هل أحرق ماكرون آخر أوراقه مع المغرب؟
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
بقلم: نزار بولحية
يستطيع الرئيس الأمريكي أن يرفع سماعة الهاتف، وأن يقدم العزاء إلى العاهل المغربي، كما فعل الاثنين الماضي، وفقا لبيان البيت الأبيض، لكن لا مكالمات ولا اتصالات حتى الآن بين الرئيس الفرنسي والملك محمد السادس.. ولا لقاءات أيضا بين كبار المسؤولين في البلدين، وفضلا عن ذلك لا تبدو الرباط في عجلة من أمرها لتعيين سفير جديد لها في باريس، بعد انتهاء مهمة محمد بنشعبون في فبراير الماضي.
أما الأدهى من ذلك فهو أن المساعدات التي عرضتها فرنسا على المغرب بعد كارثة الزلزال التي أصابته، رفضت! فما الذي بقي بعدها إذن للرئيس الفرنسي يفعله، حتى يكسر حلقة الجليد التي ظهرت منذ شهور على سطح العلاقات بين بلاده وواحد من أهم شركائها في الشمال الافريقي، أي المغرب، وأخذت بالتمدد والتوسع بمرور الوقت؟ ربما أنه سيقدم أخيرا كبش فداء، ويضحي مثلا بوزيرة خارجيته معلقا عليها شماعة فشله في إدارة سياسته الخارجية، لا في المنطقة المغاربية فحسب، بل في كامل القارة الافريقية أيضا.
وقد تبدو الزلة الأخيرة التي وقعت فيها الوزيرة، حين قالت يوم الجمعة الماضي، وفي تصريح لإحدى القنوات الإخبارية الفرنسية، إن زيارة ماكرون إلى المغرب ما زالت قائمة، ليرد عليها مصدر رسمي مغربي بأن الزيارة «ليست مدرجة في جدول الأعمال ولا مبرمجة»، كافية لتبرير ذلك.
غير أنه لن يكون من السهل على ماكرون أن يقدم وفي هذا الظرف بالذات على مثل تلك الخطوة. فهو ليس معتادا على أن يقبل، ولو من حيث المبدأ، بالإقرار بأن هناك خللا ما أو تقصيرا من جانب فرنسا في التعاطي مع تلك الأزمة، ويفضل بدلا من ذلك أن يلقي اللائمة فقط على أطراف مجهولة يحمّلها وحدها مسؤولية وضع العصي في الدواليب، وتعطيل كل جهوده ومساعيه لإعادة تلك العلاقات إلى مسارها الطبيعي.
ولنتذكر هنا جيدا كيف قال مثلا في فبراير الماضي، إنه سيواصل المضي قدما في تعزيز علاقة فرنسا بكل من الجزائر والمغرب، بعيدا عن «الجدل الراهن» على حد تعبيره. وكان يعني في ذلك الوقت، قرارا صادق عليه البرلمان الأوروبي، يحث السلطات المغربية على احترام حرية الرأي والتعبير، واعتبره البرلمان المغربي "استهدافا" و"ابتزازا للمملكة"، وسارع عبر بيان أصدره، ورد عليه للإعراب «عن خيبة الأمل إزاء الموقف السلبي والدور غير البناء الدي لعبته خلال المناقشات في البرلمان الأوروبي، والمشاورات بشأن مشروع التوصية المعادية لبلدنا، بعض المجموعات السياسية المنتمية لبلد يعتبر شريكا تاريخيا للمغرب»، في إشارة واضحة إلى فرنسا.
ومن المؤكد أن الرئيس الفرنسي يفضل الآن أن يستمر في سياسة النفي والإنكار والهروب إلى الأمام، بدلا من مواجهة المشكل ورؤية الأشياء على حقيقتها، ولن يكون مستبعدا في تلك الحالة أن يكرر، إن أمكنه ذلك بالطبع، ما فعله في مناسبة سابقة حين نفى بشكل تام أي دور لفرنسا في تفاقم الأزمة مع المغرب، طارحا سؤالين ومجيبا عنهما على النحو التالي: «هل كان ذلك– أي قرار البرلمان الأوروبي ـ صنيعة فرنسا؟ كلا.. هل صبّت فرنسا الزيت على النار؟ كلا.. يجب أن نمضي قدما رغم هذه الخلافات».
ولأجل ذلك فإنه سيكون مستبعدا أن يقدم على إقالة كاثرين كولونا من منصبها، وحتى إن اضطر إلى ذلك، فإنه لن يكون متوقعا أن تكون لذلك القرار أية تداعيات أو انعكاسات دراماتيكية كبرى على الملف المغربي بالذات، خصوصا مع بقاء معظم خيوط اللعبة الخارجية بيد ساكن قصر الإليزيه. ومن الواضح أن خروج باريس من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، قد لا يرتبط بتغيير أشخاص بقدر ما يتعلق وبالأساس، بتعديل مقاربات وسياسات، كما أنه يبدو متعدد الوجوه، فعلاقتها بالجارة المغاربية الأخرى، أي الجزائر، ليست في أفضل حالاتها، وما تتعرض له من نكسات متتالية في الساحل الافريقي يزيد حتما من تعقيد مساعيها لاستعادة دورها التقليدي في شمال القارة.
والسؤال الذي يطرحه الفرنسيون بحدة اليوم هو من المسؤول عن كل ذلك التراجع المريع؟ وهل سيكون بإمكان فرنسا أن تستعيد في غضون الشهور والسنوات المقبلة بعضا من هيبتها المفقودة في مستعمراتها السابقة؟ إنها لم تفق بعد من آخر الصفعات التي تلقتها بعد كارثة الزلزال المغربي، فقد تبددت كل الأحلام والآمال التي راودت ماكرون في أن تصل الطائرات الفرنسية قبل غيرها إلى مطار مراكش حاملة معها أطنانا من المساعدات الغذائية والخيام والمواد الطبية لضحايا الزلزال العنيف، الذي ضرب منطقة الحوز ليل الثامن من الشهر الجاري. ولعل أكثر ما جرح الكبرياء الفرنسي هو أن المغاربة رحبوا بمساعدات الغريمين الإنكليزي والإسباني.
ومع أن المقارنة تبدو هنا وبكل المقاييس مهزوزة ومختلة، لكن هل نسي البعض كيف استُقبل الرئيس الفرنسي قبل عامين في بيروت، وفي أعقاب انفجار المرفأ استقبال الأبطال، وكيف رحب به كثير من اللبنانيين وطلبوا منه أن ينتشلهم وينقذهم من الوضع الصعب الذي يعيشون فيه، بل وصل الأمر بعشرات الآلاف منهم حد التوقيع على عريضة دعوه فيها لأن يعيد الانتداب الفرنسي إلى لبنان؟
إن الفرنسيين يدركون ومن دون شك أن المغرب ليس لبنان، لكن ذلك لا يعني أن رئيسهم لم يتطلع لأن يلعب في البلد المغاربي أيضا دور المنقذ، أو البطل الذي أداه بمهارة في الشرق. غير أن المحصلة لا تبدو وردية فقط، بل كارثية، فقد احترقت باكرا ورقة التدخل الإنساني التي أخرجها الإليزيه، وبات ساكنه وبالنسبة لكثير من المغاربة رمزا حيا لكل مظاهر السيطرة والاستعلاء الاستعماري، التي لم يعودوا قادرين على قبولها، بل وتحول بنظرهم إلى عقبة حقيقية أمام الخروج بالعلاقات الفرنسية المغربية من حالة الشلل التي أصابتها. ولعل البعض قد يقول الآن، إن ماكرون قد فعل كل ما بوسعه وسعى جاهدا للاتصال مثلما ذكرت ذلك عدة مصادر إعلامية، ومنذ الساعات الأولى للزلزال بالعاهل المغربي ليعزيه، ويعرض عليه المساعدة، ولكن الملك محمد السادس رفض على ما يبدو الحديث إليه، ما اضطره لأن يكتب بعدها على منصة أكس: «نشعر جميعا بحزن شديد بعد الزلزال الرهيب الذي ضرب المغرب. فرنسا على استعداد للمساعدة في تقديم الإغاثة الأولية».
فما الذي يمكن أن يفعله في تلك الحالة؟ ربما أن يفهم دوافع الغضب المغربي وأن لا يحاول الركوب على الكوارث قد يرد المغاربة، ومع أنه يعرف جيدا ما يريدونه منه، فإن الحاجز الأكبر الذي يجعله مترددا في الحسم في مواقفه وتوجهاته والخروج من المنطقة الرمادية هو أنه يرى المشهد الإقليمي من زاوية واحدة لا غير، ولا يزال يعتقد أن ما قد يعتبرها نوبات تمرد قصيرة، ستبقى محدودة، ولن تصل إلى حدها الأقصى .
أما هل ستكون حساباته صحيحة أم لا؟ فالأيام ستجيب.
كاتب صحافي من تونس
المصدر: أخبارنا
إقرأ أيضاً:
ماكرون - السيسي وزيارة الأحلام
نظراً للظروف العربية والإقليمية الشائكة التي تمر بها المنطقة، ونظراً للظروف المضطربة التي يعيشها العالم الآن بسبب الإبادة الجماعية والحرب الوحشية التي يقوم بها جنود الاحتلال الإسرائيلي بأوامر من متطرفيه ومستوطنيه، وبدعم ومساندة أمريكية غير مسموعة، إضافة إلى القرارات غير المسئولة التي يتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه دول العالم، وآخرها فرضه للتعريفة الجمركية الجائرة علي صادرات دول العالم لأمريكا، وبانتهاكه لحقوق الدول، ولكل ذلك وغيرها من حروب وأزمات إسرائيلية في المنطقة، تكتسب زيارة الدولة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أهمية كبيرة، باعتبار فرنسا شريكاً هاما ومحوريا مع مصر في كافة المجالات، ومنها دعم فرنسا الدائم لمصر وتضامنها مع قضايا البلدان العربية وعلي رأسها القضية الفلسطينية، ولهذا عكست تلك الزيارة التاريخية والتي بدأت يوم الاثنين الماضي الموافق 6 من شهر إبريل الجاري ولمدة ثلاثة أيام، إذ يستعرض خلالها الرئيس الفرنسي ماكرون مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي العلاقات المشتركة بين البلدين، وعمل فرنسا على تفعيل كافة المجالات والاستثمارات الفرنسية كاستجابة للتباحث والتوافق المتواصل بين حكومتي البلدين.
لقد بدأت زيارة الاحلام التي قام بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منذ وصوله واستقباله بطائرات الراڤال المصرية الفرنسية، ثم زيارته للمتحف المصري الكبير، وذلك للدلالة علي أهمية الحضارة المصرية باعتبارها أم الحضارات، وكرمزية من الرئيس ماكرون للدلالة علي تقدير الشعب الفرنسي وعشقه لتلك الحضارة، ثم اصطحاب الرئيس السيسي له خلال جولة سياحية سيرا علي الأقدام في منطقة خان الخليلي والحسين بالقاهرة، وذلك لإعطائه صورة جمالية وحضارية تعكس عبق تلك المنطقة، كما اشارت زيارته لتلك المنطقة إلي جو الحارة المصرية التي عاش بها أبناء الديانات الثلاث، وإشارة إلي تلك المنطقة التي انطلقت منها روائع نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب، إضافة إلي نقل صورة حضارية وجمالية لمنطقة حب الجمالية، هذا الحي الذي ظل مصدراً خصباً لإلهام الفنانين والمستشرقين، وأجواء ألف ليلة وليلة، ناهيك عن إظهار طبيعة وكرم المصريين الذين يرحبون بضيوف وزوار مصر.
وفي صباح اليوم الثلاثاء اليوم الثاني من الزيارة، بدأ الرئيس ماكرون يومه باجتماع موسع مع الرئيس السيسي بقصر الاتحادية، وخلال هذا اللقاء تم التوقيع خلاله علي الكثير من الاتفاقات، وذلك لتعزيز الشراكة الاستراتيجية في كافة المجالات، بما يحقق التنمية المستدامة لمصر باعتبار فرنسا رائدة في مجال الصناعات والتكنولوجيا، والتحول الرقمي والرعاية الصحية والنقل والاتصالات والذكاء الاصطناعي والتعليم والطاقة النظيفة، وغيرها من المشاريع الاقتصادية والاستثمارية الكبيرة، وكافة المشروعات التي من شأنها تقدم مصر وخلق شراكات استراتيجية بين مصر وفرنسا، كما بحث المنتدى الاقتصادي بين البلدين إلي مضاعفة حجم الاستثمارات الفرنسية مع مصر، كما طالب الرئيس السيسي بتشجيع الاستثمارات، وبتشجيع توطين الصناعات الفرنسية وعلي رأسها الصناعات الدوائية في مصر.
و أكد الرئيس ماكرون علي دعمه ومساندته لموقف مصر في صندوق النقد الدولي، ودعمه الدئوب لها في المؤسسات المالية الداعمة بالاتحاد الأوروبي، والتي كانت منحت مصر مؤخرا 4 مليارات يورو، أعقب ذلك القمة الثلاثية بين الرئيس الفرنسي والرئيس المصري، والملك الأردني الملك عبد الله الثاني، خرجت فيه تلك القمة ببيان مشترك أعرب فيه الزعماء الثلاثة عن مطالبتهم بوقف الحرب علي غزة، وحماية المدنيين وعمال الإغاثة الإنسانية، وبرفصهم القاطع لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، والدعوة لتبادل الأسرى وحل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية، مع استعداد الدول الثلاث لتقديم الدعم والتنسيق مع كافة الشركاء والدول الداعمة لتقديم المساعدات الإنسانية وفقاً للقانون الدولي.
كما أكد الرئيس ماكرون علي دعمه لخطة مصر والدول العربية لإعمار غزة كبديل حسمي وواقعي عن خطة ترامب الظالمة، ثم اعقب ذلك قام الرئيس ماكرون بزيارة محطة عدلي منصور التبادلية، ودعوته إلي مشاركة الشركات الفرنسية في خط المترو السادس، وقيامه بجولة تفقدية مع الرئيس السيسي وصولاً إلى جامعة القاهرة، وحضوره اجتماع ملتقى العلم الثقافي لقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة بصحبة الرئيس السيسي، وبحضور وزيري التعليم العالي في البلدين أساتذة الجامعات المصرية وكبار الضيوف بين البلدين، وحضور بعض الطلبة المصريين الدارسين بفرنسا والجامعات الفرنسية بمصر، وبحث تعزيز تطوير التعليم العالي والبحث العلمي والبعثات المصرية وتبادل الخبرات، والتوقيع علي 42 بروتوكول في مجال التعليم العالي والبحث العلمي بين البلدين، وقد قام الرئيس ماكرون خلال الملتقى بتوجيه كلمة علمية وإنسانية حث فيها على أهمية الجامعات والتعليم، وحث الطلاب علي العلم واللغة الفرنسية، وبتشجيعه البحث العلمي والإبداع في كافة المجالات، ووعده بتقديم كافة المساعدات العلمية والبحثية للطلبة المصريين الدارسين بفرنسا، وبتقديم المساعدات المالية والعلمية للجامعات الفرنسية بمصر، وبمطالبة وزير التعليم العالي بتشجيع دراسة اللغة الفرنسية، لمساهمة مصر في الفرانكفونية، وسوف يقوم الرئيس ماكرون غداً بزيارة إلي منطقة الحدود المصرية مع فلسطين، ليبدأها بزيارة المرضى والمصابين الفلسطينيين بمستشفيات العريش، وباجتماعه مع البعثة الأمنية الفرنسية المشاركة في قوات حفظ السلام بمنطقة رفح، لتعكس تلك الزيارة تضامن الرئيس ماكرون مع أبناء غزة، وبثه رسالة إلي العالم بأن هناك عدوان وإبادة جماعية من جانب إسرائيل تستوجب تضامن العالم لوقف هذا العدوان.
إن العلاقة مع فرنسا ليست علاقات سياسية واقتصادية فقط، بل حكاية علاقات حضارية وتاريخية وعلمية تمتد منذ حملة نابليون بونابرت علي مصر سنة 1798، تلك الحملة التي وإن كانت عسكرية، إلا أنها أسست لعلاقات تاريخية وثقافية وفنية واهتمام فرنسا بعلم المصريات، والتي انطلقت من خلالها البعثات العلمية منذ عصر محمد علي، وعلي رأسها المجالات العلمية والعسكرية والثقافية والزراعية، كما تم نقل الكثير من الحداثة والعمارة والفنون الفرنسية لمصر خلال حكم أسرة محمد علي، إضافة إلى جهود البعثة العلمية الاثرية التي صاحبت نابليون خلال حملته عن مصر، والتي كشفت عن الكثير من رموز وكنوز الحضارة المصرية، تلك التي انطلقت منها فرنسا لبناء حضارتها التي اعتمدت بشكل رئيسي علي الحضارة المصرية، الأمر الذي كان له بالغ الأثر علي التواصل الثقافي والحضاري والإنساني والتفاهم المشترك بين البلدين.