لجريدة عمان:
2024-07-07@07:45:58 GMT

التجربة التاريخية وبناء الأمم

تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT

لقد عُنيت الأمم بتاريخها القومي والوطني منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، سواءً في برامج التعليم بمختلف مستوياته، أو في مجالات المعارف الإنسانية بمختلف تخصصاتها، وكانت الدول الأوروبية أسبق في ذلك، منذ بدايات تكوين الدول القومية الحديثة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حينما كان التاريخ القومي بمثابة أحد أركان البنية الثقافية والمعرفية، سواء في المدارس والجامعات أو خارجهما.

فلم تكن العناية بالمعارف التاريخية ترفًا ثقافيًا، وإنما كانت أحد الوسائل المهمة لبعث ثقافة المواطنة، بما في ذلك الاعتزاز والفخار بما قدمه الآباء والأجداد تقديرًا لأوطان تستحق أن يترسخ تاريخها بين الأمم والشعوب الأخرى، هكذا فعلت الأمة الألمانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية ..إلخ.

التاريخ يقدم خبرة معرفية وإنسانية تُعين المواطن أيان كان عمله على تاريخ وطنه، ومكمن الخطر والصواب فيما لحق به من تجارب، وتساعده على أن يتسلح بخبرات تاريخية هائلة تمكنه من اختيار قراراته بطريقة صائبة، فضلًا عما تقدمه التجارب التاريخية من عبر ودروس لصانعي القرار، ويُلاحظ إن العناية بالتاريخ في عالمنا العربي قد تراجعت بشكل ملحوظ، سواء في المدارس أو الجامعات، أو في مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية، وأصبحت تنطبق عليه المقولة الشهيرة (العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر)!

في كثير من الحالات اقتصرت المناهج التاريخية في عالمنا العربي على العناية بالتاريخ القُطّري بمعناه الضيق، وغاب الاهتمام بالتاريخ القومي العربي، وخصوصًا في شقه الثقافي والاجتماعي، مع أن في تاريخنا القومي ما يستحق الاهتمام والفخار، فكل الأعمال العربية الكبيرة تحققت في إطار العمل العربي المشترك، فأعمال الشعراء ومؤرخو الأدب والفكر وكل إنجازات البنائين الكبار في مختلف القضايا الثقافية والفكرية قد قرأها العرب في مختلف أوطانهم، ووحدت اللغة العربية شعورهم نحو الانتماء لمنجزات هذه اللغة أيان كان اسم كاتبها أو القطر الذي ينتمي إليه، وكل الهزائم والانكسارات التي ألمت بعالمنا العربي قد وقعت حينما تباعد العرب وانكفأ كل قطر على ذاته، وخصوصًا في تاريخنا المعاصر، حينما ألمت بنا الهزائم من كل صوب، ولم تتمكن أمتنا من اتخاذ سياسات موحدة وإجراءات عملية.

المناهج الدراسية التي تتناول تاريخ القضية الفلسطينية على سبيل المثال، أوشكت على أن تتخلص من تعريف الأبناء بهذه المأساة التاريخية، وإذا تم تناولها في بعض المناهج الدراسية فلا يُعنى بأسباب الهزيمة على المستويين السياسي والعسكري، ولم تقدم رؤية للمستقبل في سبيل استعادة الحقوق العربية، بينما الدرس المستفاد من القضية برمتها أن العرب لم ينسقوا فيما بينهم، ولم يتعاونوا بما يتناسب وأهمية القضية، وبينما العالم يمضي نحو مزيد من التعاون والشراكة والتنسيق، من خلال تجمعات سياسية واقتصادية وأمنية تستهدف بناء الأوطان وإسعاد البشر، والارتقاء بمستواهم الاجتماعي والثقافي، إلا أن العرب لم يستوعبوا الدرس بعد، ويعد ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي نموذجًا عمليًا.

لقد ارتضى حكامنا العرب أن يضاعفوا من قطريتهم، والانكفاء على ذواتهم، بينما كانت أمامهم فرص تاريخية على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويبدو أن الشعوب العربية كانت حالمة أكثر بمستقبل أفضل، حينما تأسست الجامعة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والتي كانت أسبق كثيرًا من أي تجمعات أوروبية، وكانت هناك مشروعات اقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية، كان بالإمكان أن تحيل العرب إلى أمة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم، لكننا استبدلنا مصالحنا الحقيقية بأحلام لم تتحقق، فلا توجد أمة في العالم المعاصر خلّفت وراءها كل هذا التاريخ المشترك، وأدارت ظهرها إليه بقدر ما فعل العرب.

لا توجد أمة قد امتلكت كل المقومات الحقيقية لعمل نهضة عظيمة بقدر ما أُتيح للعرب من مقومات طبيعية وموارد مالية أفاء الله بها عليهم، وموقع جغرافي يتوسط العالم، وقوى بشرية كانت في حاجة إلى استثمارها، وثقافة عظيمة كان قوامها اللغة العربية، ورغم ذلك فقد اكتفينا بمشروعاتنا الضيقة ورؤيتنا القُطرية وسط عالم يمضي نحو الاندماج والتعاون، الذي يستهدف إعمار الأرض وشيوع المعارف لإسعاد الإنسان، لقد أسقطنا من حساباتنا تاريخًا حافلًا وثقافة عظيمة ومصالح مشتركة، واستبدلنا كل ذلك بسياسات أبعدتنا كثيرا عن تحقيق أهدافنا المشتركة.

المتابع للمشهد العربي يلحظ سباقًا هائلًا للتخلص من التاريخ المشترك، وكأنه حمل ثقيل، نود أن نلقيه وراء ظهورنا، وتعقدت علاقاتنا بعد أن حكمتها حسابات وصراعات شخصية، انعكست على مصالحنا القومية، لدرجة أننا لم نستطع ولو لمرة واحدة أن ندير واحدة من أزماتنا، بل رحنا نكيد لبعضنا، وأحلنا الجامعة العربية - بعد أن كانت أملنا الوحيد - إلى ساحة من الصراعات والتنافسات والعنتريات، التي أوشكت على ضياع الجامعة العربية، وتبديد كل آمالنا في التعاون والخاسر في كل الحالات هي الشعوب العربية، التي لا حول لها ولا قوة، ولم يبق بين العرب إلا لغة مشتركة مهددة بالانقراض، ربما مع نهايات القرن الحادي والعشرين، في ظل زحام وصخب هائلين، وسباقٍ على العناية باللغات الأجنبية في مدارسنا وجامعاتنا على حساب لغتنا العربية.

تمتلك أمتنا العربية رصيدًا ضخمًا من الخبرات الثقافية والاجتماعية والفكرية، ورغم ذلك فقد صرنا في مؤخرة الأمم في كل مناحي الحياة، وضاعف من مآسينا المصير الذي آلت إليه بعض أقطارنا العربية، من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، وهي هزائم كارثية دفعت الشعوب ثمنها، ولم نستطع أن نجري حوارًا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو من خلال الجامعة العربية التي فشلت في إدارة كل أزماتنا وكوارثنا، ولم يبق منها إلا مجرد بناية على نيل القاهرة، بعد أن ذهبنا في حل مشاكلنا إلى القوى الأوروبية والأمريكية، التي أربكت حياتنا وتسببت في المزيد من هزائمنا، وكانت مواقفها دائما ضد المصالح العربية، وضد الأهداف التي أنشئت الجامعة العربية من أجلها، وأعتقد أن ما ألمّ بنا من كوارث، كانت القوى الغربية دائما من ورائها، وكانت سببًا رئيسا لإرباك علاقتنا العربية العربية، ورغم ذلك فما زلنا نعلق آمالنا على القوى نفسها التي أفسدت حياتنا.

لعلنا في أمس الحاجة للتخلص من كل هذه السياسات الخاطئة، ونسترجع تاريخنا الحقيقي، من خلال سياسات جديدة تستعيد ذواتنا الثقافية وعروبة أوطاننا، لكي نرى المستقبل ونحن واثقون من الوقوف على أرض صلبة، لكي ننمي مجتمعاتنا ونحشد مواردنا نحو واقع يستهدف الإنسان العربي في كل مكان، رغبة في الانتماء شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية القادرة على الانطلاق نحو المستقبل، لعلنا نستطيع أن نستعيد ما فقدناه.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجامعة العربیة

إقرأ أيضاً:

"حماية المنافسة" يفوز بجائزة البنك الدولي عن مبادرة تشمل نموذج محاكاة لأجهزة عربية أخرى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أعلن كل من البنك الدولي وشبكة المنافسة الدولية عن فوز جهاز حماية المنافسة المصري بجائزة شرفية، في المسابقة التي أجُريت، والخاصة بتعزيز سياسات المنافسة لعام 2024، وذلك عن مبادرة الجهاز بإنشاء "نموذج محاكاة سلطات المنافسة العربية" تحت مظلة شبكة المنافسة العربية؛ والذي انطلق خلال رئاسة مصر للشبكة فى الفترة من 2022 إلى 2024.

وتسلم الجائزة الدكتور/ محمود ممتاز رئيس جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، وذلك على هامش تواجده بمدينة جينيف بسويسرا، للمشاركة في اجتماعات الدورة الثانية والعشرين لفريق الخبراء الحكوميين الدوليين المعني بقوانين وسياسات المنافسة التابع لمنظمة الأونكتاد، والذي يجتمع فيه أبرز الكيانات والكوادر المؤثرة في مجال سياسات وقوانين المنافسة من أجهزة المنافسة النظيرة والمؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية والخبراء المتخصصين.


الجدير بالذكر أن نموذج محاكاة سلطات المنافسة العربية أطلقه جهاز حماية المنافسة المصري أثناء ترأس الدكتور محمود ممتاز لشبكة المنافسة العربية، وعقدت منه دورتين متتاليتين على مدار العامين الماضيين حيث تم فتح باب التقدم أمام الطلاب العرب من مختلف الجامعات بالدول العربية أعضاء الشبكة، وتقدم ما يزيد عن 3000 طالب وطالبة؛ تم اختيار وتدريب ما يقرب من 80 طالب منهم، ومن المقرر أن يستمر عقده بشكل سنوي للطلاب العرب وذلك في إطار العمل على خلق جيل من الكوادر البشرية المُدربة والمؤهلة في مجال حماية المنافسة.

ويستهدف نموذج محاكاة سلطات المنافسة العربية طلاب الجامعات العربية بكليات الحقوق والاقتصاد، وذلك لنشر الوعي بثقافة المنافسة، وإعداد كوادر بشرية مدربة وقاعدة أكاديمية من بين فئة الطلاب والتي يمكن الاعتماد عليها مستقبلًا في سوق العمل وإثراء الحياة الأكاديمية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون والتواصل بين الطلاب العرب في مجال المنافسة في إطار شبكة المنافسة العربية.


وتعد هذه هي الجائزة الرابعة التي يحصل عليها جهاز حماية المنافسة المصري من البنك الدولي وشبكة المنافسة الدولية، خلال السنوات الأربع الماضية، ففي عام 2021 حصل الجهاز على جائزة شرفية عن قراراته التي اتخذها حول دعم سياسات المنافسة في ظل أزمة فيروس كورونا والحد من عمليات استغلال المستهلكين في القطاع الطبي، وفي عام 2022 حصل على جائزة شرفية ثانية عن مجموعة الإجراءات والمبادرات التي اتخذها الجهاز لدعم سياسات المنافسة ومواجهة الممارسات الاحتكارية في أوقات الأزمات والتي كان موضوعها "التجارب الناجحة في مراحل التخطيط والتنفيذ ومتابعة إستراتيجيات دعم المنافسة في أوقات الأزمات"، وفي 2023 حصل على الجائزة الأولى الخاصة بتعزيز سياسات المنافسة لعام 2023، وذلك لإصدار وتنفيذ "الإستراتيجية الوطنية لدعم سياسات المنافسة والحياد التنافسي" والتي اعتمدها دولة رئيس مجلس الوزراء، وتم إدراجها ضمن وثيقة سياسة ملكية الدولة. 

مقالات مشابهة

  • جهاز حماية المنافسة يفوز بجائزة شرفية من البنك الدولي وشبكة المنافسة الدولية
  • كاتب في التاريخ: لو أراد الإنسان معرفة حقيقة التاريخ الإسلامي عليه الاعتماد على القرآن والسنة الصحيحة
  • "حماية المنافسة" يفوز بجائزة البنك الدولي عن مبادرة تشمل نموذج محاكاة لأجهزة عربية أخرى
  • "جهاز حماية المنافسة" يفوز بجائزة شرفية من البنك الدولي uن مبادرته بإنشاء نموذج محاكاة سلطات المنافسة العربية
  • في اليسار المتطرف.. رؤية من الداخل
  • أشرف صبحي: لشباب العربي دورا في تنمية مجتمعاتهم والنهوض بها
  • بعد حرب الطوفان: ماذا بقي من النظام الرسمي العربي؟
  • بعد جرب الطوفان: ماذا بقي من النظام الرسمي العربي؟
  • افتتاح إذاعة صوت العرب وتدشين تمثال الحرية.. أبرز أحداث 4 يوليو
  • وزيرة الشباب: التزام الكويت راسخ بدعم الشباب وتمكينهم وتنمية مهاراتهم وقدراتهم