أفريقيا... القارة التي تبيض ذهباً
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
«إعادة الضبط!» كانت هذه الكلمة السحرية التي استعان بها وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال زيارته الأولى لأفريقيا، حاملاً معه رسالة مفادها أن «سنوات الإهمال» في ظل إدارة ترمب ولَّت، وأن إدارة بايدن تسعى وراء فجر جديد في العلاقات الأميركية مع القارة السمراء التي تعتمل بالاضطرابات. إلا أن قليلين يذكرون أن هيلاري كلينتون استخدمت العبارة المكررة ذاتها بخصوص العلاقات الأميركية ـ الروسية في عهد إدارة أوباما الأولى.
ومع ذلك، فإنه في الوقت الذي استغرق الأمر 10 سنوات لاكتشاف أن «إعادة الضبط» التي تحدثت عنها هيلاري ليست سوى وهم خطير، فإن استخدام بلينكن لهذا «الكليشيه» اتضح أنه مجرد حماقة كبرى أخرى، في غضون أقل عن عامين. بطبيعة الحال، دبرت إدارة بايدن التمثيلية الدبلوماسية المعتادة، عبر عقد قمة أميركية ـ أفريقية أثمرت عدداً لا حصر له من الصور الفوتوغرافية، بجانب وعود رائعة. وذهبت واشنطن إلى أبعد عن ذلك بإرسال قوة إلى النيجر للقضاء على «الجماعات الإرهابية» في منطقة الساحل بمساعدة القوات الفرنسية وقوات أخرى من الاتحاد الأوروبي.
إلا أنه منذ ذلك الحين، سارت عملية «إعادة الضبط» ضد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. شهدت 4 من دول الساحل انقلابات عسكرية، أوصلت إلى السلطة جنرالات مناهضين للغرب، تغطي صدورهم أوسمة متنوعة. وشهدت الغابون، وهي ليست بعيدة عن منطقة الساحل، تغييراً في النظام تحقق من خلال ما يبدو كأنه انقلاب في القصر. وفي جميع البلدان المعنية، ظهرت الأعلام الروسية وشارات جيش المرتزقة «فاغنر» في مظاهرات «عفوية» مناهضة للغرب ومؤيدة للانقلابيين.
إذا كان المراقبون المخضرمون لأفريقيا على حق، فإن 8 دول أخرى على الأقل في القارة قد تشهد هي الأخرى انقلابات عسكرية خلال العامين المقبلين.
وقد سلطت الجمعية العامة الحالية للأمم المتحدة، المنعقدة في نيويورك، الضوء على أفريقيا باعتبارها أحدث مسرح لتنافس القوى الكبرى بين الصين وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة، وعلى نطاق أصغر تركيا، في خضم محاولاتهم توسيع دائرة نفوذهم، أو على الأقل حماية النفوذ الذي يحظون به بالفعل.
من جانبهم، أعلن الدبلوماسيون الفرنسيون رسالة، مفادها أن العالم قد يحتاج إلى مؤتمر دولي لوضع خطوط ترسيم الحدود الدبلوماسية في أفريقيا. وتبدو هذه الدعوة بمثابة عودة إلى مؤتمر برلين عام 1887 عندما عكفت القوى الاستعمارية الأوروبية على تقسيم «القارة السمراء» فيما بينها، مع إعطاء الولايات المتحدة لقمة صغيرة في صورة ليبيريا، الدولة التي أنشأتها واشنطن على أمل إقناع الأميركيين أصحاب الأصول الأفريقية بـ«العودة إلى الوطن».
اليوم، لم تعد أفريقيا كما كانت من قبل، فبعد مرور جيلين على الاستقلال، الذي اتسم بكثير من الإخفاقات، ومع ذلك ظل يبعث على الفخر والأمل بين الأفارقة، لم يعد بمقدور «القوى الكبرى» ممارسة اللعبة، تبعاً لقواعدها الخاصة. اليوم، يجري النظر إلى أفريقيا باعتبارها مصدر تهديد ديموغرافي وإمكانات واعدة في ذات الوقت. ويأتي التهديد المفترض من الانفجار الديموغرافي، الذي يمكن أن يدفع بأعداد لا حصر لها من المهاجرين المحتملين، ليس باتجاه أوروبا فقط، وإنما كذلك إلى الشرق الأوسط. بجانب ذلك، تحولت أجزاء من القارة إلى ملاذات لمجموعات متنوعة من الإرهابيين، أو كما يسميها أوباما الجماعات «المتطرفة العنيفة»، باعتبار أفريقيا بديلاً للأراضي الوعرة في أفغانستان وسوريا التي مزقتها الحرب.
في المقابل، ترتبط الإمكانات الوعيدة بالموارد الطبيعية الهائلة وغير المستغلة في معظمها داخل القارة. وتضم أفريقيا نحو 16 في المائة من سكان العالم، بينما بها قرابة 60 في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة على ظهر الكوكب.
ومع ذلك، تقف 14 دولة على الأقل من أصل 56 دولة في القارة على بعد أشهر قليلة من المجاعة، طبقاً لبرنامج الغذاء العالمي، في حين تعاني 30 دولة أخرى من نقص الغذاء والجوع المزمن. في كثير من الحالات، فإن اقتصاد المحاصيل النقدية، الذي يوفر ما تريده الدول الغنية، يحول دون إنتاج المواد الغذائية الأساسية اللازمة للسكان المحليين. مثلاً، نجد أن زراعات البن والكاكاو والقطن تجعل كل دول غرب أفريقيا تقريباً معتمدة على واردات الأرز والقمح والحبوب الأخرى، ومن هنا تحديداً جاءت التداعيات الكارثية للحرب الروسية في أوكرانيا. وإذا ما جرى توجيه مواردها نحو إطعام أبناء المنطقة، فإن غينيا وحدها قادرة على أن تصبح سلة غذاء منطقتها.
وتثير الموارد المعدنية الهائلة في أفريقيا، بما في ذلك بعض أندرها وأكثرها طلباً، شهية كبيرة للهيمنة الاستعمارية، وإن كان ذلك في أشكال جديدة، من بينها العقود طويلة الأجل، والقروض التي ينتهي جزء منها في جيوب قلة، وبطبيعة الحال، قوات عسكرية رمزية في أكثر عن 20 دولة.
من ناحيتها، تحاول النخب الحاكمة المحلية دوماً، وبسبب قلقها إزاء مستقبلها، بناء ملاذات لأنفسها في العواصم الاستعمارية السابقة. كشف الحكام العسكريون الجدد في الغابون أن الديكتاتور المخلوع علي بونغو، ووالده الرئيس الراحل عمر علي بونغو، توليا تمويل جميع الأحزاب السياسية الفرنسية، من تياري اليمين واليسار، باستثناء الحزب الشيوعي، على مدار ما يزيد عن نصف قرن.
المشكلة أنه رغم رغبة «القوى الكبرى» في الحصول على الموارد الأفريقية، فإن أياً منها لا يملك النفوذ، أو دعنا نقول، القوة اللازمة لفرض أجندة استعمارية جديدة على القارة. بجانب ذلك، تفتقر كل من الصين وروسيا، المنضمتين حديثاً إلى اللعبة الكبرى، إلى المعرفة وشبكة الاتصالات والجاذبية السياسية والثقافية التي من دونها لا يمكن لأي مخطط إمبريالي أو إمبريالي جديد أن ينجح.
إن الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا وفرنسا، اللتين ما تزالان تتمتعان بمثل هذه المزايا، تعوقها حقيقة أن الرأي العام لديها غير مبالٍ، وربما معادٍ، لأي علاقات خاصة مع «القارة السمراء». أما الولايات المتحدة فتبدو غارقة في حربها الأهلية الثقافية والسياسية، لدرجة أن قِلة قليلة فقط قد يرغبون في الاعتماد عليها كحليف أو شريك طويل الأمد.
من ناحية أخرى، لا تبدو فكرة عقد مؤتمر كبير حول أفريقيا مقبولة، خاصة أن مثل هذا المؤتمر ربما يطلق ناقوس الخطر بشأن الاستعمار الجديد، علاوة على أنه من غير المحتمل أن يحظى بدعم شعبي داخل القارة وخارجها. الأمر الذي من دونه يبدو الفشل محتوماً. والأهم من ذلك أن الدول الأفريقية تعاني كثيراً للغاية من المشكلات الثنائية ومتعددة الأطراف الخاصة بها، حيث لا يمكنها الوقوف جبهة موحدة في أي عملية «إعادة ضبط» دولية.
اليوم، تتكون أفريقيا من 56 تجربة مختلفة في بناء الأمم، شهدت بعض النجاحات الملحوظة وكثيراً من الإخفاقات الحتمية. وفي كثير من البلدان الأفريقية، دخل لاعب جديد إلى اللعبة، جيل أصغر سناً وأفضل تعليماً، وأكثر طموحاً، وفي الوقت نفسه أقل سذاجة من أسلافه في القرن التاسع عشر الذين تحولوا بأعينهم بعيداً، بينما كانت القوى الإمبراطورية تستنزف خيرات الدجاجة الذهبية.
ومع تعذر التوصل إلى خطة واحدة تناسب الجميع، ربما تكون أفضل طريقة «لإعادة ضبط» العلاقات مع أفريقيا العمل على أساس ثنائي. ومع عودة الدولة القومية، حتى في أوروبا القديمة، ليس ثمة ما يمنعنا من النظر إليها باعتبارها أفضل وسيلة لإعادة تعريف دور أفريقيا في إعادة تشكيل النظام العالمي.
(عن صحيفة الشرق الأوسط)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أفريقيا القوى الكبرى الولايات المتحدة فرنسا الولايات المتحدة أفريقيا القوى الكبرى مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد صحافة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
أكثر خطورة من الكوكايين والماريجوانا.. ماذا تعرفون عن الفنتانيل الذي يحاربه ترامب؟
أصبح الفنتانيل، وهو مخدر أفيوني أقوى من الهيروين بـ 50 ضعفًا، أزمة متفاقمة في الولايات المتحدة، مما دفع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لاتخاذ تدابير قوية لوقف تهريبه. لكن هل ستنجح هذه الاستراتيجية في الحد من الوفيات، أم أن الأزمة ستزداد سوءًا؟
يشكّل الفنتانيل خطرًا متزايدًا في الولايات المتحدة، حيث يحصد آلاف الأرواح سنويًا بسبب الجرعات الزائدة.
وردًا على ذلك، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الواردات القادمة من المكسيك وكندا، و10% على الصين، بحجة أن هذه الدول لم تتخذ إجراءات كافية لوقف تهريب الفنتانيل والهجرة غير الشرعية.
وكان من المفترض أن تدخل هذه التعريفات على الواردات القادمة من كندا والمكسيك حيز التنفيذ في 4 شباط/فبراير 2025، لكنه قرر تعليقها لمدة شهر.
ولتجنب العقوبات، تحركت المكسيك سريعًا، حيث نشرت رئيسة البلاد كلاوديا شينباوم 10,000 جندي على الحدود مع الولايات المتحدة لمكافحة تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية.
وتعكس هذه الخطوة التوتر المتزايد في العلاقات بين البلدين وتأثير أزمة الفنتانيل على السياسات الأمنية والتجارية.
في هذا السياق، تحدثت "يورونيوز" مع ديفيد سوسيدو، الخبير في الأمن القومي والجريمة المنظمة، لفهم أبعاد الأزمة وتأثيرها على الولايات المتحدة.
وأكد سوسيدو أن الفنتانيل ليس مجرد مخدر تقليدي، بل هو مادة أفيونية مصنعة في المختبرات، تمتلك قدرة إدمانية وهلاوس قوية، مما يجعلها أكثر خطورة من المخدرات التقليدية مثل الكوكايين والماريجوانا.
إضافة إلى ذلك، أوضح سوسيدو أن تهريب الفنتانيل إلى الولايات المتحدة يتم عبر الحدود المكسيكية بنسبة 70%، حيث يدخل عبر المعابر الرسمية مثل الجمارك والجسور الدولية.
ورأى أن الاتفاقيات التجارية بين البلدين والتدفق الكبير للبضائع والأفراد عبر الحدود تجعل من الصعب ضبط عمليات التهريب بالكامل.
أما عن خطة ترامب لإرسال المزيد من القوات إلى الحدود، أوضح سوسيدو أنها ليست حلاً فعالًا.
ففي عام 2019، تم نشر 30 ألف جندي، ومع ذلك لم يتمكنوا من وقف تدفق الفنتانيل والهجرة غير الشرعية. لذا فإن إرسال 10 آلاف جندي فقط لن يكون له تأثير يُذكر.
من جهة أخرى، يرى الخبراء أن الفنتانيل ليس مجرد أزمة أمنية، بل هو مشكلة صحية تتطلب حلولًا علاجية، مثل توفير النالوكسون، وهو الترياق الذي يمكنه إنقاذ حياة المدمنين في حالات الجرعات الزائدة. لكن في الوقت الحالي، لا يوجد استثمار حكومي كافٍ في الولايات المتحدة والمكسيك لهذا الغرض، وتظل منظمات غير حكومية هي التي تتولى توفير النالوكسون للمحتاجين.
بالرغم من ذلك، يبقى الفنتانيل تهديدًا مستمرًا، حيث تُشير الإحصائيات إلى أن 70% من حالات الجرعات الزائدة المميتة في الولايات المتحدة العام الماضي كانت بسببه.
وقد طوّر تجار المخدرات طرقًا جديدة لزيادة أرباحهم، مثل تخفيف الفنتانيل بمخدرات أخرى كالكوكايين والميثامفيتامين، مما يجعل تعاطيه أقل فتكًا ولكنه أكثر انتشارًا.
وفيما يتعلق بأوروبا، ورغم المخاوف المتزايدة، يستبعد الخبراء حدوث أزمة مشابهة في إسبانيا. فالحصول على الفنتانيل هناك أكثر تعقيدًا، حيث لا يُصرف إلا بوصفة طبية صارمة، وفقًا للصيدلانية ساندرا ميسونيرو.
ولا تزال أزمة الفنتانيل تمثل تحديًا أمنيًا وصحيًا كبيرًا، حيث تتشابك المصالح السياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة والمكسيك والصين. فهل ستكون الإجراءات الجديدة كافية للحد من هذه الأزمة، أم أننا أمام تصعيد جديد؟
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية مطاردة استثنائية وعلى ظهور الخيل.. شرطة فلوريدا تلاحق مشتبهًا به في قضية مخدرات تصاعد عنف عصابات المخدرات في بروكسل: قتيل واحد في رابع حادث إطلاق نار خلال أسبوع السعودية تنفذ حكم الإعدام بحق سبعة مواطنين في قضايا مخدرات استهلاك مخدراتشركات الأدويةالولايات المتحدة الأمريكية