لا تمثل الأمثلة التي ضربتها عن تجاوزات الدول للأعراف الدبلوماسية وتخطّيها لضوابط اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية (في الحقيقة هما اتفاقيتان صدرت الأولى عام 1961 والثانية في 1963)، لا تمثل تلك الأمثلة إلّا نزراً يسيراً للتجاوزات.

فقد يتجاوز ممثلو الدول قوانين الدولة المضيفة ويرتكبون جرائم مثل التحرش والاغتصاب.

وقد يكون خرقهم للقوانين مثل ما فعل أحد سفراء لبنان بالسودان، الذي كان يهرّب الخمور ويبيعها.
وتتفاوت ردود أفعال الدول وفقاً لطبيعة وحجم الجريمة. وقد تتستر على الدبلوماسي تقديراً للعلاقات التي تربطها بالدولة الباعثة للدبلوماسي. أو قد تختار فضح تجاوزه وتطلب من دولته سحبه دون أن تثير ضوضاء حول ما فعله، لأن ما يتمتع به من حصانة تحول دون محاكمته في كل الجرائم.

وفي أحيان تضيق الدول ذرعاً بسياسات دولة الدبلوماسي أو تضيق به هو نفسه، فيعمد جهاز أمنها لتوريطه في جريمة لإحراج دولته أو إحراجه هو.

وهذا ما فعله FBI مع سفير إيران في الأمم المتحدة منتصف ثمانينات القرن الماضي، وذلك بتدبير عملية سرقة بدلة في أحد المتاجر في منهاتن، واتهمه المتجر بالسرقة. وما أكد أنها مسرحية معدّة ومدبّرة Staged، أن مراسلي محطة التلفزة والصحفيين ملئوا المتجر فجأة، وفي نفس الوقت الذي كان السفير ينفي الاتهام ويتجادل مع موظفي المتجر.

أذكر أنني كنت مسافراً عبر لندن من واشنطن للخرطوم. ومكثت ليلةً في لندن. وفي اليوم التالي وأنا أكمل إجراءات سفري في مطار هيثرو، اقترب مني أربعة من رجال الشرطة البريطانيين، وطلبوا الحديث معي، ولما انتحوا بي جانباً أبلغوني أنهم يريدون فتح حقيبتي!!!
قلت لهم: إنني دبلوماسي سوداني بواشنطن، وإنني شحنت حقيبتي في مطار دلاس إلى الخرطوم مباشرةً بعد إكمال كافة الإجراءات، وليس ثمة سبب يدعو لفتح حقيبتي في لندن، وإنني من ثم أشك أنكم تريدون أن “تزرعوا” to plant شيئاً في حقيبتي لتجريمي، ولن أسمح لكم بفتحها إلّا بعد أن تكتبوا لي ما يفيد بكل المعلومات التي ملكتكم إياها، وأنكم تريدون فتح حقيبتي رغماً عنّي. وأنذرتهم أن تعاملهم المتجاوز هذا يمكن أن يحيل حياة الدبلوماسيين الانجليز في الخرطوم إلى جحيم Reciprocity)!!! ودخلت معهم في جدل طويل.
وبعد مدة انصرفوا جانباً ثم رجعوا قائلين “سنترك هذه المرة”!!! واشتبكت معهم في جدل أشد كرد على عبارتهم تلك، فما كان منهم إلّا أن انصرفوا.

بالنسبة إليّ كانت تلك محاولة تجريم.
وقد أفادتني افتراءات كذوبة وأنا دبلوماسي بنيروبي التي كانت عاصمة لمتمردي جون قرنق، خاصة حين أضافوا لها أنني قاتل Assassin، فقد أخافت أولئك المجرمين مني، ولم أتعرض لمضايقات منهم إلّا في محاولة اغتيال واحدة، يوم جاؤوا إلى بيتي في حي هلينقهام ذات ليلة، ونجاني الله منهم.

فالدبلوماسية ليست فقط هي تلك المهنة الجاذبة، بربطات العنق والملابس الأنيقة وحفلات الكوكتيل، والحديث الناعم المُنمّق، بل فيها مخاطر جمة ومزالق مخيفة. ويعرف محبو الدبلوماسية أن الحُبّّ يعترضُ اللذاتِ بالألمِ.

وكما أسلفت فإن ثمة تفاوتا في إعمال مبدأ المعاملة بالمثل، وتظل الدول التي تحقّر نفسها تلك التي تدع الأخريات من الدول تعبث بسيادتها وكرامتها وثوابت قيمها وقوانينها. والدول متساوية في سيادتها، فتستوي فيها مايكرونيزيا والولايات المتحدة الأمريكية.
تذكرت اليوم أن ما فعله الوزير دكتور مصطفى عثمان في تعامله مع الغطرسة الأمريكية، كان بتوجيه مباشر من الرئيس البشير، ‏ولم يَدَع أحداً يقول بعدها:
إن بالشِّعْبِ الذي دون سَلَع
لقتيلاً دَمُهُ لم يُطَلْ
الدبلوماسية هي مهنة المصانعة، بغية تحقيق المكاسب، وهي مِجَن ودرع تتقي الدول بها شروراً. وكأنها — بطرف — قائمة على مقالة زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ لَمْ يُصانعْ فِي أُمُورٍ كَثيرةٍ يُضَرَّسْ بأنْيابٍ ويُوطَأ بِمَنْسِمِ وَمَنْ يجعلِ المعرُوفَ من دونِ عِرْضِهِ
يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشّتمَ يُشْتَمِ
أما الدول الكبرى فكأنها تقتدي بقول الشاعر:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرةً واحدةً
إنما العاجز من لا يستبد
(الشاهد هنا عجز البيت الأخير)
أما أكبرها (أميركا) فهي:
إِذا غَدَرَت حَسناءُ وَفَّت بِعَهدِها
فَمِن عَهدِها أَن لا يَدومَ لَها عَهدُ .
الكلمة السحرية في العلاقات الدولية هي: “المصلحة” Interest. وعلى ذلك فلا مقام لعواطف. بل إنها علاقات (بلا أخلاق) AMORAL.
وكل ما أوردته بالأمس إنما هي نماذج قليلة لأنماط سلوك تقوم به الدول إزاء بعضها. جُلّه يتجاوز الأعراف الدبلوماسية، ويخرق إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية. ويُلجئها لذلك: (1) إمّا الحرص والتحوط من مخترقات أمنها القومي.
(2) أو إنفاذاً لسياسة إضعاف لدولة جارة حتى لا تقوى فتشكل خطراً (فكل جارٍ عدوٌ محتمل) كما تقول القاعدة — غير المعلنة — في العلاقات الدولية ( Every neighbor is a potential enemy) أو (3) تضييقاً على دولة تخشى من نهجها السياسي، وتبتغي تغيير حكامها أو (4) إنفاذاً لسياسة توسّع وهيمنة.
وخير مثال دالٍّ على انتفاء الأخلاق، ومكايدات الدول لبعضها لتحقق مصالحها، هو الشيطنة التي تعرض لها السودان بعد مؤتمر القمة العربي في القاهرة (10 أغسطس 1990) بعد غزو العراق للكويت. فقد أدان السودان الغزو واقترح تشكيل لجنة رباعية من الرؤساء لإقناع صدام بالانسحاب.

وسمعت من البشير نفسه أنه قال في المؤتمر إن دخول القوات الأجنبية ستكون له عواقب اقتصادية وسياسية واجتماعية سالبة. وعقب المؤتمر سافر البشير للقاء صدام الذي قال له إنه مستعد للانسحاب غداً، وكل الذي يطلبه أن تسمح الكويت برسو السفن التجارية في ميناء خور عبد الله لأن منطقة البصرة ضحلة.
وعقب هذه البشارة من صدام اتصل البشير بالسعوديين فلم يستجيبوا، واتصل بالمصريين فلم يستجيبوا. وبعكس الحقائق سخّرت دول إعلامها لتجريم السودان وعزله. واتضح للبشير وقتها أنهم أجمعوا أمرهم على الحرب.
قال لي البشير: إن نبوءته بشأن العواقب السالبة صحّت. وأنه بعد عودة العلاقات اعترف له مسؤولون عرب أن موقفه كان هو الأصوب.
وقال لي إن مسؤولاً عربياً اشتكى له أن الأمريكان جعلوهم بعد الحرب يدفعوا حتى تكلفة ورق الحمام، وأجابه البشير: وتكلفة البيرة!!!

أفيد أنه غدا من البديهيات أنه ليس ثمّة بلد واحد في العالم لايجمع المعلومات عن البلاد الأخرى، ليعرف مكامن قوتها ومواطن ضعفها، وينطبق ذلك حتى على الدول التي لديها علاقات في قمة القوة والتميز. ولا تخدعنكم عبارات (الدول الصديقة والشقيقة) التي يكتبها الدبلوماسيون. ودونكم الجاسوس الاسرائيلي (يهودي أمريكي) جوناثان بولارد الذي سجنته أميركا سنين عددا.

في ضوء المخاطر الجملة التي تكتنفنا، وبدا — بعد الثورة وإلى اليوم — كأننا عنها غافلون.
ولن أنسى أيام كان السفراء الغربيون يسامرون الشباب في ساحة الاعتصام، وتمدهم السفارة البريطانية بالمياه المعبأة في قوارير، والشباب الغر سعداء بتلك المصائب، ومن هم خلفهم (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)؟؟
نواصل غداً إن شاء الله .
????السفير عبد الله الأزرق

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

الرئيس المشاط: السيد حسن نصر الله هزم كيان العدو ودمّر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر

أكد فخامة المشير الركن مهدي المشاط رئيس المجلس السياسي الأعلى، أن شهيد الإسلام السيد حسن نصر الله، كان منذ بداياته المبكرة وحتى آخر العهد به، نسْجاً في عصره فريداً، ودليلاً واقعاً على صوابيّة النهج الحسينيّ في الحياة العزيزة على الحقّ، وفي الشهادة مسك الختام، وذروة سنام الشّرف.
وقال الرئيس المشاط في مقال بعنوان “في مقام سيد المقاومة وشهيد الإسلام”: “لقد كان في كلّ الأوقات لكل الأحرار أباً، ولكلّ الأخيار من زمننا قائداً وأخاً، ولكلّ الناس مُحباً عطوفاً كريماً متواضعاً، وفي سبيل الله عاش، وانطلق مجاهداً حتى نالها شهادةً على منوال جدّه الحسين، عليه السلام، وعلى طريق القدس ويا لها من مسيرة”.
وأشار إلى أن حياة السيد حسن نصرالله جسّدت سبل الاستقامة والجهاد وإغاظة الكفار والانتصار والفخر وخدمة الإسلام وقيم العزة والكرامة والفداء، لافتاً إلى أنه حقّق في حياته الحافلة وفي وقت قياسي إنجازات لم يحققها أحد غيره في هذه الحقبة التي استحكم فيها الباطل وتنكّر فيها للحق واشتدّ البلاء وعظم الاستهداف.
وأَضاف فخامة الرئيس: “لقد حقّق الشهيد السيد حسن نصرالله في حياته كل ما يريد، حرّر بلاده وهزم كيان العدو الإسرائيلي، ودمّر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، ونصر المستضعفين وأقام العدل وبعث الأمل، إنه التجسيد المثالي لما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان المسلم، ثم إنه ختم حياته بشهادة في مواجهة عدو الأمة، ونصرة لأشرف قضية”.
واستطرد قائلا “لقد مثّلت شهادة السيد حسن نصرالله أعلى تجسيد للوحدة الإسلامية، فانتصر حتى بدمه على المشروع التفريقي الصهيوني، الأمريكي بين المسلمين سنّة وشيعة، وشارك في معركة إسناد فلسطين وأبناء غزة منذ اليوم الأول، وقدّم المئات من الشهداء، ولم يبخل بقيادات حزب الله من الصف الأول، وختمها بروحه ودمه، ليثبت في نفوس المسلمين، بدمه، أجلى معاني الوحدة الإسلامية، وأبلغ برهنة على أن عدو هذه الأمة – على اختلاف مذاهبها وطوائفها وبلدانها- واحد”.
وتابع فخامة الرئيس : “رغم الألم الكبير والفقد العظيم ونحن في مناسبة تشييع واحد من أشرف البشر في هذه الحقبة، إلا أننا ممتلئون رضا ويقيناً وأملاً وتفاؤلاً تعلّمناه من كتاب الله، وسيرة أهل البيت عليهم السلام، وكرّسه في عصرنا واقعاً الشهيد سماحة السيد، فطالما كانت كلماته العزاء ومبادئه السراج والنور الذي يسير عليه كل مجاهد على دربه، كيف لا وهو من ظلّ يتمنى الشهادة ويطلبها ويقتحم كل غمار الأخطار والصعاب، ولا يخشى في الله لومة لائم”.
وأردف قائلا : “إنه بحق شهيد الأمة، والإنسانية، وشهيد القدس وفلسطين، وشهيد لبنان، وليمن، وشهيد الحق والعدالة، وكل القيم النبيلة في الدنيا، عاش مدافعاً عن قيم ومبادئ الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولم يجد المستضعفون نصيراً مثله طوال عقود من لبنان إلى فلسطين، ومن البوسنة إلى أفغانستان، ومن سوريا إلى العراق إلى كل أرجاء الدنيا”.
وأوضح الرئيس المشاط، أنه “وإذ تجاوز نطاق نصرة المسلمين خاصة، إلى نصرة كل مظلوم في الأرض، فقد كان شهيد الإنسانية مجسّداً روح تعاليم الدين الحنيف، منذ البدء الحسن، وحتى الخاتمة ذروة السنام.”
وقال “ومن مثله شهيداً على طريق القدس وفلسطين، والذي لم يقدّم كما قدّمه أحد، ولم يبذل كما بذله أحد، ولم يَصدق فلسطين بقلبه قبل اللسان، وبدمه قبل البيان أحد، لتكون شهادته في نصرة غزة أبلغ بيان عن كيف ينصر المرء أهله”.
ولفت رئيس المجلس السياسي الأعلى إلى أن “شهيد لبنان أفنى عمره دفاعاً عن لبنان وطلباً لاستقلاله وحريته ومنعته وقوته، وشهيد اليمن في وقت خذله الأقربون والأبعدون، كان هو أكثر من وقف وتضامن وناصر اليمن.”
واعتبر شهادة المجاهد الكبير السيد حسن نصرالله مصاب الأمة جمعاء لما له من دور عظيم ورمزية إسلامية وتأثير عالمي وإقليمي.
وأضاف :”عزاؤنا الوحيد أن الله اصطفاه في ختام حياته شهيداً إلى جوار النبيين والصديقين ورفاق دربه ممن سبقوه على هذا الدرب، وأنه قد تتلمذ على يديه وفي مدرسته المئات والآلاف من المجاهدين والأبطال والقادة الذين سيكملون دربه ومسيرته على أكمل وجه حتى يتحقق على أيديهم ونحن معهم وكل مجاهدي العالم، إن شاء الله، الوعد الإلهي الذي لطالما وعدنا وبشّرنا به سماحته رضوان الله عليه في طرد الكيان المؤقت والصلاة في المسجد الأقصى”.
وعبر فخامة الرئيس عن عظيم العزاء لأهل ومحبي ومريدي سماحة شهيد الإسلام في لبنان والوطن العربي والعالم، مجدداً العهد على المضي على نهجه، والبقاء على عهده حتى يجمعنا الله به في مقعد صدق عند مليك مقتدر”.

مقالات مشابهة

  • رمضان..مبادرة “الحوت بثمن معقول” توفر 4000 طن من الأسماك بأسعار تفضيلية في 1000 نقطة بيع عبر المملكة
  • الرئيس الصيني: بكين ترحب بالجهود التي تبذلها روسيا لتسوية الصراع في أوكرانيا
  • الرئيس المشاط: السيد حسن نصر الله هزم كيان العدو ودمّر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر
  • نصرالله .. القائد الذي نصر اليمن عندما خذله العالم
  • هل الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه كلب أو صورة؟.. أمين الفتوى يجيب
  • المليشيا الإرهابية تركب التونسية!
  • السفير الياباني: العلاقات بين عُمان واليابان ترتكز على الاحترام المتبادل والثقة بين الجانبين
  • سرّ جديد عن اغتيال نصرالله.. من الذي خطط لذلك؟
  • محمد علي حسن: الدبلوماسية المصرية غيرت وجهة نظر دول كثيرة تجاه القضية الفلسطينية
  • السفير الياباني: تعزيز العلاقات الثنائية من أجل مستقبل أفضل لشعب ليبيا