مرايا برلمانية وأصوات فاعلة
تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT
«رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس»
جان جاك روسو
لا يمكن إنكار تطور مآلات العملية الانتخابية بأي حال من الأحوال، كما لا يمكن القبول بثباتها -مع انفتاح سبل التطوير واتساع تقنيات العصر- دون تغيير أو تطوير، وما كل ما نشهده اليوم من تبدّل وتحوّل في أدوات ووسائل وممكنات العملية الديمقراطية في سلطنة عمان إلا تجليّات لاستجابة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- ثم وزارة الداخلية جهةً راعيةً مُنَظِّمَةً للنهوض بالعمل البرلماني المتغير بتسارع ملحوظ، ومقتضى هذا الحال يستدعي تكامل كافة الجهود المؤسسية والمجتمعية الشعبية لإنجاح هذه العملية الانتخابية سعيا لبلوغ آمالنا جميعا منها في تأسيس قبة ديمقراطية تفاعلية تستوعب أصواتنا المختلفة عبر ممثلين مخلصين قمنا باختيارهم بعناية في مفاضلة لانتخاب الأكفأ بعيدا عن أي انتصارات وهمية لقبلية أو مناطقية أو نفعية إلا منفعة الوطن ومواطنيه.
تواجه الديمقراطية في سياقها الميداني العملي كثيرا من التحديات التي تكبر وتتسع وتزداد تعقيدا مع مرور الزمن وتعاقب العقود، لا سيما مع تطور الأدوات والوسائل التقنية إعلاميا وبرلمانيا وانفتاح الأطر الجغرافية، كما تسهم نظريات العمل الديمقراطي والتمثيل الشعبي في تغيّر وتطور شكل عملية الانتخاب وممارسات الترشح والتصويت، كل هذا يحدث عالميا حتى في أفضل الدول تأسيسا وتنظيرا للعملية الانتخابية، ومع كل التحديات المؤثرة على سلامة عملية التصويت ذاتها أولا، ثم على وعي الجماهير من الناخبين في ضرورة اختيار الأصلح والأفضل تظهر إلى السطح كثير من الأسئلة المعادة مع كل دورة انتخابية جديدة، وهذه الأسئلة المعادة ليست لصيقة بتصويت الناخبين لاختيار ممثليهم برلمانيا وحسب، وإنما تتجاوز ذلك لانتخابات مجالس الإدارة في كثير من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والمؤثرة مجتمعيا وثقافيا واقتصاديا، كما أنها ليست محلية لنحصرها في إطارنا الجغرافي المحدود لنعيش حينها حالة التشاؤم أو حالة التميز أو حالة الصمت مع تمثل الحالات الثلاث في كل دول العالم دون استثناء لكن بنسب متفاوتة، نأمل أن نبلغ أفضلها.
إن كان من رهان على بلوغ العملية الانتخابية أهدافها فما ذاك إلا رهان المعرفة المؤسِسة لوعيٍ مجتمعيٍّ يُعوّل عليه ليس لاختيار ممثلي الشعب وحسب، وإنما لتوجيه إمكانات هؤلاء الممثلين وتحفيز طاقاتهم وتوسيع مداركهم سعيا لنيل أسمى أهداف العملية الديمقراطية في تمكين الأكفأ والأفضل، والنهوض بالوطن ومواطنيه إلى منزلة لا تقبل الركود، ولا تستسلم للدعة، ولا يتأتّى كل ذلك إن ما وقع في الظن انتهاء الانتخاب والعمل الديمقراطي بمجرد إعلان قوائم الفائزين ليعيش الفائز حالة الترفع بعدها والتقنّع والاختباء حتى اقتراب الدورة البرلمانية اللاحقة، ويعيش الجمهور حالة الاسترخاء اعتمادا على العضو المنتخب وحده، أو حالة التذمر والشكوى السلبية العامة بميادينها الرقمية، وإنما نبلغ ما نأمل معا متابعةً حثيثةً ومحاسبةً دورّيةً لعمل وأداء ممثلنا المنتخب بأصواتنا، مع الضغط بورقة الرأي الجماعي إن جاء موافقا لمصلحة الوطن والمواطن، لا ينبغي أن يركن ممثلو الشعب للدعة والكسل بعد أقصر جولاتهم مع كسب الأصوات، خصوصا حين لا نرى أي أثر لهذه الجولة إلا مع اقتراب الانتخابات، ولا بد هنا من تحميل الناخبين كثيرا من مسؤولية سلبية المرشحين بعد الفوز، إذ أنهم اطمأنوا بأن أبلغوهم كرسي التمثيل البرلماني ثم عادوا محملين بظنونهم أن أنهوا مهمتهم لتبدأ مهمة الفائز وليس هذا من الصحة أو المنطق في شيء، لأنه لا بد للعمل البرلماني أن يكون تشاركيا تفاعليا طوال مدة الدورة المحددة دون كلل أو ملل من الطرفين ممَثِّلا وناخبين.
من يملك المعرفة يملك القوة والتأثير، وبعض هذه المعرفة تؤتى تراكميا إن لم تؤتَ تحصيليا، وما مرّ علينا من دورات انتخابية كافية جدا لنتعلم أن لا نؤخذ بالاستعراض الآني لبعض المترشحين متحولين في أيام معدودات من حالة خاملة ساكنة إلى مركز متنقل للقوى الخارقة والجهود الجبّارة، ذلك طعم تقليدي مستهلك ينبغي على كل عاقل أن يعيه وعلى كل مخلص أن يتجنبه إعدادا لصوت انتخابي قوي، وإن كان أوتو فون بسمارك يحذرنا من المبالغات في مواضع «يكثر الكذب عادةً، قبل الانتخابات وخلال الحرب وبعد الصيد» فما زال «الصوت الانتخابي أقوى من صوت المدفع» كما وصفه ابراهام لينكولن، ولا ينبغي أن يُظن بأي حال بأن المقصود بالمدفع الصخب والجلبة كما نرى من بعض الأعضاء، وإنما التأثير الواعي التحليلي إحداثا للفرق دون تجريح أو توبيخ، فلا الانفعال المصنوع محمودا حينها ولا السكون الأجوف، لكنه الوعي متسلحا بالمعرفة في قوة الطرح، متلبسا الهدوء مع حسن المنطق ودقة المتابعة والتحليل، نسأل الله التوفيق لكل مخلصي هذه المرحلة من العمل الانتخابي سواء أولئك السابقين ممن تركوا أثرا أو اللاحقين المُحملين بمحبة عمان على جسر من الإخلاص دون هوى أو أطماع متمثلين هذه المحبة عملا حقيقيا وتأثيرا مجتمعيا خالدا.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أهم مغالطات الخطابات الديمقراطية في تونس
(الإهداء: إلى روح سيد الغرباء المرحوم حبيب الجِملي)
بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في سوريا، عبّر الكثير من التونسيين -على عكس الخطاب الرسمي وخطابات أغلب "القوى الديمقراطية" بمختلف رموزهم ومناصريهم- عن فرحتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. وكما ذكرنا في أكثر من مقال سابق، فإن الشأن السوري هو مجرد موضوع متاح وليس مقصودا لذاته. ولذلك حاولت الخطابات "الانقلابوقراطية" في تونس (أي تلك الخطابات التي جعلت من الديمقراطية والحداثة والتقدمية والعلمانية وغيرها كلمات "سيئة السمعة على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري) شيطنة هذا الحدث واستباق أي تداعيات له على الشأن المحلي وعلى التوازنات الهشة التي تتحكم في هندسة المشهد العام.
ومثلما هو متوقع، فقد تمترست الخطابات "الديمقراطية" في مربعها التقليدي: مربّع الصراعات الهوياتية. فالتغيرات التاريخية الكبرى -بدءا من الثورة التونسية ذاتها، مرورا بالثورة المصرية ووصولا إلى الثورة السورية- لم تكن قادرة على خلخلة المضمرات الأيديولوجية والمسلّمات اللاهوتية المعلمنة التي تجد جذرها في مقولة "الاستثناء الإسلامي". بل إن هذه التغيرات قد جاءت لتؤكد أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا حقيقيا عند أغلب من يدّعون احتكار الصفة الديمقراطية وينزعونها عن خصومهم، وكذلك شأن الإرادة الشعبية وغيرها من مفردات الديمقراطية بمعناها الليبرالي.
يمكن لأي متابع للشأن التونسي عبر المنابر الإعلامية العمومي أو الخاصة أن يلاحظ أن تلك المنابر قد تحولت بصورة تدريجية بعد 25 تموز/ يوليو 2021؛ إلى مزرعة خاصة لمن يمكن تسميتهم بـ"المتحوّلين" داخل النسق الوظيفي ذاته، أي لأولئك الذين تغيرت ولاءاتهم الحزبية والشخصية أكثر من مرة منذ الثورة لكنهم بقوا دائما أوفياء لسيد واحد: النواة الصلبة للمنظومة القديمة أو ما يمكن تسميته بمنظومة الاستعمار الداخلي . فأغلب الذين يدافعون الآن عن "تصحيح المسار" و"يهاجمون ما يسمونها بـ"العشرية السوداء" قد كانوا من رموز تلك العشرية، وكانوا من خصوم الرئيس ومن أنصار ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي، بجناحية القومي والشيوعي.
ونحن لا نطرح على أنفسنا في هذا المقال لتأريخ لسير هؤلاء المتحولين منذ عهد المخلوع، ولكننا سنحاول أن نقف على أهم المغالطات التي تخترق خطاباتهم وتجعلها أداة لتزييف الوعي الجماعي ومعولا من معاول الهدم لبناء المشترك الوطني ولانبثاق حقل سياسي يتحرك بعيدا عن منطق النفي المتبادل ونوازع الانقلاب.
إن وصول "الإسلام السياسي" إلى الحكم في سوريا -وتحرر الشام من نظام الحزب الواحد المسنود بديمقراطيين وظيفيين داخل "الجبهة الوطنية التقدمية- ليس مجرد سقوط لنظام أجنبي، بل هو سقوط لسردية شمولية وجدت نظائرها وأشباهها في تونس منذ تحالف أغلب "القوى الديمقراطية" مع المخلوع وتبرير جرائمه بدعوى "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي"، وصولا إلى "الانتخاب المفيد" للمرحوم الباجي قائد السبسي عندما كان يجسّد التعبيرة السياسية الأهم للمنظومة القديمة. إنها سردية الأقليات -بأشكالها الطائفية والعسكرية والأيديولوجية- تلك الأقليات التي تحكمت في السلطة وفي عمليات إنتاج الثروات المادية والرمزية داخل ما يسمى بـ"الدولة القُطرية" في مرحلة الاستعمار غير المباشر، أي المهيمنة على الكيان الوظيفي الفاقد لمقومات الدولة بالمفهوم الغربي وأقلها السيادة على مجاله الداخلي على حد تعبير المفكّر هشام البستاني.
منطقيا، لا يمكن اعتبار مقولة "الاستثناء الإسلامي" -أي التعارض الماهوي والمطلق والنهائي بين الإسلام في ذاته وبين الفلسفة السياسية للدولة الحديثة- مغالطة منطقية غير صورية، ولكن يمكن اعتبارها الأساس الأعمق لجميع المغالطات المشتقة أو الجزئية التي لا يكاد يخلو منها أي خطاب "ديمقراطي". فهذا الادعاء الاستشراقي يقوم على نظرة "ماهوية" للإسلام تجعله يتقابل تقابلَ تضاد مع كل الأديان السماوية والوضعية، كما أنه يسمح بتذويب كل الفروق والتناقضات بين السرديات الأيديولوجية الكبرى (الوطنية والقومية والشيوعية) التي تحرك أغلب ممثليها في تونس على أساس هوية "حداثية" و"ديمقراطية" مشتركة، ولا تقبل بالانفتاح على التعبيرات السياسية الإسلامية، بما في ذلك المكوّن الإسلامي القانوني مثل حركة النهضة.
يُعلّمنا الدرس المنطقي أن الإنسان -بما في ذلك النخب- يستخدم المغالطات المنطقية لبناء حجج تؤدي إلى النتائج المطلوبة. ولمّا كانت النتيجة المطلوبة لأغلب النخب "الديمقراطية" هي إقصاء الإسلاميين من دائرة الفعل السياسي -بل من المجال العمومي برمّته- فإن استراتيجيتي الاستئصال الصلب والناعم ستعملان على التلاعب بعقول المتلقين عبر جملة من المغالطات غير الصورية (مغالطات لغوية) الموضوعة، للدفاع عن المسلمة الأساسية المذكورة أعلاه (أي الاستثناء الإسلامي)، دون ذكرها صراحةً إلا في أوساط ضيقة من النخب "التنويرية"، وهي نخب لها خلفيات يسارية وتوجهات لائكية بلسان فرنسي ويمثلها أساسا حمادي الرديسي ومحمد الشريف الفرجاني.
وبحكم ذكرنا للتنوير، فإننا لا نعتبره أيضا مغالطة منطقية، ولكننا نعتبر أن ما انبنى عليه من مقاربات للانتقال الديمقراطي هو جملة من المغالطات المتراكبة التي تعيق بناء حقل سياسي "طبيعي" يستطيع التحرك خارج وصاية النخب الوظيفية أو ضد مقدساتها "المُعلمنة".
إننا لا نجانب الصواب إذا ما ذهبنا إلى أن مقولة "الاستثناء الإسلامي" -مسنودة بمشروع "التنوير" القائم على مبادئ اللائكية الفرنسية- هو المبدأ التوليدي لجملة من المغالطات الكبرى في الخطابات "الديمقراطية"، مثل مغالطة سد الذرائع أو المنحدر الزلق، أي المصادرة على فساد أي ديمقراطية وطابعها السلبي في صورة مشاركة الإسلاميين فيها وهو ما يبرر ضرورة إقصائهم؛ ومغالطة التعميم المتسرع بالحكم على الكل من خلال حالة الجزء، أي القول مثلا بأن وجود تكفيريين أو إرهابيين يحملون خلفية إسلامية يمكن أن يسمح لنا باتهام كل الإسلاميين بالإرهاب ونعتهم بالتكفيريين؛ ومغالطة الإحراج الزائف أو المأزق المفتعل، أي عدم إمكانية بناء حجة إلا على افتراض خيارين لا أكثر، ومثالها جعل ما يقابل "الديمقراطي التونسي" هو الإرهابي والظلامي والرجعي والعميل واللاوطني، مما يعني أن على المتلقي الخضوع لهذا الإرهاب الفكري وتبني خيارات أصحابه وانحيازاتهم التأكيدية وإلا كان موضوع وصم وشيطنة. وهناك المغالطات القائمة على التوسل بالعاطفة أو بالخوف أو بالإطراء أو بالاستهزاء، أو تلك القائمة على التفكير الدائري أو على الاحتكام إلى الحقد أو إلى التفكير الرغبوي، وهي مغالطات لا يكاد يخلو منها أي خطاب عامي أو نخبوي على مذهب "الديمقراطيين" في تونس.
إذا كان "المسلم الجيد الوحيد في نظر النخبة الفرنسية هو ذاك الذي لم يعد مسلما" -كما يقول المفكر فرانسوا بورغا- فإن الإسلامي الجيد الوحيد في نظر أغلب النخب التونسية هو ذاك الذي لم يعد إسلاميا، أو على الأقل هو ذاك الذي يتحول إلى ملف أمني-قضائي أو إلى ملف حقوقي بين أيدي النخب "الديمقراطية". فعندما تتحول مقولة "الاستثناء الإسلامي" إلى عقيدة علمانية تنفي إمكانية تشريك "الإسلام" (حتى في مستوى القيم) في بناء المشترك الوطني، وعندما يصبح "التنوير" مشروعا معاديا لأي هوية سياسية ذات مرجعية إسلامية، فإنّ الخطابات "الديمقراطية" ستتحول إلى أداة لهدم أي مشروع ديمقراطي يعكس الإرادة الشعبية كما هي؛ لا كما يريدها من نصّبوا أنفسهم أوصياء عليها.
ختاما، إذا ما أردنا طرح القضية في مستوى معرفي مجرد، فإن على ممثلي "القوى الحداثية" (التزاما بمنطق التنوير ذاته باعتباره "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من انسان آخر" كما يقول كانط) أن يطرحوا على أنفسهم رهان التفكير بعقولهم، وتجاوز مرتبة الشراح لما أنتجته عقول الآخرين والقطع مع دور المبشرين بها خارج مجالاتها التداولية الأصلية.
وبصرف النظر عن القيمة المعرفية لأطروحاتهم حول تجديد الفكر الديني أو إصلاحه -وعلاقة ذلك بأدوارهم في خدمة منظومات الاستبداد المعلمن- فإن الثورة التونسية وغيرها قد أثبتت عطالة هذه العقول الحداثية وعجزها عن ممارسة النقد الذاتي والتحرك نحو أفق مواطني مشترك، وهو ما يجعلها مدعوّة إلى أن تطرح على نفسها مشروع "تجديد الفكر الحداثي"؛ خارج تلك التضامنات والانحيازات وعلاقات التخادم أو التعامد الوظيفي التي حكمت علاقتها بمنظومات "حكم الأقليات" الجهوية والطائفية والعسكرية في تونس وفي كل الأقطار العربية والإسلامية.
إن القيام بهذه المراجعة النقدية هو -في تقديرنا- خطوة ضرورية لبناء قواعد العيش المشترك بعيدا عن منطق التنافس في خدمة النواة الصلبة للمنظومة القديمة ومصالحها المادية والرمزية، كما كان الشأن خلال عشرية الانتقال الديمقراطي.
x.com/adel_arabi21