لجريدة عمان:
2024-09-20@00:48:01 GMT

الرجل الذي يصور كل شيء

تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT

أقرأُ باستمتاع هذه الأيام رواية اللبناني ربيع جابر «بيروت مدينة العالم» وأبحث عن الغائب من هذه المدينة البحرية في وعيي المتأخر كقارئ عربي بعيد يحلم بزيارتها لأول مرة، أبحث عن بيروت في القرن التاسع عشر، عن «الزمن القديم النائم في الحجارة» الشاهدة على العقود الأخيرة من ذكريات السلطنة العثمانية.

أقرأ مأخوذًا بفتنة السرد الذي يبدأ من استعادة الروائي لحديثه مع الكونت سليمان دي بسترس عن «حارة البارودي» قبل سنوات قليلة من أفولها، وأفكر بأن أجمل ما يمكنه أن يساعدني في التواصل مع هذه الكتابة الساردة، الكتابة التي تُذيب سيرة الأشخاص في سيرة المكان وتذيب سيرة المكان في سيرورة النص، هو أن أخلِّل أجواء القراءة بمشاهدة مجموعة من الأفلام اللبنانية ذات الطابع المستقل، التي تعرضها منصة نتفليكس عن مدينة بيروت، أو بالأحرى عن حكايات أشخاص وعائلات لبنانية تنتمي إلى هذه المدينة في مراحل معينة من تاريخها، حتى وقعتُ على فيلم «ميراث» للمخرج اللبناني الفرنسي فيليب عرقتنجي.

«ميراث» فيلم يزاوج بين الأسلوب الروائي والوثائقي، بين الأداء التمثيلي وسرد العائلة التاريخي، يحكي سيرة الرحيل عن الوطن الأم واللغة الأم خلال قرن كامل تقريبا من أرشيف عائلة مسيحية، هي عائلة فيليب عرقتنجي الذي يجد نفسه في الأيام الأولى من حرب تموز عام 2006 مضطرًا لمغادرة لبنان للمرة الثالثة في حياته، هاربًا هذه المرة مع زوجته وأطفاله إلى فرنسا التي سيمكثون فيها حتى عام 2010.

على متن السفينة «ليرا بيترا» يتصفح فيليب جواز سفره اللبناني فيُطالع عشرين خِتمًا قُبرصيًا؛ عشرون مرة يغادر وطنه إلى قبرص بحرًا.

يتذكر في عرض البحر نحو المنفى حكايات جدته التي دفعها الخوف مطلع القرن العشرين، إلى الهروب من موطنها، تركيا... الخوف من تهديدات القوميين الأتراك الساخطين على العائلات المسيحية التي وقفت تستقبل بحفاوة وترحيب الجيش الفرنسي في قيليقية، منشدةً النشيد الفرنسي مع الجنود الجدد الهابطين من السفن العسكرية.

ستدور وتدور الرحى في دولاب التاريخ الدائري جاعلةً من حالة الرحيل والمنفى المحلي والخارجي جزءًا طبيعيًا من الهوية الوطنية اللبنانية التي يعيشها إنسان ذلك المكان الملغوم، جغرافيًا وتاريخيا واجتماعيًا، بكل أسباب الحرب وكوامنها، ولذا يمكننا أن نصف الحرب في تاريخ لبنان الحديث بأنها حدث موسمي.

في فيلم «همسات» الذي أخرجه مارون البغدادي عام 1980، تتنقل الشاعرة اللبنانية ناديا تويني بين خرائب الحرب في لبنان الذي تصفه بالوطن المجنون؛ وطن يضحك وهو ينفجر، يرقص وهو ينزف، ويغني وهو يحترق، وفي فيلمه هذا، ميراث، سيقتبس فيليب عرقتنجي من ناديا تويني مقولتها: «البلد ينتحر، في حين يغتالوه».

فيليب عرقتنجي هو الرجل الذي يصور كل شيء وأي شيء قد يصادفه، مهما كان صغيرًا وهامشيًا لا يرقى لمعنى الذكرى لحظة القبض عليه في عدسة الكاميرا، ولكن على أمل أن تكون تلك الأشياء الهامشية الصغيرة مادة لحكاية يمكنه أن يسردها لأطفاله وللناس فيما بعد، حينما تهدأ الحرب ويحلُّ النسيان.

يصور فيليب كل شيء لأنه يخاف على كل شيء، يخاف من النسيان والغياب ومن أشباح الذاكرة القصيرة، ويخاف على طفولته المهجورة المُهجَّرة قسرًا عن شوارع بيروت، «شوارع الحرب اليومية» كما تغني أميمة الخليل.

ولكن ما الطفولة وما الحرب؟ وكيف يمكن الجمع بين الماء والنار، بين الألعاب والأسلحة في درج واحد؟ قد تبدو الطفولة والحرب كلمتين توحيان بالتنافر في اللغة، تبدوان وكأن لا صلة أو وجهًا للمقاربة بين حقليهما الدلاليين في المعجم، ولكن هذا التناقض اللغوي لا يمنع الكلمات المتنافرة في المعجم من أن تخرج عن معانيها قليلًا لتتحاور في الحياة، في حياتنا التي تدور علينا كالخلَّاط الذي يخلط المتناقضات في بعضها.

لم أعش حربًا في طفولتي كما عاش واكتوى بها ملايين الأطفال حول العالم، لكنني عشت الحرب طفلًا في التلفزيون، في الأفلام والروايات، عشتها ومارستها في ألعاب الفيديو وفي الألعاب الفردية التي أنسجها في مخيلتي، وهناك أحببتها ربما. ولم أكن لأصدق أن البطولة تحدث بدون الحرب، كانت البطولة دائمًا بالنسبة لي بحاجة إلى الحرب حتى تتمثل.

تذكرتُ ألعاب الحرب في مشهد يفرغ فيه فيليب أدراج لعبه أمام أطفاله، لكن مقتنيات طفولته التي حرص على تجميعها وصيانتها بالهوس نفسه الذي يصور به كل شيء، لم تكن سوى خردة حرب، حرب حقيقية.

قد يتمنى الابن المُحب، الابن المولع بأبيه، لو يستطيع العودة بالزمن إلى الوراء حتى يعيش طفولته في طفولة أبيه، حتى يتقمص أحلامه. لكن طفولة ذلك الأب، ميراثه الكنز، ليست جميلة دائمًا، ليست الزمن المفقود الذي يبحث الأبناء عنه لو أنهم عرفوه على حقيقته، ولذلك يصور فيليب عرقتنجي كل شيء حتى يمارس بقوة الفن التوثيقي دوره كشاهد حي على هويته وعلى زمن لا يريده أن يتكرر في حياة أبنائه، فالتاريخ لا يعيد نفسه كما سلمنا دائمًا؛ بل من يعيده هو الإنسان نفسه، الإنسان الذي فاتته الحكاية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کل شیء

إقرأ أيضاً:

الفروق بين المرأة والرجل بين الإنكار الأيديولوجي والتقرير الواقعي

بعد أن استعرضنا بتفصيلٍ في المقال السابق السبب الأول من الأسباب الخلفية للمعركة المشتعلة حول طاعة المرأة زوجها، والمتمثل في إخضاع النص الشرعي لفكرة "المساواة التامة" وفق المفهوم الليبرالي، وتحدثنا في مناقشة هذا السبب عن الإشكالات في منهجية التعامل مع النصوص الشرعية؛ نستكمل الحديث عن بقية الأسباب الخلفية لهذه المعركة التي يزكم دخانها الأنوف ويعمي أبصار وبصائر الكثيرين والكثيرات.

فروق طبيعية أم اجتماعية وثقافية؟

إنّ تبني فكرة المساواة المطلقة وفق المنظور الليبرالي أدى بشريحة من المسلمين والمسلمات من المتحدثين بقضايا المرأة إلى الذهاب بعيدًا حد نفي الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة من حيثُ النتيجة والمآل، والسخرية من كل متحدث عن الفروق الفيزيولوجية بين الجنسين، وهذا نتاج التشبع بنظرياتٍ تعد الاختلاف بين الجنسين محض بناءٍ ثقافي واجتماعي وقناعات صنعتها التربية المنزلية أو المدرسية أو المجتمعية لتكريس الهيمنة الذكورية، ولا علاقة لها بأية اختلافات حقيقية بين الرجل والمرأة.

وفي ذلك تقول الفيلسوفة النسوية الفرنسية سيمون دو بوفوار في كتابها "الجنس الثاني": "لا نولَدُ امرأة، ولكن نصيرُ امرأة"، وتقول في موضع آخر: "الأنوثة ليست جوهرًا ولا طبيعة؛ إنها حالةٌ خلقتها الحضارات انطلاقًا من بعض المعطيات الفيزيولوجية".

أما عالم الاجتماع الأميركي إرفنغ غوفمان فيقول: "إن الاعتقادات المتعلقة بالذكورة أو الأنوثة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسلوك النوع"، وبناءً عليه فإن المهام الخاصة بالمرأة في هذه النظريات ما هي إلا نوع من انتهاك كرامة المرأة وتدمير لكينونتها، مثل "غريزة الأمومة المدمرة" كما تسميها الفيلسوفة الفرنسية إليزابث بادنتر وتعقب بقولها: "إن غريزة الأمومة المدمرة مزحة تهدف إلى إقناع النساء بأن من واجبهن القيام بالعمل القذر".

هذه النظريات وجدت طريقها إلى تفكير شريحةٍ من المتحدثات عن المرأة والتصدي للدفاع عن حقوقها في واقعنا الإسلامي، فغدون يتحدثن عمن يفرق بين الجنسين ويطالب بالعدالة أنه يريد أن يسحب من المرأة إنسانيتها وكرامتها البشرية.

العمل في المهن الشاقة أصبح واقعاً لكثير من النساء في البيئات غير المستقرة (الجزيرة) "هذا خَلقُ الله"

لقد غدت قضية طاعة المرأة زوجها غير مقبولة  عند الكثيرات والكثيرين ممن يتبنون هذا التوجه، كون المرأة والرجل متساويين في الصفات النفسية والفيزيولوجية، فالمطلوب هو تحقيق المساواة التامة بينهما في التشريعات والتكليفات والحقوق والواجبات التفصيلية، بينما يقوم التصور الإسلامي على إقرار هذه الفروق وأنها طبيعة بشرية؛ فالله تعالى خلق الكائنات الحية كلها على وفق ثنائية الذكر والأنثى، وهي فطرة الله تعالى في خلقه، وهو القائل جلّ وتعالى في سورة الذاريات: "وَمِن كُلِ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَكُمْ تَذَكَرُونَ".

لقد خلق الله تعالى الرجل والمرأة مختلفين تمامًا في الخَلق الجسدي، ومختلفين كذلك في الصفات النفسية والطباع العامة، وهذا الاختلاف هو عنوان التكامل بينهما وتحقيق الزوجية القائمة على التكامل بين الصفات المختلفة، وهذا الاختلاف أيضًا هو سببٌ رئيسٌ لانجذاب كل من المرأة والرجل إلى بعضهما، وكلما كانت المرأة أكثر شبهًا بالرجل شكلًا وصفاتٍ كان أكثر ابتعادًا عنها ونفورًا منها، وكذلك المرأة إذا كان الرجل أكثر أنوثةً وتخنثًا في شكله وصفاته كان ذلك سببًا في نفورها منه وابتعادها عنه، وكل من الرجل والمرأة يميل إلى الآخر بقدر شعوره بأنه يكمله، فالرجل شديد الاحتياج إلى أن يكمل نفسه بالمرأة والمرأة شديدة الاحتياج إلى أن تكمل نفسها بالرجل، وهذا الشعور بالاحتياج هو الذي يخلق التكامل ويبني الأسرة ويجعل الحياة بين الرجل والمرأة مستمرة معًا بانسجامٍ ومودة ورحمة.

أجل؛ هناك إرادة محمومة لفرض نفي وجود الفروق فرضًا، وإقناع الناس بها بالترهيب إن لم يقبلوها بالترغيب؛ يقول أستاذ علم مقاصد الشريعة الدكتور أحمد الريسوني: "القيم المسماة اليوم بالكونية -وهي قيم يتم فرضها وتغليبها وتعظيمها لأن صناعها وتجارها هم الغالبون- تريد اليوم إبطال كل الفوارق وكل التمايزات بين الرجل والمرأة؛ إنهم يريدون أن يجعلوا اثنين في واحد، فكل ما تتصف به المرأة يتصف به الرجل، وكل ما يتصف به الرجل تتصف به المرأة، وكل ما يفعله الرجل تفعله المرأة، وكل ما تؤديه المرأة يؤديه الرجل، وكل ما يلزم أحدهما يلزم الآخر، وكل ما يجوز أو لا يجوز لأحدهما، يجوز أو لا يجوز للآخر، حرفًا بحرف، وشكلًا بشكل".

إن نفي وجود فروق طبيعية ينتج عنها فروق نفسية في الرجل والمرأة يعود بالظلم والغبن على المرأة قبل أن يعود به على الرجل، لأن هذا يقتضي تكليف المرأة بما لا تطيقه من أعمال ولا ينسجم مع طبيعتها الجسدية أو النفسية باسم المساواة، فالمساواة في المشاق التي تطيقها بنية الرجل أكثر من بنية المرأة هي ظلم للمرأة وغبن لها تحت شعارٍ فارغٍ من المساواة، وهذا ما وجدت بعض المؤسسات الدولية التي تتبنى وترفع شعارات المساواة ونفي الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة نفسها مضطرة للقول به؛ بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك، فبعدَ أن شجعت عمليات التحويل الجنسي وجدت نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات تخالف ما ترفعه من شعاراتِ المساواة واندماج المتحولين؛ ففي مارس/آذار 2023، أعلن الاتحاد الدولي لألعاب القوى أن المتحولين جنسيًا من ذكرٍ إلى أنثى، لن يتمكنوا بعد الآن من المنافسة في المسابقات الخاصة بفئة السيدات، بسبب الأفضلية الجسدية التي يمتلكونها، من باب "العدالة الرياضية".

المطلوب هو تحقيق العدالة بتحقيق الفرص المتكافئة بين الجميع لا الفرص المتساوية (شترستوك) عدالة لا مساواة

وإنّ الشريعة في مبناها ومقاصدها قامت على أن الأصل بين الرجل والمرأة هو المساواة إلا في المواضع التي تتخلف فيها العدالة عند تطبيق المساواة، فتجب عندها العدالة لا المساواة، وفي هذا يقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة": "وبناءً على الأصل الأصيل وهو أن الإسلام دين الفطرة؛ فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين فالتشريع يفرض فيه التساوي بينهم، وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكامٍ متساويةٍ فيه".

ثم يقول: "فالمساواة في التشريع أصلٌ لا يتخلف إلا عند وجود مانع، فلا يحتاج إثبات التساوي بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة، بل يكتفي بعدم وجود مانع في اعتبار التساوي، ولذلك صرح علماء الأمة بأن خطاب القرآن بصيغة التذكير يشمل النساء، ولا تحتاج العبارات من الكتاب والسنة في إجراء أحكام الشريعة على النساء إلى تغيير الخطاب من تذكير إلى تأنيث ولا عكس ذلك".

ثم يتحدث ابن عاشور عن موانع المساواة بعد أن يقسمها إلى أربعة أقسام: جِبلية وشرعية واجتماعية وسياسية، وكل هذه الموانع قد تكون دائمة أو مؤقتة؛ طويلة أو قصيرة؛ فيقول: "فأما الموانع الجِبلية الدائمة فكمنع مساواة المرأة للرجل فيما تقصر فيه عنه بموجب أصل الخلقة".

إن المطلوب هو تحقيق العدالة بتحقيق الفرص المتكافئة لا الفرص المتساوية، وتحقيق العدالة هو الفكرة المثلى التي جاءت بها الشريعة لتحقيق مبدأ المساواة في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف مع مراعاة الفروق في الطبيعة البشرية.

إن حل هذا الإشكال الذي يتم ترسيخه في أذهان شريحة من النساء والرجال باستخدام خطاب المظلومية يسهم بشكلٍ كبير في إطفاء نيران المعركة المشتعلة حول قضية طاعة المرأة زوجها، وإننا ماضون بتفصيل القول في بقية الأسباب الخلفية للمعركة المشتعلة حول طاعة المرأة زوجها -بإذن الله تعالى- في المقال القادم.

مقالات مشابهة

  • أول رد من حماس على المقترح الإسرائيلي الذي يتضمّن "إبعاد السنوار"
  • في خريف عمره بايدن يريد حلا لمشكلة السودان المستعصية التي أعيت الطبيب المداويا
  • معرض فني بالدوحة يصور مأساة الشعب الفلسطيني في غزة
  • حسن إسماعيل: هذا هو السبب الذي اشعل الحرب في السودان(….)
  • الفروق بين المرأة والرجل بين الإنكار الأيديولوجي والتقرير الواقعي
  • مالكوم لمحمد كنو: أحب هذا الرجل.. فيديو
  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • الرئيس العراقي اتّصل بميقاتي.. وأدان الاعتداء الذي تعرّض له لبنان
  • السودان يحترق والقوى الأجنبية تستفيد.. ما المكاسب التي تجنيها الإمارات من الأزمة؟
  • بعد إنهاء تعاقد رضوى الشربيني مع قناة "سي بي سي سفرة".. تعرف على أبرز تصريحاتها التي أثارت الجدل