الخرطوم .. سال من شعرها الدّم والدُموع

***

في مقتبل العمر ونعومة الأظافر والطموح يحده السماء البعيدة ، كنت تلميذًا يافعًا بمدرسة "الحفير" الابتدائية ، شمال مدينة دنقلا أقصي شمال السودان ، وكان المعلمون الأفاضل كالعهد بهم يقومون بمجهود إضافي طوعي ويهبون جزءاً من فتراتهم المسائية لعقد دروس تقوية ومراجعة للمنهج من قبل موعد الامتحانات ،حتي يطمئنوا علي وضع التلاميذ واستعدادهم للمنافسة والمثابرة الشريفة مع بقية المدراس وخاصة مع الشقيقة مدرسة مشو الابتدائية ، المنافس القوي المتطلع ، وكان الأستاذ المرحوم محمد علي ملك الناصر ، شهادتي فيه مجروحة لانه كان أباً روحياً في غياب والدي (رحمه الله) والذي كان معلماً منتدباً من قبل وزارة التربية والتعليم الى مدينة الحديدة في جمهورية اليمن ، وكانت مادة التاريخ عشق الأستاذ ملك الناصر ، وعند المساء ونحن جلوس في باحة المسجد الصغير في فناء المدرسة العتيقة ، نجلس علي الحصير القديم المتهالك واجسادنا النحيلة تقشعر من شدة برد الشمال القارس ، تبدا الاسئلة المباشرة: ماهي أسباب غزو محمد علي باشًا للسودان ؟ وكان حظي دائماً أن أبتدر بالسؤال ، كان يطلب مني أن أعرف إجابة لك سؤال متوقع في الامتحان النهائي ، وكان يعتمد علي أسلوب "الاستفزاز " حتي يخرج أفضل ماعندك بعد أن تعصر ذاكرتك و يؤلمك الحصير البارد القديم تحت قدميك ، ومنها عشقت وأحببت مادة التاريخ وخاصة العهد التركي المصري أو الأصح التركية السابقة في السودان.

***
في أحدي شهور الشتاء الباردة في المملكة المتحدة تجمدت كل الأشياء ، وصارت الأماكن تتوشح بالثلج والجليد الأبيض الجميل ، وتجمد معها سخان المياه في منزلي الفيكتوري التصميم -نسبة للملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا القوية -إتصلت بالسباك الالباني (كاس) وطلبت منه الحضور علي وجه السرعة لأنني وأطفالي الصغار قد وصل البرد إلي دواخل عظامنا ، وعدني بالحضور وقد كان ، وقام بتصليح السخان في وقت وجيز جداً ، شكرته وأعددت له كوباً من القهوة الساخنة فجلس يجاذبني أطراف الحديث و هو غير عابئ بشدة البرد ، سألني عن موطني فاخبرته ، فقال أن جده الأكبر قد حكم السودان في القرن التاسع عشر ، وسألته أنت ألباني فمن هو جدك الذي حكم السودان ، أبتسم وخيوط الدخان الساخن تخرج من فمه فقال "محمد علي باشا".

عادت بي الذاكرة الى الحفير الابتدائية والمرحوم الاستاذ محمد علي ملك الناصر ، وأنا أجب علي سواله بعد عقود من الزمن ، أُخبِرُ هذا الالباني طويل القامة ضخم الجثة ، أجبته نعم أعرف جدك الألباني الذي خدم عند الجيش التركي في مصر وتدرج في المناصب حتي أصبح والياً إنابة عن السلطان العثماني علي ولآية مصر ، وكأنني جالس علي الحصير القديم البارد في مدرستي العتيقة ، اخبرته بأن جده الطموح بعد أن أباد المماليك في معركة"القلعة" الشهيرة في عام ١٨١١م تعقبهم الي جنوب الوادي ، تحديدًا الي مسقط رأسي في شمال السودان في منطقة دنقلا حيث أصبح لهم نفوذ وتجمع كبير يهدد محمد علي باشا ،

وهذه كانت إحدي اسباب الغزو التركي المسنود بالالبان والشركس والشاميين والاوربيين ، وكانت الغاية الكبري هي الحصول علي الذهب في بواطن جبال وتلال السودان العذراء.
وكانت طموحات محمد علي باشا في الفتوحات كبيرة وحاجته للرجال الاقوياء والمقاتلين كبيرة ، فاتجه الي جنوب السودان لجلب "العبيد" حيث أنتشرت تجارة الرقيق في ذلك العهد ، بلا شك كان ذلك سيمكنه من الاستغناء عن القوات الالبانية والتركيه حتي يتوسع في طموحاته الاقليمية بعد أن هزم مملكة ودولة الشوايقة في شمال السودان وسلطنة الفونج في سنار .
شكرني (كاس) علي تلك المعلومات عن جده وقام بغسل كوبه و وداعي ضاحكاً ، علي أمل أن التقيه مرة اخري لاخبره عن مغامرات جده في جنوب الوادي .
***
خاض محمد علي باشا المولود في مقدونيا(كانت تتبع للدولة العثمانية) في مارس ١٧٨٩ في بداية فترة حكمه حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر كليًا ، ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العثمانية في جزيرة العرب ضد الوهابيين وضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة ، كما وسع دولته جنوبًا بضمه للسودان.
بعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها في الشام والأناضول وكاد أن يسقط الدولة العثمانية لولا تعارض ذلك مع مصالح الدول الغربية التي أوقفت محمد علي وأرغمته على التنازل عن معظم الأراضي التي ضمها.

خلال فترة حكم محمد علي، استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة، إلا أن حالتها تلك لم تستمر بسبب ضعف خلفائه وتفريطهم في ما حققه من مكاسب بالتدريج إلى أن سقطت دولته في ١٨ يونيو سنة ١٩٥٣ م، بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في مصر.
***
نشأة محمد علي وحياته الاولي ، وتدرجه في خدمة الدولة العثمانية وطموحاته الاقليمية وبحثه عن مصادر التمويل لجيوشه ، ومن ثم غزوه للسودان بحثًا عن الذهب والرجال الاقوياء ثم حكمه لمصر وتمرده علي الدولة العثمانية حتي كاد ان يسقطها ، الي سقوط مملكته و أصابته بحالة من الارتياب والشيخوخة ، ومن ثم وفاته ودفنه في القاهرة عام ١٨٤٩م ، تحتوي هذه السيرة العميقة علي مشاهد(قد) تشابه الي حدٍ كبير مسيرة القادة الطموحين الطامعين في السلطة والمتمردين علي قانون الدولة الحاكمة ، وان كانت هناك بعض الفوارق الواضحة التي لايمكن تجاهلها.
***
الخرطوم بعد قرابة نصف عام من الحرب والدمار والخراب ، نصف عام وتدك فيه بالمنجنيق ونضرب بالمدافع ، تتهدم أكواخها و خيمها، وتعصف الرياح والأعاصير باشجار الليمون والنخيل ، تتهدم مساجدها وكنائسها ودور العبادة ، وتظل هي جريحة منتهكة مستباحة ، غزوها البربر والمغول وقطاع الطرق ، عاشت الخوف والرعب والتشرد ، فقدت ألأمن والسلام والطمانينة ، و جسدها الطاهر تغطي بالجروح والدماء والصديد ، طال عليها ليل الغدر والقتل والدمار ، وتعيش الذهل والهوان تحت أنقاض الحطام والدمار والموت في كل فجر جديد.
***
الفجر الساطع يضي سماء الخرطوم من بعيد ، ينبثق من ثنيات المجد والشموخ والكبرياء ، يلقي بنوره وبريقه علي جسد الخرطوم المنهك المتهالك المجروح ، عبائتها تتصاعد منها رائحة الدخان والبارود ، تشتم فيها رائحة الدماء والجروح وكثير من القيح والصديد ، لكن ضوء الفجر يشع وينير و يضئ ملتقي النهرين ، فإذا هي تقف شامخة أبيه عنيدة ، ينهزم علي أبوابها وقلاعها اعتي الغزاة الجبابرة ، وتحت أقدامها تسقط اقنعة كل العملاء و الخونة.
***
عند المساء أجد نفسي في فناء منزلنا الصغير عند ضفة النهر الخالد حيث النيل سيف ابيض في دجي الليل ، أردد كلمات الشاعر الكبير أبو آمنه حامد وقد تغني بها الجميل صلاح أبن البادية ، ورددها كثيرًا في مسامعنا الخال الفنان النوبي (رحمه الله) عبد الرحيم شاهين:
سال من شعرها الذهب
فتدلى وما انسكب
كلما عبثت به
نسمة ماج واضطرب
***
د.زهير عامر عبد الكريم
المملكة المتحدة
٢٤ سبتمبر ٢٠٢٣

zuheiramir@hotmail.com  

المصدر: سودانايل