الرؤى الوطنية والتحول المفاهيمي والسلوكي
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
تشكل الرؤى الوطنية (طويلة الأمد) على الأقل - على مستوى دول الخليج العربي - إطارًا أساسيًا للتحول المفاهيمي والسلوكي؛ ذلك أنها تنشد إيجاد تحول في المفاهيم والسلوكيات المرتبطة بثلاثة أبعاد أساسية:
* المشاركة الاقتصادية؛ وتتجسد في القضايا المتصلة بالعمل والوظيفة وريادة الأعمال، والقوة الشرائية، ومضاعفة تسخير القوة الديموغرافية لدعم العمليات الاقتصادية، عوضًا.
* والبعد الثاني يتمثل في أنماط المشاركة العمومية: متمثلة في إدماج أكبر للنساء والشباب في الدورة الإنتاجية والقوة الاقتصادية، وفي التمثيل المؤسسي، وفي تخطيط التنمية والمستقبل، وتفعيل أدوار القطاع الثالث.
* أما البعد الثالث فهو يتمثل في التنمية المرتكزة على جودة الحياة، وعلى تنافسية جودة الحياة؛ من خلال التركيز على ترقية النظم الصحية، وتوفير الظروف الملائمة من أنماط السكن ونظم الحماية المجتمعية، والمنشآت الرياضية، والتخضير، الذي يضمن انتهاج الأفراد في هذه المجتمعات لأنماط سلوكية تدفع باتجاه جودة الحياة.
وبالنظر إلى كل رؤية وطنية في ذاتها؛ يستطيع الفاحص الخروج بإطار متكامل من المفاهيم والسلوكيات المراد إما: استبدالها أو تحييدها أو غرسها في كل سياق مجتمعي. وهذا التحديد في تقديرنا مهم جدًا أن يكون متوافقًا عليه؛ ذلك أن بنية التغيير في هذه المجتمعات شديدة التعقيد؛ لتضامنيتها على مستوى البنى الاجتماعية، ولامتداد تنوعها الثقافي الذي ترتكز عليه. إذن هناك ثلاثة محددات تحكم عملية الانتقال المفاهيمي والسلوكي في هذه المجتمعات - حسب تقديرنا - وهي: سردية القيادة السياسية، والتركيز على معرفة المؤسسة الاجتماعية الأكثر تأثيرًا بخطابها على التحول السلوكي والمفاهيمي في المجتمع، بالإضافة إلى توافر الحافز الملموس نحو هذا التحول، الذي يمكن أن يلمسه الأفراد في معيشتهم، مع عدم التعويل على خطاب التوعية والإرشاد في ذاته.
إذا ما أسقطنا المقدمة السابقة على إطار الرؤية الوطنية (عُمان 2040)، فهي في مضامينها تشكل إطارًا للتغير المفاهيمي والسلوكي؛ فهناك إلحاحات تؤكدها الرؤية بالانتقال إلى مبدأ «الصحة مسؤولية الجميع»، وتغير المفاهيم والقناعات المتصلة بالاتجاه نحو «التعليم المهني والتقني»، وصولًا لحالة «المجتمع الممكن من نقد المعرفة وتقييمها»، إلى دفع التغيير في مفاهيم «ريادة الأعمال» و«العمل الحر» وغيرها من الأنماط المرتبطة بالمفاهيم والسلوكيات في أولويات الرؤية تسترعي ليس فقط مجرد النظر الاستراتيجي في آليات تحققها وبرامجها وآليات تمويل أنشطة مبادراتها؛ وإنما النظر إلى آليات تغيير السلوك المتصلة بها عبر منهجيات تحدد حصرًا بالسلوكيات الأساسية المؤثرة، وتحديد السلوكيات الأعلى تأثيرًا، ووضع التدخلات السلوكية الملائمة لتغييرها، والبداية في آليات التهيئة السلوكية، وقياس أثر تلك التدخلات السلوكية لاحقًا. وهذا يرتبط بسؤال: من ينسق عملية التغيير والتهيئة والتدخلات السلوكية اليوم؟ في تقديرنا فإن نجاح منظومات التهيئة والتغيير السلوكي على المستوى الوطني يرتهن بثلاثة شروط أساسية: أولها المركزية؛ بحيث تتصل هذه المنظومة بوحدات اتخاذ القرار الأكثر تأثيرًا على المستوى الاستراتيجي؛ وذلك لضمان الحصول على قناعة صناع السياسات العامة بجدوى وتأثير الرؤى السلوكية. أما الشرط الثاني: فهو وجود حقل ثري ومتجدد من التجارب السلوكية، من الممكن أن تقوده المؤسسات الأكاديمية، أو وحدات البحث ذات العلاقة المباشرة بقطاعات نوعية مثل «التعليم والصحة وحماية المستهلك والبيئة»، أو الباحثين المستقلين، أو في أفضل الأحوال وجود مختبرات مهيأة لإجراء التجارب السلوكية كما هو الحال في بعض الممارسات الدولية المتقدمة. أما الشرط الثالث فيتصل بالتحدي من ناحية الكلفة والعائد. ونقصد هنا كلفة تمكين هذه الوحدات في مقابل قياس العائد من إيجادها، وهو ما يعني ضرورة وضعها أمام التحدي بأن يكون العائد من تأسيسها وتمكينها مكافئًا على أقل تقدير لما هيئ لها من إمكانات مالية وترتيبات لوجستية.
تقود التدخلات السلوكية اليوم تحولًا نوعيًا داعمًا للأولويات الوطنية؛ فعلى سبيل المثال تشكل مبادرات «إعادة التدوير من المنبع»، أساسًا مهمًا لدعم ثقافة واقتصاديات التدوير، حيث تقوم الفكرة على جعل المنازل تصنف النفايات داخل أوعية مخصصة قبل نقلها عن طريق مشغل إدارة النفايات، كأن تكون هناك أوعية فقط لوضع مخلفات البلاستيك، وأوعية لمخلفات الطعام، والكرتون، ثم يحدد مشغل إدارة النفايات يومًا معينًا لجمع كل نوع من المنازل مباشرة في كل حي، بحيث لا يتم جمع كل الأصناف أو قبول نقلها إلا حسب الصنف المحدد لذلك اليوم. وهو ما يدرب السكان على الالتزام المباشر والطوعي بمبادئ التدوير، ويقلص الآجال الزمنية التي يستغرقها الفصل والتصنيف في المصانع أو وحدات إدارة النفايات. وفي شق الثقافة المالية طبقت بعض الدول تجارب طوعية لتشجيع عمليات الادخار؛ من خلال توفير خيارات متعددة لادخار المبالغ المتبقية بعد المحاسبة في المحلات، كأن يتاح لك تجميع المبلغ من خلال المحل نفسه والحصول على عروض وخصومات لاحقة، أو توفير المبلغ في حساب ادخار خاص بك مباشرة من خلال المحل، أو ادخار المبلغ من خلال منصة المحاسبة لاستخدامه في عمليات شراء لاحقة. وشجعت هذه التجارب شرائح واسعة من السكان للانتقال إلى ثقافة الادخار بشكل ملحوظ من خلال التجارب التي تم تطبيقها. وعلى مستوى تعزيز أنماط التغذية الصحية والحد من السمنة تشكل اللوائح التي تلزم المطاعم بإبراز السعرات الحرارية للأطعمة من خلال قوائم الطعام بشكل بارز وملفت لمرتادي المطاعم دورًا مهمًا في ضبط النظم الغذائية الصحية، وقد طبقتها بعض دول الخليج بشكل جزئي لقياس هذا التأثير مما أسفر عن وجود نتائج واضحة على سلوكيات مرتادي هذه المطاعم ونوعية خياراتهم.
ميزة التدخلات السلوكية (الرؤى السلوكية) أنها غير مكلفة وفي المقابل فإن أثرها الاقتصادي والاجتماعي يعتبر عاليًا مقارنة بتدخلات السياسة العامة التقليدية، ولكن يبقى التحدي الأساسي التي تواجهه هذه الوحدات في مختلف أقطار العالم هو قناعة صناع السياسة العامة بأدوارها وضرورة تمكينها وهواجس الخصوصية الثقافية في تطبيق تدخلاتها. إلا أنه في نظرنا فإن الرؤى الوطنية في دول الخليج تشكل فرصة سانحة لتعزيز هذه الوحدات واختبارها ووضع الرهان عليها، كون أن هذه الرؤى شكلت أطرًا عامًا للمفاهيم والسلوكيات والعادات والقناعات المرغوبة خلال المدى الزمني الذي تتحرك فيه هذه الرؤى لتحقيق مستهدفاتها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
ماذا نعرف عن قنابل إم.كي 84 الأمريكية التي تسلّمها الاحتلال الإسرائيلي؟
كشفت وزارة حرب الاحتلال الإسرائيلي، الأحد، عن وصول شحنة قنابل "MK-84" من الولايات المتحدة؛ وهي التي قرّر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إرسالها، عقب تعليقها خلال العام الماضي من طرف إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن.
وتابعت الوزارة، عبر بيان، أن: "الشحنة وصلت الليلة الماضية، خلال عملية نقل مشتركة قادتها بعثة المشتريات التابعة للوزارة في الولايات المتحدة، بالتعاون مع شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي ووحدة الشحن الدولي".
وأوضحت بأن: السفينة التي تحمل تلك القنابل قد وصلت إلى ميناء أشدود، وتم تفريغ حمولتها على عشرات الشاحنات التابعة لوحدات النقل في جيش الاحتلال الإسرائيلي، فيما تم نقلها إلى قواعد سلاح الجو.
وفي السياق نفسه، وصف وزير الحرب، يسرائيل كاتس، ذلك بـ"الإضافة الاستراتيجية المهمة لسلاح الجو والجيش الإسرائيلي"، فيما شكر ترامب وإدارته على ما وصفه بـ"وقوفهم الحازم في صف إسرائيل"، وفق تعبيره.
وعبر بيان آخر لوزارة الحرب، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي تسلّمت حتى الآن "أكثر من 76 ألف طن من المعدات العسكرية، نُقلت عبر 678 رحلة جوية و129 عملية شحن بحري"، وهو ما وصفه البيان بأنه: "أكبر جسر جوي وبحري عسكري في تاريخ إسرائيل".
وبحسب عدد من التقارير الإعلامية المُتفرّقة، فإن: "هذه الكميّة تُعادل ما يناهز خمس قنابل نووية، مثل التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين".
إظهار أخبار متعلقة
ما الذي نعرفه عن هذه القنابل؟
تُعد قنابل MK-84، المعروفة كذلك باسم بـBLU-117، من أبرز القنابل غير الموجّهة في الترسانة العسكرية الأمريكية. حيث تزن القنبلة الواحدة منها حوالي 907 كيلوغرامات، وتُعد كذلك: الأكبر ضمن سلسلة قنابل Mark 80.
وكان الجيش الأمريكي قد بدأ في استعمال هذه القنابل خلال حرب فيتنام، لتصبح منذ ذلك الحين واحدة من العناصر الأساس في العمليات الجوية الأمريكية.
أيضا، تتميز MK-84 بهيكل يوصف بـ"الانسيابي"، وهو مصنوع من الفولاذ، ومُعبأة بحوالي 429 كيلوغراما من المتفجرات عالية القوة.
وعند إسقاطها، يمكن للقنبلة إحداث حفرة بقطر يصل إلى 15 مترا، وعمق يصل إلى 11 مترا. كما تستطيع اختراق ما يصل إلى ما يُناهز 38 سنتيمترا من المعدن أو حوالي 3.35 أمتار من الخرسانة المسلحة، وهو ما يجعلها كذلك فعّالة ضد الأهداف المحصنة كافة.
إظهار أخبار متعلقة
وتجدر الإشارة إلى أنه مع تطور التقنيات العسكرية، قد تم تزويد العديد من قنابل MK-84 بأنظمة توجيه دقيقة، ما جعلها تتحوّل إلى ذخائر موجّهة مثل GBU-10 Paveway II وGBU-31 JDAM.
وكانت الولايات المتحدة قد علقت في أيار/ مايو الماضي شحنة قنابل زنة 2000 رطل و500 رطل، إثر ما قالت آنذاك؛ إنه القلق من التأثير الذي يمكن أن تحدثه في غزة، خلال الحرب التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزة؛ قبل أن تستأنف شحن قنابل زنة 500 رطل نحو الاحتلال الإسرائيلي في تموز/ يوليو الماضي.