في العمق : هل تنجح الرقابة الوالدية فـي توجيه استخدام الأطفال للمنصات التواصلية؟
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
سؤال قَدْ تكُونُ الإجابة عَلَيْه في ظلِّ التوسُّع الحاصل في المنصَّات الاجتماعيَّة ودخولها لكُلِّ بيت، بل وتعمُّقها في قناعات وفكر واهتمامات كُلِّ فرد، الأطفال والمراهقين، والصغار والكبار، والرجال والنساء؛ بحاجة إلى أدوات وآليَّات واستراتيجيَّات أكثر تقنينًا وعُمقًا لإثباته، والوصول إليه يتطلب امتلاك فرص التغيير والتصحيح في العادات اليوميَّة للفرد والمُجتمع في استخدام التقنيَّة، حتَّى يتكيَّفَ الأطفال مع معطيات الواقع الجديد، ذلك أنَّ الاهتمام بمنصَّات التواصل الاجتماعي والتقنيَّة اليوم تجاوز مبدأ مزاجيَّة الاختيار وتعدَّى ذاتيَّة الرغبات، وفرض نَفْسَه بقوَّة على واقع الأجيال، وتفاصيل حياتهم ومواقفهم كونهم يعايشون تجلِّيات التقنيَّة في البيت والشارع، بل أصبحت مسألة الدخول في هذه المنصَّات وفتح حسابات فيها خيار القوَّة للعيش في عالَم سريع التغيير، وأصبحت مسألة الرقابة في شكلها التقليدي المعتاد ـ رغم توافر البرامج والأدوات التي تتيح للأهل مراقبة استخدام أبنائهم للهواتف الذكيَّة أو الحواسيب المحمولة وإعادة توجيهها بالشكل الذي يضْمَن المحافظة على قِيَمهم ومبادئهم وأخلاقهم، إلَّا أنَّ مسألة تحقيق ذلك على أرض الواقع، وانتزاع الهواتف من أيدي الأطفال، وفرض سُلطة الوالديَّة في القرار، أصبح ليس من السهولة بمكان، في ظلِّ شيوع انتشارها بَيْنَ الأطفال في عمر مبكِّر، وفي ظلِّ تنازل بعض الأُسر عن مسؤوليَّتها في هذا الشَّأن، لِيضعَ الوالدين أمام معركة مصيريَّة مع الأبناء بما تولِّده من جدال وصراع وأخذٍ وردٍّ قَدْ يتجاوز كُلَّ أشكال الحوار ويتعالى فوق منابر الاحترام والتقدير والثِّقة.
عَلَيْه فإنَّ تأكيد دَوْر الرقابة الوالديَّة يحتاج إلى تثبيت لقواعدها في منظومة البناء الفكري، والقوانين ذات العلاقة، وإعادة هندسة التربية الوالديَّة والتنشئة الأُسريَّة وتعميق حضورها في حياة الناشئة، وتقوية مسار الضبط الاجتماعي الوالدي الذي يستهدف ترسيخ التربية الوقائيَّة التي تحافظ على سلامة الأجيال فكريًّا ونفْسيًّا وجسديًّا من أن تعترضَ التقنيَّة طريق قوتهم وسلامة عقيدتهم ونهضة مبادئهم وسُمو تفكيرهم؛ ذلك أنَّ مفهوم الرقابة ذاته يخضع في ظلِّ هذه التجاذبات والضبابيَّة في المفهوم وطريقة تطبيقه على الواقع الافتراضي، لكثير من الاعتبارات، ويواجه حالة من عدم الثبات في المعايير، إذ ما نوع الرقابة الذي يضْمَن حماية الأطفال من استخدام هذه المنصَّات؟ وهل هي رقابة صارمة تمنع الأطفال من الاستفادة من التقنيَّة أو التجوُّل في المنصَّات؟ وهل سيصمد الوالدان والأهل على تحقيق ذلك في ظلِّ التراكمات والظروف التي باتت تقرأ المشهد الأُسري؟ وهل سيجد الأهل خيارات بديلة لأبنائهم في التقنيَّة ذاتها يُمكِن أن تقدِّمَ للأطفال مشاهد جميلة ومشرِقة تُعِيد إنتاج حياة الطفولة؟ إذا ما علِمنا أنَّنا في مُجتمعاتنا العربيَّة مستهلكون من الدرجة الأولى للتقنيَّة، إذ قَدْ لا نمتلك المحتوى الإلكتروني المثري الموَجِّه للطفولة، وإن امتلكنا جزءًا مِنْه فإنَّ عمليَّات التغيير المتسارعة لهيكلة المحتوى وضبط مفرداته باتتْ يتحكَّم بها صنَّاع التقنيَّة ذاتهم أكثر من مستخدميها، كما أنَّ استهلاك التقنيَّة والصورة القاتمة التي ما زالت حاضرة لدى الطفولة حَوْلَها، والتفسيرات المرتجلة أو سوء استخدام الكبار للتقنيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة باتَتْ يعكس حالة من عدم الاستيعاب أو تحجيم التقنيَّة والمنصَّات في إطارها الضيِّق الذي لا يتجاوز مستوى الترفيه حتَّى وصل لحدِّ الإدمان وارتفعت نسبة الفاقد التعليمي لدى الأطفال بسبب الاستخدام غير المقنَّن للتقنيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة.
ومع النقص الحاصل في المحتوى الإعلامي والتثقيفي والترفيهي والتوجيهي الموَجَّه للأطفال، سواء في جانب الكمِّ والمحتوى، وقلَّة البرامج المبتكرة، وتكراريَّة ما هو موجود مِنْها على مستوى القنوات الإعلاميَّة التقليديَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة التي تعاني اليوم من غياب المحتوى المتخصص الذي يتناسب مع الحالة الوطنيَّة ويجسِّد خصوصيَّة الشخصيَّة العُمانيَّة وتستحضر المُكوِّن النَّفْسي والفكري والعاطفي للطفولة العُمانيَّة، والتي يُمكِن أن تعطيَ الوالدَيْنِ مساحة واسعة من الخيارات والفرص في عمليَّة الاحتواء والرقابة والضبطيَّة في ظلِّ ما يُمكِن أن تؤسِّسَه في الطفولة من فرص الوعي وبناء القدرات وخلق الاستعدادات وتقريب الصورة العامَّة وتجديد مساحة الحوار مع الذَّات والآخر؛ إلَّا أنَّ ذلك لا يُبرِّر غياب الرقابة الوالديَّة أو تحجيمها أو التنازل عَنْها، أو سلبها من واقع الأبناء بأيِّ حجَّة أو وسيلة كانت؛ ما يعني أنَّ الرقابة والمتابعة الوالديَّة يجِبُ أن تكُونَ حاضرة في سبيل الحفاظ على درجة استحقاقات الطفولة من التقنيَّة في عالَم متغيِّر؛ ذلك أنَّ عدم إتقانها لها، في ظلِّ دخول مسار التعليم عن بُعد والمدمج الذي بدأ يأخذ طريقه التشريعي والتنظيمي في هيكلة التعليم المدرسي وبرامج التعلُّم اليوميَّة في بيئة الصَّف الدراسي، يُمثِّل خروجًا عن المسار الذي يجِبُ أن يسلكَه التعليم في سلطنة عُمان، ويحافظَ من خلاله على مسارات التكامل في شخصيَّة الناشئة، ويضْمنَ فيه حقّ الأطفال في استخدام التقنيَّة كجزء من عالَمهم، وأنَّ استخدام هذا الحقِّ يأتي في إطار من التقنين والمتابعة والمراجعة، بما لا يشوِّه كيان الطفولة، ولا يتعدَّى على براءتها وأخلاقها وفطرتها السليمة، ولا يستنزف طاقاتها وأفكارها؛ بل أن يكُونَ لوجودها في هذا العالَم الافتراضي قِيمة مضافة، ومساحة للتأمل والتفكير خارج الصندوق، وفَهْم مسارات التحوُّل التي يعيشونها، ودَوْرهم في إثبات بصمة حضور لهم في إعادة إنتاج عالَمهم الذي باتَتْ تتدخل فيه أيادي الكبار.
وبالتَّالي كيف يُمكِن إيجاد تناغم اجتماعي في مسألة دخول الأطفال في هذه المنصَّات أو استخدامهم للهاتف، هذا الأمْرُ يُبقي الحضور الوالدي الحلقة الأقوى في هذه المعادلة، وتصبح تهيئة الوالدَيْنِ والأُسرة لقَبول التعامل مع معطيات الواقع الافتراضي وتجلِّياته في شخصيَّة الأبناء ضرورة تضعهم أمام مسؤوليَّة التعامل معه بمهنيَّة كجزء من مسؤوليَّتهم الأبويَّة، ما يزيدهم ذلك شغفًا في البحث والاطِّلاع والتعلُّم وكسب الخبرة والمعرفة لِيكُونَ تعاطيهم معه مبنيًّا على كفاءة في الدَّوْر وفاعليَّة في الممارسة؛ وفي المقابل فإنَّ التكاتف المُجتمعي في خلق روح اجتماعيَّة تفاعليَّة في إيجاد قواعد وفرص مسارات متَّفق عَلَيْها سوف يُعزِّز من فرص الحوار الاجتماعي مع الأبناء في بناء سلوك اجتماعي يقتنع به الجميع، ويفتح المجال لخيارات أوسع تتاح فيها الحريَّة المضبوطة في استخدام الهاتف والدخول في هذه المنصَّات؛ وأهمِّية تناغم السلوك الاجتماعي في التعامل في مفهوم الرقابة الأبويَّة على الأطفال في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي التي ينبغي أن تأخذَ منحى الاعتدال والتقارب في السلوك المستخدم مع الأبناء بحيث يعمل المُجتمع على صياغة محدِّداتها وفَهْم مقاصدها، وأن تتجاوزَ المسألة حدود الممارسة الفرديَّة، إلى عقد اجتماعي وميثاق أخلاقي، يستشعر فيه الجميع مسؤوليَّة الإبقاء على خيوط التواصل ممتدَّة، ومساحات الثقة قائمة وهواجس الشعور بَيْنَ الطرفَيْنِ حاضرة، وفرص الحوار التي تحافظ على كيان الأُسرة مستمرَّة، لِتتَّجهَ إلى تبنِّي نماذج تطبيقيَّة على شكل برامج تدريب محاكية للواقع تضع الأطفال أمام مواقف محدَّدة، وتراهن على قدراتهم في ظروف وأحداث مختلفة، بالإضافة إلى قناعة الوالدَيْنِ بطبيعة الدَّوْر الذي عَلَيْهم ممارسته في هذا الجانب وهو دَوْر ينبغي أن يتَّسمَ بالاستدامة والحوار والتصحيح والتناغم وتعزيز حضور الوالدَيْنِ في اهتمامات أبنائهم ومشاركتهم فيها، بمعنى أن لا يقتصرَ الدَّوْر على مجرَّد التوعية والتثقيف، بل أيضًا عَبْرَ الملاحظة المباشرة والحضور المستمرِّ مع الأبناء في أثناء استخدام هذه المنصَّات ومدِّ جسور الثقة والصراحة معهم، وأن يتبنَّى الوالدانِ مسارات قائمة على وحدة التأثير ومنهج التكامل في أساليب توجيه الأبناء بحيث تتَّفق وجهات نظرهم في التعاطي مع الحالة، ووضع إجراءات تصحيحيَّة تعبِّر عن رضاهم بأيِّ تأثير سلبي لهذه المنصَّات على سلوك الطفل أو شخصيَّته.
وعَلَيْه فإنَّ التعامل مع الموضوع يستدعي اليوم بناء ثقافة مُجتمعيَّة متوازنة في استخدام الأبناء للتقنيَّة، وهي ثقافة قائمة على مبادئ الوقاية والأمان السلامة واستنطاق القِيَم، بالشكل الذي يضْمَن امتلاك الأطفال للموجِّهات الأخلاقيَّة والقِيَميَّة والدينيَّة والمُجتمعيَّة التي تمنع من التغرير بهم، أو امتلاكهم الحصانة التعليميَّة والأخلاقيَّة التي تؤصِّل فيهم نقد المعرفة وتصحيح الواقع الافتراضي وامتلاك الحجج والبراهين التي تمنع الهشاشة الفكريَّة من التأثير فيهم، سواء من حيث تعرُّضهم للابتزاز الإلكتروني وما يتبعها من سلوكيَّات غير أخلاقيَّة وتهديدات بفضح الطفل أو الشَّاب ونشر صوَره، الأمْرُ الذي استدعى إيجاد تشريعات وأنظمة عمل وإجراءات وقائيَّة واضحة ودقيقة في التعامل مع مسألة الابتزاز الإلكتروني أو من خلال البرامج التثقيفيَّة والتوعويَّة التي تقوم بها وتوَجَّه لمختلف شرائح المُجتمع والتي أخذت أساليب عدَّة كالتوعية المباشرة واللقاءات والزيارات للمدارس والمؤسَّسات والأُسر، أو عَبْرَ المنشورات والتعريفات والرسائل التحذيريَّة النَّصيَّة القصيرة أو غيرها، إلَّا أنَّ ذلك لا يُمكِن أن يتحقَّقَ إلَّا عَبْرَ تمكين الأطفال من امتلاك الأدوات والآليَّات التي ترفع من سقف تعاطيهم مع المخاطر أو التشويهات الحاصلة في المنصَّات الاجتماعيَّة، بما يؤصِّل فيهم الوعي بالنتائج المترتبة على الدخول في هذه المنصَّات.
أخيرًا، فإنَّ ما باتَتْ تُفصح عَنْه محتويات هذه المنصَّات الاجتماعيَّة من انحرافات فكريَّة، وتغرير بالأبناء في قضايا الشذوذ والإلحاد والمثليَّة والنسويَّة وإدخال الأطفال في دوَّامات وأفكار ارتجاليَّة خارج عالَمهم البريء، ونيَّاتهم الصادقة، يؤكِّد الحاجة إلى تبنِّي سياسات وطنيَّة في تعزيز مسار الرقابة الوالديَّة، وترسيخ ضرورات الضبط الأُسري والاجتماعي، والمزيد من الاحتواء والبناء الفكري للأبناء الذي يصنع فيهم قوَّة المواجهة، ويبقى إعادة هندسة سلوك الكبار، والظهور الجريء غير اللائق للمرأة في هذه المنصَّات، وحالة التهافت على استهلاك مستحدثات هذه التقنيَّات والمنصَّات، والتي يوهم بها الأطفال من مستخدمي هذه المنصَّات في قدرتها على ـ إحداث التغيير في حياتهم، وقلب موازين العيش لدَيْهم، بحالة السرور التي تدخلهم، والحياة الجميلة التي سيعيشونها بفعل استخدام هذه التقنيَّة والفرص الماليَّة المتحقِّقة لهم، والتي باتَتْ تسترق من فِقه الأطفال وقناعاتهم روح البساطة التي يعيشونها، وما يُمكِن أن يؤصِّلَه ذلك في قناعات وأذهان الأطفال من تشوُّهات في الصورة، وتصدُّعات في النسيج الاجتماعي، واختلالات في الأفكار والقناعات الذَّاتيَّة للفرد.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: ات الاجتماعی الأطفال فی مع الأبناء التعامل مع الأطفال من فی استخدام الوالد ی ن ة التی
إقرأ أيضاً:
بين تفاؤل حذر وتحديات معقدة .. هل تنجح جهود الهدنة في غزة ؟
غزة- مراسل «عُمان» - بهاء طباسي:
تخيم حالة من الترقب المشوب بالتفاؤل الحذر على الأجواء في قطاع غزة، وسط الحديث عن جهود حثيثة تقودها مصر وقطر للتوصل إلى اتفاق تهدئة ينهي الحرب المستمرة على القطاع منذ أكثر من 14 شهرًا.
وبينما تستمر المفاوضات بوتيرة مكثفة بين الأطراف المختلفة، تبقى الصورة النهائية للاتفاق غير مكتملة، ما يجعل الساحة مفتوحة على كافة السيناريوهات.
تطورات المشهد الميداني والدبلوماسي
وفقًا لمصادر فلسطينية مطلعة، فإن الحديث عن اتفاق وشيك قد يكون مبالغًا فيه، حيث أكدت قناة «كان» العبرية أن «الطريق لا تزال طويلة حتى الإعلان عن اتفاق»، رغم الجهود المكثفة التي تُبذل من قبل الوسطاء. وأضافت ذات المصادر أن المفاوضات تركز على عدة قضايا محورية، أبرزها الإفراج عن الأسرى والمعتقلين، وضمان عودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله.
صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية سرّبت أن صفقة التبادل المقترحة ستتم على مرحلتين؛ المرحلة الأولى، التي تعتمد على صيغة سبق أن طرحها الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال الصيف الماضي، ستمتد على مدار 42 يومًا وتشمل إطلاق سراح كبار السن والمرضى والمجندات الإسرائيليات. في المقابل، ستقوم إسرائيل بإعادة انتشار جزئي لقواتها، بما في ذلك الانسحاب بشكل شبه كامل من محوري نتساريم وفيلادلفيا.
موقف حماس: مرونة مشروطة
مصدر قيادي في حركة حماس أشار إلى أن الحركة تتعامل مع هذه المفاوضات بجدية، لكنها تتمسك بمطالبها الرئيسية، وعلى رأسها الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين دون استثناء.
وأضاف المصدر: «إننا ندرك تعقيد الموقف، لكننا نثق بقدرتنا على تحقيق مكاسب وطنية تليق بتضحيات شعبنا».
حماس ترى أيضًا أن عودة النازحين إلى مناطقهم الأصلية في شمال القطاع شرط غير قابل للمساومة.
وأكد القيادي، الذي فضل عدم ذكر اسمه: «الاحتلال يحاول استخدام هذا الملف كورقة ضغط، لكننا نصر على أن تكون العودة كاملة وغير مشروطة».
موقف إسرائيل: حسابات داخلية وضغوط خارجية
على الجانب الإسرائيلي، يبدو أن الحكومة برئاسة بنيامين نتنياهو تواجه تحديات كبيرة في إدارة هذا الملف. فرغم التصريحات التي أدلى بها مسؤولون إسرائيليون كبار لصحيفة «يسرائيل هيوم» بأنهم «قريبون جدًا من التوصل إلى اتفاق معقد للغاية»، إلا أن التفاصيل النهائية لم تُحسم بعد.
إسرائيل تشترط إخضاع النازحين العائدين لتفتيش أمني دقيق، ما يعكس مخاوفها من إمكانية استخدام هذه العودة كغطاء لعمليات تسلل أو نقل أسلحة. كما أنها تسعى لتجنب أي خطوات قد تُفسر كتنازل أمام حماس، في ظل الضغط الداخلي المتزايد من المعارضة.
دور الوسطاء: مصر وقطر في قلب الحدث
تلعب كل من مصر وقطر دورًا محوريًا في تقريب وجهات النظر بين الطرفين. مصدر مصري مسؤول أكد أن القاهرة تُجري اتصالات مكثفة مع كافة الأطراف.
وأشار إلى أن «الهدف الأساسي هو التوصل إلى اتفاق يضمن تهدئة طويلة الأمد ويضع حدًا لمعاناة المدنيين في قطاع غزة». لكن مصدر مصري آخر نفى ما تردد من أنباء عبر وسائل إعلام عدة عن زيارة مرتقبة لرئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى القاهرة.
من جانبه، أوضح مسؤول قطري أن الدوحة تعمل بالتنسيق مع مصر والمجتمع الدولي لدفع العملية التفاوضية قدمًا.
وأضاف: «نحن نركز على الجوانب الإنسانية في هذه المرحلة، خاصة ما يتعلق بالإفراج عن الأسرى وتخفيف الحصار».
أهالي غزة: تفاؤل حذر وسط المعاناة
في مخيمات النزوح في قطاع غزة، يتابع المواطنون بقلق وحذر ما يجري خلف الكواليس.
يقول أكرم عبدالعزيز، 53 عامًا، أحد سكان مدينة غزة: «سمعنا عن الكثير من الاتفاقات في السابق، لكنها غالبًا ما كانت تنهار بسبب تعنت الاحتلال. نأمل أن تكون هذه المرة مختلفة».
وأضاف أكرم، لـ«عُمان» خلال حديثه: «لا نريد سوى العودة إلى منازلنا بكرامة وأمان. لقد تعبنا من التنقل بين الملاجئ المؤقتة والحياة في الخيام».
وتابع: «نحن نعيش حالة من الانتظار القاتل، فالأخبار تأتي متضاربة. نأمل أن يكون هناك حل قريب يعيد لنا الاستقرار».
عاصم طلال ، شاب جامعي، 21 عامًا، يعبر عن وجهة نظر أكثر تشاؤمًا: «لا يمكننا الوثوق بسهولة بهذه المفاوضات. حتى لو تم التوصل إلى اتفاق، هناك دائمًا احتمال لانهياره في أي لحظة. نحن نريد سلامًا حقيقيًا، وليس مجرد هدنة مؤقتة».
احتمالات النجاح والفشل
يرى المحلل السياسي الفلسطيني، أيمن الرقب، أن نجاح الاتفاق يعتمد على قدرة الوسطاء على تجاوز العقبات الرئيسية، خاصة ما يتعلق بملف النازحين والأسرى.
ويقول الرقب: «إذا استمرت الأطراف في التمسك بمواقفها دون تقديم تنازلات، فمن الصعب أن نرى اتفاقًا قريبًا».ويضيف لـ«عُمان»: «دور الوسطاء مهم جدًا، لكن الضغط الدولي هو العامل الحاسم. إذا شعر أحد الأطراف بأنه يستطيع التهرب من التزاماته دون عواقب، فقد نشهد انهيارًا سريعًا لأي تفاهمات يتم التوصل إليها».
ويوضح الرقب أن الظروف الميدانية تلعب دورًا كبيرًا في تحديد مسار المفاوضات: «الواقع على الأرض معقد للغاية. هناك أزمات إنسانية خانقة، وضغوط على حماس من الداخل، وأيضًا ضغوط على نتنياهو من المعارضة والمجتمع الدولي. هذه العوامل قد تدفع الأطراف إلى تسريع التوصل لاتفاق، لكنها أيضًا قد تُعقد الأمور إذا لم تتم إدارتها بحذر».
على النقيض، يرى المحلل الإسرائيلي، يوسي ميلمان، أن الحكومة الإسرائيلية قد تضطر للموافقة على بعض مطالب حماس، خاصة في ظل الضغوط الدولية.
ويقول ميلمان: «نتنياهو يدرك أن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر، لكن أي تنازل قد يُفسر كضعف. هذا المأزق هو ما يجعل المفاوضات صعبة للغاية».
ويضيف ميلمان: «إسرائيل تريد تهدئة طويلة الأمد، لكن هناك مخاوف من أن تُستخدم فترة التهدئة لإعادة تسليح حماس. لذلك، فإن أي اتفاق سيشمل آليات مراقبة دقيقة، وهو ما قد يكون نقطة خلاف جديدة».
وفي تعليقه على المرحلة المقبلة، يوضح المحلل السياسي الإسرائيلي المتخصص في قضايا الأمن والاستخبارات والدفاع: «حتى إذا تم التوصل إلى اتفاق، فإن تنفيذه على الأرض سيكون التحدي الأكبر. نحن نتحدث عن وضع هش للغاية، وأي خطأ صغير قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر».
بين الواقع والمأمول
في الوقت الذي تتكثف فيه الجهود الدبلوماسية لتحقيق تهدئة في قطاع غزة، يبقى الأفق مليئًا بالتحديات. وبينما يترقب سكان غزة بقلق أي بارقة أمل، يظل النجاح مرهونًا بمدى قدرة الأطراف على تقديم تنازلات متبادلة. وحتى ذلك الحين، يبقى التفاؤل الحذر سيد الموقف.
ولكن، لا يمكن تجاهل تعقيدات الواقع التي تجعل تحقيق تهدئة دائمة أمرًا بالغ الصعوبة. إن استمرار المعاناة الإنسانية في غزة والضغوط الداخلية على جميع الأطراف يُبقي احتمالية انهيار أي اتفاق واردة.
ومع ذلك، فإن الوصول إلى صيغة تهدئة مؤقتة، ولو كانت هشة، يُعد خطوة صغيرة لكنها مهمة نحو تهدئة طويلة الأمد. الأهم الآن هو مدى قدرة الأطراف، بدعم الوسطاء، على إدارة التفاصيل الدقيقة للاتفاق لضمان عدم الانزلاق مجددًا في دوامة الحرب.
وبينما يعيش سكان غزة بين التفاؤل والشك، يبقى الأمر المؤكد هو أن الحاجة إلى حل جذري ومستدام تتجاوز الترتيبات المؤقتة. هذا الحل يجب أن يضمن حياة كريمة للشعب الفلسطيني، مع تحقيق الأمن والاستقرار لجميع الأطراف المعنية، وإلا ستظل غزة رهينة للصراعات المتكررة.