لجريدة عمان:
2025-01-01@01:11:06 GMT

التجربة التاريخية وبناء الأمم

تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT

لقد عُنيت الأمم بتاريخها القومي والوطني منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، سواءً في برامج التعليم بمختلف مستوياته، أو في مجالات المعارف الإنسانية بمختلف تخصصاتها، وكانت الدول الأوروبية أسبق في ذلك، منذ بدايات تكوين الدول القومية الحديثة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حينما كان التاريخ القومي بمثابة أحد أركان البنية الثقافية والمعرفية، سواء في المدارس والجامعات أو خارجهما.

فلم تكن العناية بالمعارف التاريخية ترفًا ثقافيًا، وإنما كانت أحد الوسائل المهمة لبعث ثقافة المواطنة، بما في ذلك الاعتزاز والفخار بما قدمه الآباء والأجداد تقديرًا لأوطان تستحق أن يترسخ تاريخها بين الأمم والشعوب الأخرى، هكذا فعلت الأمة الألمانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية ..إلخ.

التاريخ يقدم خبرة معرفية وإنسانية تُعين المواطن أيان كان عمله على تاريخ وطنه، ومكمن الخطر والصواب فيما لحق به من تجارب، وتساعده على أن يتسلح بخبرات تاريخية هائلة تمكنه من اختيار قراراته بطريقة صائبة، فضلًا عما تقدمه التجارب التاريخية من عبر ودروس لصانعي القرار، ويُلاحظ إن العناية بالتاريخ في عالمنا العربي قد تراجعت بشكل ملحوظ، سواء في المدارس أو الجامعات، أو في مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية، وأصبحت تنطبق عليه المقولة الشهيرة (العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر)!

في كثير من الحالات اقتصرت المناهج التاريخية في عالمنا العربي على العناية بالتاريخ القُطّري بمعناه الضيق، وغاب الاهتمام بالتاريخ القومي العربي، وخصوصًا في شقه الثقافي والاجتماعي، مع أن في تاريخنا القومي ما يستحق الاهتمام والفخار، فكل الأعمال العربية الكبيرة تحققت في إطار العمل العربي المشترك، فأعمال الشعراء ومؤرخو الأدب والفكر وكل إنجازات البنائين الكبار في مختلف القضايا الثقافية والفكرية قد قرأها العرب في مختلف أوطانهم، ووحدت اللغة العربية شعورهم نحو الانتماء لمنجزات هذه اللغة أيان كان اسم كاتبها أو القطر الذي ينتمي إليه، وكل الهزائم والانكسارات التي ألمت بعالمنا العربي قد وقعت حينما تباعد العرب وانكفأ كل قطر على ذاته، وخصوصًا في تاريخنا المعاصر، حينما ألمت بنا الهزائم من كل صوب، ولم تتمكن أمتنا من اتخاذ سياسات موحدة وإجراءات عملية.

المناهج الدراسية التي تتناول تاريخ القضية الفلسطينية على سبيل المثال، أوشكت على أن تتخلص من تعريف الأبناء بهذه المأساة التاريخية، وإذا تم تناولها في بعض المناهج الدراسية فلا يُعنى بأسباب الهزيمة على المستويين السياسي والعسكري، ولم تقدم رؤية للمستقبل في سبيل استعادة الحقوق العربية، بينما الدرس المستفاد من القضية برمتها أن العرب لم ينسقوا فيما بينهم، ولم يتعاونوا بما يتناسب وأهمية القضية، وبينما العالم يمضي نحو مزيد من التعاون والشراكة والتنسيق، من خلال تجمعات سياسية واقتصادية وأمنية تستهدف بناء الأوطان وإسعاد البشر، والارتقاء بمستواهم الاجتماعي والثقافي، إلا أن العرب لم يستوعبوا الدرس بعد، ويعد ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي نموذجًا عمليًا.

لقد ارتضى حكامنا العرب أن يضاعفوا من قطريتهم، والانكفاء على ذواتهم، بينما كانت أمامهم فرص تاريخية على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويبدو أن الشعوب العربية كانت حالمة أكثر بمستقبل أفضل، حينما تأسست الجامعة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والتي كانت أسبق كثيرًا من أي تجمعات أوروبية، وكانت هناك مشروعات اقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية، كان بالإمكان أن تحيل العرب إلى أمة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم، لكننا استبدلنا مصالحنا الحقيقية بأحلام لم تتحقق، فلا توجد أمة في العالم المعاصر خلّفت وراءها كل هذا التاريخ المشترك، وأدارت ظهرها إليه بقدر ما فعل العرب.

لا توجد أمة قد امتلكت كل المقومات الحقيقية لعمل نهضة عظيمة بقدر ما أُتيح للعرب من مقومات طبيعية وموارد مالية أفاء الله بها عليهم، وموقع جغرافي يتوسط العالم، وقوى بشرية كانت في حاجة إلى استثمارها، وثقافة عظيمة كان قوامها اللغة العربية، ورغم ذلك فقد اكتفينا بمشروعاتنا الضيقة ورؤيتنا القُطرية وسط عالم يمضي نحو الاندماج والتعاون، الذي يستهدف إعمار الأرض وشيوع المعارف لإسعاد الإنسان، لقد أسقطنا من حساباتنا تاريخًا حافلًا وثقافة عظيمة ومصالح مشتركة، واستبدلنا كل ذلك بسياسات أبعدتنا كثيرا عن تحقيق أهدافنا المشتركة.

المتابع للمشهد العربي يلحظ سباقًا هائلًا للتخلص من التاريخ المشترك، وكأنه حمل ثقيل، نود أن نلقيه وراء ظهورنا، وتعقدت علاقاتنا بعد أن حكمتها حسابات وصراعات شخصية، انعكست على مصالحنا القومية، لدرجة أننا لم نستطع ولو لمرة واحدة أن ندير واحدة من أزماتنا، بل رحنا نكيد لبعضنا، وأحلنا الجامعة العربية - بعد أن كانت أملنا الوحيد - إلى ساحة من الصراعات والتنافسات والعنتريات، التي أوشكت على ضياع الجامعة العربية، وتبديد كل آمالنا في التعاون والخاسر في كل الحالات هي الشعوب العربية، التي لا حول لها ولا قوة، ولم يبق بين العرب إلا لغة مشتركة مهددة بالانقراض، ربما مع نهايات القرن الحادي والعشرين، في ظل زحام وصخب هائلين، وسباقٍ على العناية باللغات الأجنبية في مدارسنا وجامعاتنا على حساب لغتنا العربية.

تمتلك أمتنا العربية رصيدًا ضخمًا من الخبرات الثقافية والاجتماعية والفكرية، ورغم ذلك فقد صرنا في مؤخرة الأمم في كل مناحي الحياة، وضاعف من مآسينا المصير الذي آلت إليه بعض أقطارنا العربية، من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، وهي هزائم كارثية دفعت الشعوب ثمنها، ولم نستطع أن نجري حوارًا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو من خلال الجامعة العربية التي فشلت في إدارة كل أزماتنا وكوارثنا، ولم يبق منها إلا مجرد بناية على نيل القاهرة، بعد أن ذهبنا في حل مشاكلنا إلى القوى الأوروبية والأمريكية، التي أربكت حياتنا وتسببت في المزيد من هزائمنا، وكانت مواقفها دائما ضد المصالح العربية، وضد الأهداف التي أنشئت الجامعة العربية من أجلها، وأعتقد أن ما ألمّ بنا من كوارث، كانت القوى الغربية دائما من ورائها، وكانت سببًا رئيسا لإرباك علاقتنا العربية العربية، ورغم ذلك فما زلنا نعلق آمالنا على القوى نفسها التي أفسدت حياتنا.

لعلنا في أمس الحاجة للتخلص من كل هذه السياسات الخاطئة، ونسترجع تاريخنا الحقيقي، من خلال سياسات جديدة تستعيد ذواتنا الثقافية وعروبة أوطاننا، لكي نرى المستقبل ونحن واثقون من الوقوف على أرض صلبة، لكي ننمي مجتمعاتنا ونحشد مواردنا نحو واقع يستهدف الإنسان العربي في كل مكان، رغبة في الانتماء شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية القادرة على الانطلاق نحو المستقبل، لعلنا نستطيع أن نستعيد ما فقدناه.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجامعة العربیة

إقرأ أيضاً:

الخارجية الليبية تعقد اجتماعها السنوي: تعزيز الدبلوماسية وبناء الكفاءات

الوطن | متابعات

ترأس وزير الخارجية والتعاون الدولي بالحكومة الليبية، الدكتور “عبد الهادي الحويج” الاجتماع السنوي للوزارة للعام 2024، والذي انعقد بمقر الوزارة في مدينة بنغازي. حضر الاجتماع مديري الإدارات والمكاتب والأقسام وموظفو الوزارة، وسط أجواء مفعمة بالالتزام والتطلع لتحقيق أهداف الوزارة تحت شعار “نعمل لنكون”.

في كلمته، هنأ “الحويج” موظفي الوزارة بمناسبة انعقاد الاجتماع السنوي، داعيًا الجميع إلى مواصلة العمل الجاد لدعم خطط الوزارة ومبادراتها الرامية إلى تعزيز السيادة الوطنية واستقلال القرار الليبي، ومواجهة التحديات الدولية.

كما شدد على أهمية التكيف مع التغيرات الإقليمية والدولية، والعمل على تعزيز العلاقات مع الدول الأخرى ضمن مبدأ الاحترام المتبادل وسياسة “صفر مشاكل” مع دول الجوار، وتناول الوزير موقف الوزارة الثابت تجاه دعم وحدة السودان ووقف النزاعات فيه من خلال الحوار، مشيدًا بالدور الإنساني للحكومة الليبية والقوات المسلحة في التعامل مع أزمة النازحين السودانيين، الذين بلغ عددهم أكثر من 200 ألف شخص.

وعلى الصعيد القنصلي، أعلن الحويج عن افتتاح مكاتب شؤون قنصلية جديدة في طبرق، غات، والقبة، بالإضافة إلى إعادة تفعيل مكاتب سرت والكفرة، مع خطة لافتتاح مكتب في سبها قريبًا، كما أكد حرص الوزارة على تطوير الكوادر البشرية من خلال توطين معهد الدراسات الدبلوماسية في بنغازي واستقبال دفعات جديدة من المتدربين.

وفي إطار تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية، كشف معاليه عن خطة لتفعيل 481 اتفاقية دولية بالتعاون مع الوزارات الأخرى، وتنظيم المؤتمر الأول للمغتربين الليبيين في بداية 2025 لتعزيز ارتباطهم بوطنهم

الوسوم#الحويج الحكومة الليبية الخارجية الليبية ليبيا

مقالات مشابهة

  • طريقة تحضير مسحوق البروتين في المنزل لخسارة الوزن وبناء العضلات
  • تخاذلُ العرب.. بين مواقف الشرف وأبواب التاريخ
  • رئيس الوزراء: القيادة السياسية كانت تصر على تطوير القاهرة التاريخية
  • حسين الشيخ: فتح كانت وستبقى التي وحدت شعبنا حول الهوية والهدف
  • طالبان: سنغلق جميع المنظمات غير الحكومية التي توظف النساء
  • إيلام الفيلية.. رحلة إلى قلعة بهرام تشوبين التاريخية (صور+ فيديو)
  • بذلك تنتهي أوهام آل دقلو وحاضنتهم السياسية التي كانت تراهن على الأرض
  • د. لبيب قمحاوي .. التحديات التي تجابه المنطقة العربية في الحقبة القادمة
  • الخارجية الليبية تعقد اجتماعها السنوي: تعزيز الدبلوماسية وبناء الكفاءات
  • تأهيل متطوعي الصحة المجتمعية في عدن وبناء قدراتهم حول التوعية بحملة التطعيم في اليمن