يوم استيقظت من نومي لم أجد القاهرة!
تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT
كانت مصادفًة أن أجد نفسي مواطنا مصريا يقطن بأحد أحياء "القاهرة القديمة"، وبالحب والعشرة التي تولدت عن تلك المصادفة كنت أمشي في شوارعها وأنا لا أفكر في الطريق من الأساس، لأن قدماي قد اعتادت السير وحفظت الطريق إلى الوجهة المطلوبة أفضل من أي "جي بي إس"، ولكن تلك الخاصية قد تعطلت وفقدت الطريق حين وجدتني يومًا ما أقف في حي "عرب يسار" دون عقاراته وكأنني أقف في منطقة تعرضت لقصف منذ دقائق مضت.
هكذا هي الحال التي نعيشها منذ إعلان خطة "تطوير القاهرة التاريخية" أو ما يعرف باسم "إحياء عاصمة المعز" الذي بدأ على استحياء في عام 2014 بالدعوى إلى تطوير بعض الواجهات التي تتعلق بالقاهرة الخديوية بمناسبة مرور 150 عام على إنشائها، وسرعان ما توسع المشروع ليشمل القاهرة المملوكية والفاطمية والأيوبية وخلافها وما تضمه من أحياء قديمة وعريقة مثل القلعة والدرب الأحمر ومجرى العيون والسيدة زينب والجمالية، وقضت الحكومة بالفعل على بعض المساكن العشوائية وبنت مساكن جديدة مثل حي الأسمرات.
لم يبد الكثيرين حينها امتعاضًا أو معارضة لخطة التطوير المُعلنة من الدولة، ولكن بتقدم مشروع "العاصمة الإدارية الجديدة" وقرب الدولة من الانتهاء منها وافتتاحها وجد سكان "العاصمة القديمة" أن هناك هجمة شرسة على مناطقهم بحجة التطوير تفرغها من أصالتها وروحها، بل وصنعتها أيضًا.
حرف وحرفيين إلى زوال
في منطقة سوق مجرى العيون قبل تطويرها، كانت تنتعش واحدة من أهم الصنعات الحرفية في مصر وهي صنعة "دبغ الجلود" وعُرفت مجرى العيون بمدابغها، ولكن ما إن دخلت المنطقة إلى حزام التطوير وقامت الحكومة بنقل 95% من المدابغ إلى المدينة الجديدة التي تفتخر بها والتي افتتحها السيسي عام 2020 وهي مدينة "الروبيكي" للجلود والتي قيل عنها أنها ستكون فخر صناعة الجلود في الشرق الأوسط، وكتبت الجرائد الحكومية "الجلود المصرية من المحلية إلى العالمية بسبب الروبيكي". وبعد ثلاثة سنوات من افتتاح المدينة، اعترف الرئيس السيسي في أحد حواراته عن فشلها في تحقيق ما سعت الحكومة إليه. ولكن ذلك الاعتراف لا يفيد كثيرًا أصحاب المدابغ أو يعوض خسارتهم، فبعد أن انتزعوهم من منطقتهم التي اعتادوا العمل فيها وأرسلوهم إلى "الروبيكي" أصبحت مدينتهم وكأنها مدينة أشباح، كما أن الحكومة هندسيًا لم تراعيهم، فلم تقم بتركيب الألواح المضبوطة المناسبة لطبيعة دباغة الجلود بعزلها للحرارة والأحماض، وفي أوقات المطر، تعاني الأسقف الصاج بالمدينة من تسرب للمياه يؤثر على الآلات ومعدات العمل ويزيد من تعطيل رزق هؤلاء العمال.
ونفس التهديد هذا تواجهه الآن "قرية الفخار" بحي مصر القديمة بجوار جامع عمرو بن العاص، والتي تشهد على صناعة الفخار منذ مئات السنين وتعتبر آخر الحصون لتلك الحرفة وصناعها ذوي المهارة الفائقة، فلم تجد الحكومة حرجًا أبدًا في كون ذلك المكان يُعد كمتحف مفتوح يوفر سياحة كما يوفر صنعة لأصحابها، ولحساب توسعة أحد الطرق والكباري الجديدة -التي لا ينتهي تشييدها في مصر- مع الوعد بتعويض أصحاب الورش بأماكن أخرى لصنعتهم، وهو ما يعرفه ممارسو الحرفة على أساس أنه موت تام لصنعتهم، فكل الصنعات التي نُقلت في عهد السيسي من مكانها إلى مكان آخر لم ينلها سوى الفشل الذي يعترف به الرئيس في مؤتمراته بسبب عدم دراسات الجدوى.
حيث يُدفن الميت مرتين
لا يعرف سكان الأحياء القديمة حتى الآن ما الذي يربط هدم مقابر أسرهم بتطوير القاهرة القديمة وإحياء جمالها، بل إن ذاك الهدم يطال قبور شخصيات تاريخية استقر رفاتها في تلك التربة منذ ألف سنة وأكثر، وشعراء بقيمة "أحمد شوقي" وكباري تعبر مقبرة الأديب "طه حسين" في قبح لا مثيل له في أي مكان. ولكن ما أصبحوا يعرفوه يقينًا أنك في القاهرة القديمة قد تحتاج لتدفن موتاك مرتين، وأن الموت ليست راحتهم الأبدية، فسيجدون "البلدوزر" الذي يعيد تشكيل وجه المدينة ليزعجهم في موتهم، ولا يحترم حرمة الموتى، أو حتى الحرمة الأثرية لجبانات القاهرة التي عدتها اليونسكو من أقدم جبانات العالم التي يعود عمرها لألف عام مضت.
في السنوات الأخيرة دُمرت بيوت ما يقارب من مائتي ألف شخص، وآلاف القبور، وكره سكان العاصمة القديمة اللون الأحمر وحرف "X" لأن دلالتهما تعني الهدم، فكل مكان قد لُطخ بتلك العلامة ستسويه البلدزورات بالأرض عما قريب، وذلك الهدم بالطبع بداعي المنفعة العامة.
في العام 2020 اُعتبر "محور جيهان السادات" عملًا للمنفعة العامة من أجل ربط وسط القاهرة بشرق القاهرة في 9 كيلو مترات والذي تطلب معه إزالة العديد من أسوار قبور ومقابر آلاف الأشخاص، وفي العام 2022 دخل تحت نطاق المنفعة العامة أيضًا محور متحف الحضارة الذي يربط بين شارعي صلاح سالم وصولًا إلى محور جيهان السادات، وبسبب ذلك، أعلنت محافظة القاهرة أنها ستقوم بنقل عددًا من المقابر بخلاف نقل ما يقارب ألف ومائتي مقبرة بمحيط الإمام الشافعي ومسار كوبري السيدة عائشة الجديد. وتحت المنفعة العامة تنسل مشاريع أخرى، فقد تبين أن الكثير من مناطق المقابر قد أخليت من أجل بناء أماكن انتظارات للسيارات "جراجات" تحقق منها الحكومة دخولًا مادية وسيولة مرورية في العاصمة.
وفي واقع الأمر، لا يتضرر الموتى في رقدتهم الأخيرة وذويهم في الجري وراء لم رفاتهم فقط، ولكن هناك فئة أخرى تضررت من وراء هذا الهدم، وهم سكان أحواش المقابر وخدمها الذي يعرفون في مصر باسم "سكان القبور"، وقد تم استلهام قصتهم ومأساتهم في الكثير من الأعمال الأدبية والفنية مثل فيلم "مدافن للإيجار" و"أنا لا أكذب ولكنني أتجمل"، بل كان الروائي الشهير "خيري شلبي" ذاته أحد سكان القبور لأنها تساعده في الإلهام والكتابة، ولكن التنديد بمأساة هؤلاء السكان كان يعني أن الحكومة يستلزم عليها توفير مساكن لهم ومعيشة كريمة لهم، وما حدث أنهم بهدم أحواش المقابر لم تزدهم إلا تشريدًا فوق تشريدهم، فأكثر من نصفهم ليس مسجلا في سجلات الحكومة كساكن قبور ولم يتلق تعويضات بعد هدم أحواش القبور.
وفضلًا عن كل ما سبق، فإن الجرافات لا تستحي من دهس ما يُشكل طرازًا معماريًا فريدًا للمصريين في تكريم موتاهم، فأحواش القبور تحوي أنواعًا معمارية فنية من "عمارة الفقراء" إلى عمارة الأفندية والباشوات البرجوازية.
العاصمة التي تحوي كل شيء
بعد أن خدم هدم المقابر والمناطق السكنية من أجل بناء الطرق والكباري على تسهيل الطريق إلى العاصمة الإدارية الجديدة وربطها بوسط البلد في العاصمة القديمة حتى لا يشقى "أصحاب السيارات" من سكان العاصمة الإدارية الجديدة، أو الطبقة الوسطى من الموظفين التي ستنتقل للعمل في العاصمة الإدارية الجديدة ولازالت منازلها في القديمة. يبدو وأن الرئيس السيسي يريد أن يصنع نسخة العاصمة الإدارية الجديدة من مقابر تدعى "مقابر الخالدين" على نمط "بانثيون باريس" وكان هذا هو الحل الذي وجه بطرحه لمجلس الوزراء بالنقاش حول صناعة مقبرة ضخمة كبرى تكون واجهة لمصر وتحوي أسماء كل العظماء من الموتى. ورغم أنهم لم يتململوا من وجود رفاتهم في العاصمة القديمة، إلا أن الرئيس يبدو أحرص منهم على راحتهم الأبدية.
وفي نهاية الأمر يقف سكان العاصمة القديمة قدام فقدانها مظاهرها ومعمارها وروحها بالتدريج والتي تُسلم إلى العاصمة الجديدة قطعة فقطعة، ولا يملكون شيئًا سوى ترديد قول الشاعر محمود درويش: " لا دَوْرَ لي في القصيدة .. غيرُ امتثالي لإيقاعها".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير القاهرة القديمة مصر مصر خراب القاهرة القديمة تغطيات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العاصمة الإداریة الجدیدة العاصمة القدیمة فی العاصمة
إقرأ أيضاً:
«القاهرة الإخبارية»: انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي تضع سكان غزة في وضع مأساوي
«حصار داخل حصار أشد قسوة وخطورة».. هكذا وصف أحد المسؤولين الأمميين الأوضاع داخل الجزء المنسي من شمال غزة، بعدما حوَّلته آلة الاحتلال العسكرية لمنطقة مغلقة تفعل بها وبساكنيها ما تشاء.
وضع مأساويووفقا لتقرير عرضته قناة «القاهرة الإخبارية» بعنوان «حصار خانق في شمال قطاع غزة.. انتهاكات الاحتلال تضع السكان في وضع مأساوي»، فإنه منذ الخامس من أكتوبر الماضي وتركز قوات الاحتلال ضرباتها على المناطق الشمالية من القطاع كبلدات جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، وبالرغم من أن الحصار المفروض على ذلك الجزء من غزة بدأ مع اليوم الأول من الحرب إلا أن ما يحدث داخله منذ أكثر من شهر يتخطى ما يدور في باقي القطاع.
خطة الجنرالاتوأفاد التقرير بأن قوات الاحتلال الإسرائيلي تركز هجماتها لنسف المنازل في محاولة لإخلائها من السكان بصورة دائمة لإنشاء منطقة عازلة بطول الطرف الشمالي لقطاع غزة في تجسيد لما تسمى بـ«خطة الجنرالات»، لافتا إلى أن الفكرة العامة لتلك الخطة تركز على إجلاء السكان والإعلان عن منطقة عسكرية مغلقة، فضلا عن خلق معادلة لتبرير مقتل ما تبقى من السكان تتوافق تماما مع تحركات إسرائيل على أرض الواقع.