حتى لا يُظلَم التاريخُ.. حيث النشأة الأُولى
تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT
متى يُظْلَمُ التاريخُ؟ أتصور أن ظلم التاريخ يكون عندما تفصل الأحداث عن واقعها، وتُجَيَّرُ الأخرى لصالح فترات زمنية مضت من غير مسوغ منطقي، كما هو الفهم الشائع عند العامة، حيث يعاد كل إنجاز في الحاضر لما كان قد مضى، ويقال لك بكل بساطة: «التاريخ يعيد نفسه» بينما الحقيقة؛ ووفقا لبعض الآراء: «فالتاريخ لا يعيد نفسه» وإلا أصبحت الحياة مملة، وغير قابلة للتجديد، وخاصة في الأنساق الاجتماعية، وهي أهم مكون من مكونات التاريخ، وأهم فاعل فيه بامتياز، حيث تبدأ حركتها بحركة ميلاد أفرادها، وليس بحركة من سبقها، فكل إنسان يصنع تاريخه بنفسه، ولعلنا نستحضر قول الشاعر: «ليس الفتى من قال كان أبي؛ إن الفتى من قال ها أنا ذا» ولنا في الآية الكريمة مبلغ الحكمة: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) -الزخرف؛ الآية (22)- ولذلك عاب القرآن الكريم على الأمم السابقة عندما جاءتهم رسل الله، حيث تمسكوا بهويتهم التاريخية البائدة، التي عفا عليها الزمن، بينما حركة التاريخ لا تقبل هذا الجمود، ولا تؤمن بالتموضعات الجامدة، فالإنسان وليد عصره، فظروفه مختلفة، وأدواته مختلفة، ومساحة تفكيره مختلفة، وهذا؛ بدوره؛ ما يعزز تقزيم مفهوم «مهمة الخبير» فالخبرة تزداد اتساعا ومعرفة في ماضيها، فكل يوم يمر هو تأصيل لذات الخبرة، وليس كل يوم آت -لا يزال في رحم الغيب- يمكن أن يضع له الخبير رؤيته الناصعة البياض، هذا تحايل على التاريخ، بلا منازع، وإلا؛ لماذا يفشل كبير السن فشلا ذريعا في التعاطي مع الأجهزة الحديثة؛ ويجد في الأصغر سنا منه، أنه الأجدر في التعامل معها، والأصوب في الولوج إلى ما تحمله من اتساع في المعرفة؟ وهذا أكبر دليل على أن الخبرة التاريخية غير الخبرة العلمية التي تعيش تراكما مستمرا، فالتاريخ لا يمكن أن يتحمل فاتورة متراكمة كقطعة الثلج، ليقال في نتائج الغايات إن ذلك بسبب أحداث التاريخ، هي التي أوصلت النتائج إلى هذا المستوى من التردي؛ على سبيل المثال؛ فهذا التقييم تجاوز صريح للحقيقة العلمية، التي ترى أن النتائج مرتبطة بلحظة مسبباتها الآنية، وليست التاريخية، وقد قيل: «من لا يفهم التاريخ؛ يجازف بتكراره» فالوحدات التاريخية مستقلة بأزمنتها، ومرتبطة بموقعها الجغرافي الخاص، وبشخوصها الفاعلين فيها في ذات اللحظة الزمنية، ولا يمكن أن تعمم، ويلقى عبئها المادي والمعنوي على التاريخ.
التركيز هنا على النشأة الأولى؛ لأنها تمثل منطلقا مهما لقراءة التاريخ، فالتاريخ حركة ديناميكية قد تتجاوز حياة الركود التي تعيشها الأمم لظروف مختلفة، فأحداث الحروب، واحتلال الدول؛ على سبيل المثال؛ من شأنه أن يؤجل حركة حياة الناس، أو يبطئها إلى زمن ما، فلا تشهد ذلك الصخب، وتلك الحيوية؛ حتى تزول لعنة الاحتلال. لكن هل يتوقف التاريخ عند هذه النقطة فلا يسجل إنجازا مقدرا عند ذات الشعوب؟ المنطق يقول: لا، فحركة التاريخ لا تتوقف عجلتها عند نقطة معينة، ومع ذلك فالشعوب التي أصابتها لوثة الاحتلال والحروب، أو وقوعها تحت أنظمة سياسية ظالمة مستبدة، قد لا تنفصل انفصالا تاما عن حركة التاريخ من حولها، فهناك أفراد يحاولون الحركة والتنقل، وبالتالي يُصَدِّرونَ الكثير من النتائج أو ينجزونها وذلك من خلال ما يقومون به من مجابهة الاحتلال، وتركيع العدو عند مستويات معينة من الاحتلال، وبالتالي فالزمن المستقطع في هذا الاتجاه هو صورة متحققة من النتائج الحاصلة من حركة التاريخ، صحيح؛ أن مثل هذه الشعوب لا تشهد حركة النمو السريعة، التي تعيشها شعوب أخرى أكثر حرية وانسجاما مع واقعها، ولكن مع ذلك فهي لا يمكن أن تلغى من قائمة الشعوب المساهمة في مسيرة التاريخ، فالتاريخ حي بذاته، وفاعل بأدواته، ولو أن هذه الأدوات هي من فعل البشر، فالتاريخ هو الذي أتاح للبشرية الفرصة الزمنية لاستحداث أدواتها، وهو الذي أتاح لها المساهمة المباشرة في أحداثه، وهو الذي يسمح بولادات مستمرة معبرة عن ذات فتراتها الزمنية.
هناك من يرى أن «حركة العلم التاريخية؛ تبدأ في الغالب من حيث توقفت عجلته؛ أما حركة تاريخ الإنسان الاجتماعية، فهي حركة غير منضبطة» بمعنى أنها «غير تراكمية» وهذه الصورة واضحة وضوح الشمس من خلال قراءة أي واقع بشري على امتداد الكرة الأرضية، فالحصيلة العلمية حصيلة تراكمية بامتياز، ولا يمكن خلخلتها من خلال تفريغ محتويات الحلقات المتكاملة والمتداخلة، فعلى سبيل المثال لو أخذنا أي منتج صناعي بين أيدينا الآن، سنجد -بلا شك- أن تطوره عبارة عن حلقات متواصلة، كل حلقة تعد قاعدة أو مرتكزا للحلقة التي بعدها، ولذلك فالصناعات لن يتوقف نموها، فهي في تطور مستمر، وكل من يبارك الله في عمره، سيشهد الكثير من التطور في مختلف الصناعات، فما هو متخيل في لحظة تاريخية «آنية» يصبح حقيقة وجودية لا يمكن تجاوزها، بل وفاعلة وعلى قدر كبير من الأهمية للحياة البشرية في لحظتها التاريخية، بينما في المقابل «حركة تاريخ الإنسان الاجتماعية» ليست فقط قابلة للتغير والتبدل، بل قد تتعرض للإلغاء مطلقا من قائمتها الاجتماعية؛ لأن كل جيل مرتبط بلحظته التاريخية «الزمنية» وبمكوناتها المادية والمعنوية في لحظتها، ولا يمكن أن يعيش استنساخا مستمرا لما كان عليه من قبل، وذلك لما يتيحه الواقع من تبدل في الأدوات، وفي الأفكار، وفي القناعات، وصراع الأجيال الذي يستدل به دائما في مختلف التنظيرات هو حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي نتيجة حتمية لمفهوم؛ أن الحركة الاجتماعية حركة «غير منضبطة» فوق أنها لا تقبل مفهوم التراكم، وإذا قيست مسألة (وراثة القيم الإنسانية «الاجتماعية») من خلال وقوعها تحت مظلة التقاليد المتوارثة، فهذه القيم ذاتها غير مستقرة، ومع كل جيل هناك تبدل واختلاف في مسألتين مهمتين في هذا الجانب؛ المسألة الأولى: مسألة الإيمان بها، والمسألة الثانية: مسألة توظيفها على الواقع بنفس رتمها الذي كان عليه الناس من قبل، لذلك فالذين يعيشون في الوسط بين جيلين تراهم يتحسسون كثيرا من هذه المسألة، ويعيشون في الوقت نفسه في هويات ضائعة، فلا هم قادرون على التمسك بما ورثوه من ذي قبلهم؛ لصعوبة قبوله بذات الأفكار؛ ولا هم قادرون على التأقلم مع المستجدات؛ أيضا لعدم قدرتهم على فهم محتواه.
كثير ما نسمع ترديد جملة: «زمن الطيبين» والمعنى الضمني يذهب إلى أن كل جيل ينتصر للجيل الذي سبقه، وشخصيا؛ لا أعد ذلك إلا انتصارا «لفظيا» فقط، والأمر؛ في هذه الحالة؛ يستوجب قراءة ثانوية لما يؤمن به الناس في حاضرهم، ذلك أن الإنسان وليد لحظته الزمنية، وظروفه المادية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتسلسل الظروف والأدوات ذاتها التي كانت قبل نيف من الزمان، ليعتمد عليها في تسيير نسق الحياة الحاضرة، هذا جانب من المسألة، أما الجانب الآخر، وهو الانتصار «اللفظي» كما جاء أعلاه؛ إذ لا وجود لأناس يعيشون زمنين، ولأن الأمر كذلك، فكيف يتم الحكم على أن الناس الذين عاشوا في الأزمان الماضية يتم تغطيتهم بـ«الطيب» بينما تظل الطباع ذات الطباع، والفطر ذات الفطر، والنوازع الذاتية (الخير/ الشر، والحسد، والبغضاء، والطمع، والأحقاد) ذات النوازع، حيث تراوح مكانها، وكأن كل معززات الوعي لم تحرك من الأمر شيئا؟ هذه مسألة على درجة كبيرة من النقائض، وتحتاج إلى فهم أكثر، ولا يكفي التسليم المطلق مع ما يردده الناس فقط، حيث يخرج ذلك عن الحكمة، التي ألبسها الله عباده، لمعالجة ظروف حيواتهم، وتسيير أحوالهم، وفق أسس من الرشاد والتعقل، وعدم المغامرة المستهجنة، وحركة التاريخ في آنيتها؛ لا تُوجد أزمانا طيبة، وأزمانا قبيحة، وما يحدث من نتائج مختلف التفاعلات التي يقوم بها البشر، نتيجة اختلافاتهم وتوافقاتهم، وتضادهم؛ وتصالحهم، هي ردود أفعال لما يتمخض من مشاعرهم، واضطراب أنفسهم، ليس إلا، ولا علاقة للتاريخ هنا، بأي شكل من الأشكال، وإلا أوقع التاريخ في دائرة الظلم، وهذا ما لا يمكن قبوله إطلاقا.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التاریخ لا لا یمکن أن ولا یمکن من خلال
إقرأ أيضاً:
محمد صلاح يكتب التاريخ مع ليفربول.. رقم قياسي جديد للفرعون المصري
يواصل الدولي المصري محمد صلاح لاعب ليفربول الإنجليزي، تحطيم الأرقام القياسية، بعدما قاد فريقه الريدز لفوزًا ثمينًا على ليستر سيتي في الدوري الإنجليزي.
ونجح محمد صلاح في إحراز الهدف الثالث في فوز ليفربول بثلاثية مقابل هدف على ليستر سيتي، في الجولة الـ18 من بطولة الدوري الإنجليزي الممتاز لهذا الموسم.
أرقام قياسية لـ محمد صلاح بعد الفوز على ليستر سيتي
وصل محمد صلاح إلى الهدف رقم 100 في البريميرليج على أرضه خلال 142 مباراة فقط، مع الأخذ في الاعتبار إلى أن الثلاثي «آلان شيرار (91 مباراة) وهنري (113 مباراة) وأجويرو (125) مباراة» حققوا هذا الإنجاز في عدد مباريات أقل.
ويعد محمد صلاح هو اللاعب الثامن في تاريخ الدوري الإنجليزي الذي يصل إلى الهدف رقم 100 على أرضه، بواقع 98 على أنفيلد مع الريدز، وهدفين في ملعب ستامفورد بريدج مع تشيلسي.
ويتربع مو صلاح على عرض صدارة ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي هذا الموسم برصيد 15 هدفا، إلى جانب صدارة قائمة أكثر اللاعبين صناعة للأهداف بـ11 تمريرة حاسمة.