كتب- إسلام لطفي:
تصوير- إسلام فاروق:
ألقى الكاتب الصحفي خالد البلشي، نقيب الصحفيين، كلمة خلال الاحتفال بمئوية الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل.

,وقال البلشي في كلمته: أقف اليوم بينكم فى حضرة صاحب الحضور الأكبر فى تاريخ الصحافة المصرية مهما اختلفت الرؤى والتقييمات حوله.
أقف فى حضرة الأستاذ، فنحن لا ننكر فضل أساتذتنا، وهو اعتراف لا يخلو من حقنا فى النقد، فهذه مهنتنا، وهكذا علّمنا الكبار، وعلّمنا هيكل كيف نضع أساسًا للتحرر فى مهنتنا، وللتنوع بيننا دون إنكار لحق الكبار، وسيبقى هيكل كبيرًا بيننا.

أقف فى حضور رجل كان مجرد لقائه والتقدير منه بمثابة اعتراف بالمهنية، واعتراف بالفضل واعتراف بالبقاء.

نقف فى حضرة رجل ما زال عطاؤه ممتدًا حتى بعد رحيل الجسد فى حضرة أستاذ ذى بصمة فريدة مهما اختلفنا حوله، امتلك كل نواصى المهنة سواء من حيث تنوع المصادر وقوتها، أو من حيث القدرة على الوصول للمعلومات فى أدق وأرقى وأقوى مصادرها، أو من حيث السبق، وسبك المادة الصحفية بحرفية فذة، وصوغها بلغة متفردة، يضاف إلى كل ذلك ذخيرة معرفية شاملة من حافظة شعرية جبارة إلى ذاكرة تاريخية لا تعرف الوهن إلى الاطلاع على كل ما هو حديث، وشغف للإنجاز لم يتوقف، وامتلاك لكل فنون المهنة عززها برحلات معرفية، وبمقابلات مع مفكرى العالم، وسياسيه، وكبار صحفييه، فلم يترك نافذة للاطلاع إلا وفتحها، وعندما همّ بالانصراف كان حريصًا على أن يفتح نوافذه للأجيال القادمة من خلال مؤسسته للتدريب، التى كنت واحدًا ممن استفادوا منها، وفتحت الأبواب واسعة لعشرات من الصحفيين للتعلم آخرهم أكثر من (22) متدربًا حصلوا على دورة هيكل الأخيرة ضمن اتفاق لمدة عامين مع نقابة الصحفيين، ومؤسسة هيكل للصحافة العربية نرجو أن يتعزز ويمتد.
فى وقفتى هنا يختلط العام بالخاص بالنقابى فى رحلتى للتعلم مع هيكل، التى لخصتها خمس محطات انتقلت خلالها من الانبهار إلى الواقعية، والمناقشة والقدرة على النقد، وأحيانًا الغضب.

كانت محطتى الأولى مع هيكل صبيًا ابن ستة عشر عامًا، فى شكل رهان مع شقيقى الأكبر على مَنْ ينجز قراءة ملحمة (سنوات الغليان) فى أجزائها الثلاثة أسرع، فأخذتنى التفاصيل والحبكة، وروعة الصياغة والمصادر لأنجزها فى تسعة أيام، ثم لا أخرج من سحرها ودقة الصياغة، وألق الكتابة لأعوام.

أما محطتى الثانية، فكانت عبر مجلة (اليسار) صحفيًا صغيرًا غريرًا ينهل مما يكتب الأستاذ، ومن مقالاته المستطردة، ولا ينسى تجربته الأولى عندما منحنا الأستاذ حوارًا ساهم فى نفاد عددين من المجلة، ومعه تبرع سخى وقتها بعشرة آلاف جنيه كان كافيًا لأن ينقذ المجلة من عثرة مالية، وأن تقف المجلة الفقيرة على قدميها لعدة أعداد، وهو ما عاظم الانبهار.

أما المحطة الثالثة، فكانت شهادة غير مقصودة من الأستاذ وقت عملى بصحيفة (الدستور) لكن عطرها طالنى، ورفعنى عنان السماء، عندما ذهبنا لإجراء حوار معه، ويومها لن أنسى عندما توقف أمام الأسئلة وصياغتها، ليقول إنه وجد نفسه جندى مشاة بينما مَنْ صاغ الأسئلة جندى مارينز يقتحم الحصون، ويدك الخطوط الأولى للعدو، وكنت أنا مَنْ أوكلت له مهمة وضع المحاور والأسئلة، كان حظى أن تأكدت نظرة الأستاذ، الذى ربما لم يعرفنى وقتها عندما صدر عدد الحوار، ومعه سبق صحفى لى عن الثلاثاء الأسود فى البورصة المصرية، ودور أحد أبناء مبارك فيه.

المحطة الرابعة كنت تلميذًا فى محراب مؤسسته، وكانت مؤسسته مدخلًا للتعرف على الصحافة العالمية عبر سيمور هيرش، كان زمننا قد ضنّ علينا بفرص التعلم فى الخارج، فحملها هيكل ومؤسسته لنا فى القاهرة، وكنت واحدًا ممن استفادوا من ذلك مبكرًا.

يبقى اللقاء الخامس هو الأقوى والأهم، فهو لقاء الانتقال من الانبهار إلى الثورة على الكبير، كان لقاء الأستاذ بأحدث وأصغر رئيس تحرير لجريدة يومية وقتها، حينما اخترت رئيسًا لتحرير (البديل) عام 2008م، خلفًا للدكتور محمد السيد سعيد، كانت المفارقة أن الأستاذ هو مَنْ سعى لللقاء فى حرص لم يتوقف على التواصل مع الأجيال الجديدة، يومها استدعانى الأستاذ ليدور حديث ممتد عن رؤيتى ورؤيته للصحافة بدأه مناكفًا بالسؤال عن سنى فقلت له 36 عامًا، فرد أنا أسبقك لقد كنت أصغر رئيس تحرير لجريدة يومية وعمرى 34 عامًا، كانت محاولة لتجسير الفجوة، ثم بدأ نقاش عن
كيف أشق لصحيفتى طريقًا فى عالم صغرت فيه "مصر الحكم" كمصدر للأخبار، وكنت أرى "مصر الشعبية" على أبواب أن تكون بابًا لكل خبر، خرجت منه محتفظًا له بفضل وعظمة الأستاذ، ولكننى فى الوقت نفسه خرجت وأنا أدرك أنه رائد لمدرسة صحفية، وأنا ابن لمدرسة مختلفة، يومها خرجت لأقول لزملائى إننى دخلت عالمه وهو أستاذ كبير جدًا جدًا جدًا جدًا، واليوم أخرج من عالمه وهو لا يزال فى نظرى أستاذ كبير أيضًا.
اختلاف المدارس لم يدفعنى يومًا لإنكار الاعتراف بالفضل والبحث عن المشتركات، وهو ما عززته التجربة، وعززته رحلة الصحافة، وما تواجهه من مصاعب وأزمات على رأسها معركة حرية الصحافة وخروجها من كبوتها.

ومن موقعى كنقيب للصحفيين، فإن نقابة الصحفيين المصريين سوف تحتفظ للأستاذ الكبير بالعديد من المواقف دفاعًا عن حرية الصحافة باعتبارها إحدى الحريات العامة، ولا تنسى له موقفه الشهير عندما وجه رسالة لأعمال الجمعية العمومية الطارئة فى العاشر من يونيو 1995م لرفض التعديلات، التى أقرها مجلس الشعب فى حينها على قانون الصحافة، التى أطلق عليه الصحفيون حينها "تعديلات حماية الفساد"، حينها أعلن هيكل فى كلمة وجهها للجمعية العمومية قال فيها "إنها ليست أزمة قانون، ولكنها أزمة سلطة شاخت فى مواقعها".

ولا تنسى نقابة الصحفيين له كلمته حينما اختير بالإجماع ليكون أول مَنْ يحصل على الجائزة التقديرية للنقابة حينما أخذ يشرح كيف يعف عن الجوائز والتكريم لكنه لا يستطيع أن يرد جائزة تأتى من نقابته.

وقتها قال هيكل لجمهور واسع من الصحفيين حضروا التكريم شارحًا لماذا تحتم عليه قبول تكريم النقابة، مؤكدًا أن لديه حساسية إزاء احتفالات التكريم، فإذا كانت الاحتفالات رسمية زادت الحساسية لكثرة ما تتزايد المراسم.

وتابع فى درس حول أهمية المهنة والنقابة: "موقفى فى هذا الأمر يصدر عن اعتقاد بأن تكريم أى صحفى هو من سلطة قرائه، وقراؤه وحدهم في صلة لا تحتاج إلى مناسبات؛ لأنها حياة كل يوم. لكننى على الجانب المقابل وهذه المناسبة، فإن صاحب الفضل هو نقابة الصحفيين وفضلها ليس بالرتب كبيرة أو صغيرة وليس بالماس المرصع أو الذهب المشغول، وإنما هو الفضل المعنوى يحتاجه أولئك، الذين ينتظرهم الغد، وفى نفس الوقت قد لا يستغنى عنه أولئك الذين وضعوا مستقبلهم وراءهم".

لم يكن الأستاذ قد وضع مستقبله وراءه، ولكنه كان أحرص على تقديم جيل جديد دون أن ينسى فضل السابقين، مشيرًا إلى أنه لم يستطع الرفض، وقد وجد نفسه ينوب عن غائبين رآهم أحق بالتكريم، ويمثل حاضرين يحملون فضلًا مماثلًا لفضله، وفى نفس الوقت رأها فرصة كما قال وقتها "ليتقابل" مع أجيال جديدة من شباب هذه المهنة العظيمة لهم حق وواجب، ومسئولية أن يتقدموا.

وبقدر ما كان الأستاذ متفائلًا بالمستقبل وقت قبول تكريم النقابة، فإنه ترك لنا تحليلًا لأزمة الصحافة حينما اعتذر عن تكريم اتحاد الصحفيين العرب فى 2014م، مؤكدًا أن "مهنة الصحافة تواجه مشكلة أصعب وأعقد من كل ما تعرضت له منذ عرفتها بلادنا أواسط القرن التاسع عشر، ملخصها أن المهنة الآن واقعة فى أزمة مصداقية، عصفت بالكثير مما يستوجب الحرص عليه أمام قارئ ومشاهد يسأل كل منهما نفسه الآن: «إذا كان صحيحًا ما نرى ونعيش، فكيف يكون صحيحًا ما نقرأ ونسمع؟!!».

وتابع الأستاذ فى تحليله لأزمة الصحافة العربية، وفى القلب منها الصحافة المصرية "أعرف كما يعرف الجميع أن بيت الصحافة العربية واقع وسط مدينة السياسة العربية، التى ضربتها الزلازل، وأصابت كل موقع فيها بغير استثناء، أى أن البيت الصحفى العربى أصابه ما أصاب المدينة السياسية العربية، وتحولت به إلى عشوائية آيلة لسقوط تاريخى مخيف، حتى إن لاحت على أطراف الخراب ناطحات سحاب تبدو من بعيد وهمًا يرسمه سراب!!".

واوصل الأستاذ تحليله "الصحافة العربية وسط هذا المشهد المزعج معرضة للتهم، أو على الأقل مُطالَبة بحساب، وبدون أن نشغل أنفسنا الآن بتوزيع المسئوليات، فدعونا نسأل: أليس صحيحًا أنه فى طبيعة هذه المهنة، وفى دورها أن تمارس وظيفتها تحت كل الظروف، سواء فى ذلك ما تصنعه الطبيعة، أو ما يصنعه البشر؟!!".

أليس صحيحًا أن المهنة ومهما كان ما أصابها مكلفة بالعمل عقب الزلزال وفى وسط الحطام، وحتى فى خضم مستنقعات الدم.

وها نحن الآن أمام التحدى، الذى تركه لنا الأستاذ نحاول أن نخوض غماره ربما فى واقع أشد صعوبة مما دونه فى تحليله، لكنى ومن موقعى ما زلت أرى أملًا فى مهنة قادرة على النهوض، وشباب ما زال يحلم بصحافة على قدر المواطنين مهما كانت المصاعب.

في يوم كهذا ونحن نتذكر فضل أحد أساتذة الصحافة الكبار، لا سبيل لنا إلا السعى للخروج من أزمة طالما واجهت الصحافة المصرية، وطالما خرجت منتصرة منها بقوة أبنائها، وكذلك بحرصهم على المهنة والتنوع، وبدفاع لا يلين عن حريتها فى مواجهة أى عسف أو قهر.

ونظمت مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية، احتفالًا بذكرى المئوية لميلاد الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل وتسليم "جائزة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية" لعام 2023 في دورته السابعة للعمل الصحفي على اختلاف منصاته ومنابره الراسخ منها والوافد.
وحضر الاحتفال: المستشار عدلي منصور، رئيس مصر السابق، ووزير التضامن الاجتماعي نيفين القباج، والكاتب الصحفي خالد البلشي نقيب الصحفيين، والعديد من الإعلاميين والصحفيين.

والمؤسسة تسعى منذ نشأتها في عام 2007 إلى تعزيز وتنمية خبرات العاملين بالمجال الصحفي، بالإضافة إلى مكافأة الشباب حتى يتميزوا في أعمالهم الصحفية.

كما تعمل على أن تكون عونًا لهم في تطوير مهاراتهم وأدواتهم واستكمال ما تتطلبه المهنة من مواكبة لما هو جديد، حيث تقدم المؤسسة جائزتين تشجيعيتين للاحتفاء بالتميز في العمل الصحفي، وتبلغ قيمة كل جائزة 250 ألف جنيه مصري، وتهدف مؤسسة هيكل من خلال هذه الجوائز إلى مكافأة الصحفيين العرب شبانا أو شابات تميزوا في مجمل أعمالهم الصحفية خلال العام 2022.

المصدر: مصراوي

كلمات دلالية: المنحة الاستثنائية علاوة غلاء العاصفة دانيال زلزال المغرب الطقس سعر الدولار الحوار الوطني أحداث السودان سعر الفائدة مئوية هيكل خالد البلشي حسنين هيكل نقابة الصحفيين محمد حسنین هیکل نقابة الصحفیین صحیح ا

إقرأ أيضاً:

طيار على كف عفريت

دماء «عمال الديليفرى» فى رقبة مَن؟محرومون من التأمين الصحى والاجتماعى ويتعرضون لحوادث يومية.. وأبناء المشاهير أبطال الحكاية"مريم" تحمل طفليها وبضائعها على الإسكوتر و"عبدالرحمن" طالب الأزهر يطلب الرأفة"عمار" مهندس برمجيات استغل هوايته ودراسته وبدأ مشروعه الخاص.. و"محمد" يطالب بنقابة تحمى حقوق العمالالبطالة فرضت على 6 ملايين شاب وفتاة العمل فى هذه المهنة.. وتدخل الدولة لحمايتهم واجب

لا يزال مسلسل «السرعة الجنونية» مستمراً، حاصداً أرواح الأبرياء يومياً، ضحاياه فى كل مكان ومعظمهم من عمال الديليفرى الشقيانين، الذين يجوبون بدراجاتهم سواء كانت نارية أو هوائية أرجاء المدن باحثين عن «اللقمة الحلال»، ولكن منهم من يفقد حياته بسبب تهور بعض «المُدللين»، الذين يقودون سياراتهم بسرعة غير آبهين بأرواح من يسيرون بجوارهم، لتسيل دماؤهم على الأسفلت تاركين وراءهم أسراً بلا عائل، ووجعاً لا ينتهى فى القلوب، وخلال الساعات الأخيرة انضم عضو جديد إلى قائمة «مُستباحى دماء عمال الدليفري»، الذى دهسه أحد هؤلاء بسيارته ليستمر مسلسل القتل غير الرحيم.

وكانت مدينة الشيخ زايد قد شهدت فجر الجمعة، حادثًا مروعًا راح ضحيته «عبدالرحمن فراج» عامل الدليفرى، ابن بنى سويف، بعدما دهسته سيارة «رانج روفر» يقودها «ابن نجل زوجة الشيف» بسرعة جنونية وفرّ هاربًا تاركًا ضحيته يُصارع سكرات الموت.

هذا الحادث ليس الأول فى مسلسل دهس «عمال الدليفرى» فقد سبقه بـ6 أشهر حادث آخر، راح ضحيته عامل دليفرى على يد نجل الفنان أحمد رزق بمدينة 6 أكتوبر، ما تسبّب فى إصابة العامل بإصابات خطيرة نقل على إثرها إلى المستشفى، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

تحمل الحوادث فى طياتها قصصًا مؤلمة لأناس أبرياء أُهدرت حقوقهم وتناثرت دماؤهم على الطرقات.

الوفد رصد حكايات من دفتر شقاء «عمال التوصيل» الذين يشتغلون بلا حقوق ودون حماية.

تراهم يجوبون الشوارع ليلًا ونهارًا، لا مُستراح لهم، ولا مرسى لخطواتهم المتسارعة على رمال الحياة، لا يلتفت لمعاناتهم أحد، يخوضون حربًا ضد الوقت، فتجدهم يستقلون دراجاتهم حاملين «الأوردر»، يسابقون عقارب الساعة لتوصيله سريعًا واللحاق بآخر، فينتشرون بين الأزقة ويخترقون الصفوف ويتسللون بين الزحام، وعلى تلك الشاكلة تُقاس مدة بقائهم فى مهنة «توصيل الطلبات».

شباب فى مقتبل العمر انغمسوا فى المسئولية بعد أن طالهم شبح البطالة، يعولون أسرهم ويصارعون أزماتهم فتنتصرُ عليهم مرة وينهزمون أمامها مرّات، إذا ما خارت قواهم استيقظت عزيمتهم أمام لهيب «الحاجة» ليستكملوا الطريق ويواصلوا المسير بمهنة مُنتزعة الحقوق لمواجهة الغلاء الذى يأكل الأخضر واليابس، فلا يُبقى فى الجُيوب ولا يذر، إنهم ضحايا الطرقات وفاقدو التأمينات.

فى آخر تقدير لعدد العاملين بتلك المهنة، ذكرت وزارة التضامن الاجتماعى أن عددهم وصل إلى 6 ملايين شاب وفتاة، وراء كل منهم قصة شقاء وشرف رصدت الوفد بعض منها.

أم بدرجة بطلة

قاومت ظروفها الصعبة ووقفت لها بالمرصاد، وألغت من قاموس حياتها عبارات اليأس والإحباط، وازنت بين عملها ورعاية صغارها دون أن تكل أو تمل، تلك هى «مريم حنفى» عاملة الدليفرى، صاحبة الـ27 ربيعًا، والحاصلة على بكالوريوس نظم ومعلومات إدارية.

بين عشيةٍ وضحاها أصبحت مريم مُثار حديث رواد منصات التواصل الاجتماعى، بعد التقاط صورة لها على دراجتها النارية وهى تحضن طفليها النائمين أثناء عملها فى توصيل الطلبات.

كشفت «مريم» خلال حديثنا معها عن كواليس الصورة المتداولة لها عبر السوشيال ميديا قائلة: «تحمّلت مسؤولية أولادى بعد سجن زوجى بسبب مشكلة خاصة بالخدمة العسكرية، عامان ونصف شغلت فيها دورى الأب والأم معًا، أوشكت على الانهيار لولا دعم والدتى وأشقائى وأشقاء زوجى ووقوفهم جانبى، قررت التكفل بمصروفات أولادى «إبراهيم» و«إسلام» فلم أجد أية فرصة عمل بشهادتى، علاوة على أننى كنت غير قادرة على إمساك القلم بسبب إعاقة فى يدى اليمنى، بحثت خارج مجال دراستى وسألت صديقة مقربة تعمل فى إحدى شركات توصيل الطلبات عن فرصة عمل فأخبرتنى بضرورة توافر الوسيلة شرط الالتحاق بالعمل براتب 6 آلاف جنيه».

وأضافت: «عندما أخبرت والدتى وإخوتى رفضوا الأمر، وكذلك زوجى، ولكنهم وافقوا بعد ذلك أمام إلحاحى، وتكفلوا بدفع مقدم «الاسكوتر» وبدأوا فى تشجيعى، وكانت طبيعة العمل تُحتم على الخروج فى الثامنة صباحًا من شقتى فى الزاوية الحمراء إلى بيت والدتى فى المنيل لأترك معها الطفلين ثم أنطلق لعملى، وبمجرد الانتهاء منه فى الخامسة مساء أذهب إليها وأصطحب الصغيرين على الأسكوتر لنعود لبيتنا، وفيما يخص الصورة المنتشرة فقد التقطها لى شخص يدعى «محمد طارق» وأنا راجعة بأولادى على كورنيش روض الفرج دون علمى كنوع من الدعم، وفوجئت فى اليوم التالى بزميلى يخبرنى بأن الصورة «تريند» وحين شاهدتها لم أتمالك نفسى من البكاء».

وتابعت: «المهنة كلها مخاطر، فقد تعرّضت لحوادث كثيرة وفى كل مرة كنت أتمنى الشفاء من أجل أولادى، وفى آخر حادث أصبت بتمزق فى الأربطة وتهالك الأسكوتر تمامًا وحاليًا أسعى لإصلاحه، وأضافت: بعد خروج زوجى من السجن عمل فى المجال نفسه.

وقالت مريم أتمنى أن يكون لنا تأمينات اجتماعية، وأن يكون لى سكن جيد، فأنا وأولادى نعيش فى شقة ضيقة مساحتها 36 مترًا، مضيفة «نفسى أوسع على أولادى».

مخاطر بلا حماية

يتنفّس الصبح فتصحو معه همّته متهيئًا لبدء يوم عمل جديد يتقلّد دراجته النارية ساعيًا ما يزيد على 12 ساعة لكسب قوت يومه من مهنة توصيل الطلبات، فيعود فى المساء لتقرَّ أجفانه بعد طول عناء.. ذلك هو النمط اليومى لـ«عبدالرحمن حلمى» الطالب بالفرقة الرابعة إعلام الأزهر، والذى كشف عن دوافعه للعمل بتوصيل الطلبات قائلًا: «تحمّست للخروج لسوق العمل الحر فى مهنة يكثر فيها الاختلاط بجميع فئات المجتمع لكى أكتسب خبرة فى التعامل وإنشاء علاقات جيدة وخصوصًا أنها لا تحتاج إلى رأس مال كبير، وبدأت العمل فى يونيو 2020، عائلتى كلها تعمل فى وظائف سواء كان قطاعًا حكوميًا أو خاصًا، ولكن وجهة نظرى مختلفة عنهم لذلك قررت الاتجاه للعمل الحر.

وعن أصعب العقبات التى واجهها خلال عمله «دليفرى» يقول «عبدالرحمن»: «الظروف الجوية السيئة عندما تكون شديدة الحرارة صيفًا أو شديدة البرودة شتاءً، والتعامل مع العملاء الذين يصعب التعامل معهم، وذلك يرجع لعدة أسباب؛ الجهل بسياسة الشراء أون لاين أو أن العميل يعانى من خلل نفسى أو يتهرب من استلام الأوردر لعدم توفر المال، علاوةً على الضغط الذهنى والبدنى للالتزام بالمواعيد المحددة مع العملاء رغم الازدحام المرورى أو تعطل وسيلة النقل أو التغير المفاجئ فى الطقس، وكذلك عدم قيام العملاء بإعطاء البيانات بدقة.

عدّد «عبدالرحمن» أصعب وأغرب المواقف التى تعرض لها خلال عمله ذاكرًا منها: «التعرض للتثبيت والبلطجة، كما أن بعض العملاء يستلمون الأوردر سليم ويحدث تلف منهم فيتهمون المندوب بأنه السبب، وأضاف: أحب المهنة ولكنها بطبيعتها خطر جدًا بسبب الحوادث التى تؤدى إلى الوفاة أو الإعاقة أو تدمير الوسيلة المستخدمة وأحياناً تحدث مشاجرات مع العملاء، وقد تتعرض البضائع أو الشحنات للتلف بسبب سقوطها

ووجه عبدالرحمن رسالة لرجال المرور للرأفة بحال مندوبى الشحن، إذا كانت هناك بعض المخالفات البسيطة التى يمكن تجاوزها، ومعاونتهم فى حال تعرضهم لحادث أو سرقة.

مهندس برمجيات

«عمار عبداللاه» مهندس برمجيات لم ينصفه سوق العمل، يرى أن الوضع مزرٍ ولا يزداد إلا تردّيًا، فقرر الاعتماد على نفسه والانضمام لقطاع مقدمى الخدمات «الدليفرى».

ويقول «عمار»: «تحسين الوضع بالنسبة لشاب فى العشرينات من عمره مُجازفة، بدأ الموضوع معى منذ الصغر حيث كنت أهوى ركوب الدرجة والموتوسيكل، وعندما ضاق بى سوق العمل، قررت استغلال هوايتى وتطويعها لمساعدة والدى فى مسؤولية البيت، ولم أتردد فى الالتحاق بمهنة توصيل الطلبات رغم معارضة الأهل والمعارف، وبدأت العمل منذ عام ٢٠١٩ وحتى الآن وخلال تلك الفترة طرأ على هذه المهنة العديد من التغيرات، فقد شهدت تناميًا وتزايد الإقبال عليها بشكل كبير، بسبب اعتماد عدد كبير من المطاعم والمحال التجارية عليها، بجانب المنصات الإلكترونية، مضيفا: طبيعة الشغل تحتم علينا التعامل مع مختلف الطبقات، منهم من يحترم تلك المهنة ومنهم من ينظر إليها بدونية، والدخل اليومى يتراوح بين 100 لـ300 جنيه حسب عدد الساعات والمواسم، وقد ساعدتنى هذه المهنة على الحصول على خبرة واسعة لذلك مستمر بها حتى هذه اللحظة، وبدأت فى تأسيس مشروعى الخاص، وأتمنى أن يُغطى الجمهورية».

وعن مخاطر المهنة قال عمار: «أحياناً يكون الأوردر فى منطقة مقطوعة ويطلع على بلطجية، وممكن يكون على طريق سريع ويحصل عطل فى الموتوسيكل، أو شخص يطلب الأوردر وأذهب لتوصيله وأفاجأ بأنه وضعنى فى الـ«Blacklist»، وأخيراً أتمنى أن يُغير المجتمع من نظرته السلبية لهذه المهنة، وأن توضع تشريعات تنظم عملنا، مع وجود تأمين لمد الحماية الاجتماعية للعاملين بها.

مدرس تربية رياضية.. دليفرى بالـ«العجلة»

يتغلب «عبدالعزيز درويش» مدرس التربية الرياضية على ظروف الحياة بابتسامة راضية، فهو لا يملك من حطام الدنيا سوى دراجته الهوائية التى يستقلها فى المساء ليبدأ بها رحلة عمل جديدة، وهى توصيل الطلبات إلى المنازل.

يقول «عبدالعزيز»: «تخرجت فى كلية التربية الرياضية عام 2012، وعملت فى مهنة التدريس، ولكنها لا تكفى لتلبية متطلبات الحياة الأساسية، فقررت زيادة دخلى بالعمل المسائى، وسلكت طريق توصيل الطلبات بدراجتى الخاصة والتى أجوب بها شوارع الإسكندرية، ويتراوح ثمن التوصيلة بـين 25 و30 جنيهًا.

وعن صعوبة المهنة ومشقة العمل قال: «تعودت طيلة حياتى على الكفاح والشقا، لا يعنينى تعب ومرارة الحياة، بقدر ما يعنينى الاعتماد على نفسى والرزق الحلال، تحمّلت المسئولية منذ الصغر، والدى مدرس فيزياء ووالدتى مدرسة لغة إنجليزية، وأخى مهندس كهرباء، وأختى خريجة سياحة وفنادق، جميعهم ذوو مكانة مرموقة، ولم يقفوا أمام قرارى، فعقولهم متفتحة ومؤمنين بأن العمل–مهما كان–لا ينتقص من صاحبه».

وطالب الشاب «محمد جمعة» والذى يعمل بإحدى شركات التوصيل، بأن يُعترف بتلك المهنة وأن تكون رسمية، تحت مظلة قانون يحمى العاملين فيها من أصحاب الشركات والمحلات، مع وجود نقابة تدافع عن حقوق عمالها، وأن تُدرج ضمن جدول الضرائب لأن الطيار أو الدليفرى شخص مسلوب الحقوق، فنحن فئة مهمشة ولا نتمتع بأى ضمانات اجتماعية أو عقود رسمية تنظّم عملنا، فحن دائمًا معرضون لخطر عصابات الطرق، وخطر الفصل من العمل فى أية لحظة بسبب شكاوى العملاء، أو لأى سبب آخر، إلى جانب مخاطر الطريق التى نتعرّض لها ولا ندرى فى أى مرة ستكون النهاية».

« لما تخف تعالى».. كانت تلك هى الكلمات التى قالها صاحب العمل لـ»محمد» بعد تعرضه لحادث سير، فما كان منه إلا أن أرسل شخصًا إلى ليأخذ منى ثمن الأوردر، ويقوم بمهامى، وتنصّل منى تمامًا.

والتقط أطراف الحديث «حسين محمد» ابن اسيوط صاحب الـ25 عامًا قائلًا: «بعد أن انتهيت من الجيش لم أجد أى فرصة عمل فساعدنى والدى واشترى لى «موتوسيكل» والتحقت بشركة توصيل طلبات وكان يومى بعد البنزين والرصيد 80 جنيهًا، تعرّضت لإصابات خطيرة وعملت فى مطعم للمشويات براتب 1500 فى الشهر، ولى نسبة على الأوردر، وكنت أجلس طوال اليوم أمام المطعم فى عز الشمس وغير مسموح لى بالتواجد بالداخل، فقرر العودة للعمل فى التوصيل، فوالدى مدرس بالمعاش وأنا الوحيد على 4 بنات، عملت منذ أن كان سنى 16 عامًا لمساندة والدى فى تجهيز إخواتى البنات».

وتذكر «حسين» أحد المواقف التى تُعد واحدة من مساوئ المهنة قائلًا: «ذات مرة اشتريت طلبات كانت عبارة عن خضراوات نحو 10 كيلو والعميلة فى الدور الـ11 ويوجد عطل فى الأسانسير، فأجبرتنى على الطلوع على الأقدام قائلة: «مجبر تطلع غصب عنك»، هذه النوعية من المعاملة زادت من استيائى لما وصل إليه حال المهنة».

لم يختلف حال «محمد هانى» الطالب بكلية التجارة كثيرًا عن حال «حسين» وغيره ممن يعملون فى هذه المهنة قائلًا: «بدأت كطيار، كنت أواصل العمل لما يزيد على 16 ساعة اجتهدت وكافحت إلى أن وصلت لمشرف بمنطقه المقطم والمعادى، الأوردر توصيلته 29 جنيهًا، ولا يخلو يومى بدون ما ينغّصه من مخالفات المرور والجروح الخطيرة، وتهالك «الموتوسيكل» الذى اشتريته بعد عناء، أطمح أن تقُدر تلك المهنة فى مصر، وتحظى باهتمام السلطات لسن تشريعات تحميها وتحفظ حقوق أصحابها.

كل هؤلاء وأكثر مهما اختلفت قصصهم فستظل المعاناة قائمة، فئات فى مرمى المخاطر تُرى بعين التهميش، لا تجد سبيلًا لنيل حقوقها، الضمانات الاجتماعية والتأمينية غائبة، ليبقى السؤال: «متى سينتهى مسلسل اغتيال حقوق عمال الدليفرى؟».

 

مقالات مشابهة

  • شجار كبير في جنازة محمد رحيم.. وزوجته تتهم أشقاءه بالتسبب في وفاته
  • لابد من تثمينها.. نقيب الصحفيين يُشيد برفع أسماء 716 شخصًا من قوائم الإرهاب
  • الثلاثاء.. ندوة لمناقشة قضايا "مستقبل الصحافة" بنقابة الصحفيين
  • طيار على كف عفريت
  • رئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي “محمد اسماعين”
  • نقابة الصحفيين السودانيين تدين اعتقال صحفية بواسطة استخبارات الجيش
  • رئيس جامعة أسيوط يُصدر 5 قرارات بتعيين وتجديد تكليف قيادات أكاديمية جديدة ببعض كليات ومعاهد الجامعة
  • الصحفي محمد إسماعين في ذمة الله
  • نقيب الصحفيين يشكر الشركة المتحدة لتنازلها عن بلاغها ضد حمدي حمادة
  • نقيب الصحفيين: الشركة المتحدة تتنازل عن بلاغها ضد الزميل حمدي حمادة