لجريدة عمان:
2025-03-19@22:39:20 GMT

التجربة التاريخية وبناء الأمم

تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT

لقد عُنيت الأمم بتاريخها القومي والوطني منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، سواءً في برامج التعليم بمختلف مستوياته، أو في مجالات المعارف الإنسانية بمختلف تخصصاتها، وكانت الدول الأوروبية أسبق في ذلك، منذ بدايات تكوين الدول القومية الحديثة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حينما كان التاريخ القومي بمثابة أحد أركان البنية الثقافية والمعرفية، سواء في المدارس والجامعات أو خارجهما.

فلم تكن العناية بالمعارف التاريخية ترفًا ثقافيًا، وإنما كانت أحد الوسائل المهمة لبعث ثقافة المواطنة، بما في ذلك الاعتزاز والفخار بما قدمه الآباء والأجداد تقديرًا لأوطان تستحق أن يترسخ تاريخها بين الأمم والشعوب الأخرى، هكذا فعلت الأمة الألمانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية ..إلخ.

التاريخ يقدم خبرة معرفية وإنسانية تُعين المواطن أيان كان عمله على تاريخ وطنه، ومكمن الخطر والصواب فيما لحق به من تجارب، وتساعده على أن يتسلح بخبرات تاريخية هائلة تمكنه من اختيار قراراته بطريقة صائبة، فضلًا عما تقدمه التجارب التاريخية من عبر ودروس لصانعي القرار، ويُلاحظ إن العناية بالتاريخ في عالمنا العربي قد تراجعت بشكل ملحوظ، سواء في المدارس أو الجامعات، أو في مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية، وأصبحت تنطبق عليه المقولة الشهيرة (العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر)!

في كثير من الحالات اقتصرت المناهج التاريخية في عالمنا العربي على العناية بالتاريخ القُطّري بمعناه الضيق، وغاب الاهتمام بالتاريخ القومي العربي، وخصوصًا في شقه الثقافي والاجتماعي، مع أن في تاريخنا القومي ما يستحق الاهتمام والفخار، فكل الأعمال العربية الكبيرة تحققت في إطار العمل العربي المشترك، فأعمال الشعراء ومؤرخو الأدب والفكر وكل إنجازات البنائين الكبار في مختلف القضايا الثقافية والفكرية قد قرأها العرب في مختلف أوطانهم، ووحدت اللغة العربية شعورهم نحو الانتماء لمنجزات هذه اللغة أيان كان اسم كاتبها أو القطر الذي ينتمي إليه، وكل الهزائم والانكسارات التي ألمت بعالمنا العربي قد وقعت حينما تباعد العرب وانكفأ كل قطر على ذاته، وخصوصًا في تاريخنا المعاصر، حينما ألمت بنا الهزائم من كل صوب، ولم تتمكن أمتنا من اتخاذ سياسات موحدة وإجراءات عملية.

المناهج الدراسية التي تتناول تاريخ القضية الفلسطينية على سبيل المثال، أوشكت على أن تتخلص من تعريف الأبناء بهذه المأساة التاريخية، وإذا تم تناولها في بعض المناهج الدراسية فلا يُعنى بأسباب الهزيمة على المستويين السياسي والعسكري، ولم تقدم رؤية للمستقبل في سبيل استعادة الحقوق العربية، بينما الدرس المستفاد من القضية برمتها أن العرب لم ينسقوا فيما بينهم، ولم يتعاونوا بما يتناسب وأهمية القضية، وبينما العالم يمضي نحو مزيد من التعاون والشراكة والتنسيق، من خلال تجمعات سياسية واقتصادية وأمنية تستهدف بناء الأوطان وإسعاد البشر، والارتقاء بمستواهم الاجتماعي والثقافي، إلا أن العرب لم يستوعبوا الدرس بعد، ويعد ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي نموذجًا عمليًا.

لقد ارتضى حكامنا العرب أن يضاعفوا من قطريتهم، والانكفاء على ذواتهم، بينما كانت أمامهم فرص تاريخية على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويبدو أن الشعوب العربية كانت حالمة أكثر بمستقبل أفضل، حينما تأسست الجامعة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والتي كانت أسبق كثيرًا من أي تجمعات أوروبية، وكانت هناك مشروعات اقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية، كان بالإمكان أن تحيل العرب إلى أمة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم، لكننا استبدلنا مصالحنا الحقيقية بأحلام لم تتحقق، فلا توجد أمة في العالم المعاصر خلّفت وراءها كل هذا التاريخ المشترك، وأدارت ظهرها إليه بقدر ما فعل العرب.

لا توجد أمة قد امتلكت كل المقومات الحقيقية لعمل نهضة عظيمة بقدر ما أُتيح للعرب من مقومات طبيعية وموارد مالية أفاء الله بها عليهم، وموقع جغرافي يتوسط العالم، وقوى بشرية كانت في حاجة إلى استثمارها، وثقافة عظيمة كان قوامها اللغة العربية، ورغم ذلك فقد اكتفينا بمشروعاتنا الضيقة ورؤيتنا القُطرية وسط عالم يمضي نحو الاندماج والتعاون، الذي يستهدف إعمار الأرض وشيوع المعارف لإسعاد الإنسان، لقد أسقطنا من حساباتنا تاريخًا حافلًا وثقافة عظيمة ومصالح مشتركة، واستبدلنا كل ذلك بسياسات أبعدتنا كثيرا عن تحقيق أهدافنا المشتركة.

المتابع للمشهد العربي يلحظ سباقًا هائلًا للتخلص من التاريخ المشترك، وكأنه حمل ثقيل، نود أن نلقيه وراء ظهورنا، وتعقدت علاقاتنا بعد أن حكمتها حسابات وصراعات شخصية، انعكست على مصالحنا القومية، لدرجة أننا لم نستطع ولو لمرة واحدة أن ندير واحدة من أزماتنا، بل رحنا نكيد لبعضنا، وأحلنا الجامعة العربية - بعد أن كانت أملنا الوحيد - إلى ساحة من الصراعات والتنافسات والعنتريات، التي أوشكت على ضياع الجامعة العربية، وتبديد كل آمالنا في التعاون والخاسر في كل الحالات هي الشعوب العربية، التي لا حول لها ولا قوة، ولم يبق بين العرب إلا لغة مشتركة مهددة بالانقراض، ربما مع نهايات القرن الحادي والعشرين، في ظل زحام وصخب هائلين، وسباقٍ على العناية باللغات الأجنبية في مدارسنا وجامعاتنا على حساب لغتنا العربية.

تمتلك أمتنا العربية رصيدًا ضخمًا من الخبرات الثقافية والاجتماعية والفكرية، ورغم ذلك فقد صرنا في مؤخرة الأمم في كل مناحي الحياة، وضاعف من مآسينا المصير الذي آلت إليه بعض أقطارنا العربية، من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، وهي هزائم كارثية دفعت الشعوب ثمنها، ولم نستطع أن نجري حوارًا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو من خلال الجامعة العربية التي فشلت في إدارة كل أزماتنا وكوارثنا، ولم يبق منها إلا مجرد بناية على نيل القاهرة، بعد أن ذهبنا في حل مشاكلنا إلى القوى الأوروبية والأمريكية، التي أربكت حياتنا وتسببت في المزيد من هزائمنا، وكانت مواقفها دائما ضد المصالح العربية، وضد الأهداف التي أنشئت الجامعة العربية من أجلها، وأعتقد أن ما ألمّ بنا من كوارث، كانت القوى الغربية دائما من ورائها، وكانت سببًا رئيسا لإرباك علاقتنا العربية العربية، ورغم ذلك فما زلنا نعلق آمالنا على القوى نفسها التي أفسدت حياتنا.

لعلنا في أمس الحاجة للتخلص من كل هذه السياسات الخاطئة، ونسترجع تاريخنا الحقيقي، من خلال سياسات جديدة تستعيد ذواتنا الثقافية وعروبة أوطاننا، لكي نرى المستقبل ونحن واثقون من الوقوف على أرض صلبة، لكي ننمي مجتمعاتنا ونحشد مواردنا نحو واقع يستهدف الإنسان العربي في كل مكان، رغبة في الانتماء شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية القادرة على الانطلاق نحو المستقبل، لعلنا نستطيع أن نستعيد ما فقدناه.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجامعة العربیة

إقرأ أيضاً:

أمسية رمضانية طلابية بمأرب تؤكد على دور الشباب في تعزيز الهوية الوطنية

شمسان بوست /عبدالله العطار:

أقيم مساء اليوم  بمدينة مأرب،”شمال شرق اليمن” ، أمسية رمضانية طلابية لتعزيز الوعي الوطني لدى النشء وتحصينه من الأفكار المنحرفة،نظمها مؤسسة أيديا التعليمية التنموية، تحت شعار “بالعلم نرتقي.. وبالإرادة نحقق المستحيل”، بحضور شخصيات اجتماعية وسياسية وتربوية وأكاديمية.

وفي كلمته خلال الأمسية، رحب وكيل محافظة الجوف المهندس عبدالله الحاشدي، بالحاضرين، متطرقاً إلى الدور الإستراتيجي للشباب في حياة الأمة اليمنية وصناعة مستقبلها، …مشيرا إلى دور الشباب الذين صنعوا التاريخ وكان لهم دور في نهضة الأمم  وبناء الدول.

وأشار الحاشدي إلى دور الشباب في معركة استعادة الدولة وبناء المستقبل، باعتبارهم ثروة الوطن والشريحة المستهدفة من قبل مليشيا الحوثي الإرهابية،
مؤكدا أن دورهم البطولي مستمر حتى تحرير صنعاء وتطهيرها من عصابات الحوثي المدعومة من النظام الإيراني.

وحث الحاشدي الشباب على مضاعفة الجهود في بناء القدرات وتنمية المواهب، وتكثيف جهودهم في العمل الجاد في التحصيل العلمي،والبناء والمجتمعي والنضالي، مشددا على أهمية توعية الشباب بخطر الفكر السلالي الحوثي على اليمن برماه.

من جانبه أكد فارس المهشمي،’في كلمة مؤسسة أيديا على أهمية دور الشباب في تنمية المجتمعات وتحصينها من الأفكار السلالية الحوثية الدخيلة على المجتمع اليمني .

وشدد المهشمي على ضرورة السعي للإرتقاء بالعملية التعليمية وتذليل العقبات امام الشباب والشابات من خلال الأنشطة الهادفة واكتشاف الموهوبين والمبدعين ورعايتهم ،والعمل على تنمية قدراتهم ومواصلة دراساتهم ، مؤكدا أن العلم هو السبيل الوحيد لبناء مجتمع قوي يقاوم الفكر السلالي.

كما دعا الأكاديمي في جامعة إقليم سبأ خالد الغشمإلى معالحة جوانب القصور في الاستراتيجية الوطنية للتعليم في اليمن، وبناء القيم التي تحفظ الهوية الوطنية،موضحا أن مرحلة التعليم مرحلة بناء يتكيء عليها مستقبل الشباب  وإعدادهم وصقل قدراتهم،كماهي مرحلة مثابرة وتحصيل واستثمار للوقت بما يعود بالنفع عليهم وعلى وطنهم.


وشهدت الأمسية الطلابية مسابقة رمضانية وتوزيع العديد من الجوائز ، كما تخللتها فقرات إنشادية وفنية مستوحاة من أجواء المناسبة، وسط تفاعل كبير من الجمهور.

مقالات مشابهة

  • أبرز المباريات العربية والعالمية اليوم الخميس
  • مليشيا الدعم السريع المتمردة غدرت بقوات الجيش والاحتياطي المركزي التي كانت تؤمّن القصر الجمهوري
  • السديس: نجاح خطة العشر الوسطى وتعزيز التجربة الرقمية في الحرمين
  • الجامعة العربية تعقد دورة غير عادية لبحث التحرك العربي لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة
  • مجلس التعاون لدول الخليج العربية يؤكد دعمه لوحدة سوريا واستقرارها
  • أنس تعزز إحياء المجالس الرمضانية وبناء مجتمع مترابط
  • رسالة وخلاف.. رحمة رياض تكشف سبب ندمها تجاه أختها الراحلة
  • أمسية رمضانية طلابية بمأرب تؤكد على دور الشباب في تعزيز الهوية الوطنية
  • بوغالي: التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب نموذج دولي
  • لقطات جوية ترصد تقدم أعمال الحفر وبناء الأساسات في ذا لاين .. فيديو