الصراع الأيديولوجي في الحرب العالمية الراهنة
تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT
الصراع الأيديولوجي في الحرب العالمية الراهنة
الحرب العالمية الجديدة الراهنة اتسّمت بطرح أيديولوجي روسي مختلف عن الطرح السابق الذي مثله الاتحاد السوفياتي..
الهدف الروسي الصيني المراد تحقيقه من الحرب يشكل مصلحة عالمية لا قضية خاصة كما في الحرب الباردة بين الغرب والمعسكر الاشتراكي.
أسلحة الأيديولوجيا، وما يتعلق بأهداف الحرب العالمية الراهنة، ونتائجها هي، في هذه المرة، وبصورة خاصة، ليست في مصلجة أمريكا وحلفائها.
الحرب العالمية الراهنة اتسّمت بطرح أيديولوجي روسي مختلف عن طرح السوفيات، وحتى مثلته حركات دول العالم الثالث بمرحلة الحرب الباردة السابقة كذلك.
بلورت الصين وروسيا، وأمريكا والغرب، الموقف من الطرف الآخر والموقف من النظام العالمي الذي يريد كل منهم تشكيله، على ضوء ما ستنتهي إليه الحرب، أو امتداداتها.
شنت أمريكا والغرب "حربا" سياسية إعلامية أيديولوجية ضد الصين وروسيا، باعتبار نظاميهما دكتاتورياً، وفردياً، مقابل الديمقراطية الغربية وهو السلاح الأيديولوجي الذي استخدم بالحرب الباردة، وانتهت بانهيار السوفيات.
* * *
ما من حرب، وبغض النظر عن حجمها، أو مكانها، أو أطرافها، إلاّ ويحمل طرفاها الأساسيان إلى جانب السلاح، وألوان الحصار الممكن، سلاحاً أيديولوجياً. وهو السلاح المعنوي، ذو البُعد المادي (موضوعياً)، الذي يستخدمه كل طرف في تسويغ موقفه وأهدافه، كما في نقد الطرف الآخر، بهدف عزله ودحره أخلاقياً وفكرياً (التحريض ضده).
وهذا ما طبق في كل حرب، واستخدم كسلاح بتار، بالرغم من طبيعته الأيديولوجية الفكرية السياسية. أما في تقرير مصير الحرب فليس له الدور الحاسم فيه. لأن هنالك عوامل وأبعاداً أخرى هي التي تحسم، أكثر، كالسلاح والعديد والمعنويات القتالية، وحسن القيادة، وحالتي الفتوة والنهوض، أو التدهور والشيخوخة، أو العدل والحق أو الظلم، أو الأفضلية التاريخية، أو عكسها. ولكن ثمة نصيب مقدّر للبُعد التحريضي والأيديولوجي. ولا مفرّ منه.
لقد بلور كل من الصين وروسيا من جهة، وأمريكا والغرب من جهة ثانية، الموقف من الطرف الآخر (البُعد التحريضي النقدي) والموقف من النظام العالمي الذي يريد كل منهم تشكيله، على ضوء ما ستنتهي إليه هذه الحرب، أو امتداداتها إذا ما توقفت لسبب، أو آخر.
من جهة أمريكا وحلفائها شُنت "حرب" سياسية ـ إعلامية أيديولوجية ضد الصين وروسيا، باعتبار نظاميهما دكتاتورياً، وفردياً، مقابل النظام الديمقراطي الغربي. وهو السلاح الأيديولوجي نفسه الذي استخدم ضد الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، والتي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي 1991.
أما على مستوى ما تستهدفه أمريكا وحلفاؤها من نظام عالمي، فهو استمرار النظام العالمي القائم بكل أبعاده الهيمنية الأمريكية، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ومالياً، مع إضافة بُعد أيديولوجي جديد يراد فرضه على العالم. وهو ما عُبّر عنه بتكريس أيديولوجية "الميم" في العلاقات بين الجنسين الذكري والأنثوي، بالعلاقة التقليدية، والعلاقات التاريخية عموماً بينهما.
في الحرب الباردة خاض الاتحاد السوفياتي حربه الأيديولوجية بالاعتماد على أفضلية النظام الاشتراكي والأيديولوجيا الاشتراكية على النظام الرأسمالي الاستعماري ـ الإمبريالي ـ الاستعمار الجديد. ولكن هذا السلاح الأيديولوجي لم يكن لاعباً مؤثراً في الحرب الباردة، وانتهى بكارثة على الاشتراكية. بل بانتصار مدوٍ للأيديولوجية الليبرالية ـ
الديمقراطية الرأسمالية الغربية. وقد وصل الوهم ببعض المنظرين باعتبار ما وصلته ديمقراطية الغرب ببعديها المادي والأيديولوجي شكّل "نهاية التاريخ" (فرانسيس فوكوياما).
على أن الحرب العالمية الجديدة الراهنة قد اتسّمت بطرح أيديولوجي ـ روسي مختلف عن الطرح السابق الذي مثله الاتحاد السوفييتي، وحتى مثلته حركات دول العالم الثالث في مرحلة الحرب الباردة السابقة كذلك، أو إلى حد ما.
النقد التحريضي السياسي ـ الاقتصادي الأيديولوجي تمثل في نقد النظام العالمي، ليس باعتباره رأسمالياً، وإنما باعتباره نظاماً أحاديّ القطبية، تستأثر فيه أمريكا بالهيمنة العسكرية والمالية على العالم، وذلك بالرغم من أن العالم يتسّم بتعدّد القطبية على مستوى عالمي. ومن ثم فهو ظالم ويتناقض مع مصالح كل دول العالم، كبيرها ومتوسطها وصغيرها.
هذا التحريض يهمّ دول العالم بأسره، بما في ذلك الدول الأوروبية، والدول الكبيرة والمتوسطة والصغيرة الأخرى، من حلفاء أمريكا في هذه الحرب. لأن احتكار أمريكا لموقع الدولة الكبرى المهيمنة، والمنفردة في السيطرة العسكرية والاقتصادية والمالية والسياسية، يلحق أضراراً متعددة، ولا سيما في الاقتصاد والمصالح المالية. فعلى سبيل المثال، عندما تفرض أمريكا على العالم كله احتكار الدولار في المعاملات المالية، وتجعله المرجع الوحيد، كما كان الذهب سابقاً، معياراً للنقد العالمي.
فمن هنا يكون التحريض ضد الأحادية الأمريكية قضية لا تخصّ بلداً ما بعينه، أو كتلة دولية بعينها، أو نظاماً اقتصادياً وسياسيا، أو أيديولوجياً بعينه، وإنما يمسّ قضية تهم مصالح كل الدول غير أمريكا، عملياً وموضوعياً. وهي قضية لا تستطيع أمريكا، أو يستطيع أحد حلفائها الدفاع عنها، إلاّ وهو تابع، مستلب، لا يضع مصالحه العليا في المقدمة.
هذا يعني أن الهدف الروسي ـ الصيني الذي يُراد تحقيقه من وراء هذه الحرب، يشكل مصلحة عالمية، وليس بقضية خاصة، كما كان الحال في الحرب الباردة في الصراع مع المعسكر الاشتراكي. ولكن حلفاء أمريكا، ولأسباب تاريخية، وربما، مستقبلية، يقبلون بالتبعية لها.
القضية الهامة الكبرى التي تتبناها الصين وروسيا، فهي المطالبة بإقامة نظام دولي متعدد القطبية عالمياً وإقليمياً، ويخضع إلى إرادة جماعية وإلى القانون الدولي، وإلى مبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة، عدا هيكلية تشكيلها، وما يتمتع به مجلس الأمن من امتيازات، وما تتحكم فيه أمريكا من خلال مقرها في نيويورك، ونفوذها العالمي من سيطرة على هيئة الأمم. وقد أصبحت منحازة مشلولة، مزدوجة المعايير، وهي تحت الهيمنة الأمريكية.
هنا أيضاً ثمة مصلحة عالمية لأغلب دول العالم في بناء نظام عالمي جديد على أسس تعدد القطبية والقانون الدولي، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتصحيح هيكلته، ورفع يد الهيمنة الأمريكية عنه، بما في ذلك نقل مقره.
القضية الثالثة التي ستخسرها أمريكا في صراع الحرب العالمية الراهنة، بما يتعدى الحرب في أوكرانيا بالطبع، تتمثل في الارتكاز إلى تهمة الدكتاتورية الموجهة ضد نظامي الصين وروسيا.
وذلك لأن، عكس موقف المعسكر الاشتراكي في الحرب الباردة، لا تسعى روسيا أو الصين في اتخاذ، أي من نظاميهما نموذجاً عالمياً، أو فرضه على العالم. فموضوع النظام الصيني، أو الروسي، شأن خاص بكل منهما.
وتصر الصين، كما روسيا على أن من حق كل شعب، وكل دولة اختيار النظام الخاص به أو بها. هذا وليس من حقه أن يفرضه على أحد غيره، كما يقتضي القانون الدولي، ومبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
الأمر الذي يعني أن تهمة الدكتاتورية ساقطة من أساسها، ولا تشكل قضية للتداول العالمي، أو لتغطية أحادية القطبية.
بل أن المبدأ الذي تدافع عنه الصين، بقوة، وتأخذ به روسيا، هو التشدد في اختيار كل شعب من شعوب العالم، لما يريده من نظام له ولبلده، استناداً إلى حضارته وتاريخه ومعتقداته ومصالحه. فالنظام العالمي متعدّد القطبية يدعو، في ما يدعو، إليه يتجه إلى تكريس هذا الحق للجميع عالمياً.
هذا المبدأ يتناقض مع الاستراتيجية الغربية منذ نشأتها المعاصرة حتى اليوم. وقد دأبت على فرض نظامها الحداثي والرأسمالي على كل العالم، وذلك على أساس مركز وأطراف تابعة.
فنحن هنا في هذه الحرب العالمية في صراع أمام استراتيجية تريد فرض هيمنتها على كل العالم عسكرياً واقتصادياً ومالياً وسياسياً و"أخلاقياً"، بحيث يستمر النظام العالمي على أساس استعماري امبريالي، وعالم تابع وخاضع، فيما المطلوب إقامة عالم متعدد القطبية خاضع لمبادئ القانون الدولي، والمبادئ الخاصة بالمساواة بين الشعوب، وحق كل شعب في اختيار نظامه وحضارته، وقيمِه اختياراً حراً.
الأمر الذي يعني أن النظام الاستبدادي العالمي هو الذي تمثله أمريكا، كما تجلى في النظام العالمي الذي ساد طوال القرن العشرين حتى اليوم، مقابل نظام يفترض به أن يكون أقرب ما يمكن من العدالة والمساواة والحرية. أو في الأقل لا يكرر النظام الاستبدادي العالمي، أو يعيد إنتاج استبداد مثل ما هو قائم اليوم.
ومن ثم فإن أسلحة الأيديولوجيا، وما يتعلق بأهداف الحرب العالمية الراهنة، ونتائجها هي، في هذه المرة، وبصورة خاصة، ليست في مصلجة أمريكا وحلفائها.
*منير شفيق كاتب وسياسي ومفكر فلسطيني
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أمريكا روسيا الصين أيديولوجيا فی الحرب الباردة النظام العالمی الصین وروسیا على العالم دول العالم هذه الحرب فی هذه
إقرأ أيضاً:
الهجرة يمكن أن تكون مكسبًا للجميع وخطة لاستبدال النظام العالمي المعطوب
ترجمة - نهى مصطفى -
تشهد السياسة العالمية تحولات بفعل ردود الفعل العنيفة ضد الهجرة، حيث يدعم الناخبون مرشحين يتعهدون بوقف تدفق المهاجرين غير المصرح لهم وإعادة الملايين إلى بلدانهم، رغم معاناتهم. ويعزز الساسة المناهضون للهجرة هذه التوجهات بنشر صور ومعلومات مضللة عن الفوضى على الحدود، مما يدفع حتى المؤيدين للهجرة لاتخاذ مواقف دفاعية.
بلغت الهجرة غير النظامية مستويات قياسية عالميًا، حيث سجلت الولايات المتحدة نحو 2.5 مليون محاولة عبور في 2023، وأوروبا 380 ألف معبر غير مصرح به. رغم المخاطر، يواصل المهاجرون رحلاتهم بحثًا عن فرص عمل.
تثبت هذه الظاهرة أن النظام الحالي، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، غير قادر على مواكبة التغيرات الديموغرافية ومتطلبات سوق العمل، وتفشل السياسات القائمة على تقييد الحدود والترحيل في معالجة المشكلة، بل تؤدي إلى تفاقمها عبر تمكين شبكات الجريمة وتعطيل الاقتصادات.
ويعتبر الحل الأمثل هو بناء نظام جديد يدير الهجرة بشكل منظم وإنساني، ينطلق هذا النظام الجديد من أن الهجرة سمة دائمة للحضارة الإنسانية -حيث تشكل إدارة الحدود وجوازات السفر الموحدة ظاهرة جديدة نسبيًا- وأن هناك وسيلة لإدارة حركة الناس بطريقة منظمة وكريمة ومفيدة لجميع الأطراف، مع تعزيز التنمية في بلدان المهاجرين الأصلية وتيسير قنوات الهجرة القانونية بما يعود بالنفع على جميع الأطراف.
وسيؤدي تأخر بناء نظام جديد لإدارة الهجرة إلى تفاقم الاضطرابات وزيادة التفاوت واستغلال الفئات الضعيفة، ويمكن أن يعزز النظام الجديد فرص المهاجرين ومصداقية نظام اللجوء. في ظل النظام الحالي، تبدو الهجرة القانونية معقدة وغير مرتبطة باحتياجات سوق العمل، ما يؤدي إلى نقص القوى العاملة، خاصة في القطاعات ذات المهارات المنخفضة. وفي الولايات المتحدة، تعد تأشيرات القوى العاملة محدودة ولا تفي بالطلب المتزايد، بينما يواجه برنامج التأشيرات الزراعية عقبات بيروقراطية. الوضع مشابه في أوروبا، حيث تُمنح الأولوية للقوى العاملة الماهرة بينما تعاني قطاعات الخدمات من نقص واضح. في المقابل، تضمن معظم الدول حماية واسعة للاجئين وفقًا لاتفاقية 1951، رغم أن كثيرًا من النازحين بسبب الكوارث المناخية والفقر لا يُعتبرون لاجئين رسميًا ولا يحظون بنفس الحقوق. مع استمرار تفاقم التغيرات المناخية والأزمات الاقتصادية، يصبح تحديث نظام الهجرة واللجوء أكثر إلحاحًا لضمان استجابة عادلة وإنسانية للاحتياجات المتزايدة.
وبالنسبة لأولئك الذين يتنقلون بحثًا عن الاستقرار أو الأمان أو فرص أفضل، فإن القنوات القانونية المتاحة للهجرة قليلة. وكانت النتيجة زيادة في الهجرة غير النظامية والاعتماد المفرط على طلب اللجوء. الأنظمة القائمة لإعادة توطين اللاجئين في بلدان آمنة غير كافية على الإطلاق لتلبية الطلب. حتى الولايات المتحدة -التي لديها أكبر برنامج، حيث تقبل أكثر من 100 ألف لاجئ في عام 2024- لا تستقبل سوى جزء ضئيل من اللاجئين المؤهلين الذين يتقدمون بطلبات اللجوء.
وشهدت السنوات الأخيرة تزايدًا في أعداد الأشخاص الذين يعبرون الحدود ويطلبون اللجوء، كما ارتفعت طلبات اللجوء بشكل ملحوظ في أوروبا والولايات المتحدة. ورغم هذا الارتفاع، فإن أقل من نصف المتقدمين مؤهلون للحصول على اللجوء، ومع ذلك، يستفيد العديد منهم من بطء الإجراءات ليعيشوا ويعملوا في بلدان المقصد لسنوات قبل صدور القرار النهائي بشأن طلباتهم، مما أدى إلى تراكم ملايين القضايا وتأخير البت فيها لعدة سنوات.
وعلى الرغم من أن بعض الدول، مثل فرنسا وألمانيا واليونان، قد سرعت معالجة طلبات اللجوء، فإن حق الاستئناف يطيل الإجراءات لسنوات، وخلال هذا الوقت، يتمكن العديد من المتقدمين من العمل والاستقرار، بينما يلجأ آخرون إلى الاقتصاد غير الرسمي، مما يعرضهم للاستغلال، ويؤدي نجاح بعض المهاجرين غير النظاميين إلى تشجيع المزيد على سلوك نفس المسار، مما يزيد الضغط على أنظمة اللجوء، كما يُجبر المتقدمين على الانتظار لفترات طويلة، مما يعوق عودتهم إلى بلدانهم أو حصولهم على الاستقرار المطلوب، أما عمليات الترحيل، فهي مرهقة ومكلفة، مما يترك الملايين في وضع غير قانوني في بلدان المقصد.
لا يضر نظام الهجرة المعطل بالمهاجرين فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى ردود فعل سياسية عنيفة، حيث تتبنى الحكومات سياسات تقييد وتقليص حماية اللجوء. في عام 2024، أقرت دول مثل فنلندا وبولندا قوانين لإعادة طالبي اللجوء إلى الحدود، بينما شددت الولايات المتحدة قيودها على اللجوء الحدودي، وبدأت جنوب أفريقيا في التفكير بالانسحاب من اتفاقية اللاجئين.
تأتي المفارقة من أن هذه الموجة المعادية للهجرة ظهرت في وقت أصبحت فيه الهجرة مهمة، مع تراجع معدلات الخصوبة وشيخوخة السكان في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا وإسبانيا. بعد أن باءت بالفشل الجهود الحكومية لزيادة معدلات الولادة أو استبدال القوى العاملة بالذكاء الاصطناعي، ما أدى إلى نقص في القوى العاملة، تسبب في خسائر تقدر بـ1.3 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023.
في الولايات المتحدة، لا يزال غياب الإصلاحات السياسية لنظام الهجرة يخلق بيئة تعتمد فيها العديد من القطاعات على العمال غير المسجلين، الذين يمثلون نحو 5% من إجمالي القوة العاملة، وتصل نسبتهم إلى مستويات أعلى في قطاعات مثل الزراعة والبناء وخدمة الأغذية. ورغم مساهمتهم في الاقتصاد، فإنهم يواجهون الاستغلال وانخفاض الأجور، مما قد يدفع أصحاب العمل إلى الاعتماد المفرط عليهم بدلا من القوى العاملة المصرح بها.
المخاطر التي يواجهها المهاجرون لا تقتصر على الاستغلال، بل تشمل أيضًا الرحلات الخطيرة التي يقطعونها للوصول إلى بلدان أكثر استقرارًا. فمنذ عام 2014، لقي نحو 3000 شخص حتفهم أثناء عبورهم الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وأكثر من 30000 مهاجر ماتوا أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط. ومع تشديد القوانين وتضييق المسارات القانونية، يزدهر التهريب، حيث يتم تهريب نحو 3 ملايين مهاجر سنويًا، مما يدر على الشبكات الإجرامية ما يصل إلى 10 مليارات دولار سنويًا، في كثير من الأحيان بمساعدة مجتمعاتهم التي تمول هذه الرحلات على أمل استرداد الأموال من تحويلات المغتربين لاحقًا.
في ظل تنامي العداء للهجرة، فإن أي محاولة لتوسيع نطاق الحماية لطالبي اللجوء تبدو غير واقعية سياسيًا، بل قد تؤدي إلى تراجع الحماية الحالية. ومع ذلك، فإن غياب نهج حديث ومنظم لمعالجة حركة طالبي اللجوء قد يزيد من النظرة السلبية للهجرة، مما يدفع الحكومات إلى مزيد من التشدد.
وترتبط الهجرة ارتباطًا وثيقًا بالتنمية؛ فبينما يؤدي نقص التنمية إلى زيادة الهجرة، تسهم الهجرة بدورها في تحفيز التنمية في كل من دول المصدر والمقصد. والدلائل واضحة على أن الفقر هو المحرك الأساسي للهجرة غير النظامية. فحتى عام 2008، كان أكثر من 90% ممن أوقفوا على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك من المكسيكيين، ولكن مع تحسن الاقتصاد المكسيكي، انخفضت هذه النسبة إلى نحو الثلث، في حين زاد عدد المهاجرين من دول أخرى، مثل بنجلاديش والصين والهند، ممن يسعون إلى الهروب من الفقر، الذي تفاقم بفعل الجائحة وتغير المناخ. حتى المهاجرون القادمون من مناطق النزاع، مثل أفغانستان وسوريا وفنزويلا، غالبًا ما يشيرون إلى تردي أوضاعهم الاقتصادية كدافع رئيسي للرحيل.
بالنسبة للملايين الذين يعانون من الفقر وتغير المناخ والعنف، كان رد فعل المجتمع الدولي هو الاعتماد على المساعدات الإنمائية في مجالات مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية والزراعة، بينما بقيت الهجرة القانونية أداة غير مستغلة بشكل كامل. ومع ذلك، فإن تحويلات المهاجرين تسهم بشكل كبير في دعم الاقتصادات النامية، حيث تجاوزت 831 مليار دولار في عام 2022. ومن شأن خلق مسارات قانونية للهجرة وتأمين فرص عمل رسمية تمكين الأفراد من الاعتماد على قدراتهم الذاتية بدلا من المساعدات.
ويكشف اعتماد العديد من المهاجرين غير المسجلين على الأسواق غير الرسمية في بلدان المقصد عن اختلال التوازن بين الحاجة الاقتصادية ومسارات الهجرة القانونية، خاصة في قطاعات مثل الزراعة والبناء والضيافة والرعاية الصحية. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يعتمد أكثر من 70% من القوى العاملة الزراعية على المهاجرين غير النظاميين، بينما يمثل المهاجرون 45% من عمال تعبئة اللحوم. وبالمثل، تواجه إسبانيا أزمة عمالية مع اقتراب جيل طفرة المواليد من التقاعد، حيث سيخرج نحو 14 مليون شخص من سوق العمل خلال العقدين المقبلين. وقدّر البنك المركزي الإسباني أن البلاد ستحتاج إلى 25 مليون مهاجر خلال الثلاثين عامًا المقبلة لسد هذا العجز وضمان استدامة المعاشات التقاعدية.
بدأت بعض الدول بالفعل في تبني حلول عملية لمواءمة احتياجات سوق العمل مع سياسات الهجرة. فمنذ عام 2021، وقّعت الهند اتفاقيات ثنائية مع أستراليا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة لإنشاء مسارات قانونية للهجرة، تشمل حصص تأشيرات محددة وتدريبًا على المهارات في بلدان المنشأ. وفي إيطاليا، وعلى الرغم من موقفها المتشدد ضد الهجرة، أعلنت حكومة جورجيا ميلوني في عام 2023 عن سياسات جديدة تسمح بدخول أكثر من 450 ألف عامل أجنبي خلال ثلاث سنوات لسد النقص في قطاعات مثل الزراعة والرعاية الصحية.
كما يقدم ميثاق الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة واللجوء نموذجًا آخر لموازنة احتياجات سوق العمل مع إدارة الحدود، حيث يسعى إلى تحسين أمن الحدود وحماية حقوق المهاجرين، مع استقطاب المواهب الأجنبية لسد العجز في القوى العاملة داخل الاتحاد الأوروبي.
إنشاء أنظمة مناسبة للهجرة من شأنه أن يحقق فوائد متبادلة للمهاجرين وبلدانهم الأصلية والدول المضيفة. ولتحقيق ذلك، ينبغي على الدول ذات الدخل المرتفع توجيه أموال التنمية نحو تدريب العمال على المهارات المطلوبة في القطاعات التي تعاني من نقص في القوى العاملة. فمثل هذه الاستثمارات المستهدفة لا تعزز مهارات القوى العاملة في البلدان المصدرة للهجرة فحسب، بل تضمن أيضًا جاهزية المهاجرين للعمل في دول المقصد، مما يحقق تكاملًا أفضل في أسواق العمل.
وتتمثل الخطوة الأولى في أن تقوم الدول المستقبلة بتحليل فجوات سوق العمل لديها وتعديل سياساتها، إذا لزم الأمر، لضمان توافق أفضل بين نقص المهارات وبرامج التأشيرات، على غرار ما تقوم به إيطاليا حاليًا. كما ينبغي لهذه الدول تتبع اتجاهات الهجرة غير النظامية ومشاركة البيانات مع وكالات المعونة، التي يمكنها استخدامها لتحديد أولويات التدريب في بلدان المنشأ. على سبيل المثال، طوّرت بنجلاديش عددًا من المدارس الفنية حيث يتلقى المهاجرون المحتملون تدريبًا في مجالات مثل إصلاح السيارات ورعاية الأطفال، مما يساعدهم على اكتساب مهارات قابلة للتطبيق في الداخل والخارج. ومنذ عام 2013، أطلقت ألمانيا مبادرة لتدريب وتوظيف الممرضات من بلدان أخرى، مما ساهم في سد الفجوات في قطاع الرعاية الصحية الألماني.
وينبغي للدول ذات الدخل المرتفع أن تستثمر في برامج التدريب المهني والهجرة المؤقتة أو الموسمية، حيث إنها أكثر فعالية في تعزيز الابتكار والتنمية في البلدان المصدرة للهجرة مقارنة بالمساعدات التقليدية. ومن المبادرات الجديرة بالاهتمام، برنامج فنلندا الذي يتيح لمتخصصي الرعاية الصحية الفنلنديين من أصل صومالي العمل مؤقتًا في الصومال، مما يسهم في تحسين الخدمات الطبية هناك. وهنا، يتوجب على الحكومات اتخاذ خطوات لحماية حقوق المهاجرين، وتمكين منظمات المجتمع المدني والنقابات من مراقبة ظروف العمل، وإنفاذ قوانين العمل بفعالية.
وعلى المستوى المحلي، ينبغي على الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني في دول المقصد أن يضمنوا توفر الخدمات الأساسية لاستيعاب السكان المتزايدين، وتمكين المهاجرين من الاندماج الناجح. عندما تُدار الهجرة بشكل سيئ، تتفاقم التوترات الاجتماعية، لكن عندما يحصل المسؤولون المحليون على الموارد اللازمة لإدارتها، فإنهم غالبًا ما يصبحون من الداعمين للقادمين الجدد.
وأخيرًا، لضمان أن تصبح مسارات الهجرة القانونية أكثر جاذبية من الخيارات غير النظامية، يجب على الدول فرض قوانينها، بما في ذلك ترحيل المهاجرين غير المستوفين لمعايير اللجوء أو الحماية، ولكن مع احترام كرامتهم. ومن خلال تنظيم الهجرة بشكل فعال، يمكن لأنظمة اللجوء أن تفي بالغرض الأساسي منها، وهو الاستجابة بفعالية لاحتياجات اللاجئين الفعليين.
في السنوات الأخيرة، بات واضحًا أن تصورات الجمهور حول الهجرة غالبًا ما تكون قديمة قدم اللوائح التي تحكمها. ومع استمرار تقييد الهجرة، تفقد الدول -سواء الغنية أو الفقيرة- فرصًا حاسمة لتعزيز النمو الاقتصادي وتعزيز التماسك الاجتماعي، بينما يُترك الفئات الأكثر ضعفًا دون حماية. لتحقيق الفوائد الكاملة للهجرة، يحتاج صناع السياسات إلى إصلاح النظام بحيث يكون أكثر تكيفًا مع احتياجات العصر.
يمكن للهجرة أن تكون مكسبًا للجميع. المطلوب هو بناء نظام يستفيد من السوق العالمية، ويمكّن الأفراد من الوصول إلى الفرص التي تضمن لهم الأمن والازدهار، ويشجعهم على إعادة استثمار مواردهم في تنمية مجتمعاتهم الأصلية. ورغم أن سياسات الهجرة تبدو معقدة ومحفوفة بالتحديات، فإن على الدول أن تعمل على وضع استراتيجيات لمعالجة النقص المتوقع في اليد العاملة، وهو ما سيسهم أيضًا في التعامل مع بعض من أصعب الأزمات التنموية والإنسانية، ويخفف الضغوط عن الأفراد اليائسين الذين لا يجدون سوى الهجرة غير النظامية كسبيل للبقاء.
إيمي بوب المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة.
نشر المقال في Foreign Affairs