هل أصبح البنك المركزي الأوروبي أقوى مما يَجِب؟
تاريخ النشر: 22nd, September 2023 GMT
"لا شيء ممكن بدون الناس. ولا شيء يدوم بدون المؤسسات"، هذا ما قاله جان مونيه أحد الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي. تنامِي دورُ البنك المركزي الأوروبي من بدايات متواضعة كحارس لعملة ناشئة (اليورو) إلى واحد من أعظم القوى في السياسة الأوروبية ربما كان سيدهش كبير التكنوقراطيين نفسه (مونيه). فبعد مرور 25 عاما على تأسيسه أصبح البنك شديد البأس بحيث يواجه الآن سؤالا قاسيا هو: هل يعرف متى يتوقف (عن التمدد)؟ البنك المركزي الأوروبي فريد في أنه لا يخضع لسلطة سياسية ولا يوجد له نظير مالي (بمعنى أنه كمؤسسة نقدية لا توجد مؤسسة مالية نظيره أو مقابلة له مسؤولة عن الشؤون المالية كالضرائب والإنفاق الحكومي والسياسات المالية بشكل عام في الاتحاد الأوروبي - المترجم).
إذن لقد صار البنك المركزي الأوروبي فعليا مقرض الملاذ الأخير لحكومات بلدان منطقة اليورو على الرغم من أنه رسميا ليس كذلك. ويبذل البنك قصارى جهده لتأكيد أن برامجه الخاصة بشراء السندات الحكومية تقترن بشروط. في الواقع من أجل الالتفاف حول الحظر الذي تفرضه معاهدة الاتحاد الأوروبي على تمويل الحكومات (بشكل مباشر) يلزم مسؤولي البنك تسويغ شراء السندات على نحو يتَّسِق مع أهداف سياسته النقدية والتقيّد بالقواعد المالية للاتحاد الأوروبي وتأكيد الحاجة إلى استدامة الدين السيادي. على هذا النحو "يجب أن يكون محامو البنك المركزي الأوروبي من بين المحامين الأكثر ابتكارا في العالم (للحلول أو المخارج القانونية)،" كما يقول ساندَر توردوار كبير الاقتصاديين بمركز الإصلاح الأوروبي. فبدلا من أن تتجه الحكومات إلى البنك المركزي التماسا للعون - كما يمكن أن يحدث في أي مكان آخر خلال الأزمات - يفرض البنك المركزي الأوروبي على الحكومات اتباع "سياسات اقتصاد كلي مسؤولة" حسب تعبير فرانشيسكو باباديا المسؤول السابق بالبنك. الآن تدفع الاعتبارات الجيوسياسية البنك المركزي الأوروبي نحو دور أكثر حساسية. لنأخذ خطوط تبادل العملات على سبيل المثال. (خطوط تبادل العملات هي اتفاقيات بين البنوك المركزية تسمح لها بتبادل عملاتها لمدة محددة سلفا من أجل مقابلة احتياجات السيولة في الأجل القصير بسوق العملات الأجنبية وتثبيت الاستقرار في الأنظمة المالية خلال أوقات الضائقة المالية- المترجم). فالبنك هو الذي يقرر إنشاءها. (في حال قرر البنك المركزي الأوروبي إنشاء خطوط تبادل عملات يدخل في اتفاقيات مع البنوك المركزية الأخرى خارج منطقة اليورو لتسهيل تبديل اليورو بعملة البنك المركزي الشريك لمقابلة احتياجات السيولة المحتملة ودعم الاستقرار المالي- المترجم.) مثلا إذا كانت البنوك الأوروبية في حاجة ماسة للدولار يمكن أن يبادل البنك المركزي الأوروبي عملة اليورو بالعملة الأمريكية مع بنك الاحتياط الفدرالي. بولندا والمجر عضوان كبيران في الاتحاد الأوروبي لا يعتمدان اليورو عملة رسمية. لكن بولندا (بخلاف المجر) هي التي تستفيد من خط مبادلة عملات محدود مع البنك المركزي الأوروبي. يقول شاهين فالي الباحث بالمجلس الألماني للعلاقات الخارجية وهو مركز أبحاث آخر: إن حصول أوكرانيا على خط مبادلة للعملات مع البنك على سبيل المثال يجب أن يكون قرارا مشتركا بواسطة وزراء مالية الدول الأعضاء في الاتحاد وليس البنك المركزي الأوروبي وحده. على نحو شبيه بذلك يشكل البنك المركزي الأوروبي صوتا قويا في الجدل الدائر حول ما يجب أن يحدث لأصول البنك المركزي الروسي المجمدة. فهو يفضل تركها على حالها وعدم التصرف فيها. كما يعارض أيضا وعلى أساس قانوني محاولات إعادة تحويل بعض حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي والتي يمكن استخدامها كاحتياطيات بالعملة الأجنبية إلى بنوك التنمية. بيد أن البنك لا يستجيب للتحديات فقط. يمكن رؤية ذلك في تشجيعه على استخدام وقبول اليورو. وهذا شيء لا ينادي به تفويضه بوضوح. وكما ذكرت كريستين لاجارد لمجلة الإيكونومست مؤخرا "إذا كان هنالك المزيد من التجارة باليورو سنكون بحاجة إلى تقديم السيولة التي تدعم تلك التجارة. اليورو كعملة دولية قوة للاستقرار."
إحدى الطرق التي يخطط بها البنك لتعزيز دور اليورو استحداث عملة رقمية. فهي ربما من شأنها تيسير معاملات التجارة العالمية. في هذا الجانب مضى البنك إلى أبعد مما ذهب إليه بنك الاحتياط الفدرالي الذي لا يزال بعيدا عن إصدار عملة رقمية وأكثر قلقا بشأن الموافقة السياسية على إصدارها. التغير المناخي مجال آخر يؤدي فيه البنك المركزي الأوروبي دورا. فهو باعتباره المشرف المصرفي الرئيسي للاتحاد الأوروبي يتوجب عليه تقييم المخاطر الناشئة. يقول فرانك إيلدرسون عضو المجلس التنفيذي للبنك "لم يعد تحول أزمة المناخ إلى مصدر للمخاطر المالية مجالا للخلاف. وهكذا أصبحت ضمن تفويضنا تماما."
يوضح اختبار ضغط "إجهاد" مناخي أجراه البنك ونشرت نتائجه في 6 سبتمبر أن تسريع الانتقال إلى الموارد المتجددة سيقلل مخاطر ائتمان المصارف في الأجل المتوسط. وهكذا ستنعكس أفكار التحول إلى الموارد الخضراء باطراد على سياسات البنك في إدارة المخاطر وشراء السندات وضمانات الاقتراض. ترى لاجارد أن هنالك المزيد الذي يمكن أن يكون ضمن تفويض البنك. تقول " كل الأجسام الأوروبية من البرلمان الأوروبي إلى الدول الأعضاء ملتزمة بالأهداف المناخية لاتفاقية باريس." إحدى السياسات التي يدور حولها النقاش نسخة خضراء (تتسق مع المطلوبات المناخية) من عمليات الإقراض التي يستهدفها البنك المركزي الأوروبي. هذه العمليات استخدمت حتى الآن كأدوات للسياسة النقدية بقصد تشجيع المؤسسات المالية على إقراض الشركات والعائلات. قد يعني وضع اعتبار للأهداف المناخية عند تسليم الأموال أن البنك ينفذ سياسة مناخية على نحو مباشر. وهذا ما يتجاوز أية مهمة يمكن أن يفكر بنك الاحتياط الفدرالي في القيام بها (البنوك المركزية عادة ما تشغل بالها بالسياسة النقدية وليس بالسياسة المناخية - المترجم).
الخطورة في كل هذا أن البنك المركزي الأوروبي ينفذ أعمالا تزيد عن تلك التي يلزمه القيام بها. وليست هنالك رغبة لدى الحكومات الوطنية لتقييده وتحديد مجال لا يتعداه. في الواقع قد يتيح هذا التمدد سبيلا لتحقيق أشياء لا يمكن أن ينفذها الساسة خوفا من رد الفعل الشعبي. وربما البلدان الأعضاء إدراكا منها لتزايد نفوذ البنك ترشح ساسة سابقين لمجلس المحافظين. فالرئيسة نفسها كريستين لاجارد سبق أن تولَّت حقيبة وزارة المالية في فرنسا ونائبها لويس دي جويندوس كان وزير مالية إسبانيا. مع ذلك كلما خاطر البنك بالدخول في مجالات إشكالية زادت مخاطر تآكل شرعيته. أما الآن فالساسة ومسؤولو البنوك المركزية الوطنية سعداء بما يفعله. لكن السؤال هو: هل سيبدأ المواطنون يوما ما في الاعتراض على ذلك؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البنک المرکزی الأوروبی الاتحاد الأوروبی للاتحاد الأوروبی البنوک المرکزیة فی الاتحاد یمکن أن على نحو
إقرأ أيضاً:
محافظ البنك المركزي يرأس وفد مصر المشارك في اجتماع مجموعة العشرين
ترأس حسن عبد الله محافظ البنك المركزي المصري وفد جمهورية مصر العربية المشارك في الاجتماع الأول – خلال عام 2025 - لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين"G20"، الذي استضافته دولة جنوب إفريقيا مؤخرًا، واستمرت فعالياته يومين، حيث ضم الوفد رامي أبو النجا نائب محافظ البنك المركزي المصري للاستقرار النقدي، وياسر صبحي – نائب وزير المالية للسياسات المالية.
تناولت الاجتماعات أولويات رئاسة جنوب إفريقيا للمجموعة والرؤية المستقبلية خلال عام 2025، حيث تطرقت إلى تعزيز التعاون الاقتصادي لمواجهة التحديات المرتبطة بقضايا النمو والاستفادة من كافة الفرص المتاحة، فضلًا عن مناقشة التطورات الخاصة بالهيكل المالي العالمي، وقضايا القطاع المالي، والتمويل المستدام.
وخلال مشاركة محافظ البنك المركزي المصري في الاجتماعات، أكد أن الاجتماع يمثل فرصة جيدة للمشاركين لمناقشة القضايا الاقتصادية والمالية الراهنة، وكذا تبادل الخبرات، واقتراح حلول تمويلية مبتكرة تعزز جهود التنمية على المستوى العالمي، لافتًا إلى الدور المحوري الذي تستطيع أن تقوم به المؤسسات التنموية متعددة الأطراف في هذا الإطار.
وفي هذا الصدد، أكد على أهمية دور مجموعة العشرين في تعزيز الحوار مع وكالات التصنيف الائتماني بشأن المفاهيم الخاصة بمؤسسات التنمية متعددة الأطراف، كما أشار إلى ضرورة التركيز على كيفية الاستفادة من التطورات التكنولوجية في تسوية المدفوعات عبر الحدود، مع توفير كافة التدابير اللازمة لحماية خصوصية البيانات وأمنها.
وتطرق إلى سبل وآليات تعزيز التمويل المستدام، مع الأخذ في الاعتبار المخاطر المرتبطة بالتأثيرات السلبية للتغيرات المناخية، حيث أشار إلى أهمية دعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتوفير التمويل المستدام كالسندات الخضراء، مع تعزيز آليات تقاسم المخاطر كالتمويل المختلط وضمان الائتمان.
وفي السياق نفسه، أكد السيد نائب وزير المالية على ضرورة اتباع نهج متوازن وتدريجي في الإصلاحات الضريبية، لضمان دعم النمو الاقتصادي من جهة، والحد من الضغوط التضخمية من جهة أخرى، بما يسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي. كما شدد على أهمية تعزيز دور الرقمنة في تحسين كفاءة السياسات الضريبية وضمان الامتثال لها، وأضاف أن هناك حاجة ماسة لبذل المزيد من الجهد لضمان نظام ضريبي دولي أكثر عدالة، يضمن لكل دولة حصتها العادلة من التدفقات المالية وفقًا لاحتياجاتها وأولوياتها التنموية.
ومن الجدير بالذكر، أن نائب محافظ البنك المركزي قد شارك في الاجتماع الثاني لنواب وزراء المالية ونواب محافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين “G20”، ومن أهم القضايا التي تناولها الاجتماع مراجعة وتقييم إجراءات عمل المسار المالي للمجموعة، كما شارك في الاجتماع الأول لنواب وزراء المالية ونواب محافظي البنوك المركزية لتجمع البريكس “BRICS” الذي عقد على هامش تلك الاجتماعات، حيث تم استعراض أولويات الرئاسة البرازيلية خلال فترة رئاستها للتجمع وخاصة القضايا المتعلقة بالبنوك المركزية.
وتجدر الإشارة إلى أن مشاركة جمهورية مصر العربية في اجتماعات مجموعة العشرين لعام 2025 تأتي بعد دعوة من دولة جنوب أفريقيا، التي تتولى رئاسة المجموعة خلال العام الممتد من الأول من ديسمبر 2024 وحتى نوفمبر2025، وذلك تحت شعار "التضامن والمساواة والاستدامة"، وتشارك مصر في هذه الاجتماعات للمرة الخامسة منذ إنشاء المجموعة، والثالثة على التوالي.