أن السياسة و حل تعقيداتها لا تعتمد على الخيال وحده، بل لابد من معرفة تناقضات الواقع و المكانزمات التي تحرك هذا الواقع، و معرفة الأهداف التي يراد تحقيقها من الفعل السياسي، و التعامل مع الشأن السياسي و أفرازاته لا يؤسس على العواطف و الرغائب إذا كانت شخصية أو تحالفية للجماعات المختلفة، بل يؤسس على معرفة الرؤية المراد تحقيقها على الواقع، أو حتى تقديمها كمبادرة يراد بها حوارا ينقل الناس من حالة الاحتقان و التصلب في الرأي إلي الانفتاح على الأخر، بهدف أمتصاص حالة الغضب السائدة في المجتمع، و نزع الفتيل الذي يؤدي إلي النزاعات و الحروب المحتملة، و في حالة الحرب الجارية يجب تقديم التنازلات التي تجعل الحوار ممكنا، و تجنب فرض الشروط على الآخرين.

السؤال هل القوى السياسية السودانية عندها الاستعداد للحوار دون شروط؟ أم أن الأغلبية ماتزال تعتقد أن العقل السوداني لا يملك القدرة على التفكير الصحيح لحل مشاكله، و بالتالي الاعتقاد أن المجتمع الدولي هو الذي يستطيع وحده أن يقدم الحلول؟ السؤال المهم ما هي القوى التي يقع عليها عبء اقناع ميليشيا الدعم بأن دورها قد انتهى، و يجب عليها أن تخرج من منازل المواطنين و كل المؤسسات الخدمية؟ السؤال الأخير كيف تتعامل النخب الواعية مع التحديات تتجاهلها أم تدخل معها في تحدي حتى كسر العظم؟
في 3 سبتمبر كنت قد كتبت مقالا بعنوان " هل البرهان وحده يصنع رهانات السياسة" كان الهدف من المقال أن صانع الأحداث وحده هو الذي يضع معالم الطريق، و هو وحده الذي يفرض الأجندة على الآخرين، خاصة أن القوى السياسية أصبحت تعلق فقط على الأحداث، و ليست صانعة للحدث، و قلت في مقدمة المقال (الناظر للسياسة إذا كان في السودان أو أي دولة أخرى في العالم، يبدأ برصد الأحداث التي تفرض ذاتها على الساحة لمعرفة القوى الصانعة للأحداث، و كيف يجري التفاعل معها، خاصة القوى التي تملك مكنزمات الحركة السياسية. بعد الحرب التي بدأت في 15 إبريل 2023م صعد الجيش و ميليشيا الدعم السريع المتحاربين في صناعة الأحداث، و تراجع دور الأحزاب السياسية، باعتبار أن قرار استمرار الحرب و إقافها يتركز علي المتحاربين، و ظلت الأحزب تراقب أو تقدم بعض الرؤى لوقف الحرب و لكنها اجتهادات على هامش الحدث. بعد خروج الفريق أول البرهان القائد العام للجيش أصبح هو الذي يصنع الحدث من خلال تصريحاته في جولته على معسكرات الجيش المختلفة و غيرها،) فالقوى السياسية أصبحت حركتها محدودة، و قدرتها على المنافسة في صناعة الحدث قلت كثيرا، لأنها غدت عاجزة أن تقدم مبادرات تجذب قطاع واسع من الشعب و تجعله يتفاعل معها، و تضع مصالحه في مقدمة الأجندة، الكل منتظر الجيش أو ميليشيا الدعم أن يصنعا الحدث، ثم يصبح دورهم شرح متن خطاب الحدث. العديد من الذين تجاوبوا مع ما كتبت يعتقدون أن القوى السياسية ضعيفة، و الأحداث كانت أكبر من قدراتها. و هذه إشكالية أن العديد من السياسيين عندما يتعرضون لامتحان و تحديات، تجدها تفضح قدراتهم، مما يدفعهم للبحث عن شماعات يعلقون عليها أخطائهم. و رغم شعارات الديمقراطية تجد أغلبهم لا يحبون منهج النقد. و يرجع ذلك لضعف الثقافة الديمقراطية في المجتمع، و الكل يتعامل بالثقافة التي خلفها النظام الشمولي، و يستخدم ذات مصطلحات الإقصاء و الإبعاد.
واحدة من مقترحات الحلول التي يجب التوقف عندها. جاءت من الدكتور الشفيع خضر باعتباره أحد مفكري اليسار الحر " غير منتمي" في مقال كتبه بعنوان " آليات مقترحة لوقف الحرب في السودان" تحدث فيه عن ورشة عقدت في أديس ابابا للقوى المدنية بهدف تقديم حلول للأزمة و الحرب في السودان. كتب يقول ( انتظم المشاركون في الورشة في عصف ذهني توافقوا من خلاله على مجموعة من الحقائق، منها أن هذه الحرب خلقت واقعا جديدا يجب أن يغيّر في طريقة تفكير القوى المدنية في التعاطي مع تداعيات الأحداث الراهنة، وأن هذا الواقع لابد أن تكون له مستحقاته العملية، ومن هذا المنطلق فإنه يجب النظر إلى كارثة الحرب في سياقها التاريخي حتى يتمكن السودانيون من فتح صفحة جديدة في كتاب تاريخهم، وذلك بالتمعن في الأسباب الجذرية للحرب.) أن الحرب بالفعل فرضت واقعا جديدا يحتاج إلي طريقة تفكير جديدة. و السؤال كيف تستطيع قوى سياسية عاجزة على صناعة الحدث أن تغير طريقة التفكير السائدة في البلاد؟ و ما هي الأدوات المطلوبة لكي تتلاءم مع طريقة التفكير الجديدة؟ و هل المنهج التبريري و البحث عن شماعات لتعليق الأخطاء هو الذي سوف يخلق طريقة جديدة للتفكير؟ أسئلة تحتاج إلي إجابات.
أن الأفراد الذين يستطيعوا تغيير طريقة التفكير القديمة في المجتمع، هم القادرين على استخدام العقل الممنهج و الفكر في دراسة الواقع، و من خلال طرحهم لأسئلة جديدة تغير المنهج القديم القائم على العاطفة و الولاءات الضيقة، و الشللية و التخندق في المواقف التي اثبتت فشلها منذ أول انقلاب في البلاد عام 1958م، المفكرون وحدهم القادرين على فحص الأدوات التي تعطلت و صدئت و وجب تغييرها بأدوات جديدة تتلاءم مع المرحلة، و تستطيع انجاز المطلوب منها. هذا التغيير المطلوب؛ يحتاج إلي تغير أخر داخل المؤسسات الحزبية نفسها، فالصراع من أجل التحول الديمقراطي، يؤسس على الأفكار و ليس على الشعارات الزائفة، و التي لا يمكن إنزالها على الأرض بسبب سيطرت قيادات في الأحزاب عقولها لا يخترقها الضوء. فالثورة لكي تنجح و تعطي ثمارها، يجب أن لا تكون فقط قاصرة على إسقاط النظام، بل على إسقاط حملة التفكير التقليدي و اصحاب القدرات المتواضعة في جميع الأحزاب. و المسألة ليس الشعار الذي ترفعه، بل قدرتك في تفعيل هذا الشعار و انزاله على الأرض تبدأ من اسفل السلم إلي أعلاه. الكل الآن واقع تحت دائرة الاستقطاب الحاد و بدون أي رؤية، غير التشنج العاطفي و اللجوء للولاءات المغلقة. و يعود ذلك لغياب العناصر التي تشتغل بالفكر.
إذا بالفعل قيادات الأحزاب السياسية لديها إرادة للوصول إلي دولة ديمقراطية توفر الاستقرار السياسي و الاجتماعي و التبادل السلمي للسلطة، يجب أن يكون طريقها مفارقا للإنقاذ التي اعتمدت نظام الحزب الواحد، طريق مغاير ليس في الشعارات بل في الممارسة و الخطاب السياسي، و مواجهة التحديات بعقلانية و حكمة. و الانتقال من حالة الهياج بهدف الوصول للسلطة، و محاولة المكوث فيها فترة انتقالية طويلة دون شرعية، إلي الشرعية التي تشارك فيها كل الجماهير في اختيار القيادات التي تعتقد هي التي تحقق لها مصالحها. و نسال الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوى السیاسیة هو الذی

إقرأ أيضاً:

مملكة الحرير نسخة مصرية غير أصلية من حريم السلطان

الفانتازيا التاريخية واحدة من الأنواع الدرامية غير المنتشرة في المسلسلات العربية بشكل عام، وقد ارتبطت قديما بمسلسلات "ألف ليلة وليلة"، وحديثا بـ"جودر" بجزئيه.

لكن المخرج والمؤلف بيتر ميمي يطرق مؤخرا هذا النوع من خلال مسلسله "مملكة الحرير" الذي يُعرض على إحدى المنصات العربية الحديثة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"بوابة دمشق".. سوريا تطلق مشروع مدينة إنتاج متكاملة تعيد الحياة للدراما السوريةlist 2 of 2كيف استعادت الدراما العراقية جمهورها بهذه المسلسلات؟end of list

"مملكة الحرير" من إخراج وتأليف بيتر ميمي، وبطولة كريم محمود عبد العزيز وأسماء أبو اليزيد وأحمد غزي وعمرو عبد الجليل، ويتكون من 10 حلقات فقط يتم عرضها تباعا على المنصة.

View this post on Instagram

A post shared by Yango Play | يانغو بلاي (@yangoplay)

 

مؤامرات وخداع وعشق محرم

يبدأ المسلسل براوٍ يقدم لنا مقدمة سابقة لأحداث "مملكة الحرير" تبدأ من جريمة القتل الأولى، وقصص أبناء آدم وقابيل وهابيل، وأننا كبشر أبناء القاتل، ثم نقفز إلى جريمة موازية يقتل فيها الأمير الذهبي (عمرو عبد الجليل) أخاه الملك نور الدين، ويخطط لقتل ابنيه وريثي عرش مملكة الحرير، وهما الأميران شمس الدين وجلال الدين، لكن أحد الخدم يهرّبهما، ويترك خلفه الأميرة جليلة باعتبار أنها فتاة، ولن يهتم عمها بقتلها.

تزداد الأمور تعقيدا حين يتعرض الخادم لهجوم من اثنين من قطّاع الطرق، فيخطف كل منهما طفلا بهدف بيعه، يكبر شمس الدين (كريم محمود عبد العزيز) كأحد عبيد جيش المماليك، في حين ينشأ جلال الدين (أحمد غزي) بين اللصوص وقطّاع الطرق ويصبح واحدا منهم، لكن ما يميزه عن أخيه هو أن جبل (وليد فواز) الرجل الذي ربّاه كابنه يعلم بأصله الملكي ويحتفظ بهذا السر.

بينما تكبر جليلة (أسماء أبو اليزيد) في القصر الملكي، وتبدأ الأحداث بزفافها على الأمير سليمان ابن الملك الذهبي (يوسف عمر)، وتشتعل كراهيتها تجاه الملك وابنه وأخويها اللذين استطاعا الهرب من القصر وتركاها خلفهما.

الفانتازيا التاريخية هي قصص خيالية تدمج بين التاريخ والعناصر الخيالية، فتجمع بين السحر أو المخلوقات الأسطورية مع سمات الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، وتستكشف هذه الأعمال التاريخ عبر الصراعات التقليدية بين الخير والشر.

إعلان

وفي "مملكة الحرير" يصبح الصراع أكثر تعقيدا، لأن الخير أو الورثة الشرعيين للمملكة يتواجهون كأعداء في نقطة من الأحداث.

لكن صنّاع المسلسل وضعوا الأحداث في إطار قصص الحب والعشق الممنوع والمؤامرات التي تقوم بها نساء لإسقاط رجال البلاط بشكل مستمر، لتصبح هذه الحبكات هي المحرك الرئيسي للأحداث، خاصة شخصيتي ريحانة (سارة التونسي) والأميرة جليلة اللتين لا تتوانى إحداهما عن استخدام فتنتها والدخول في علاقات محرمة أو قتل أعدائها بعنف طالما ستصل إلى مبتغاها في النهاية.

وفي النهاية، يتحول المسلسل إلى نسخة غير أصلية من مسلسل "حريم السلطان" التركي، والذي ينتمي بدوره إلى الدراما التاريخية، وقد دارت أحداثه في قصر السلطان سليمان القانوني الذي يتعرض طوال الوقت للمؤامرات، في حين في الخلفية تتصارع الجواري وسيدات القصر.

View this post on Instagram

A post shared by كريم محمود عبد العزيز (@karimmahmoudabdelaziz)

محاولات لصنع صورة مبهرة

تعتمد الفانتازيا التاريخية بشكل كبير على إبهار المتفرجين، بداية من الأزياء والمكياج وحتى الديكورات قديما والمؤثرات البصرية حديثا، وتتنافس في ذلك المسلسلات العالمية قبل المحلية، فنجد في مسلسلات مثل "صراع العروش" (Game of Thrones) تُرصد لكل حلقة من حلقاتها ميزانيات عملاقة من أجل هذه التجربة البصرية والسمعية المذهلة التي تقدمها.

يحاكي مسلسل "مملكة الحرير" مسلسلات الفانتازيا التاريخية عالية الميزانية قدر الإمكان أو بقدر الإمكانيات المتاحة لعملية الإنتاج، فنجد اهتماما واضحا بتصميم الأزياء، والقصور التي تدور فيها الأحداث، والمزج بين التصوير في الأماكن الحقيقية واستخدام المؤثرات البصرية، كما اهتم صُنّاع المسلسل إلى جانب الصوت بالموسيقى التصويرية والأغاني التي تضفي طابعا خاصا على المسلسل.

لكن مسلسلات الفانتازيا التاريخية لا تسعى فقط خلف الإبهار البصري والسمعي، بل تتمثل نقطة قوتها الأساسية في الحبكة المنطقية ذات التصاعد المحكم والأداء التمثيلي المتقن، وهي عناصر افتقدها مسلسل "مملكة الحرير" إلى حد كبير.

يتميز المسلسل بتسارع الأحداث، فعلى سبيل المثال يعلم جلال الدين بحقيقته بشكل مبكر نسبيا لهذا النوع من المسلسلات، وربما يرجع الأمر إلى عدد الحلقات المحدود، ويعكس هذا التسارع في الوقت ذاته عدم استقرار حياة القصور وعنفها غير المتوقع نتيجة للمؤامرات المستمرة.

لكن على الجانب الآخر هناك الكثير من الأحداث التي لم يتم التأسيس لها من داخل المسلسل، فبدت مفاجئة بشكل واضح.

مثّل الأداء التمثيلي نقطة ضعف كبيرة في "مملكة الحرير"، فبعيدا عن أداء كريم محمود عبد العزيز -الذي كان الأفضل في المسلسل بشكل عام- نجد أداء تمثيليا متفاوتا للغاية.

ويغلب الافتعال والمبالغة المسرحية على أداء كل من أسماء أبو اليزيد وأحمد غزي وسارة التونسي، إذ يبدون طوال الوقت وكأنهم واعون بأنهم يقدمون أدوارا معقدة في مسلسل فانتازيا تاريخية، ويحاكون أداءات مشابهة في أعمال أخرى.

أما عمرو عبد الجليل فكان اختيارا غير مألوف لدور الملك الذهبي الشرير وقاتل أخيه، فخلط الكوميديا والسخرية بالجدية بشكل غير متوازن.

إعلان

يعود بيتر ميمي في "مملكة الحرير" إلى الفانتازيا التاريخية التي قدمها من قبل في "الحشاشين" العام الماضي، لكن بينما غلبت على "الحشاشين" التوريات السياسية لا يجمع بين المسلسلين هنا سوى استخدام المؤثرات البصرية بإفراط، فلا يقدم المسلسل قراءة جديدة للتاريخ أو حتى للصراع بين الخير والشر، وقد تم قلب الأحداث إلى صراع ممجوج من "كيد النساء".

مقالات مشابهة

  • التمثيل النسائي الفعّال… محور لقاء اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب مع الحركة السياسية النسوية
  • مملكة الحرير نسخة مصرية غير أصلية من حريم السلطان
  • اليوم حرب وغدا خوف.. ما الذي يعنيه أن تقصف تل أبيب؟
  • عاجل- السيسي ورئيس وزراء الصين يؤكدان أهمية تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران ودعم الحلول السلمية
  • والي ولاية الخرطوم يُعزي أسرة الشهيد حامد نبيل حامد الذي راح ضحية غدر بدافع السرقة
  • قمة سودانية ليبية مصرية.. إلى أين تتجه الأحداث؟
  • ناس(صمود) في غاية الاحتفاء بتقاربهم مع المؤتمر الشعبي الذي يقوده د. علي الحاج
  • ظافر العابدين.. في 3 مسلسلات جديدة
  • رأس المال الاجتماعي… ندوة بحلب تبحث التعافي المجتمعي بعد الحرب
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (قالت الأحداث في الزمان كله)