بين الترجمة والتعريب.. حِجاج في اللغة
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
الاعتزار باللغة أمر محمود ودليل عافية وصحة في الانتماء؛ ولكن إدخال ذلك ضمن المقدسات والتعصب المبالغ فيه بعيد عن السلوك العلمي وأقرب إلى البهرجة الخادعة والتضليل المذموم.
وإن تعجب فعجب أن تزعم كل أمة القداسة للغتها وتدعي بأنها لغة أهل الجنة، أو أنها أفضل اللغات، هكذا فعل العبرانيون والسريان والعرب كذلك، وذلك كله آية واضحة من آيات الإفراط بالاعتزاز باللغة من غير هدى ولا عقل ولا كتاب منير! كما أنه خارج أسوار العلم أو السلوك العلمي في النقاش الذي يقتضي الموضوعية والتجرد ويهدف للوصول إلى النتائج السليمة.
ولا مراء أن لكل أمة لغتها التي تناضل من أجلها، وتكافح في سبيلها؛ وكل لغة لها خصائصها وثقافتها التي تمدها وتبنيها وتشكل وعيها. وفي هذا العالم، ثمة مفاهيم مشتركة تعبر عنها كل لغة بطريقتها أو بمعجمها، وثمة مفاهيم ثقافية أو عرقية، إذا شئت، وليس بالضرورة أن تكون لها مكافئات معجمية Lexical equivalents في بقية اللغات التي لها ثقافات أخرى وأبنية تصورية أخرى لهذا العالم وما يموج فيه من حركة وأحداث وأفكار وتصورات ذهنية مختلفة. وثمة أيضا مخترعات يختار لها أصحابها أسماء أو مصطلحات معينة، هم أحق بها وأجدر بتسميتها؛ أرأيت مولودا يسمى بغير اختيار والده!؟ على أن من حق أبناء اللغات الأخرى أن يسموها بما أرادوا من غير المطالبة بتغيير أسمائها الأصلية.
وليس بدعًا القول ولا غريبًا إن اللغات الحية تتطور باستمرار، تأخذ وتعطي على الدوام لأنها تقف على قدم ثابتة وأساس صلب ومتين؛ اللغات الهشة والمرتعشة تنكمش حول ذاتها وتخاف من الانقراض أو التضاؤل، ومن ثم إعلان الوفاة، فتنزوي طلبًا للنجاة أمام حركة الحياة العنيفة والقوية ويكون في انزوائها موتها من حيث أرادت السلامة والنجاة.
إلى ذلك، ومن المنظور العادي، معاني اللغة ذاتها، أو المعاني المعجمية، إذا رمنا الدقة، تتطور؛ تبرز معان وتختفي وراء أستار الزمن معان أخرى، وما كان بالأمس معنى أساسًا للكلمة اختفى الآن أو تراجع وصار معنى فرعيًا أو هامشيًا للكلمة، وهكذا؛ وهذا شأن اللغات جميعًا. وإذا أردت أمثلة من صميم لغتنا، فخذ كلمة القهوة، وقارن معناها في الاستعمال القديم ومعناها الآن. وإنك إذا عدت إلى القواميس، لواجد الكثير من الإشارات إلى أن معنى معينًا لكلمة ما هو الأصل؛ على أن هذا الذي كان بالأمس هو الأصل أضحى الآن هامشيًا أو منسيًا أو كالمنسي؛ لا يكاد يعرفه إلا القلة من الناس. هذه هي طبيعة اللغات وهذه هي طبيعة المعاني؛ المعاني ليست حشرات ميتة داخل هياكل الكلمات ولكنها فراشات محلقة؛ ولذلك ينكر البعض أن يكون للكلمة معنى ثابت وأساس فالمعاني سائلة وتملك مرونة كافية للتشكل بحسب الظروف والسياقات والمجتمعات والأزمنة. ويقول البعض إن الكلمة معزولة عن السياق تملك معنى ولكنه معنى محتمل؛ وإن هذا أفضل من إسناد معنى محدد لها. وللغة روافد كثيرة تغذيها وتثريها وتطور ذهنيات أهلها، ومن أهم هذه الروافد الاستعارات وهو رافد ضخم وواسع. ومن هذه الزاوية من النقاش، ليست كل الاستعارات زخرفية أو فنية فبعضها دخلت أساسًا ليس بغرض التصوير الفني بل لإثراء اللغة وحتى بعض الصور الفنية تتكلس أحيانًا وتفقد بريقها الفني فتجد طريقها للمعجم، ومنها الاقتراض من اللغات الأخرى، وتعريبها غالبًا أو إبقاؤها كما هي بشحمها ولحمها؛ ومنها الترجمة وإيجاد بدائل مناسبة ولو قريبة.
في بعض الحالات لا يوجد تطابق مفهومي بين فكرتين أو حالتين ولكن اللغات الحية والقوية لا تقف عاجزة في التعاطي ولها وسائلها وحيلها في ذلك، فتقارب وتسدد، وقد تلجأ إلى الاقتراض عند الحاجة وأحيانًا من دون الحاجة؛ وإذا صح أن العرب تسمي الشيء ببعض أجزائه أو ما يمت للمعنى بسبب، كما يقول الثعالبي الذي يفيض في هذه النقطة، ويمدك ببعض الأمثلة والاستعمالات؛ إذا صحت هذه الفكرة في إطار اللغة الواحدة، صحت أيضًا في ترجمة ما استجد من مفاهيم وأشياء في الحياة المعاصرة من اللغات الأخرى بما في ذلك المخترعات الحديثة، من دون شطط في القول أو ادعاء فارغ، فليس شرطًا أن يتطابق المفهومان لكي تستقيم الترجمة. وعليه، يمكن ترجمة كلمة مثل (ترند) إلى مقابلات كثيرة في العربية، ويكفي أن يكون معنى الكلمة العربية قريبًا من ذلك المعنى ولا يقال هنا إن تلك المقابلات مشغولة بمعانٍ أخرى فالمعاني تتطور وتتخلق باستمرار، وقد يعبر لفظ واحد عن أكثر من معنى والسياق يحدد ويعين المعنى المقصود. على أن الذائع صفة (وصف مشتق) ومثلها الرائج، ولكن يمكن أن يضاف إليهما معنى جديد، ويربط ببيئة جديدة، ويصير اسمًا بعد تجريده من الحدث؛ يكتسب هذا الوضع الجديد من سياق استعماله الجديد؛ فيمكن أن يرد هذا الاستعمال: هذا خبر ذائع أو مستفيض… والمعنى أنه أذيع/ يذاع أو استفاض/ يستفيض العلم به. ويمكن أن يكون أحدهما مصطلحًا على بعض الأحداث المتواترة بقوة أو الحالات في منصات التواصل الاجتماعي فحين نقرأ رائج أو ذائع أو متصدر أو سائد، أو حديث الساعة أو الاتجاه السائد أو رائج الآن … إلخ، في هذه المنصات لا ينصرف الذهن إلا إلى ذلك المعنى (تِرِند) بصرف النظر عن دقة المفهوم؛ إن هذا لا يعني عدم إجازة استعمال (تِرِند)، الدنيا بألف عافية يا شيخ، ودعك من وجود نظائر في العربية تطابق أو تداني هذا المفهوم إن قليلًا أو كثيرًا، فاللغة ليست وحدات معجمية فحسب ولكنها ثقافة وتصورات ورموز وحكايات وتاريخ… إلخ. فمم الخوف؟! وما الذي ستضيفه أو ستنزعه وحدة معجمية مثل (تِرِند) من لغتنا؟! وما المفهوم الخطير الذي ستلقيه في أدمغتنا ليتغير سلوكنا وقراراتنا؟!
وأيًا يكن من حجاج أو نقاش يمكن أن يثار في مثل هذه النقطة، فإن استعمال وحدة معجمية مفردة، مثل ذائع أو مستفيض أو متداول أو مركبة مثل حديث الساعة أو الاتجاه السائد، يمكن بكل ثقة واطمئنان، فالكلمات تتطور معانيها باستمرار ويمكن أن تضاف إليها معان جديدة؛ يحدث هذا كثيرًا وكثيرًا جدًا في اللغة؛ وعلى سبيل الإلماع، في مثل (طاولة مستديرة)، يمكن أن نميز بين استعمالين: اشتريت طاولة مستديرة… وعقد الرؤساء طاولة مستديرة…. هذا الاستعمال الأخير وحدة معجمية Lexical unit ذات دلالة واحدة جديدة (محادثات)، لا عهد لنا بها من قبل. وهي لذلك؛ أي في مثل هذا الاستعمال تؤدي دلالة ثابتة تختلف عن دلالة الاستعمال الأول (الاستعمال التقليدي أو العادي)، ولهذا فمثل هذا التركيب يدخل في المعاجم. هكذا تتطور اللغة في أبرز مظاهرها المحسوسة، المعجم. ولكن البعض يحسبها فتاة فاتنة ينبغي أن تحتجب وتختفي من أنظار المتحرشين، أو صندوقًا زجاجيًا مغلقًا وشديد الإحكام.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
شاهد أيضاً إغلاق رأي حول ما يدور من تسوية 18 سبتمبر، 2023 الأخبار الرئيسية
مشاء الله تبارك الله دائمآ مبدع الكاتب والمؤلف يوسف الضباعي...
الله لا فتح على الحرب ومن كان السبب ...... وا نشكر الكتب وا...
مقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...
مش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...
تحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: فی الیمن یمکن أن
إقرأ أيضاً:
محمد أبوزيد كروم: إبتزاز السلاح .. وحديث مناوي!!
السودان يمر بأزمة كبيرة .. هذه لن ينكرها أحد، أزمة غير أزمة الحرب التي أرجعت السودان سنوات ضوئية للوراء.. أزماتنا هي في القيادة، والقدوة، والإنتهازية، وحتى في عدم العبرة والعظة مما حدث.
هل تطور عقل القيادة، والنخب السياسية السودانية، ومن يتقدمون الصفوف الآن إلى حجم التحدي؟! بالطبع لا.. والدليل هو وضعنا الحالي.
لم تنته الحرب بعد، ولكنها انحسرت وبدأ التعافي التدريجي، ثم بدأ التسابق على الحكم والمقاعد.
نحن في حاجة حقيقية لتوضيح المعايير، معايير الحكم والاستحقاق، حيث لم يعد السلاح معيارا للحكم، ولم يعد الابتزاز به ممكناً، وأخطأت السلطة عندما حاولت أن تلعب على وتر التوازن بالسلاح، فتحت هذا الباب في الشرق، وأكدته في البطانة عبر كيكل، ثم أغلقت باب الدولة مؤقتاً بشراكة أمر واقع بنصف وثيقة دستورية مع الحركات المسلحة(جبريل، مناوي، عبد الله يحي، صلاح رصاص، تمبور) وهذه معادلة خاطئة ومكررة ومكشوفة!!
المعادلة أعلاها لن تستمر، لأن هنالك متغيرات حقيقية لم يستوعبها العقل الذي يفكر، ويخطط، وهذه إعادة أشبه بتجربة مليشيا الدعم السريع، على الجميع أن يفهم أن الحل هو نزع السلاح بالكامل وتسليمه للجيش، ثم الانخراط في العمل السياسي والاستحقاق عبر الصندوق وقرار الشعب.
لم تعد الحركات المسلحة وحدها من يملك السلاح في السودان، السلاح أصبح بيد الجميع، وتجربة 15 أبريل جعلت من هذا الشعب كله مقاتل، وأدوات العنف متوفرة، والعنف نفسه صار جزء من تركيبة هذا الشعب الذي كان اغلبه مسالماً وليناً ..
اذاً.. الحل هو تعاقد على أبوية الدولة على الجميع، أو العنف، وتقسيم السودان إلى دويلات تجتهد في العيش بسلام، على الممسكين بضرع الدولة الآن فهم ذلك جيداً قبل أن تندلع طامة أكبر من طامة 15 أبريل!!
وتأكيداً على هذه الأزمة المستفحلة، بالأمس أقامت بعض القوى السياسية ندوة عن الحوار وما أدراك ما الحوار ببورتسودان تحدث فيها عدد من القيادات السياسية ومنهم حاكم إقليم دارفور مناوي الذي يبدو أنه من الذين لم يستوعبوا الواقع بعد، حيث قال مناوي في أستاذية لا تليق أن على الإسلاميين مراجعة تجريتهم في الحكم، وهذا مطلب فيه استهبال سياسي، وإن كان كذلك فمناوي نفسه يحتاج إلى مراجعة تجربته ومشاركته في الحرب والقتل والتدمير في دارفور وحتى مشاركته لنظام البشير، وعودته للتمرد، ثم عودته عبر إتفاق جوبا، أم أن مناوي فوق المحاسبة لأن جوبا تجب ما قبلها؟ أو لأنه يخيف الناس بالسلاح!!
ثم قال مناوي أن النخبة الشمالية مسئولة عن انفصال الجنوب!! وهذا حديث عجيب ومغلف ويحمل في باطنه أكثر من ظاهره، ولكن الحقيقة أن من فصل الجنوب هم الجنوبيون نفسهم عن طريق التصويت على تقرير المصير، ونخبهم التي حرضتهم لذلك، والطلاق حلال ومشروع وكل من يرغب في ذلك عليه أن يفعل، وألا يحمل الشماليين كل شيء هؤلاء( حتى مشاكلهم مع زوجاتهم يحملونها للشماليين) هذا ابتزاز غير مسبوق!!
ثم جاء مناوي بما لم يأت به الأوائل، عندما قال أن(فرض اللغة العربية في مؤسسات التعليم يؤدي إلى التمييز بين المواطنين) وهذا الحديث ضد اللغة العربية ليس جديد على جماعة مناوي فقد قاله من قبل أحد قيادات حركته يدعى( جمعة الوكيل) عندما هاجم اللغة العربية!!
طيب يا مناوي أي لغة تريدنا أن نفرضها على الناس هل اللغة ( الانجليزية أم الفرنسية أم الزغاوية) !! إذا كان الجنوبيون الذين اختاروا دولتهم يتحدثون حتى الآن(عربي جوبا) لأن لا لغة تجمع بينهم إلا اللغة العربية.. فما ذنب اللغة العربية والشماليين يا مناوي!!
الوضع الذي يعيشه السودان حالياً خطير، ويحتاج إلى عقلاء وتنازلات واتعاظ، أو سنصل إلى ما لا يحمد عقباه.. سلم الله البلاد والعباد..
محمد أبوزيد كروم
إنضم لقناة النيلين على واتساب