أثارت بقرة مريضة، لا يتجاوز عمرها الأربعة أشهر، جدلًا كبيرًا وتفاعلًا واسعًا بين الناس، بعد أن قال صاحبها إنها حامل فى تسعة أشهر، تلك البقرة التى أطلق عليها الأهالى «البقرة المبروكة»، وألبسوها مجموعة من السبح منتظرين المعجزات، وجعلت عددًا من وسائل الإعلام المعتبرة تنشر تفاصيل تلك القصة، وتذهب إلى التحقق من صحة هذا الحدث، أليست هذه معجزة؟!
نعم تلك البقرة معجزة ليس لكونها حاملًا من عدمه، بل لأنها لم تلعن بصوت عالٍ الجالسين فى كهوف الجهل ينتظرون بركتها للتغلب على مصائب المرض، تلك البقرة معجزة لأنها لم تصرخ فى وجوه كانت أقصى أمانيها أن تثبت لجان التحقيق صحة حملها فى مرحلة الفطام، تلك البقرة معجزة لكونها تحمَّلت همس الدراويش والمريدين تستغيث بها من مصائب الأسعار، وتطلب منها الحماية من هول الزلازل والأعاصير، وأن تكفينا والعالم شر كوارث الساعات والأيام القادمة بعد تنبؤات العالِم الهولندى «فرانك هوجربيتس»!
تلك «البقرة المبروكة» التى ظهرت منذ أيام فى المحمودية بمحافظة البحيرة هى امتداد طبيعى لتلك «البقرة المبروكة» التى ظهرت فى الرحمانية فى نفس المحافظة عام 2015، وادعى صاحبها أن لبن هذه البقرة البكر يشفى كثيرًا من الأمراض المزمنة!
تلك البقرة هى امتداد طبيعى لمن يهوى الجهل، ويتزود منه، ويستقوى به، ثم يوثق تلك اللحظات والضحكات والحكايات المحبوكة بصور ومشاهد تحمل تعبيرات مغلفة بالدهشة والاستغراب، ثم يختمها بهزة رأس ممزوجة بـ«سبحان الله»!
تلك البقرة وأخواتها هى امتداد طبيعى ليوم «الدوسة» التى كان يمر فيه «سيدنا» بحصانه فوق ظهور دراويشه ومريديه فى الموالد، تلك «الدوسة» التى وصفها «إدوارد وليم لاين» فى كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم، مصر ما بين 1833 – 1835»، قائلًا: إن شيخ الدراويش السعدية السيد «محمد المنزلاوى» دخل بركة الأزبكية يسبقه موكب كبير من الدراويش، وتوقف هذا الموكب على بعد مسافة قصيرة من منزل الشيخ «البكرى»، وانطرح عدد كبير من الدراويش أرضًا جنبًا إلى جنب متلاصقين متراصين، ظهورهم مستقيمة وأرجلهم ممدودة وأذرعهم مضمومة تحت جباههم، وكانوا لا ينفكون يرددون كلمة «الله».
يستكمل «لاين» وصف تلك التجربة ويقول: ثم قام نحو اثنى عشر درويشًا وقد خلعوا أحذيتهم فى معظمهم، يمشون على ظهور رفاقهم الممددين، وكان بعضهم يضرب «الباز» وهو نوع من الطبلة الصغيرة، ويهتف باسم «الله» إلى أن بان الشيخ»، يقول «وليم لاين» إن الحصان تردد دقائق معدودة فى الدوس على ظهور الرجال الممددين المنطرحين أمامه، ولكنه قفز أخيراً عليهم بعد أن دفعوه إلى ذلك، وراح يرهو رهوًا دون خوف ظاهر فوق هؤلاء جميعًا يقوده شخصان، فكان أولهما يدوس أقدام الممددين، وثانيهما يمشى على رؤوسهم، عندها صرخ المتفرجون صرخة مطولة في صوت واحد: «الله».
تلك البقرة وأخواتها هى امتداد طبيعى لمشهد «الدوسة» التى نادى الشيخ محمد عبده بإبطالها، وبعد أن أوقفها الخديو توفيق، كتب مقالًا بجريدة الوقائع المصرية فى أبريل 1881 يستنكر فيه سماعه خبر التماس نفر ممن ألفوا تلك العادات، واستفزتهم مصالحهم الخصوصية، يطلبون من حضرة الحسيب النسيب السيد البكرى أن يبيح لهم إعادة «الدوسة» فى مولد الشيخ يونس المدفون بجهة باب النصر، محتجين بأنها من كرامات أحد الأولياء يقصدون الشيخ يونس، وأنه عُمل بها من زمن طويل يتناقلها الخلف عن السلف، فلا يصح بطلانها الآن اتباعًا لسنة الآباء والأجداد، وقام الشيخ محمد عبده بالرد على تلك الحجج وتفنيدها، ولم يكن الشيخ محمد عبده يعلم أنه سيأتى زمان ستظهر فيه «الدوسة» بدراويش جدد وأسياد متنوعين، ويتحول ذلك المشهد إلى مشاهد، ويصير هذا اليوم أيامًا.
فى النهاية.. تغيرت الملامح والوجوه والعادات، وتحولت بركة الأزبكية موطن «يوم الدوسة» إلى حديقة على الطراز الإيطالى، ثم أصبحت بعد مرور الأيام والسنوات على ما هى عليه الآن، وصرنا فى انتظار مشهد «البقرة المبروكة» فى الظهور من حين لآخر، ليعيد إلى الأذهان مشهد «دوسة مولانا» والدراويش الذين يتحملون ألم تلك «الدوسة» ومخاطرها، عندما يمر «حصان مولانا» وأقدام أتباعه على ظهورهم مهللين بصوت مرتفع: «الله»!
الخلاصة: إن بناء الفرد أولاً هو أهم مشروع قومى يمكن الاستثمار فيه ثم البناء عليه.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أشرف عزب البقرة المبروكة وسائل الإعلام محافظة البحيرة
إقرأ أيضاً:
لماذا يصعق الناس من الشيخ عندما يضل الطريق؟!
بين الحين والآخر يطالعنا شيخ أو داعية أو ما يأخذ صورة رجل الدين؛ بفتوى أو رأي أو تصريح يفاجئ الناس بخلاف ما يتوقّع منه، وقد يكون برأيه الشاذّ خادما لأعداء الشعوب المقهورة أو الاحتلال من حيث يحتسب أو لا يحتسب، منها مثلا تلك التي تهاجم المقاومة بجرأة فائقة وسليطة وغير معهودة بينما تقف عاجزة مهادنة لفظائع ومنكرات تستحقّ هذا اللسان لا المقاومة وبسالتها وتضحياتها الجسام. وأخصّ ذلك الفريق الذي يغض الطرف عن منكرات يغرق حكامهم وشعوبهم فيها وليس له إلا المقاومة حيث يتربّص بها وينطلق مما قصر فهمه عن إدراكها أو سبر أغوارها من تحالف أو تعاون يرى فيه ضربا من الابتداع وخروجا عن الدين.
يرى مثلا التعاون مع إيران منكرا فظيعا، بينما الاستحواذ الأمريكي على دولته تعاونا محمودا جميلا. ويقع في مقولة الاحتلال "ذراع لإيران" أو ارتماء في الحضن الإيراني، رغم أن هذا التوصيف إسرائيلي بامتياز، ويتجاوز كل الاعتبارات الشرعية والأصول الصحيحة التي انطلقت منها المقاومة، مجسدة بذلك روح تعاونية تفتقدها الدول فاقدة الاستقلال والسيادة على شئونها السياسية وعقد تحالفاتها على أصول شرعية.
إجابة سؤال العنوان: لأن الشيخ ببساطة يختلف عن غيره.. السياسي يغرف من معين معرفته السياسية، والإعلامي من معين خبراته الإعلامية والمثقف من معين مخزونه الثقافي.. بينما الشيخ ينطلق من المقدس الديني.. ويضفي على أقواله هالة من القداسة بما يصل للناس أن الدين هو الذي يتكلم على لسان الشيخ، ونادرا ما نجد من يقول للناس هذا رأيي الذي يصيب ويخطئ، هذا ما فهمته من الدين وليس الدين. وورد في الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عجّل كاتبه وكتب: هذا ما أرى الله لأمير المؤمنين، فقال له عمر امح ما كتبت واكتب هذا ما رأى عمر، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي. اليوم قلّ من نرى من الدعاة أن ينسب الرأي لنفسه بهذه الطريقة بل المعتاد أن يقولوا (إلا ما رحم الله) هذا هو حكم الله من فوق سبع سماوات.
ثمّة ملاحظة أنه ليس كل خطيب أو متكلّم مفوّه هو عالم في الدين، ومع هذا يخرجون للناس بصفة العلماء. فالشيخ من المفترض فيه أن يكون في مقدمة الصفوف.. ليس فقط أن يحافظ على قول الحق بل أن يكون مع أهل الحق، خاصة إذا كان هذا الحق هو ذروة سنام الإسلام ويقوم بهذه الفريضة أناس قاموا بها في زمن أصبحت فريضة غائبة وتقاعست عنها الأمة بأغلبية ساحقة.
فالناس يتوقعونه هناك وإذا به يفاجئهم بأنه في موقع أقرب إلى مقولة الأعداء ويصب قوله في خدمتهم، فأية مصيبة أوقعها على رؤوس الناس بأقوال تأتيهم كالشهب الصاعقة. فهو لم يكتف بالنزول عن الجبل لتحقيق مغانم زائلة وهزيمة ساحقة، بل صب قوله ليخدم بها الأعداء منطلقا من قداسته الدينية التي بناها في قلوب الناس سنوات وسنوات.
وهو كذلك ينطلق من منبر عال وبروح أستاذية عالية ويصدر خطابا متعاليا ومتنمرا! من هو مُنعّم في بيته بعيد كل البعد عن غبار المعركة قائم على سنّة السواك وعطر الجمعة وآداب المسجد المكيّف؛ لا يمكن أن يكون أقدر من استنباط الأحكام من الذي في معمعان القصف في نفق تحت الأرض وتحت الطيران التجسسي العالمي ومكر كل قوى الشر في العالم..
هناك العلماء العاملون المجاهدون الذين قدموا حياتهم وأرواحهم في سبيل الله.. وهم بالمناسبة أمرهم شورى بينهم ويصلون إلى الموقف المطلوب بصورة جماعية شورية، بينما من يضلوا الطريق بعيدا لا يستشيرون أحدا ولا يعتبرونه رأيا قد يصيب ويخطئ، بل هو الدين نفسه الذي لا يأتيه الباطل وهو الوكيل الشرعي والوحيد لهذا الدين.. لا يفرقون بين الدين وفهمهم له بل يعتبرون فهمهم هو الدين نفسه!