بقلم/ عائشة سلطان
أفكر دائماً في هؤلاء الذين يطلون علينا من صفحاتهم وحساباتهم في السوشال ميديا: المشاهير والمؤثرون والساعون خلف المزيد من المتابعين على حساب المحتوى والمصداقية، وهذه الأيام، دعاة قاطعوا تركيا العنصرية، وهيا إلى أوروبا المتسامحة.. هؤلاء لديهم فكرة خاطئة بدرجة ما عن الناس الذين يتابعونهم بحرص ويتلقون رسائلهم وأخبارهم صباح مساء!
لنقل أن الفكرة العامة عن نوعية الجماهير والمتلقين التي في أذهان البعض حتى لا نعمم الأمر على الجميع، هذا البعض من الذين تقوم أو قامت شهرتهم على إعلانات المطاعم والمقاهي وبث حكايات و(سوالف) بلا هدف ولا قيمة.
في الحقيقة وكما يقول غوستاف لوبون في كتابه ذائع الصيت (سيكولوجية الجماهير) ليسوا أغبياء وليسوا فارغي المضمون، صحيح أنهم يتأثرون بقناعات وعواطف الجموع وأن الأفكار تنتقل بينهم بالتأثير و.. لكنهم على درجة كبيرة من الفهم والإحاطة بما يجري حولهم، لذلك فإن الاعتقاد بأن أي إعلان أو حكاية مفبركة يمكنها أن تلقى التصديق مباشرة أمر يحتاج لإعادة تفكير كما أنه لا يمكن أخذه بالمطلق، فالناس لا تزال تفكر وتدير بين مجموعاتها حوارات إقناع واقتناع وقد تصدق وفي معظم الأحيان لا تصدق، لكنهم لا يعلقون ولا يصرحون لأسباب معلومة.
يحتاج صناع المحتوى والمشاهير لأن يعرفوا سيكولوجية متابعيهم وجماهيرهم، فهؤلاء ليسوا مجرد أرقام يكسبها المشاهير وإنما مجموعات من البشر لديهم قناعات وأفكار ومرئيات وهم كما يتأثرون فإنهم يؤثرون كذلك، وهم من يمنحون هؤلاء المشاهير وزنهم وقيمتهم، هذه الجماهير التي يستعين بها البعض ويظنون أن أي حكاية مفبركة أو معلومة مغلوطة قد تنطلي عليهم أو يمكن أن يمرروها بنفس راضية، هذه الجماهير قد تحسم أشياء كثيرة، وعلى المشاهير احترام ذلك.
نقلاً عن البيان
المصدر: سام برس
إقرأ أيضاً:
التنجيم في زمن التوترات السياسية.. لماذا يصدق البعض توقعات ليلى عبد اللطيف؟
لا تزال توقعات المُنجِّمة اللبنانية "ليلى عبد اللطيف" تحظى بشعبية في أنحاء عدة من العالم العربي، حيث يتابع حسابها على منصة "تيك توك" نحو مليونَيْ ونصف متابع، ويتصدر اسمها مواقع البحث، وذلك رغم الانتقادات التي نالتها عقب فشل توقعاتها بشأن الفائز بالانتخابات الأميركية، حيث تنبأت بفوز المرشحة "كامالا هاريس"، ولكن صناديق الاقتراع خالفت "توقعات النجوم"، وأعادت "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض من جديد.
ورغم أن "ليلى عبد اللطيف" هي الاسم الأشهر عربيا في هذا المجال، فإنها بالتأكيد ليست الاسم الوحيد، إذ عادت ممارسات التنجيم والعرافة بمختلف صورها إلى الواجهة مرة أخرى، واجتذبت اهتمام ملايين المتابعين ممن يترقبون توقعات المُنجِّمين حول الأحداث العامة، أو يستجدون تنبؤاتهم حول حياتهم الشخصية عبر تطبيقات التنجيم التي تدّعي أنها قادرة على منحك رؤية شاملة لحياتك ومستقبلك، وكذلك عبر جلسات خاصة لـ"قراءة الطالع" عبر التاروت أو فنجان القهوة أو حتى كف اليد وخطوطه المتشابكة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الطبيب النفسي الغربي الذي قتل أرواحناlist 2 of 25 سمات نفسية تشكّل حياتك.. ماذا تعرف عنها وكيف تطوّعها لصالحك؟end of list الحاجة إلى استكشاف المستقبلمنذ وُجد الإنسان على سطح الأرض، تدفّقت عليه العديد من الأسئلة الكبرى التي خلقت مشاعر مُلبَّدة بالحيرة وانعدام الشعور باليقين والخوف من المستقبل، ما دفعه إلى مواجهة هذه المشاعر من خلال محاولة استشكاف المستقبل. لذلك، تطلع البشر منذ آلاف السنين إلى النجوم في السماء، عبدوها حينا، وتدارسوها حينا آخر للاهتداء بها في ظلمات البحر والبر، وفي أحيان أخرى بحثوا فيها عن معنى الوجود.
إعلانولم تكن النجوم طريقة البشر الوحيدة لاستشراف المستقبل، فقد ضربوا الودع، ونظروا في أوراق الشاي وفناجين القهوة، وكف اليد وظهور السلاحف، وأنصتوا إلى أرواح الموتى، عشرات الوسائل التي منحتهم وهما مريحا بالقدرة على التنبؤ والسيطرة، ولعب العرّافون في المجتمعات التقليدية أدوارا تشابه الأدوار التي يلعبها في زمننا المعاصر الطبيب والأخصائي النفسي وحتى المستشار العسكري والسياسي.
ربما قد تظن لوهلة أن ذلك مقتصر على العصور الماضية المُلتفّة بالغموض، حيث كان الإنسان يسعى لفك طلاسم هذا الغموض بأي طريقة ممكنة، لكن الغريب أن يستمر هذا الولع اليوم في عصر يسود فيه العلم وتغزوه منتجات التقنية الحديثة، فإذا بالإنسان يُسخِّر العلم لخدمة التنجيم، لتظهر تطبيقات تدّعي أنها تعمل بالذكاء الاصطناعي وتعتمد على بيانات "ناسا"، من أجل أداء الدور القديم الذي لعبه كاهن القبيلة، وكأن الإنسان في أعماقه لا يزال يرتجف أمام انعدام اليقين في المستقبل، وحقائق الكون وأسئلته التي لا يجد لها تفسيرا.
الكاتب: عادت ممارسات التنجيم والعرافة بمختلف صورها إلى الواجهة، واجتذبت اهتمام ملايين المتابعين ممن يترقبون توقعات المُنجِّمين حول الأحداث العامة. (شترستوك) لماذا يهرع الناس إلى المُنجِّمين؟في بعض الأحيان، يبدأ الفخ من الرغبة في التسلية، تبحث عن قراءة لعلامة برجك، أو تتسلى في جلسة بين الأصدقاء ببطاقات التاروت الملونة، تقول لنفسك: "كذب المُنجِّمون ولو صدقوا"، لكنك تُفاجأ بكم المعلومات "الدقيقة" المطروحة عنك وعن شخصيتك، وشيئا فشيئا قد تسقط في الفخ، فكيف يَصدُق إذن هؤلاء المُنجِّمون؟
حسنا، ما رأيك أن نجري تجربة بسيطة معا، سأخبرك ببعض المعلومات التي أعرفها عنك، وعليك أن تقيِّم مدى صحتها: "أحد أفراد عائلتك أو أصدقائك يعاني من مشكلات مرضية وتشعر بالقلق بشأنه كثيرا. أنت مخلص في عملك لكنك تميل لانتقاد نفسك أحيانا. أنت كثير القلق، ولديك حاجة إلى الشعور بحب الآخرين واهتمامهم".
إعلانهل شعرت أن العبارات السابقة تنطبق عليك إلى حدٍّ كبير؟ أنا كاتبة، لستُ بساحرةٍ أو عرافة، لكن هذا ما يعرفه علم النفس بتأثير "بارنوم" أو تأثير "فوريير".
كان "فينياس بارنوم" رجلَ استعراضٍ أميركيا، اشتهر خلال القرن التاسع عشر بعروض امتلأت بالخدع، وربما يعرفه الكثيرون اليوم عبر فيلم "ذا غريتست شو مان" (The Greatest Showman) الذي صدر عام 2017 مستلهما سيرة حياته وقام ببطولته "هيو جاكمان".
وتُنسب إلى "بارنوم" عبارة: "لدينا شيء لكل شخص"، في إشارة إلى قدرة عروضه على خداع الجميع، وهو ما جعل عالِم النفس السريري الأميركي "بول ميل" يطلق مصطلح "تأثير بارنوم" للمرة الأولى عام 1956، في مقال وصف فيه بعض الاختبارات النفسية الزائفة التي تُطلق بيانات عامة يمكن أن تنطبق على معظم الأفراد بدلا من أن تخرج تشخيصات متفردة دقيقة، تكتسب هذه الاختبارات والممارسات الشبيهة ثقة غير مستحقة من خلال إطلاق توصيفات عمومية يمكن أن تنطبق على أي شخص تقريبا.
ورغم أن مصطلح "تأثير بارنوم" نفسه لم يظهر إلا في الخمسينيات، فإن دراسة الظاهرة نفسها بدأ قبل ذلك. ففي عام 1948، أجرى عالم النفس "بيرترام فوريير" تجربة كلاسيكية، وزَّع فيها على طلابه، البالغ عددهم آنذاك 39 طالبا، استطلاعا للشخصية، وطلب منهم الإجابة عن أسئلته، وبعد جمع الإجابات منح كلًّا منهم ما ادَّعى أنه تحليل لشخصياتهم، وطلب تقييم مدى دقة هذا التحليل برقم يتراوح من 0 إلى 5 درجات. بلغ متوسط التقييم نحو 4.3، ومن بين 39 طالبا أعطاه خمسة طلاب فقط أقل من 4، ولم يصنفه أيٌّ منهم بأقل من 2. لكن المفاجأة أن الطلاب جميعا تلقوا التقرير نفسه، الذي نسخ "فوريير" عناصره من قسم التنجيم في إحدى الصحف.
يُفسِّر تأثير "بارنوم" أو "تأثير "فوريير" ميل الأفراد إلى الاقتناع بتوقعات الأبراج وفق الطريقة التي تجري بها هندسة معظم هذه التوقعات، حيث يستخدم المُنجِّمون بيانات غامضة وفضفاضة يمكن أن تنطبق على أي شخص، ويمزجون ذلك بما يُعرف بتقنيات "القراءة الباردة" التي تعتمد على مراقبة رد فعل الشخص ولغة جسده وتقييم مدى تأثره بتلك العبارات، ومن ثم سد ثغرات نبوءتهم بما يُدلي به من معلومات سواء منطوقة أو غير ذلك.
إعلانلكن مدى قبول الفرد لهذه التوقعات المزعومة يتأثر أيضا بعوامل أخرى، من بينها ثقته في المصدر المتصور لهذه التوقعات، فإذا كان المصدر هو "النجوم"، أو "الأسلاف" أو حتى "خطوط الكف" المرسومة سلفا، فذلك يجعل المتلقي أميل للتصديق، وهو ما أطلق عليه عالِم النفس والأنثروبولوجي الفرنسي "باسكال بوير" اسم "الانفصال الظاهري"، وذلك في دراسته المعنونة "لماذا العرافة؟ علم النفس التطوري والتفاعل الإستراتيجي في إنتاج الحقيقة".
يشير بوير إلى أن حرص العراف على الانفصال عن المعلومات التي يخبر بها (عبر نسبتها إلى مصادر أخرى) يعزز من تصديق المتلقي لتنبؤاته، حيث يُظهره مجرد مترجم لما يقرأه من كلمات النجوم أو الأسلاف أو غير ذلك من القوى العليا التي هي مصدر موثوق بالنسبة للمتلقي. وعادة ما يحرص العراف وفقا لبوير على تأكيد هذا الانفصال من خلال ممارسات مختلفة، مثل إلقاء الأحجار على الرمال بطريقة عشوائية، أو خلط أوراق التاروت عدة مرات قبل قراءتها، وما إلى ذلك.
بجانب ذلك، هناك عامل آخر يُسهم في تحديد الطريقة التي يتلقى بها الناس مثل هذه النبوءات أو القراءات وهو محتوى هذه النبوءات ذاته. إذا طالعت الصفات العامة للمنتسبين لأيٍّ من الأبراج الفلكية المعروفة مثلا، فستلاحظ أنها تمزج بين الصفات الإيجابية والسلبية بدرجة محسوبة، حيث تكون الصفات الإيجابية أكثر عددا ووضوحا، مع دمج القليل من الصفات السلبية المنتشرة التي لا تُشكِّل نقيصة في ذاتها، مثل "سريع الغضب"، و"تشعر بالقلق"، وهكذا. ويداعب هذه المزيج المحسوب ميل البشر الطبيعي إلى تصديق الصفات الإيجابية حول أنفسهم وتلقي الشعور بالإطراء، مع القليل من السلبيات "المقبولة" التي تُضيف نوعا من المصداقية والواقعية.
يقودنا ذلك إلى تقنية أخرى يستخدمها المُنجِّمون والعرَّافون وهي تقنية "قوس قزح"، حيث يطلقون عبارات تحمل الصفة ونقيضها، أو تحمل أكثر من عاطفة أو تجربة، واحدة منها على الأقل تنطبق على المتلقي، وعند تلك اللحظة يأتي دور "التحيز التأكيدي"، حيث سيمارس عقلك عملية اختيار "غير واعية" لما يتوافق مع اعتقاداتك المسبقة، ويلفظ تلقائيا كل ما سواها.
إعلانالتحيز التأكيدي.. دماغك يختار
يُصنَّف التحيز التأكيدي نوعا من أنواع التحيزات المعرفية، حيث يميل الأفراد إلى اختيار معلومات أو تفسيرها أو تذكُّرها بطريقة تتوافق مع معتقداتهم وتحيزاتهم الموجودة مسبقا وتؤكدها، مع تجاهل بقية المعلومات أو إسقاطها. ويعود فهم هذه الظاهرة لجهود "بيتر واسون"، الذي يُعد واحدا من أهم رواد ما يُعرف اليوم بـ"علم نفس الاستدلال".
في ستينيات القرن الماضي، أجرى "واسون" سلسلة من التجارب في محاولة لاستكشاف إخفاقات التفكير البشري، بدأت بما يُعرف بـ"مهمة الاختيار" (Wason selection task) عام 1966، التي صُمِّمَت للكشف عن الطريقة التي يفكر بها الناس في العبارات الشرطية، لتصبح أحد أكثر النماذج التجريبية استخداما في هذا المجال. وأظهرت تجارب "واسون" ميل البشر للبحث عن معلومات تؤكد معتقداتهم الحالية، وتجاهل المعلومات الأخرى، وهو ما يلعب دورا كبيرا في تعزيز الإيمان بالتنجيم، إذ يختار الدماغ ببساطة المعلومات التي تؤكد معرفته المسبقة ويتجاهل أي بيانات أخرى.
بصدق ودقة في تحليل الدوافع النفسية الخفية، يصف الأديب المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ في أحد مشاهد روايته "حضرة المحترم" كيف يلجأ البطل إلى عرَّافة عندما أحاطت به الشكوك، حيث يمكننا أن نرى كيف يعمل الانحياز التأكيدي. يمضي البطل إلى قارئة فنجان في التوفيقية، نصف مصرية ونصف إفرنجية، تناولت فنجانه وراحت تقرأه وهو يتابعها باهتمام لا يخلو من خجل، ويقول لنفسه إنه ما كان يجوز له أن يؤمن بهذه الخرافات.
" – صحتك ليست على ما يرام.
الصحة جيدة بلا ريب. ولكن صحته النفسية عليلة. لعلها صَدَقت على أي حال.
– سيأتيك مال وفير ولكن من خلال متاعب كثيرة.
إنه لا يطلب المال وإن يكن حريصا على كل مليم يجيئه. لعلها تقصد علاوات الترقية المقدرة في عالم الغيب".
فالعرَّافة تطلق عبارات غامضة وعمومية، والبطل هنا يختار أن يملأ ثغرات قراءة فنجانه ويجد مبررا لها رغم عدم دقتها أو توافقها مع الظاهر من حاله. كما يستبعد ما لا يناسب انحيازاته ويختار ما يوافق معرفته المسبقة أو يؤكدها.
الأديب المصري نجيب محفوظ (مواقع التواصل الاجتماعي) الأنثروبولوجيا تُخبرنا أيضافي يوليو/تموز 2021، صدرت ورقة بحثية بعنوان "التطور الثقافي للممارسات المعرفية: حالة العرافة" من تأليف "زي هونغ" و"جوزيف هنريتش"، وتناولت تطور ممارسات العرافة والكهانة عبر الثقافات المختلفة. وطبقا لهذه الدراسة، فإن شيوع ممارسات العرافة في المجتمعات التقليدية بوصفها تقنية معرفية تُستخدم للكشف عن المعلومات واتخاذ القرارات المهمة يعود إلى عدد من العوامل، أبرزها الاعتقاد القوي المسبق في فاعليتها في هذه المجتمعات، وعدم الإبلاغ عن الأدلة السلبية التي تفند صحة الادعاءات.
إعلانقدمت الدراسة نموذجا لفهم كيفية تكوين المعتقدات حول فاعلية العرافة، وأشارت إلى ما أطلقت عليه "الانتقال الثقافي"، حيث يميل الناس في حالات عدم اليقين إلى اتباع الممارسات نفسها التي يعتمد عليها بقية أفراد المجتمع، وهو ما يعزز مصداقية هذه الممارسات على مر السنين ويرسخها أكثر فأكثر. كما لعبت العرافة تاريخيا دورا رئيسيا في التلاعب بالقرارات السياسية والعسكرية، حيث اعتمد عليها القادة في اليونان القديمة على سبيل المثال، وهو ما تفسره دراسة "باسكال بوير" سالفة الذكر بعدم رغبة الحكام في تحمل مسؤولية أو تكلفة قراراتهم السياسية أو العسكرية، ما يدفعهم إلى نسبتها إلى مصادر أخرى.
وهكذا تعددت أدوار العرافة والكهانة في المجتمعات التقليدية بوصفها وسيلة للسيطرة الاجتماعية والحفاظ على النظام الاجتماعي، وحل النزاعات وتمكين الأفراد، وفرض الهيمنة السياسية، وكذلك كانت العرافة في المجتمعات التقليدية بمنزلة إستراتيجية ثقافية لتلبية الاحتياجات النفسية الفردية، وتنظيم التفاعلات الاجتماعية الأوسع، وحتى إدارة المخاطر.
ورغم الدور الذي لعبه العلم في المجتمعات الحديثة في انخفاض أهمية ممارسات العرافة والتنجيم، فإنها لا تزال تجد مصداقية، ومؤخرا عادت مرة أخرى إلى الواجهة خاصة بين أبناء من يُعرفون بالجيل "زد"، فما السبب وراء ذلك؟
الجيل "زد" والهوس بالنجوملنعُد بالزمن قليلا، تحديدا إلى زمن الكساد الكبير، عقب الانهيار في وول ستريت عام 1929، وفي ذروة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب العالم، حينها ظهر للنور أول عمود صحفي للتنجيم، في 24 أغسطس/آب عام 1930 في صحيفة "صنداي إكسبريس" البريطانية حول توقعات النجوم للأميرة الرضيعة "مارغريت" عقب ولادتها بأيام قليلة. كانت قصة صحفية مثيرة سرعان ما تحولت إلى عمود أسبوعي، ومن خلاله وُلدت فكرة عمود "حظك اليوم" التي انتقلت فيما بعد إلى مختلف الصحف حول العالم.
إعلانوكما عاد التنجيم إلى واجهة المشهد الإعلامي في بريطانيا مع الكساد العظيم، كانت فترة الإغلاق خلال جائحة "كوفيد-19" محطة رئيسية في عودة الاهتمام بالتنجيم إلى الواجهة، وهي عودة ظهرت ملامحها المبكرة في السنوات القليلة السابقة لفترة الوباء، حيث تزعزع استقرار العالم على نحو واسع النطاق بسبب التقلبات السياسية والاجتماعية والصعوبات الاقتصادية.
كانت هذه هي الفترة التي ازدهرت فيها أعمال المُنجِّمين عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وأبرزها بطبيعة الحال تطبيق "تيك توك" الذي اتسعت قاعدة مستخدميه خلال فترة الإغلاق. وتمكَّن هؤلاء المُنجِّمون من بناء قاعدة واسعة من المتابعين المتعطشين لهذه التجربة الجديدة القديمة، عبر تقديم خدمات مثل قراءة الطالع، وتقييم التوافق بين علامات الأبراج، وغيرها، بثوب مستحدث ولغة جديدة مناسبة للعصر الحالي.
لكن أبناء الجيل "زد" لم يكتفوا بهذا، بل عادوا للبحث عن المزيد في كتب الأبراج التي تصدرت قوائم القراءات في مختلف أنحاء العالم. وفيما يبدو، وفَّر الاهتمام المتزايد بالتنجيم نوعا من الشعور بالاتصال والانتماء لجيل "زد"، الذي يعاني أغلب أفراده من مشاعر العزلة، وذلك عبر استكشاف عالم مختلف، ومشاركة تجاربهم مع الآخرين ممن لديهم الاهتمامات ذاتها.
الكاتب: إذا تأملت الصفحات الشخصية لأفراد من الجيل "زد" على مواقع التواصل، فربما تلاحظ أن الكثيرين منهم يضعون في ملفاتهم التعريفية رمز البرج الذي ينتمون إليه. (غيتي)وقد سهَّلت وسائل التواصل الاجتماعي هذه التبادلات، كما أصبح الحديث عن الأبراج مدخلا جيدا للتعارف وإجراء دردشات قصيرة، فبدلا من الحديث الممل عن حالة الجو، يبدو الحديث عن مزايا برج الجوزاء أكثر إثارة.
إذا تأملت الصفحات الشخصية لأفراد من الجيل "زد" على مواقع التواصل، فربما تلاحظ أن الكثيرين منهم يضعون في ملفاتهم التعريفية رمز البرج الذي ينتمون إليه، وبعضهم يكتفي بهذا أحيانا، وكأن فيه اختصارا لهويتهم التي يرغبون في تقديمها للعالم من حولهم. في بعض تطبيقات المواعدة على سبيل المثال يعلن بعضهم عن رفض التواصل مع علامات فلكية بعينها، وقد يقيّمون صداقتهم بك قبل أن تبدأ بحسب تاريخ ميلادك وطالعك، وأغلبهم يعرف برجه وسِماته، في حين أنه ربما لا يعرف فصيلة دمه.
إعلانيبدو التنجيم إذن طريقة مختلفة في النظر إلى العالم، تمنح بغموضها وجمالياتها لأبناء هذا الجيل مساحة لإشباع الفضول الروحي، وتسمح لهم بالنظر إلى المشاعر المعقدة والصراعات الداخلية بوصفها جزءا من سياق أكبر، مما يمنحهم الشعور بالعزاء، فمعرفة أحدهم أن فقدانه شريكه، أو خسارته وظيفته، أمر يعود لموقع زحل في السماء الليلة يمنحه نوعا من الراحة، ويُشعره أنه جزء من خطة كونية أكبر، ويخفف عبء الشعور بالمسؤولية.
لكن هذا الهوس له عواقبه بكل تأكيد. فطبقا لدراسة بعنوان "التركيز على المستقبل: نظرة عامة على زيادة استخدام علم التنجيم"، نُشرت في عدد أغسطس/آب 2022 من المجلة الدولية للطب النفسي الاجتماعي، فإن بعض حالات المشاركة المفرطة في الخدمات الفلكية تشير إلى خطر حدوث عواقب وخيمة على الصحة العقلية قد تصل إلى إدمان سلوكي محتمل. كما وضّحت الدراسة أن الانشغال المفرط بعلم التنجيم، قد يؤدي إلى عواقب سلبية مثل زيادة الضيق، والإنفاق المفرط.
وحش الرأسماليةمن ناحية أخرى، لا يمكن إنكار الدور الذي لعبته رؤوس الأموال التي تقف خلف تطبيقات التنجيم التي تحولت إلى سوق لِجَنْي أرباح طائلة. وطبقا لتقرير صادر عن شركة "سينسور تاور" للخدمات الرقمية، شهدت تطبيقات التنجيم في السوق الأميركية ارتفاعا في إيراداتها بنسبة 64.7% في عام 2019. وقد بلغ إجمالي أرباح تطبيق التنجيم الشهير "كو ستار" نحو 2.1 مليار دولار عام 2024، مقارنة بـ1.6 مليار دولار عام 2021.
لا تُعد هذه الأرقام مفاجئة بحال، فوفقا لتقرير صادر في فبراير/شباط 2024، زاد عدد المستخدمين المسجلين في "كو ستار" إلى نحو 30 مليون مستخدم في يوليو/تموز 2024، مقارنة بـ7.4 ملايين مستخدم فقط في نوفمبر/تشرين الثاني 2020. هذا ويدمج تطبيق "كو ستار" وغيره من تطبيقات التنجيم الشهيرة بروتوكولات الذكاء الاصطناعي لإنشاء "قراءات فلكية" وتقديمها ضمن خدماته المدفوعة، كما يدّعي القائمون عليه اعتماد هذه القراءات على قاعدة بيانات وكالة ناسا، وهو ما يُضفي لمحة زائفة من العلم على ما يقدمونه تجعله أقرب لروح العصر.
إعلانقديما، احتاج المرء إلى السفر لأيام حتى يصل إلى عرَّاف مشهور، بينما اليوم، وبلمسة لشاشة هاتفك يمكنك معرفة كل شيء عن طالعك ومخطط ميلادك، ومدى توافق علامتك الفلكية مع علامة شريكك، وما المهن المناسبة لبرجك، وكل تلك الاعتقادات الزائفة التي لا يزال الملايين حول العالم يؤمنون منها. كما أن المال الذي تنفقه يُسحب من بطاقة ائتمانك دون أن تمد يدك إلى جيبك، مما يجعل إنفاقه أكثر سهولة وأقل وطأة. ألا يبدو الهاتف في هذه الحالة -في نظر البعض- أشبه ببلورة سحرية؟
يبدو كذلك بالفعل، وهي بلورة لا تنظر إليها وحدك، بل وتراقبها أيضا عشرات العلامات التجارية الكبرى التي أدركت اتساع قاعدة التنجيم ورموزه وازدياد رواجها، فسخَّرت هذا الولع من أجل امتصاص المزيد من المال من جيوب المستهلكين. في 2018 على سبيل المثال، أنتجت علامة "كولور بوب" (Colourpop) لوحة مستوحاة من علامات الأبراج.
كما أطلقت شركة الأزياء "ديور" في عام 2019 مجموعة الإكسسوارات والحقائب تحت اسم "زودياك" مستوحاة من علامات الأبراج. وحتى خدمة "سبوتيفاي" أطلقت عام 2021 قائمة تشغيل مخصصة طبقا لمخطط الميلاد الخاص بالمستخدم. وقد وصل الأمر إلى أن بعض الشركات أصبحت تعتمد على ملفات التعريف الفلكية لموظفيها بحيث يمكن تعيين فرق عمل متناغمة.
التنجيم بوصفه إهانة للعلملكن مليارات الدولارات من الأموال المنفقة، وعشرات الملايين من المتابعين على درجات مختلفة من الهوس، لا يمكن أن تغير من الحقيقة الواضحة؛ وهي أن التنجيم علم زائف يفتقر إلى الأدلة العلمية، ويعتمد على تفسيرات غامضة لا يمكن اختبارها علميا لتقييم دقتها، ومن بين أشهر الاختبارات العلمية التي دحضت مصداقية التنجيم اختبارات "شون كارلسون" المنشورة في مجلة "نايتشر" عام 1985، التي وجدت أن التنبؤات القائمة على علم التنجيم لم تكن أفضل من المصادفة، مما يدحض بوضوح "الفرضية الفلكية".
إعلانوفي مقاله المنشور في منتصف تسعينيات القرن الماضي، تناول "ريتشارد دوكينز" التنجيم متهما إياه بأنه إهانة تحط من قيمة علم الفلك، وتهين علم النفس وثراء الشخصية الإنسانية، في حين أن الحقائق العلمية أعلى قيمة مَن يُضحَّى بها في سبيل المال أو التسلية الخفيفة، فإذا لم تكن هناك ذرّة من الصحة فيما يقوم به المُنجِّمون، فعلينا أن نتعلم النظر إلى إفساد وتزييف العلم من أجل الربح باعتباره جريمة.
لقد انهدمت الأساسات التي بُني عليها علم التنجيم، لا وفق كثير من الأديان -مثل الإسلام- التي استفاضت في التحذير من التنجيم والمنّجمين، بل بالعلم نفسه، وذلك حين اكتُشف المزيد من الكواكب التي جهل المُنجِّمون الأوائل وجودها، كما ثبت أن البروج التي عرفوها قد انتقلت من مكانها، مما يبطل كل ما نعرفه عن الأبراج، ورغم ذلك، لا يزال الإنسان في بحثه المحموم عن المعنى، وخوفه من المجهول، يستسلم لغواية أكاذيب النجوم، وسطوة العراَّفين.