العقول الذَّكيَّة، المؤهَّلة والمتدرِّبة تدريبًا أكاديميًّا رفيعًا، تستحقُّ أن تحفظَ وتغذَّى بعناية فائقة؛ لأنَّها أهم أدوات البناء في أزمنة السِّلم وأقوى الأسلحة في أزمنة الحروب. وكما ترتجع القيادات السِّياسيَّة في دوَل العالَم إلى «مشاجب» أسلحة وذخائر في حالات الحروب أو الاستعداد لخوض الحروب، فإنَّ ذات القيادات بحاجة ماسَّة إلى اللوذ بمشاجب للعقول الذَّكيَّة والمبدعة كذلك.
وقَدْ تنبَّه العالَم الغربي إلى أهمِّية عمل «حزم» العقول الذَّكيَّة التي تعمل على نَحْوٍ فرقي لحلِّ الإشكالات أو لتحقيق الأهداف الاستراتيجيَّة لكُلِّ دَولة، لذا أسَّست أغلب دوَل هذا العالَم ما أطلق عليه تعبير «معاهد السِّياسات»: وهي عبارة عن مراكز بحث ودراسات Think Tanks تعتمد تمويل الدَّولة لتحقيق الأهداف الوطنيَّة العامَّة الفائدة.
في دَولة الإمارات العربيَّة المُتَّحدة الشَّقيقة تأسَّس مركز من هذا النمط، أطلق عليه «مركز الإمارات للدراسات والأبحاث الاستراتيجيَّة»، أمَّا في العراق فقَدْ أسِّس ديوان رئاسة الجمهوريَّة «بيت الحكمة» إضافة على دائرة خاصَّة باستقطاب العقول الذَّكيَّة والإبداعيَّة المجرّبة أطلق عَلَيْها عنوان دائرة الاحتياط، على سبيل عدم تبديد طاقات هذه العقول وإبقائها تحت أيدي أولي الأمْرِ للخدمة في حالات الحرب والسِّلم، ناهيك عمَّا أقدمت عَلَيْه دوَل شرق أوسطيَّة أخرى على سبيل الاحتفاظ بالخبرات والعقول الذَّكيَّة وحمايتها من مخاطر الهدر والضياع! أذكُر هنا «مركز الأهرام» للبحوث والدراسات.
والحقُّ، فإنَّ ما فعلته قيادات الدوَل العربيَّة بهذا الشَّأن هو نزر يسير، كان جلُّه من أصداء ما فعلته دوَل غربيَّة كبرى على طريق محاكاتها في تأسيس «معاهد سياسات» تضطلع بالبحث العلمي الخاصِّ بالسِّياسات الاجتماعيَّة والاستراتيجيَّات العسكريَّة والتكنولوجيَّة، بل وحتَّى الثقافيَّة.
تعمل هذه «المعاهد» (بغَضِّ النظر عن براءة لفظ معهد مجرَّدًا) على التأثير العامِّ اعتمادًا على نَشْر الأبحاث ودراسة الأحداث العامَّة، ناهيك عن رصد شبكات الاتِّصال الاجتماعي Social media والتكتُّلات؛ نظرًا لأهمِّيتها في عصرنا الراهن.
ومن هذه المراكز التي قَدْ لا نصدِّق بأنَّها تؤثِّر على حياتنا هنا في الشرق الأوسط، نلاحظ «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجيَّة» في الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، وشقيقه معهد كاتوCato بواشنطن ومعهد سيفيتا Civita، ومجلس العلاقات الخارجيَّة ومركز الدراسات الاستراتيجيَّة، و»دار كيثم» Catham Homeفي بريطانيا.
بل ويُمكِن تصنيف وكالة المخابرات المركزيَّة الأميركيَّة بضِمْن هذا النَّوع من مشاجب العقول التي قَدْ تتمكن من أن تديرَ وتدبِّرَ ما يحدث في دوَل العالَم «عن بُعد»، فهذا الجهد يُمكِن أن يشملَ حتَّى صناعة الانقلابات العسكريَّة وتسويقها بما يخدم مصالح أميركا في دوَل أميركا اللاتينيَّة وإفريقيا وما شاكلها من دوَل العالَم الثالث.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العال م
إقرأ أيضاً:
الأمين العام المساعد للأمم المتحدة لـ«الاتحاد»: الإمارات مركز إقليمي ودولي لتطوير المهارات الجديدة للشباب
دينا جوني (أبوظبي)
أكد الدكتور عبدالله الدردري، الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن الإمارات أصبحت مركزاً إقليمياً، له امتداد دولي لتطوير المهارات التي يحتاج إليها الشباب، من خلال برنامج الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. وأشار إلى أن الشراكة المستمرة مع برنامج الأمم المتحدة منذ أكثر من عشر سنوات أسفرت عن إطلاق «مؤشر المعرفة»، الذي كشف عن أهمية تركيز الحكومات على المهارات المرتبطة باقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي. وأوضح أن الإمارات قدمت خدمات الحكومة الإلكترونية لأكثر من 30 دولة حول العالم بشكل مجاني، شملت التدريب، وتوفير منصات رقمية متطورة. هذا النهج جعل الإمارات منصة إقليمية ودولية لتبادل المعرفة والخبرات.
وأشار إلى أن الإمارات بدأت شراكاتها مع جهات عالمية، مثل «كورسيرا»، حيث وفرت مليون ترخيص تدريبي؛ بهدف الوصول إلى 10 ملايين مستفيد في المنطقة العربية، من خلال «أكاديمية مهارات المستقبل».
وأكد أن قوة الإمارات تكمن في قدرتها على ربط شبكات عالمية قوية، ما يعزز فرص تطوير المهارات دون الحاجة إلى إنتاج المحتوى المعرفي محلياً بشكل كامل.
وبين أن الهدف المستقبلي يتمثل في قياس أثر أكاديمية مهارات المستقبل والبرامج التدريبية التي ينفذها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مع مؤسسة محمد بن راشد للمعرفة على تحسن الإنتاجية، وفي حال تحقيق نتائج إيجابية، سيتم توسيع نطاق هذه البرامج لتشمل عدداً أكبر من الدول.
وتحدث عن التحديات التي تواجه المنطقة العربية، حيث تعاني ضعف الإنتاجية مقارنة بالإمكانات البشرية والمادية المتوافرة. وأكد أن الإمارات تمثل نموذجاً واعداً، حيث تتبنى رؤية 2071 للتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، مثل مشروع مدينة مصدر الذي يعد جزءاً مهماً من هذه الرؤية.
وأشار إلى أن المنافسة في عصر المعرفة تعتمد على التخطيط المجتمعي المبني على المعرفة، وتنمية المهارات اللازمة لاقتصاد المعرفة.
وأضاف: إن الإمارات تركز على توفير المهارات الإنتاجية والتنافسية لأبناء الدول العربية، موضحاً أن التعليم الموجه نحو اكتساب المهارات يمثل حجر الزاوية لتحقيق هذه الأهداف.
وأكد أنه لا حل سوى بالمنافسة في المعرفة، وهي تحتاج إلى أمرين بسيطين، أولاً: تخطيط للمجتمع بناء على المعرفة، وهنا يلعب مؤشر المعرفة دوراً مهماً. وثانياً: مهارات تستطيع أن تتعامل مع اقتصاد المعرفة، وهنا تأتي أهمية تحالف الإمارات مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وأضاف: «يهمنا أن يتعلّم كل أبناء الدول العربية مهارات التنافسية والإنتاجية، فمن خلال المعرفة يمكن أن نحدث زلزالاً معرفياً هادئاً نواته في الإمارات».
وقال: «في كل دولة أزورها، يتم تنظيم ورشة عمل مع الحكومات حول مؤشر المعرفة، الذي يلعب دوراً محورياً في مساعدة الحكومات على تقييم موقعها وتحديد استراتيجياتها لتحسين التنافسية».
وأكد أن التعليم من مرحلة الحضانة حتى الدكتوراه ضروري، ويجب أن يكون مجانياً؛ لأنه يساهم في تحقيق الحراك الاجتماعي، ويتيح للفقراء تحسين أوضاعهم. لكنه شدد على أن المهارات وحدها لا تكفي، مشيراً إلى ضرورة تحسين جودة المناهج الجامعية، وضمان مواءمتها مع احتياجات السوق. وأضاف أن القطاع الخاص يلعب دوراً مهماً في تطوير المهارات؛ لأنه الأكثر قرباً من احتياجات الاقتصاد.
تجربة
استعرض الدردري تجربة سنغافورة، التي نجحت في تقديم تعليم جامعي متطور وبرامج لتطوير المهارات تعدّ من الأفضل عالمياً.
وأوضح أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لديه مركز تكنولوجي رائد في سنغافورة، يُستخدم لدعم وخدمة «أكاديمية مهارات المستقبل» ومختلف المشاريع المعرفية للبرنامج.
وأكد أن الإمارات قادرة على إحداث نقلة نوعية في مجال تطوير المهارات، مشيراً إلى أن التخطيط الذكي والتعاون الدولي سيمكنانها من تعزيز مكانتها كمنصة عالمية للمعرفة والتنمية.