لجريدة عمان:
2025-04-22@16:03:44 GMT

التجربة التاريخية وبناء الأمم

تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT

لقد عُنيت الأمم بتاريخها القومي والوطني منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، سواءً في برامج التعليم بمختلف مستوياته، أو في مجالات المعارف الإنسانية بمختلف تخصصاتها، وكانت الدول الأوروبية أسبق في ذلك، منذ بدايات تكوين الدول القومية الحديثة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حينما كان التاريخ القومي بمثابة أحد أركان البنية الثقافية والمعرفية، سواء في المدارس والجامعات أو خارجهما.

فلم تكن العناية بالمعارف التاريخية ترفًا ثقافيًا، وإنما كانت أحد الوسائل المهمة لبعث ثقافة المواطنة، بما في ذلك الاعتزاز والفخار بما قدمه الآباء والأجداد تقديرًا لأوطان تستحق أن يترسخ تاريخها بين الأمم والشعوب الأخرى، هكذا فعلت الأمة الألمانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية ..إلخ.

التاريخ يقدم خبرة معرفية وإنسانية تُعين المواطن أيان كان عمله على تاريخ وطنه، ومكمن الخطر والصواب فيما لحق به من تجارب، وتساعده على أن يتسلح بخبرات تاريخية هائلة تمكنه من اختيار قراراته بطريقة صائبة، فضلًا عما تقدمه التجارب التاريخية من عبر ودروس لصانعي القرار، ويُلاحظ إن العناية بالتاريخ في عالمنا العربي قد تراجعت بشكل ملحوظ، سواء في المدارس أو الجامعات، أو في مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية، وأصبحت تنطبق عليه المقولة الشهيرة (العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر)!

في كثير من الحالات اقتصرت المناهج التاريخية في عالمنا العربي على العناية بالتاريخ القُطّري بمعناه الضيق، وغاب الاهتمام بالتاريخ القومي العربي، وخصوصًا في شقه الثقافي والاجتماعي، مع أن في تاريخنا القومي ما يستحق الاهتمام والفخار، فكل الأعمال العربية الكبيرة تحققت في إطار العمل العربي المشترك، فأعمال الشعراء ومؤرخو الأدب والفكر وكل إنجازات البنائين الكبار في مختلف القضايا الثقافية والفكرية قد قرأها العرب في مختلف أوطانهم، ووحدت اللغة العربية شعورهم نحو الانتماء لمنجزات هذه اللغة أيان كان اسم كاتبها أو القطر الذي ينتمي إليه، وكل الهزائم والانكسارات التي ألمت بعالمنا العربي قد وقعت حينما تباعد العرب وانكفأ كل قطر على ذاته، وخصوصًا في تاريخنا المعاصر، حينما ألمت بنا الهزائم من كل صوب، ولم تتمكن أمتنا من اتخاذ سياسات موحدة وإجراءات عملية.

المناهج الدراسية التي تتناول تاريخ القضية الفلسطينية على سبيل المثال، أوشكت على أن تتخلص من تعريف الأبناء بهذه المأساة التاريخية، وإذا تم تناولها في بعض المناهج الدراسية فلا يُعنى بأسباب الهزيمة على المستويين السياسي والعسكري، ولم تقدم رؤية للمستقبل في سبيل استعادة الحقوق العربية، بينما الدرس المستفاد من القضية برمتها أن العرب لم ينسقوا فيما بينهم، ولم يتعاونوا بما يتناسب وأهمية القضية، وبينما العالم يمضي نحو مزيد من التعاون والشراكة والتنسيق، من خلال تجمعات سياسية واقتصادية وأمنية تستهدف بناء الأوطان وإسعاد البشر، والارتقاء بمستواهم الاجتماعي والثقافي، إلا أن العرب لم يستوعبوا الدرس بعد، ويعد ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي نموذجًا عمليًا.

لقد ارتضى حكامنا العرب أن يضاعفوا من قطريتهم، والانكفاء على ذواتهم، بينما كانت أمامهم فرص تاريخية على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويبدو أن الشعوب العربية كانت حالمة أكثر بمستقبل أفضل، حينما تأسست الجامعة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والتي كانت أسبق كثيرًا من أي تجمعات أوروبية، وكانت هناك مشروعات اقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية، كان بالإمكان أن تحيل العرب إلى أمة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم، لكننا استبدلنا مصالحنا الحقيقية بأحلام لم تتحقق، فلا توجد أمة في العالم المعاصر خلّفت وراءها كل هذا التاريخ المشترك، وأدارت ظهرها إليه بقدر ما فعل العرب.

لا توجد أمة قد امتلكت كل المقومات الحقيقية لعمل نهضة عظيمة بقدر ما أُتيح للعرب من مقومات طبيعية وموارد مالية أفاء الله بها عليهم، وموقع جغرافي يتوسط العالم، وقوى بشرية كانت في حاجة إلى استثمارها، وثقافة عظيمة كان قوامها اللغة العربية، ورغم ذلك فقد اكتفينا بمشروعاتنا الضيقة ورؤيتنا القُطرية وسط عالم يمضي نحو الاندماج والتعاون، الذي يستهدف إعمار الأرض وشيوع المعارف لإسعاد الإنسان، لقد أسقطنا من حساباتنا تاريخًا حافلًا وثقافة عظيمة ومصالح مشتركة، واستبدلنا كل ذلك بسياسات أبعدتنا كثيرا عن تحقيق أهدافنا المشتركة.

المتابع للمشهد العربي يلحظ سباقًا هائلًا للتخلص من التاريخ المشترك، وكأنه حمل ثقيل، نود أن نلقيه وراء ظهورنا، وتعقدت علاقاتنا بعد أن حكمتها حسابات وصراعات شخصية، انعكست على مصالحنا القومية، لدرجة أننا لم نستطع ولو لمرة واحدة أن ندير واحدة من أزماتنا، بل رحنا نكيد لبعضنا، وأحلنا الجامعة العربية - بعد أن كانت أملنا الوحيد - إلى ساحة من الصراعات والتنافسات والعنتريات، التي أوشكت على ضياع الجامعة العربية، وتبديد كل آمالنا في التعاون والخاسر في كل الحالات هي الشعوب العربية، التي لا حول لها ولا قوة، ولم يبق بين العرب إلا لغة مشتركة مهددة بالانقراض، ربما مع نهايات القرن الحادي والعشرين، في ظل زحام وصخب هائلين، وسباقٍ على العناية باللغات الأجنبية في مدارسنا وجامعاتنا على حساب لغتنا العربية.

تمتلك أمتنا العربية رصيدًا ضخمًا من الخبرات الثقافية والاجتماعية والفكرية، ورغم ذلك فقد صرنا في مؤخرة الأمم في كل مناحي الحياة، وضاعف من مآسينا المصير الذي آلت إليه بعض أقطارنا العربية، من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، وهي هزائم كارثية دفعت الشعوب ثمنها، ولم نستطع أن نجري حوارًا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو من خلال الجامعة العربية التي فشلت في إدارة كل أزماتنا وكوارثنا، ولم يبق منها إلا مجرد بناية على نيل القاهرة، بعد أن ذهبنا في حل مشاكلنا إلى القوى الأوروبية والأمريكية، التي أربكت حياتنا وتسببت في المزيد من هزائمنا، وكانت مواقفها دائما ضد المصالح العربية، وضد الأهداف التي أنشئت الجامعة العربية من أجلها، وأعتقد أن ما ألمّ بنا من كوارث، كانت القوى الغربية دائما من ورائها، وكانت سببًا رئيسا لإرباك علاقتنا العربية العربية، ورغم ذلك فما زلنا نعلق آمالنا على القوى نفسها التي أفسدت حياتنا.

لعلنا في أمس الحاجة للتخلص من كل هذه السياسات الخاطئة، ونسترجع تاريخنا الحقيقي، من خلال سياسات جديدة تستعيد ذواتنا الثقافية وعروبة أوطاننا، لكي نرى المستقبل ونحن واثقون من الوقوف على أرض صلبة، لكي ننمي مجتمعاتنا ونحشد مواردنا نحو واقع يستهدف الإنسان العربي في كل مكان، رغبة في الانتماء شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية القادرة على الانطلاق نحو المستقبل، لعلنا نستطيع أن نستعيد ما فقدناه.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجامعة العربیة

إقرأ أيضاً:

هيئة الاستثمار تستعرض التجربة المصرية في تسوية المنازعات بمؤتمر دولي بالرباط

شاركت الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة في فعاليات المناظرة الوطنية حول تدبير منازعات الدولة والوقاية منها، التي نُظمت بالعاصمة المغربية، الرباط، بمشاركة إقليمية ودولية واسعة.

وقامت الدكتورة إيمان منصور، مديرة مركز تسوية منازعات الاستثمار بمصر، بعرض التجربة المصرية لتسوية منازعات الاستثمار، حيث يتم الاعتماد على آليات التفاوض المباشر والحلول الودية في تسوية المنازعات، بهدف تعزيز ثقة المستثمرين واستمرارية تدفق الاستثمارات، في ظل بيئة تشريعية واقتصادية متطورة وداعمة للاستثمار.

شهدت جلسات المؤتمر حضور عزيز أخنوش، رئيس الحكومة المغربية، و نادية فتاح العلوي، وزيرة الاقتصاد والمالية بالمغرب، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات الدولية البارزة، من بينها كليمنس أولسينا، مديرة الشؤون القانونية والوكيل القضائي للدولة بفرنسا، وخيسوس مورينو فيفاس، المدير العام للمنازعات بمكتب المحامي العام للدولة بإسبانيا، وأمادو مباي جيسي، الوكيل القضائي للدولة بالسنغال، والمستشار عبدالرزاق شعيب، رئيس هيئة قضايا الدولة بمصر.

هيئة الاستثمار تطلق وحدة "Saudi Desk" لتسهيل أعمال المستثمرين السعوديينرئيس هيئة الاستثمار: التحول الرقمي أداة حاسمة لإصلاح بيئة الأعمال في مصر

مجال الوساطة

وتناولت الجلسات موضوعات استراتيجية مثل الحوكمة، والتحكيم، والرقمنة، والاستراتيجيات الوقائية لإدارة المنازعات، وأشاد عدد من الحضور بالتجربة المصرية في مجال الوساطة، والتي نجحت في إنهاء مئات المنازعات بأقل تكلفة مُمكنة.

وقالت لورا فضل الله، عضو فريق التحكيم الدولي للاستشارات، إن مصر عملت على تحديث تشريعاتها وتعزيز مؤسساتها الخاصة بتسوية المنازعات، مما أسهم في تحسين مناخ الاستثمار وزيادة جاذبيته.

من جانبه أكد السفير أحمد نهاد عبد اللطيف، سفير مصر في المغرب، أثناء استضافته للوفد المصري المشارك في فعاليات المناظرة الوطنية، حرص وزارة الخارجية على دعم جهود التعاون القانوني والاستثماري بين البلدين الشقيقين.

مقالات مشابهة

  • وزير الاقتصاد والصناعة يصدر قراراً بتشكيل ثلاث إدارات عامة ضمن الوزارة بدل الوزارات التي كانت قائمة قبل الدمج
  • ما أبرز الرسوم الجمركية التي فرضتها أميركا عبر التاريخ؟‎
  • السور العربي الواقي!
  • نموذج ملهم من قلب الفيوم.. قيادات الذكاء الاصطناعي يشيدون بتجربة “توصيلتي”
  • هيئة الاستثمار تستعرض التجربة المصرية في تسوية المنازعات بمؤتمر دولي بالرباط
  • موسكو تطلق أول خريطة تفاعلية باللغة العربية لتسهيل تجربة السياح العرب
  • البرلمان العربي يعوّل على قدرة العراق في توفير كل السبل لإنجاح أعمال القمة العربية القادمة
  • العربية لحقوق الإنسان تتقدم بالتعازي للكاثوليك العرب وحول العالم في وفاة البابا فرانسيس
  • 22 مليار دولار قيمة الصادرات العربية التي تهددها رسوم ترامب وهذه هي الدول المتضررة
  • الأمين العام للأمم المتحدة يؤكد على حضوره القمة العربية في بغداد