محمد قراطاس يكتب: ما لا نعرفه عن ابن الفارض
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
أثير- محمد قراطاس
شغلني شعره كما شغل آلاف الشعراء والقرّاء في العالم. فعندما أقرأ له أشعر بحرارة الكلمات تغمرُ روحي. شاعرٌ قادرٌ على نقلك من خيال إلى آخر آخذا بيديك إلى محطات كثيفة في الحبّ الطاهر والخالص. قررتُ الوقوف على مسجده في زيارتي الأخيرة للقاهرة، وقد وصلتُ إليه بعد صعوبة وذلك بسبب وجوده بين الكثير من الأحياء المتداخلة والمدافن.
الإمام الذهبي قال عن قصيدته التائية أنها إن لم تكن فيها عقيدة الإتحاد فليس هناك في العالم من زندقة ولا ضلال! وقال عنه ابن خلّكان كان شاعرا رقيقا ينحو منحى الفقراء وهو مسمّى الزهاد في تلك الفترة، واختلف في أشعاره الجميع. لكنهم يتفقون جميعاً على أنّه مبدعٌ استثنائي في استدراج القلب إلى الدهشة.
أُخفي الهوى ومدامعي تُبديهِ
وأميتهُ وصبابتي تُحييهِ
فكأنّهُ في الحسنِ صورةُ يوسفٍ
وكأنني في الحزنِ مثلُ أبيهِ
ياحارقاً بالدمع وجه محبِّهِ
مهلاً فإنّ مدامعي تُطفيهِ
هو شرف الدين عمر بن علي الحموي من أعمق وأرقّ الشعراء في العشق والمحبة الإلهية، ولد في القاهرة سنة 576 بعد الهجرة. غلب عليه اسم ابن الفارض لأن والده كان فقيها كبيرا في علم الفرائض.
درس الفقه ولكنه قضى معظم أوقاته معتزلا الناس في الأماكن النائية في الجبال أو في الخرابات البعيدة، متأملاً وباحثاً في الحياة والخالق والوجود. دفعه ذلك البحث المضني إلى الرحيل من القاهرة تجاه مكة ليقضي فيها 15 عاما متنسكاً في وادٍ قريب منها وهناك هدأت نفسه وامتلأت بالنور والعشق وكتب الكثير من قصائده.
اشتهر اسمه بعد عودته فتقرّب إليه الجميع، كان مرحباً ودمثاً في تعامله مع جميع زوّاره، عمر ابن الفارض كان يتحاشى قرب السلاطين، كان يعيش في زمان السلطان الكامل ناصر الدين محمد الأيوبي الذي أرسل إليه في إحدى المرّات 1000 دينار – وهو مبلغ ضخم في حينها- فرفضه، وطلب منه أن يحجز له مكانا بجانب قبر والدته أي والدة السلطان بقرب الإمام الشافعي، وهو اعتراف كبير بحسن ظنّ السلطان فيه وفي ورعه، لكنه رفض ذلك أيضاً، لأن ابن الفارض لم يكن طالبا للجاه أو المال وإنما هو روحٌ عاشقةٌ واقفةٌ على باب المحبة.
قلبي يحدثني بأنّك مُتلفي
روحي فداكَ عرفتَ أم لم تعرفِ
ما لي سوى روحي.. وباذل نفسه
في حبِّ من يهواهُ ليسَ بمسرفِ
ما لا يعرفه كثيرٌ من قرائه أنّ سبب اغترابه لأكثر من خمسة عشر عاما في مكّة كان بقّالا بسيطاً لا يُحسنُ الوضوء في المدرسة السيوفية. حين صحح له ابن الفارض، قال البقال: يا عمر أنت ما يُفتح عليك بالقاهرة ولكن يُفتح عليك بالحجاز، فسافر إلى مكة مباشرة ودون تردد وكان ذلك في غير توقيت رحلة الحج، لنعرفَ مقدارَ حجم المحبَة التي استولت على مجامع روحه.
فلسفته في الحبّ والتصوف غلبت على أشعاره فكان حضور الرمزية والمجاز فيها قويا. وكان غارقاً في المحبّة لدرجة أنّها تملكته واحتلت كلّ حرفٍ في شعره.
يُحشر العاشقون تحت لوائي
وجميع الملاح تحت لواكا
أوّل الكثير قصائده إلى غير معناها الأصلي واتهم بعقيدة الاتحاد والحلول وتم تكفيره ورميه بالزندقة، وأغلب الكتابات والاتهامات صدرت بعد رحيله عن الحياة. في حين لم يكن ابن الفارض سوى محبٍّ مخلصٍ لحبيبه فسخّر لهُ كلّ معنى مدهش وأبدع له كلَّ مجازٍ مذهل.
لم يعش ابن الفارض سوى 56 سنة. ولا أستطيعُ تصوّر حال الشعر العربي لو عاشَ أكثر من ذلك.
ترك ديوانا واحدا كان تأثيرُه وحضورهُ كبيراً في الأدب العربي والعالمي وبالذات الشعر الصوفي. من ضمن الديوان قصيدته التائية الكبرى التي يزيد عدد أبياتها عن 760 بيتا سمّاها نظم السلوك، لا تستطيع أن تجد فيما بينها حشوا أو بيتا زائدا عن الحاجة. وقد قام الكثيرون طوال العصور المتعاقبة بعد وفاته بشرح ديوانه لما يحتويه من شعرية عالية وعمق فلسفي.
توفي ابن الفارض سنة 632 ودفن تحت سفح جبل المقطّم في القاهرة. وهو مزار حاليا يتوافد إليه الناس بمختلف مشاربهم من الشعراء إلى المريدين.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
مؤمن الجندي يكتب: مسرحية بلا فصل أخير
في مسرح الحياة، تُضاء الأنوار على خشبة متآكلة، تتكرر على سطوحها الوجوه ذاتها، بملامح حفظناها عن ظهر قلب.. وجوهٌ اعتادت الوقوف تحت الأضواء، تدّعي التغيير وهي ذاتها التي صنعت الغبار فوق أحلام الإصلاح، كلما هلّت بشائر الأمل، عادوا لينتزعوا من قلوبنا شرارة الترقب، ويغرسوا مكانها رماد الخيبة.
مؤمن الجندي يكتب: كأس مها سلامة مؤمن الجندي يكتب: ولي العهد والنيل الذي لا يجف أبدًاإنها الوجوه التي تتقن التحول، ترتدي أقنعةً جديدة عند كل انتخابات، وتبيع شعارات مطلية بوعودٍ زائفة، نرى الطموحات معلقة بين صخب الشعارات، بينما الحقيقة تكمن في تلك الأيادي التي ألفت احتكار الكراسي، تتشبث بها بإصرار غريب، وكأنها جذور زرعت تتغذى على حلم التغيير حتى يموت قبل أن يولد.
في ظلال هذه الدوامة، يبقى الأمل محاصرًا، وحلم الإصلاح طيفًا بعيدًا، يهيم في أفق مستحيل.. تستمر الوجوه، وتستمر معها الخيبات، كأننا في مسرح عبثي يتكرر بلا نهاية، يتركنا نتساءل: هل هناك حقًا أملٌ في تغيير، أم أن حكايتنا ستبقى مسرحية بلا فصل أخير؟
في ظلال الملاعب المصرية، حيث كنا نشهد على مرّ العقود مواسم من الشغف والانتصارات، تتصاعد اليوم أصوات الشكاوى، وتملأ المشهد ملفات قضائية وبلاغات، وأحكام بحبس لاعبين، وتسريبات تهدد أساس اللعبة الجميلة، لتتحول كرة القدم المصرية إلى ميدانٍ للجدل والخيبة، في مشهد يعكس تراجيديا مركبة من الفساد، والغموض، والانهيار.
من ساحات للتنافس الشريف إلى ميدانٍ لتسريبات وبلاغاتمن بين التفاصيل الصغيرة التي أُغفلت لتتضخم وتصبح جزءًا من صورة شاملة من التدهور، يبرز فساد الإدارة الرياضية، وكأن الفساد نسيج أصيل، يعانق الفشل ويخترق الساحة الرياضية.. أصبحت الرياضة بشكل عام تُدار بطرق لا تتوافق مع تطلعات الجماهير التي تبحث عن المتعة والنزاهة في لعبة يعشقونها، وبدلًا من أن تكون الملاعب ساحات للتنافس الشريف، تحولت إلى ميدانٍ تسريبات وبلاغات.
وصلنا الآن إلى أحكام بحبس بعض اللاعبين، وتورطهم في قضايا نصبٍ واحتيال والتعدي على المواطنين داخل وخارج الدولة، جعلهم يقفون في صفوف المتهمين في قاعات المحاكم بدلًا من الركض على أرض الملاعب، وبدلًا من تحقيق الانتصارات، أصبحوا مادةً للإثارة الصحفية والاجتماعية.. تلك الأخبار التي كانت تروّج لمجدهم، تروّج اليوم لانهيارهم، وكأنهم فقدوا بوصلة شرف الرياضة، وانحرفوا عن درب الأخلاق، لتبدأ رحلتهم من الشهرة إلى المحاكم.
ولا ننس التسريبات التي تفجرت كقنبلة موقوتة، محملة بأسرار غرفة التحكيم داخل الاتحاد المصري لكرة القدم والتي كشفت عما يدور خلف الكواليس، وكأن هذا الحلم الرياضي أضحى صراعًا تملؤه النزاعات والتآمرات.. تلك التسريبات لم تكتفِ بكشف المستور، بل حطمت الثقة بينهم وبين الجماهير ومنظومة كرة القدم ذاتها، وكأن تلك التسريبات فتحت أبواب الجحيم على سمعة كرة القدم المصرية.
مؤمن الجندي يكتب: حسن "سبانخ" الكرة المصرية مؤمن الجندي يكتب: نشر الغسيل بالمقلوب مؤمن الجندي يكتب: وداعًا قصاص السيرة مؤمن الجندي يكتب: مُحلل خُلعفي النهاية، يقف المشجع المصري حائرًا، بين ولاءه للعبة التي أحبها وبين خيبة الأمل التي أصبحت تعصف به.. كرة القدم التي كانت تنبض بأحلام الفقراء وتمنحهم مساحة من الفرح وسط صعوبات الحياة، أضحت اليوم مرآة تعكس الخيبة والمصالح الضيقة، بعدما تغلغل الفساد ليأكل من جذورها ويفسد طعمها.
إذا كان هناك أمل في عودة كرة القدم المصرية إلى سابق عهدها، فإن هذا الأمل لن يتحقق إلا بانتفاضة رياضية، يقودها إصلاح شامل، يعيد بناء الثقة، ويزيح المصالح عن ميدان اللعبة.. ولكن كيف والأمل هو ترشح نفس الأشخاص والوجوه القديمة لتتصدر المشهد مرة أخرى! فهل نرى قريبًا عودة للبهجة، أم أن هذه الأزمة ستحفر في الذاكرة كحقبة سوداء من تاريخ كرة القدم المصرية؟
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا