أثار قرار وزير التربية الوطنية الفرنسي، غابريل أتال، الصادر في أغسطس/ آب الماضي، والقاضي بمنع العباية في المدارس الفرنسية باعتبارها تمثل رمزا دينيا يهدد العلمانية جدلا واسعا في الأوساط السياسية في فرنسا، وقوبل بانتقادات شديدة من شخصيات وأحزاب سياسية فرنسية معارضة.

وفي تصريحات صحفية مختلفة، دافع الوزير عن قراره بالقول إن "العباءة ليس لها مكان في مدارسنا، وقد تضاعفت في الأشهر الأخيرة حالات المساس بالعلمانية بشكل مخيف، بارتداء ملابس دينية كالقميص والعباءة، يجب أن نوقف هذا لمواجهة محاولات تهديد الاستقرار".



القرار أحدث انقساما في أوساط التيارات والأحزاب السياسية الفرنسية، ففي الوقت الذي رحبت فيه أحزاب وتيارات اليمين واليمين المتشدد، ووصفته بـ"الخطوة الجيدة في حال تم تطبيقه على أرض الواقع"، انتقدته أحزاب وتيارات يسارية معارضة.

وفي هذا الإطار حذر جان لوك ميلنشون، زعيم ائتلاف الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد من "ظهور حرب دينية جديدة مفتعلة وسخيفة"، وكتب في تغريدة يقول:  "من المحزن أن نشهد عودة مدرسية مسيسة وسط حرب دينية مفتعلة".

قرار منع العباءة في المدارس الفرنسية يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات عن الدوافع الكامنة وراءه، هل أن القرار يأتي بالفعل في سياق الإجراءات الحكومية الرامية إلى المحافظة على علمانية الدولة، وقيم الجمهورية، كما ورد في تصريحات مسؤولين فرنسيين، أم أنه يخدم أجندات سياسية معينة، ويأتي في سياق استقطاب سياسي، وفق شخصيات وأحزاب سياسية فرنسية معارضة؟

في قراءته وتحليله لدوافع القرار، رأى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الهاشمية بالأردن، وخريج الجامعات الفرنسية، الدكتور جمال الشلبي أن "مثل هذا القرار يأتي في ظل عجز إدارة الدولة الفرنسية، وعدم قدرتها على إدارة الملفات الضخمة، والتعامل مع قضايا الشباب، وقضايا المقيمين واللاجئين".


                     جمال الشلبي.. أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الهاشمية بالأردن

وأضاف: "هذه القرارات تأتي في سياق إبعاد الناس عن الانشغال بالقضايا الحقيقية، وإيجاد حلول وتدابير مناسبة لها، ودفعهم للتفكير بقضايا غير حقيقية، وربما تكون سخيفة، ففرنسا تعتبر دولة علمانية، وطبقت ذلك عمليا منذ عام 1905، فلا يمكن أن تكون حماية العلمانية، ولا الدفاع عن قيم الجمهورية بمثل هذه القرارات، إنما هذا عبث بالأولويات من قبل إدارة الدولة".

وتابع: "وللأسف فإن مثل هذه القرارات المتخبطة تأتي بعد انتهاء عصر العظماء الذين تعاقبوا على قيادة فرنسا، وبات يتولى قيادتها من يدفع باتجاه أخذها إلى المجهول، ففرنسا لم تعد دولة كبرى، وباتت منعزلة، والكل يكرهها، ولم تعد قبلة المتطلعين للحرية، وتلك القيم النبيلة التي تأسست عليها الجمهورية الفرنسية".

ولفت الشلبي في تصريحاته لـ “عربي21" إلى أن الجاليات العربية والإسلامية التي تقيم في فرنسا، والتي يُقدر عددها بـ6 مليون نسمة، قد اعتمدت فرنسا في سنوات صعودها الاقتصادي على العمالة من تلك الجاليات، " متسائلا "لصالح من يتحول هؤلاء اليوم إلى كبش فداء في السياسة الفرنسية الحالية، الذين جاؤوا للدفاع عن فرنسا، والمساهمة في بنائها"؟

وأردف: "لم تعد قوة فرنسا الاقتصادية والصناعية كما كانت من قبل، فقد تراجعت أمام منافسين أقوياء على الساحة الدولية كالصين وغيرها، وثمة مشاكل حقيقية داخل فرنسا، كتردي الأوضاع الاقتصادية، ووجود جيش من العاطلين عن العمل، وثمة استهداف لوجود اللاجئين، وتوجه لإعادة من حصلوا منهم على الجنسية الفرنسية، كما أن الإسلاموفوبيا تزداد توسعا في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، وثمة عجز وتخبط في إدارة الدولة لهذه الملفات الضخمة، ما يدفع الإدارة لإشغال الناس بقضايا ثانوية".

وفي ذات الإطار وصف مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة إفدي لحقوق الإنسان بباريس، الدكتور عبد المجيد مراري القرار بأنه "يُظهر عجز الوزير في بداية مشواره الوزاري، وبداية السنة الدراسية عن التصدي للمشاكل الحقيقية، والهروب منها بالاختباء وراء مسائل أخرى كلبس العباءة وغيرها من الأمور المرتبطة بالمظاهر، والتي لا علاقة لها بأي دين على الإطلاق".

   عبد المجيد مراري، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمنظمة إفدي لحقوق الإنسان

وأضاف: "نحن نرفض نسبة العباءة إلى الدين الإسلامي، فهي لباس مرتبط بثقافات معينة، وتلبسه هنا في فرنسا نساء ينتمين إلى أديان مختلفة، ومن المؤكد أن الدوافع وراء هذا القرار هو فشل الحكومة الفرنسية في مواجهة مشاكلها الحقيقية، كارتفاع الأسعار، الأزمة الاقتصادية التي تعيشها فرنسا، بعض الأزمات الاجتماعية، فوران في الأحياء الشعبية نتيجة التهميش وغير ذلك، فشل المنظومة التعليمية بسبب غياب 350 رجل تعليم لم تستطع الوزارة تغطية هذا العدد في هذا المجال".

وأكد مراري لـ"عربي21" أن هذا القرار "يأتي على عكس قيم العلمانية للدولة، والتي تمثلت بقانون 1905، المبني على حرية الاعتقاد، وحرية التدين، ومرتبط أساسا بالحريات الشخصية، فالعلمانية في روحها تعني أن لا تتدخل الدولة في الأمور الدينية، وهو عكس ما نلحظه الآن، إذ باتت الحكومات الفرنسية المتعاقبة، وبحسب تقارير أممية تتدخل في شأن ديانة بعينها، وتتدخل بشأن مواطنين فرنسيين مسلمين، ولا تفعل الشيء ذاته مع فرنسيين ينتمون لديانات أخرى".

وأكمل بيان فكرته بالقول "هذا القرار ـ وأمثاله ـ يأتي في سياق مناكفات وصراعات سياسية، يراد من ورائها استرضاء اليمين المتطرف، وكسب أصواته في الانتخابات، ودائما الحلقة الأضعف هم المسلمون من اللاجئين والمهجرين، وأصبح ملف المهاجرين والمسلمين هو القضية التي تهيمن على مشاريع انتخابية لغالب المرشحين، مع غياب أي رؤى سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للتطور الاجتماعي وحلول للمشاكل الحقيقية في فرنسا".

وعن تداعيات هذا القرار على المسلمين الفرنسيين والمقيمين في فرنسا، أبدى مراري أسفه الشديد بسبب تداعيات ذلك القرار على نفوس الطالبات المسلمات اللواتي بتن يشعرن بالاعتداء على حريتهن وحقوقهن، ونحن نأسف للمنحى الذي اتخذه قرار مجلس الدولة، والذي كان مفروضا أن يحمي الحريات كما حماها في قراره عام 2016... ".

وأردف: "نحن كمنظمات حقوقية نقوم بدورنا في الدفاع عن هذه الحريات، في إطار تفاعلنا مع هذه القضايا في المحافل القضائية، وتقدمت عدد من المنظمات الحقوقية بطلب إلى مجلس الدولة للمرة الثانية للنظر في قانونية العباءة، كي يحدد مفهوم هذه العباءة وطولها وشكلها وعرضها، ويعطي تعريف قانوني محدد لها، لأنه أصبح محل جدل كبير بين مؤسسات التعليم المختلفة".

من جهتها قالت الكاتبة والمدونة السورية المقيمة في ألمانيا، هديل الزير "لم يكن القرار مفاجئا، فهو حلقة من سلسلة بدأت ولن تنتهي ـ بكل أسف ـ بقصد التضييق على الحريات الدينية بشكل عام، والتي تستهدف المسلمين بشكل خاص في تعارض صريح مع قيم الدولة الفرنسية، محتجة بقيم أخرى كالعلمانية وقيم الجمهورية، فالقرار الأخير احتج بالقرار الصادر عام 2004 بحظر ارتداء الرموز الدينية في المدارس الحكومية".


                                                هديل الزير.. كاتبة ومدونة سورية.

وتابعت: "وكما هو معلوم فإن العباءة ليست رمزا دينيا، إنما هي تعبير ثقافي تقليدي لزي ترتديه النساء في بعض الدول العربية والإسلامية، ولا يوجد نص يفرض ارتدائها، فالزي الإسلامي أوسع من العباءة، لذا فإن الأمر يتجاوز مسألة حظر ارتداء الرموز الدينية إلى مسألة أعمق، تعبر عن أزمة حقيقية في المجتمع الفرنسي تتمثل في رفض التنوع الثقافي والعرقي، الذي تأسست عليه الجمهورية في تطرف عنصري، يفرض على مكونات المجتمع رؤية أحادية، تمس حرية المواطن في أدق تفاصيل حياته وأهمها ملبسه ومأكله ومشربه".

وردا على سؤال (عربي21) حول توظيف تلك القرارات كنوع من الاستقطاب السياسي، ذكرت الزير أنه "لم يعد خافيا على أحد أن الاستقطاب السياسي الذي يظهر في المواسم الانتخابية في دول ديمقراطية شتى بات يستخدم العنصرية، والخطاب الشعبوي لكسب أصوات الغالبية، عبر خلق معركة متوهمة مع الأقلية من باقي مكونات المجتمع ممن هم شركاء في الوطن لتحقيق مكاسب انتخابية".

وواصلت: "يأتي هذا السلوك الوصولي كنوع من مجاراة الأحزاب اليمينية المعارضة كنوع من المراوغة لسحب ورقة مهمة تستخدمها الأحزاب اليمينية للوصول للحكم عبر أصوات من ترسخت فيهم العنصرية الثقافية والدينية والاجتماعية، فتقوم بتحميل الأقلية مسؤولية إخفاقات الحكومات في ملفات عديدة، كان ينبغي أن تتحلى بالشجاعة الأدبية، والمسؤولية الأخلاقية في تحملها نتيجة سياساتها وقراراتها الخاطئة".

وعن تداعيات ذلك القرار على المسلمين المقيمين في فرنسا، وكيف سيتعاملون معه، أوضحت الزير "المشكلة في مسألة العباءة تتجاوز قطعة القماش، أو الزي التقليدي الذي يمكن أن تجد المسلمة بدائل أخرى إلى مشاكل أعمق بكثير، كأثره النفسي على نفوس الفتيات اليافعات حينما يجدن في يومهن الدراسي الأول الشرطة تستقبلهن على باب المدرسة لتمنعها من الدخول بسبب لباسها، وما يحدثه ذلك في نفوسهن تجاه وطن يمايز بينهن وبين زميلاتهن، بسبب ذلك اللباس".

ورأت في ختام حديثها أن مواجهة ذلك القرار "ينبغي أن تكون عبر تشكيل حلف وطني يتحمل مسؤوليته تجاه وطنه، ليدافع عن المكتسبات التاريخية التي حققتها الثورة الفرنسية في الدفاع عن الإنسان وحقوقه وحريته قبل أن تتحول العلمانية لمقصلة جديدة تدك رؤوس المواطنين بحجج غريبة في ارتداد تاريخي للاستبداد الديني والثقافي الذي ثارت عليه".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تقارير فرنسا لباس المسلمون فرنسا مسلمون قوانين لباس تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تغطيات سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی المدارس هذا القرار فی فرنسا فی سیاق

إقرأ أيضاً:

مستشار حكومي:(9600) مدرسة حاجة العراق الفعلية منها

آخر تحديث: 30 شتنبر 2024 - 8:48 ص بغداد/ شبكة أخبار العراق- كشف مستشار رئيس الوزراء لشؤون التربية عدنان السراج، الأثنين، عن عدد المدارس التي يحتاجها العراق، فيما بين أن هناك خطة من محورين لبناء 14 ألف بناية مدرسية عبر الاستثمار والكشف عن آلية تسديد التكاليف.ونقل الإعلام الرسمي عن السراج ، قوله إن “العراق بحاجة الى 9600 مدرسة وخلال العامين القادمة قد يحتاج الى 12000 ألف مدرسة”، لافتا الى أنه “تم طرح مقترحات ووافق عليها رئيس الوزراء، منها بناء 4000 مدرسة عبر صندوق العراق للتنمية أعلن عن تخصيص مواقع 400 منها على أن تنجز خلال عامين“.وأضاف، أن “بناء تلك المدارس يتم  من قبل المستثمرين بعد توفير قطعة أرض له من قبل الحكومة كما يقوم بعملية الصيانة وتجهيز المدرسة بالرحلات والسبورات، وبعد إكمالها تؤجرها الدولة لـ 15 عاماً على أن تعود ملكيتها للدولة بعد انقضاء المدة“.وأشار الى أن “هناك مقترح آخر ببناء 10 آلاف مدرسة من خلال قيام المستثمرين ببناء المدارس وتجهيزها وتدفع الدولة مبالغ عن كل طالب في المدرسة للمستثمر“.

مقالات مشابهة

  • خبير اقتصادي: الهدف من إلغاء الضريبة على العملة الأجنبية تحقيق مصلحة سياسية لمن قاموا بتعيين غفار
  • خبير قانون دولي: حماية البعثات الدبلوماسية تستند لقواعد القانون الدولي
  • برلماني: رسائل الرئيس بحفل أكاديمية الشرطة دليل على حماية مصر لأمنها القومي
  • أستاذ علوم سياسية: مصر تبذل جهودا ضخمة ببرنامج الحماية المجتمعية
  • تطبيق نظام الفترتين في المدارس الرسمية للغات: تفاصيل جديدة للعام الدراسي 2024/2025
  • مستشار حكومي:(9600) مدرسة حاجة العراق الفعلية منها
  • قرار جديد يخص المدارس الرسمية للغات 2024
  • عضو بـ«إسكان النواب»: وقف العمل بالاشتراطات البنائية يؤكد دعم الدولة للمواطن
  • قرار هام من وزير التعليم بشأن الدارسة بالمدارس الرسمية للغات والمتميزة
  • لحل كثافة الفصول.. «التعليم» تطبق نظام الفترتين على المدارس التجريبية