمةٌ عليك من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

ولذلك الإنسان عندما يتأمل في نعمة الله عليه في خلقه له، فيما وهبه- كما قلنا- من جوارح، وأعضاء، ووسائل، يستفيد منها في حياته، من حواس، من مدارك… من غير ذلك، ويدرك كم أنَّ نعمة الله عليه عظيمةٌ جدًّا، وأنَّ كل نعمة مما خلق الله له، هي نعمة عظيمة مهمة، ذات أهمية كبيرة للإنسان في حياته، وفي شؤون حياته، لا تقدَّر بثمن، يعني: أغلى من كل سعر، فالإنسان عليه أن يدرك هذه الحقيقة، والله يذكِّرنا بهذه الحقيقة؛ باعتبارها نعمةً عظيمةً علينا: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:6-8]؛ لأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم وأحسن صورة.

عندما يقارن الإنسان في تأملاته بين صورة الإنسان وشكله، وكيف عدَّل الله شكله وقوامه، يقارن مع بقية الحيوانات، وبين ذلك وبين بقية الحيوانات، يجد- فعلاً- أنَّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، والإنسان لا يرتضي لنفسه شكلاً آخر، أو حالاً آخر غير ذلك؛ ولـذلك تعتبر عقوبات المسخ من أشد العقوبات، عندما مسخ الله من بني إسرائيل قردةً وخنازير، كانت عقوبة رهيبة جدًّا، رهيبة جدًّا، عندما حوَّلهم إلى أشكال حيوانات أخرى؛ لأن شكل الإنسان وخلقه مُمَيَّز جدًّا بين كل الحيوانات.

الآخرون لا يخلقون، كل من يتَّجه الناس إليهم بالعبادة من غير الله، ليسوا هم من خلقوهم، ولا خلقوا أي شيءٍ من الكائنات الأخرى؛ ولهـذا يُذَكِّر الله بهذه الحقيقة: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد:16]، يقول لهم أيضاً في آيةٍ أخرى كذلك: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}[الحج:73]، (ذُبَاب) لو اجتمعت كل معبوداتهم الزائفة لتخلق ذُبَاباً واحداً؛ لعجزت عن ذلك، فما بالك ببقية المخلوقات والكائنات.

فالله هو الخالق، وهو المالك المنعم، لأنه الخالق؛ هو المالك المنعم، المقتدر، الرحيم، العظيم، فكيف يتَّجهون بالعبادة لغيره “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؟!

ولـذلك الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لأنه الخالق؛ هو المالك المنعم، الذي يستحق العبادة وحده، الذي له حق الأمر والنهي في عباده، والتدبير لشؤون عباده، وهو الذي ينبغي أن يلتجئوا إليه بما يحتاجونه، بافتقارهم إليه؛ لأن كل الخير منه، ومصدر وجودهم وخلقهم هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كيف يتَّجهون إلى غيره؟! يعني: ليس مجرد فاعل خير فيهم، ويريد أن يفرض نفسه فضولياً عليهم، ويدعوهم إلى عبادته، فيقولون: [أنت لا شأن لك بنا، لماذا تريد أن تفرض نفسك علينا وتطلب منا ذلك؟]، المسألة أنَّهم مملوكون له، وهو مصدر وجودهم “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، ونعمة الهداية نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا، في صدارة النعم، والإنسان بعد خلقه يحتاج قبل كل شيء إلى الهداية، حتى قبل طعامه، وقبل شرابه، نجد في هذا العرض لنبي الله إبراهيم، أنَّه قدَّم الهداية حتى قبل قوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:79]، حتى قبل ذلك، ونجد أيضاً في آياتٍ قرآنية أخرى، أنَّ القرآن يُقَدِّم هذه النعمة قبل غيرها، أحياناً حتى قبل خلق الإنسان؛ من شدة أهميتها، ولشدة حاجة الإنسان إليها، {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن:1-3]؛ فلأهمية نعمة الهدى، وحاجة الإنسان إليها، وهي نعمة عظيمة ومهمة وأساسية جدًّا جدًّا جدًّا للإنسان، قدَّمها هنا حتى قبل الطعام والشراب.

الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي يهدي، هو مصدر الهداية، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، هو عندما خلق الخلق لم يتركهم بدون هداية، لو تركهم بدون هداية؛ لما استطاعوا أن يتحركوا لأي شيءٍ في شؤون حياتهم على الإطلاق، لكانوا في حالة عناء رهيب جدًّا، ولما تمكنوا أصلاً من الاستمرار في الحياة ربما ولو لفترة وجيزة، أو صغيرة، أو بسيطة؛ لأن مسألة الهداية مسألة أساسية للإنسان، فنعمة الهداية أهميتها عظيمةٌ للإنسان؛ ولـذلك وردت في صدارة النعم، والإنسان يحتاج إليها بشكلٍ مستمر.

حاجة الإنسان للهداية هي حاجةٌ في كل مجالات حياته، ومرتبطةٌ بوجوده، يحتاج إليها احتياجاً كبيراً جدًّا؛ ولهـذا كانت هداية الله واسعة للإنسان، وفي جزءٍ من الهداية يشترك به مع بقية الكائنات الحيَّة، والحيوانات الأخرى، وجزء آخر للإنسان لاتِّساع حياته، واتِّساع شؤونه.

فهناك في البداية، في بداية الهداية الإلهية هي: الهداية الفطرية، بما غرزه الله في فطرة الإنسان، وهذه الهداية أيضاً لكل الكائنات الحيَّة، بمقدار دورها ومهامها في الحياة، وبحسب المقدَّر لها؛ ولـذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:2-3]، {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50]، نجد كيف أهمية الهداية الفطرية للإنسان، والتي يحتاجها بعد وجوده، بعد أن تلده أمه مباشرةً قبل كل شيء؛ لأنه كيف سيتصرف لأسباب بقائه، في مسألة الغذاء، كيف سيعرف كيف يتغذى، كيف يرضع من أمه.

والشيء العجيب، الملاحظ لدى الكثير من المولودين من الناس مثلاً: أنه بعد ولادته يبدأ على الفور يبحث يُحَرِّك فمه، البعض حتى قبل أن يفتح عيونه، يُحَرِّك فمه يريد أن يرضع، ولولا هداية الله له، وإلهامه له بهذه الهداية الفطرية؛ لكان هناك مشكلة كبيرة في كيف يفهم أن يرضع، وأن يتقبَّل الرضاعة، وأن يَمُصَّ ثدي أمه ليرضع، لكانت هذه مشكلة كبيرة، لو كانت معتمدةً- مثلاً- على التلقين، والتفهيم، يقولوا له: [يا وُلِيد ارضع، اعمل كذا، سوِّي كذا…]، لما استطاعوا أن يفهموه بشيء؛ لأنه في مرحلة لا يتلقَّن فيها شيئاً، ولا يتقبَّل فيها أي تلقين، لكن بفطرة الله، بهداية الله الفطرية له، يُحَرِّك فمه يبحث عن ثدي أمه يريد أن يرضع؛ في الوقت الذي من المستحيل تفهيمه وتعليمه بكيفية الرضاعة، لولا أنَّ الله ألهمه وهداه لذلك.

للاستكمال عن موضوع الهداية كنعمةٍ عظيمة، وحاجةٍ ضرورية، يحتاج إليها الإنسان، وأنَّها من الله، وأنَّها مما يربطنا بالله، وأنَّها ليست من غيره، نُكْمِل الحديث- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة عن ذلك.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • بصرى الشام.. مدينة البشارة النبوية والآثار التاريخية
  • محاضرة حول السكينة في القرآن الكريم والسنة النبوية
  • مفتي الجمهورية: السنة النبوية ليست كلامًا بشريًّا مجردًا بل وحيٌا من عند الله
  • أحمد علي سليمان من إندونيسيا: على الأمة التمسك بوحدتها تحت راية القرآن الكريم والسنة النبوية
  • "السنة النبوية واستقرار الأوطان".. محور ملتقى الفكر الإسلامي بمسجد الحسين
  • في محاضرته الرمضانية الثالثة عشرة.. قائد الثورة : ما جاء من الله رحمة وهداية لما فيه الخير في الدنيا والآخرة
  • نص المحاضرة الرمضانية الـ 13 للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • شاهد| لماذا اختار نبي الله إبراهيم عليه السلام بالتحديد عبارة {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]؟
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 13 رمضان 1446هـ 13 مارس 2025م
  • معهد أبحاث صهيوني : الإجراءات التي اتخذها التحالف الدولي لم تنجح في ردع اليمنيين