معضلة الديمقراطية التونسية بين النهضة والقوى الحداثية (2)
تاريخ النشر: 22nd, September 2023 GMT
في الجزء الأول من المقال، كنا قد طرحنا جملة من الأسئلة ووعدنا بالإجابة عنها في هذا الجزء الثاني. وهي أسئلة يمكننا إعادة صياغتها على النحو التالي: هل كان خيار التحريض على "الانقلاب" ومساندته من لدن أغلب ما يُسمى بـ"القوى الديمقراطية" خيارا عقلانيا؟ هل كانت الأوضاع/ المواقف الداخلية هي المحدد الأساسي لنجاح الرئيس في فرض "الإجراءات" والنجاح في إعادة هندسة المشهد العام بصورة جذرية؟ كيف يمكننا فهم المواقف الإقليمية والدولية من النظام التونسي بعيدا عن اللغة الديبلوماسية؟ هل تمتلك السلطة أو المعارضة مشروعا للتحرر الوطني؟ وكيف يمكن الحديث عن ذلك المشروع في ظل "التطبيع" مع منظومة الاستعمار/ الاستحمار الداخلي، بل في ظل هيمنة تلك المنظومة على جميع الفاعلين منذ تأسيس الدولة-الأمّة وما ارتبط بها من سرديات سلطوية قبل الثورة وبعدها؟
بعد 25 تموز/ يوليو 2021، حاولت أغلب القوى السياسية المنتمية للعائلة "الديمقراطية" (أي القوى اللائكية المهيمنة على مجمل الرساميل المادية والرمزية منذ تأسيس "الدولة الوطنية") أن تسبح مع تيار "الإجراءات" سواء بمنطق الموالاة التامة أو بمنطق الموالاة النقدية، بل حاول بعضها أن يبعث برسائل إلى الرئيس لتذكيره بأنه "مدين لها" في نجاح "الثورة التصحيحية"، وهو دَين يفرض على الرئيس أن يعاملها "معاملة تفضيلية" وأن يشركها في إدارة البلاد.
كان تشغيل منطق "التفويض" في مواجهة منطق "الدَّين" عاملا مهما من عوامل تحوّل بعض القوى المساندة إلى قوى معارضة جذرية (أي تحولها إلى قوى تعتبر إجراءات 25 تموز/ يوليو انقلابا على الدستور لا قراءة ما فوق دستورية)، ولكنه لم يكن كافيا لنقل الكثير من "الديمقراطيين" من موقع "الموالاة النقدية" إلى موقع المعارضة، ولم يكن كافيا أيضا لتوحيد مكونات المعارضة الراديكالية بحكم صراعاتها البينية ذات الجوهر الأيديولوجي
كان تشغيل منطق "التفويض" في مواجهة منطق "الدَّين" عاملا مهما من عوامل تحوّل بعض القوى المساندة إلى قوى معارضة جذرية (أي تحولها إلى قوى تعتبر إجراءات 25 تموز/ يوليو انقلابا على الدستور لا قراءة ما فوق دستورية)، ولكنه لم يكن كافيا لنقل الكثير من "الديمقراطيين" من موقع "الموالاة النقدية" إلى موقع المعارضة، ولم يكن كافيا أيضا لتوحيد مكونات المعارضة الراديكالية بحكم صراعاتها البينية ذات الجوهر الأيديولوجي.
لقد كان خيار التحريض على "الانقلاب" أو "الإنقاذ" ومساندته من لدن أغلب مكونات المشهد السياسي والمدني والنقابي والإعلامي -على الأقل قبل صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021- في ظاهره قرارا عقلانيا لأنه يهدف إلى ضمان عودة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي، ولأنه يطرح على نفسه "مقاومة الفساد" الممأسس والمعمّم داخل أجهزة الدولة وخارجها. ولكنّ مساندة القوى "الديمقراطية" للإجراءات باعتبارها ذات طابع "استثنائي" و"مؤقت" كان لا يُخفي تحريضا للرئيس على إعادة هندسة المشهد السياسي بصورة دائمة، أي استهداف حركة النهضة أساسا -بمنطق الاستئصال الناعم أو بمنطق الاستئصال الصلب- بعد أن تمّت المطابقة بينها وبين "العشرية السوداء".
ولا شك عندنا في أن الرئيس قد وظّف قوة الاقتراح "الانقلابية" لكن لغير ما تمنّت، فإذا كانت "القوى الديمقراطية" قد تحكمت في المقدمات (فساد منظومة "النهضة" وضرورة محاسبة الحركة سياسيا وقضائيا، وهو طرح مغالطي لأن الحقيقة هي فساد المنظومة القديمة بتواطؤ حركة النهضة)، فإن الرئيس قد بنى على تلك المقدمات نتائج كسرت أفق انتظار "القوى المساندة" وجعلها تتحرك في هامش الحقل السياسي وتحت رحمة "المراسيم الرئاسية".
لقد كان منطق "الدَّين" ينطلق من سوء تقدير سياسي لأمرين: أولا، سوء تقدير لموقف الرئيس من الأجسام الوسيطة وانتفاء الحاجة إليها في مشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية)، وهو ما يجعل من التعامل مع الرئيس بمنطق "الديمقراطية التمثيلية" أو حتى بمنطق "النظام الرئاسي" ضربا من العبث. ثانيا، سوء تقدير لدور تلك القوى في نجاح "الإجراءات" ("الانقلاب")، وقبل ذلك كله سوء تقدير لدورهم الحقيقي في استراتيجية الرئيس (ومن ورائه النواة الصلبة للحكم ورُعاتها الإقليميين والدوليين) عندما وظفتهم للتمهيد لـ25 تموز/ يوليو.
أن المحرّضين على "الانقلاب" لم يفهموا أن تعفين المشهد "البرلماني" وشيطنة مختلف الفاعلين الجماعيين -رغم الاستهداف الممنهج لحركة النهضة أساسا- كان سيمهد لضرب "الديمقراطية التمثيلية" ومختلف أجسامها الوسيطة دون استثناء، وكان سيضعف أوراقهم التفاوضية مع الرئيس -في صورة نجاح مشروعه السياسي- ويجعل منهم مجرد "طوابير خامسة" تُقدّر الحاجة إليهم بمقدارها (وبالطبع، لن تكون ثمة حاجة إليهم بعد أن ينجح الرئيس في فرض خارطة طريقه وتأسيس "الجمهورية الجديدة")
لقد استطاع الرئيس أن يُوظف الضغائن الأيديولوجية الموجهة ضد حركة النهضة لجعل المعارضة تخدم مشروعه السياسي من حيث تظن أنها تخدم مشروعها الخاص. ولكنّ الأهم من ذلك هو أن المحرّضين على "الانقلاب" لم يفهموا أن تعفين المشهد "البرلماني" وشيطنة مختلف الفاعلين الجماعيين -رغم الاستهداف الممنهج لحركة النهضة أساسا- كان سيمهد لضرب "الديمقراطية التمثيلية" ومختلف أجسامها الوسيطة دون استثناء، وكان سيضعف أوراقهم التفاوضية مع الرئيس -في صورة نجاح مشروعه السياسي- ويجعل منهم مجرد "طوابير خامسة" تُقدّر الحاجة إليهم بمقدارها (وبالطبع، لن تكون ثمة حاجة إليهم بعد أن ينجح الرئيس في فرض خارطة طريقه وتأسيس "الجمهورية الجديدة").
منذ 25 تموز/ يوليو 2021 حرصت القوى "الانقلابوقراطية" على إنكار مسؤوليتها الجزئية عن "العشرية السوداء"، ليتم اختزالها في حركة النهضة، رغم أن أغلب تلك القوى عاشت زمنها "الذهبي" في تلك العشرية، ورغم دورها المؤكد -سواء أكانت في الحكم أم في المعارضة- في فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا.
وكانت تلك القوى تظن أن تمهيدها للإجراءات والتحريض على حركة النهضة سيعطيها امتيازات سلطوية تعوّض خسارتها بعد نسف النظام البرلماني المعدّل. ويمكننا رد هذا "الوهم التأسيسي" -كما ذكرنا أعلاه- إلى عدم أخذها مشروع الرئيس المتقاطع مع مشروع المنظومة القديمة ومحور "الثورات المضادة" بالجدية اللازمة، ولكنّ ذلك "الوهم التأسيسي" يعود أساسا إلى المبالغة في تقدير دورها الحقيقي في نجاح "تصحيح المسار".
لقد كان تصحيح المسار خيارا إقليميا ودوليا ولم تكن القوى المحلية إلا أداة لتحقيقه، ولم يكن نجاح الإجراءات أو استمرارها رهينا بموقف الفاعلين المحليين (وهو ما تؤكده الأحداث إلى حدود كتابة المقال)، بل كان وما زال مرتبطا بموقف النواة الصلبة لمنظومة الحكم (المُركّب المالي- الأمني- الجهوي)، وبموقف القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الشأن التونسي. ولا يعني هذا ارتهان المشهد التونسي بصورة مطلقة للخارج، بل كل ما يعنيه هو أن المحدد النهائي (في السياق الحالي وبحكم الوضعية الهشة للمعارضة) هو محدد خارجي.
بحكم فقدان تونس لمقومات السيادة -مثل كل الدول المتخلفة والتابعة للمركز الغربي- فإن ارتهان القرار الداخلي لمؤثرات خارجية هو أمر لا يمكن التشكيك فيه؛ إلا من أولئك الذين يُنكرون هذا الواقع في مزايداتهم الموجّهة أساسا للاستهلاك المحلي، ولكنّ "معضلة الديمقراطية" في تونس تزداد تعقيدا إذا أردنا "عقلنة" المواقف الإقليمية والدولية من السلطة الحاكمة ومشروعها السياسي.
بصرف النظر عن مبدئية الرئيس أو عدمها في قضيتي التطبيع وإملاءات صندوق الدولي، فإن "المشروع الوطني للتحرر" يظل أفقا بعيدا عن السلطة والمعارضة على حد سواء
فإذا كان الموقف الغالب هو دعم المشهد الجديد، فكيف يمكننا فهم ترك النظام في حالة "موت سريري" تضعفه أمام المعارضة وأمام الرأي العام؟ وإذا كان هناك رفض حقيقي لما يُسمّى بـ"الانجراف الاستبدادي"، فكيف نفسر عدم وجو أي ضغط دولي أو إقليمي على النظام لتعديل سياساته الرامية إلى تأسيس نظام رئاسوي لا مكان فيه لأي معارضة أو سلطة رقابية حقيقية؟ وهل إن رفض الرئيس -على الأقل في مستوى الخطاب الرسمي- للتطبيع مع الكيان الصهيوني ولإملاءات صندوق النقد هو السبب الأساسي في إضعاف النظام التونسي دون إسقاطه، أي هل أن الوضع الحالي هو أداة لفرض توجهات معينة على النظام التونسي وإضعاف قدرته على المقاومة؟ وكيف يمكننا أن نصدّق أنه توجد مقاومة للتطبيع من لدن نظام متحالف استراتيجيا مع عرّابي التطبيع (محور الثورات المضادة) ويشتغل أساسا بورثة نظام مطبّع -أي يشتغل بالميراث الشيو- تجمعي البعيد كل البعد عن الانحياز "للقضايا الكبرى"؟
ختاما، وبصرف النظر عن مبدئية الرئيس أو عدمها في قضيتي التطبيع وإملاءات صندوق الدولي، فإن "المشروع الوطني للتحرر" يظل أفقا بعيدا عن السلطة والمعارضة على حد سواء. فالسلطة لا تستطيع أن تنجح في هذا المشروع في ظل انقسام الجبهة الداخلية وفي ظل هيمنة الكثير من المنتمين للمنظومة القديمة على مفاصل السلطة ومواقع القرار، كما أن "تطبيع" السلطة مع منظومة الاستعمار الداخلي يجعل من التحرر الوطني مجرد مجاز لا محصول تحته. أما المعارضة -بقيادة حركة النهضة- فإنها منذ أن اتخذت قرار "التطبيع" مع المنظومة القديمة -بشروط تلك المنظومة- قد رضيت بأن تكون جسما وظيفيا في منظومة الاستعمار الداخلي. ولا يبدو أن أزمتها الحالية -وهي أزمة تهدد وجودها ذاته- قد استطاعت أن تفرض على قياداتها مراجعة ذلك الخيار. وهي لا تختلف في ذلك عن أغلب مكوّنات "العائلة الديمقراطية" التي لا يبدو أن وضعية التهميش والإذلال التي تعيشها قد أخرجتها من ثنائية التناقض الرئيس (مع حركة النهضة) والتناقض الثانوي (مع أي نظام استبدادي).
ولا شك في أنّ هذا الوضع "المعضل" سيجعل من أي مشروع لإسقاط النظام الحالي مجرد مشروع لتدوير نخب "الاستعمار الداخلي"؛ بعيدا عن أي أفق حقيقي للتحرر الوطني وبناء مقومات السيادة في مختلف مجالاتها السياسية والثقافية والاقتصادية.
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية التونسي النهضة الإنقلاب تونس النهضة الديمقراطية قيس سعيد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حرکة النهضة بعیدا عن إلى قوى
إقرأ أيضاً:
الاِسلام السياسي وجدلية التأويل
قناع جانوسالاِسلام السياسي وجدلية التأويل
محمد جميل أحمد*
تقديم ومراجعة حامد فضل الله / برلين
صدر في عام 2020 كتاب بالعنوان أعلاه للكاتب والشاعر والروائي محمد جميل أحمد (الرياض حالياً). والكتاب من الحجم المتوسط ويضم 254 صفحة، ويتكون من 10 أبواب، وكل باب يحتوي على عدة فصول، بجانب التقديم والمقدمة. الأبواب الأربعة الأولى عبارة عن تحليل نظري، بالعناوين: في حيثية القرآن والاِسلام، وفي إيديولوجيا الوعي الإسلامي المعاصر، وجدل السلطة والدولة في مقاربات الاِسلام السياسي، والقرآن والوعي النظري، والاِسلام والوعي التاريخي، وفي الاِيديولوجية العربية، وإيديولوجيا التأويل، وأدلجة المفاهيم".
أما الباب الخامس: فهو "المسلمون في الغرب: قضايا الهجرة والاندماج والاِرهاب". ويقدم المؤلف في بقية الفصول دراسة حالات، مثل الدولة (الاِسلامية) في السودان، وحركة الاِخوان المسلمين في مصر وتجربة حركة النهضة في تونس، ويختم بالدولة الاِسلامية في العراق والشام (داعش).
يقوم المؤلف في البداية بإضاءة عنوان كتابه: "جانوس إله روماني؛ حارس بوابة السماء، له وجهان: خلفي وأمامي؛ أحدهما يُدخِل إلى النعيم، والثاني يَقذِف إلى الجحيم". مما يعني ازدواجية الخير والشر."
ثم يقول محمد جميل في مقدمته: " بدا واضحاً أن تداعيات أوضاع الإسلام السياسي، وتجاربه في السلطة التي شكلت المشهد الأبرز في أعقاب ثورات الربيع العربي، أصبحت موضوع اهتمام كثير من الأنظمة، والمحاور الاِقليمية والدولية والباحثين. والكتاب كما يقول هو محاولة في قراءة ظاهرتي الأيديولوجيا والتأويل، في ممارسات جماعات الاِسلام السياسي ..."، ويتابع "إذا كان مفهوما (الجاهلية) والحاكمية) يشكلان الجذر الاِيديولوجي الأعمق لفهم حراك الاِسلام السياسي؛ فإن كلاً من (سيد قطب) و(المودودي) هما من أسسا فكرياً ونظرياً لذينك المفهومين. ومشيراً، بأن أغلب النقد الموجه ضد الإسلام السياسي، عبر نقد هاتين الفكرتين، تجلى في بعض الكتابات من خلال قراءات أهملت السياقات الاِيديولوجية والتاريخية، التي أنجبت ذينك هذين المفهومين.
سوف نقوم أولاً بتقديم مكثف للجانب النظري.
"القرآن والوعي النظري، جدل القطيعة والصيرورة":
" يوماً بعد يوم تتكشف الحاجة المعرفية إلى موضعة الإسلام، وفرز تأويله المعرفي عن التأويلات الاِيديولوجية التي كان لبعض صورها المتطرفة آثار مدمرة، كانت ولا تزال من أهم الأسباب الرئيسة في توتر علاقات الغرب والعالم الاِسلامي ... فالحاجة إلى موضعة الإسلام معرفياً، من خلال مصادره المؤسًسة (القرآن، وصحيح السنة النبوية) من أهم الاستحقاقات الفكرية والمعرفية التي جرى إهمالها طويلاً، ذلك أن فكرة الوعي النظري بأهمية القرآن، بوصفه مصدراً معرفياً ...". وعجز كثير من المفكرين عن شجاعة الاعتراف بموقف موضوعي يرى إمكانية قراءة معرفية للخطاب القرآني؛ قادرة على إنتاج أفكار حيوية في قضايا المجتمعات العربية المعاصرة فكرياً وثقافياً وتاريخياً. وفي غياب استحقاق التأويل المعرفي للقرآن، طوال القرن العشرين، ضمن تلك الخفة التي حاولت استيهام قطيعة مع الإسلام، عبر التماهي الخادع مع الحداثة الأوروبية، كان لا بد من أن تحصر التأويلات الاِيدولوجية المتطرفة للجماعات الاِسلامية، كي تسد الفراغ، كما كان من الأفضل لو واجه المفكرون العرب تحديات التأويل المعرفي للقرآن الإسلام في واقع المجتمعات الإسلامية بدلاً من التعثر الدائم في قراءات مبتورة للحداثة".
هل تم فعلاً، كما يقول الكاتب، عدم قراءة معرفية للخطاب القرآني وتأويل معرفي له؟
تزخر المكتبة العربية بالكثير من الكتب الهامة ومن كتاب مرموقين، تناولوا هذه القضية من جميع أبعادها، بشجاعة وبموضوعية وعلمية، رغم التكفير والتهجير والتهديد بالقتل، بل بممارسته فعلاً.
كما أن قوله "فلم تكن كتابات الحقبة (الليبرالية)، مثلاً لدى طه حسين والعقاد، مقدمات راسخة لكتاب النصف الثاني من القرن العشرين التي قطعت مع كتابات الحقبة (الليبيرالية)؛ بفعل مناخ الاستقطاب الاِيديولوجي".
وهذا القول ليس دقيقاً أيضاً، بل العكس هو الصحيح، فكتابات طه حسين والعقاد لم تكن مقدمات فحسب، بل انتجت كتابات راسخة وعميقة ومن كتاب مشهود لهم، وبعضهم لا يزال على قيد الحياة، يمارسون دورهم التنويري الليبيرالي على نهج طه حسين وشجاعته منذ أصادر كتابه الرائد " في الشعر الجاهلي".
يردد الكاتب عبر صفحات كتابه، كلمات مثل الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ويكتب فقرة بذهنية ثاقبة:
"حاجة جماعة المسلمين، أي (المجتمع الإسلامي) أشد ما تكون إلى الحريات. الحرية في فهم إسلامها، والحرية في تأسيس علاقتها بالشرعية، وفق نشاط سلمي، وهو ما يحيل إلى فكرة السعي إلى دولة الحريات المدنية؛ لأن الدولة المدنية هي التي تتيح لأفرادها اختيار قناعاتهم، والدعوة إليها سلمياً، وصولاً إلى التداول السلمي للسلطة؛ ذلك أن الاِسلام دين تخدمه الدولة، وليس العكس".
هل هذه مناداة، للدولة المدنية العَلمانية الديمقراطية؟
مدنية بمعنى سلطة بشرية.
وعَلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة، لا فصل الدولة عن الدين، فالعَلمانية لا تعني الاِلحاد، كما يروج لذلك البعض، كما يجب عدم الخلط بين فصل الدولة عن الدين، أي فصل السلطة السياسية عن الدين، وبين فصل الدين عن المجتمع والحياة.
وديمقراطية كشرط لتحقيق العَلمانية، حيث توجد سلطة عَلمانية في دولة استبدادية، مثل سلطة النظام النازي الألماني السابق.
"جدل السلطة والدولة، في مقاربات الاِسلام السياسي".
لقد كان تأسيس جماعة الاِخوان المسلمين في مصر عام (1928) هو الرد المباشر على سقوط الرمز السياسي للإسلام التقليدي؛ أي سقوط الخلافة الاِسلامية في تركيا في العام (1924 )، في مواجهة الدولة الوطنية الحديثة. وبهذا المعني، لقد كان التفكير الإيديولوجي في الدولة الإسلامية عند جماعة الإِخوان المسلمين، والجماعات التي تناسلت من ورائها في ظاهرتي الإسلام السياسي والجهادي، بمثابة نشاط فكري وعملي ضد مفهوم الدولة الوطنية، وهو ما سيؤدي لاحقاً ــ إلى انفجار التناقضات بين المشروعين.، كما أن بروز التنظير العقدي للدولة الاِسلامية الذي أسسه أبو الأعلى المودودي، وطُوره عربياً سيد قطب، من خلال بناء مفهومي جديد تمثل مصطلح (الحاكمية)، تعريفات معاصرة وتصور عقدي كان له الأثر الكبير في التشويش على مفاهيم الجماعات الإسلامية اللاحقة، ففي المزج بين ما هو عقدي وبين ما هو من الفروع حيال قضية الحكم، لعبت الاِيديولوجيا دوراً بارزاً، وأفرزت واقعاً جديداً نتجت عنه دورة العنف الذي مارسته الجماعات الإسلامية في سبيل الاستيلاء على السلطة، والبراءة من أنظمة حكم الدولة الوطنية الحديثة من ناحية ثانية.
وبعدها أشار الكاتب لمفهوم الحاكمية، وملابساته، وظروف نشأته، وأدلجته،. وكمصطلح، كما صوره سيد قطب، كان في الحقيقة وصفة ملتبسة وجهت جماعات الاِسلام السياسي نحو عقدي يقرأ المجتمعات العربية والاِسلامية بعدياً عن حيثياته في واقع العالم الحديث، والترتيبات التي شكلتها الحداثة السياسية منذ أربعة قرون على الأقل. فأن اسقاط مفهوم الحاكمية في ظل واقع كهذا، سيظل هو الوجه الآخر لقناع الاِيديولوجيا، التي انفجرت، وما زالت تنفجر، في تطبيقات مفهوم الحاكمية، كما أنتجاه المودودي وسيد قطب.
في الإيديولوجية العربية:
" لم تكن إيديولوجيات المنطقة العربية، في يوم من الأيام، رؤية متجاوزة لسقفها المحدود، ذلك أن العرب، منذ عصور الاستعمار، لم يتمكنوا من إدراج سؤال الحداثة ضمن رؤية معرفية؛ أي إن الاِيديولوجيا كانت القناع الذي عكس باستمرار وعياً مشوهاً لتلك الحداثة. أن ترديدنا لمقولات من قبيل الديمقراطية، والمجتمع المدني، والحداثة، وتكشف في عين الوقت عن عجز تلقائي في قدرة الاختبار النقدي لتلك المفاهيم، سواء في الفهم، أم في التطبيق، ويشير إلى حقيقة ثانية، حسب قوله، وهي العجز العربي عن ، مثل الإصلاح الديني في عالم عربي علاقته بالدين عميقة، وعجز النخب العربية عن اكتشاف وفرز القيمة الفكرية في بعض الكتابات، التي تنطوي على إشارات موضوعية في مشروعها الفكري، وتخترق بأضوائها ظلام الاِيديولوجيا ( كتابات عبد الله العروي، ومالك بن نبي، وغيرهم، على سبيل المثال، ما يعني أن هذا العجز، إذ يحيل إلى عدم القدرة في تأويل تلك الكتابات موضوعياً، إنما كان، في معنى آخر، عجزاً ينطوي على علاقة عقيمة مع التراث في معناه المعرفي؛ أي الوقوع في ذلك المأزق، الذي ينوس بين العيش داخل التراث، أو خارجه، ضمن رؤية مانوية فاقعة، لا تؤمن بتلك المقولة التي تقول ( إن أول شرط لتجاوز التراث: قتله بحثاً)".
إن مقولة " إن أول شرط لتجاوز التراث: قتله بحثاً"، ملتبسة. فإذا كانت تشير إلى مقولة العالم المصري أمين الخولي، فمقولة الخولي: "أول التجديد قتل القديم فهماً وبحثاً ودراسة". فمفردة التجديد ليست المرادف لمفردة التجاوز.
أزمة الدولة (الإسلامية) في السودان، والترابي ... شعلة الفحم.
"بموازاة التنظير لمفهوم الحاكمية، كما لدى سيد قطب والمودودي، نشطت الحركة الإسلامية السودانية بقيادة حسن الترابي بعد انشقاقها عن حركة الاِخوان المسلمين، وخلافاً لها، سعت الحركة السودانية للتغيير الفوقي لنظام الحكم. وكان الانقلاب الذي قاده عمر البشير على النظام الديمقراطي في السودان في العام (1989) تتويجاً لذلك النشاط الحركي للإسلام السياسي في السودان، بعد أن خاض تنظيم الحركة الاِسلامية أكثر من محاولة انقلابية قبل ذلك. أن انصراف القيادة عن الانتباه إلى الحيثيات النظرية والحِجاجية الشرعية بخصوص أسلوب تغيير نظام الحكم، والأزمة التي يمكن أن تنشأ من قيام دولة إسلامية في واقع اجتماعي ودولي شديد التعقيد، مما قد يدفع باتجاهات يمكن أن تكون سبباً، ليس في فشل مشروع الدولة الاِسلامية فحسب، بل في تدمير النسيج الاجتماعي والبنى الكيانية للدولة الوطنية نفسها ( وهذا ما حدث بالفعل بعد أكثر من 30 عاماً من انقلاب الاِسلامويين في السودان) عبر تلك التطبيقات الفوقية للأيديولوجيا، وما نتج عنها من حروب أهلية وكوارث، وفساد، وأزمات، وتمييز، وهجرة ... إلخ".
يقول الكاتب: بما أن حسن الترابي هو من صمم الاِطار النظري، وقاد التجربة الحركية للإسلام السياسي في السودان من طور التنظير إلى طور الممارسة، فهو يريد الكشف عن بعض التناقضات المنهجية في تجربته النظرية والحركية. ويشير إلى الآراء والفتاوي التي صرح بها خلال ندوتين في نفس الموضوع مع فارق زمني طويل. فتاوي من قبيل: الردة السياسية، وفكرة القياس الواسع، ومفهوم الاجتهاد الشعبي، وتأويل نظرية المصلحة على إطلاقها، واقتراح تطبيقات مجزؤه للحدود الشرعية في السودان وغيرها من الفتاوي، كلها لا يمكن قراءتها بمعزل عن منهج حركي إسلاموي بعقدة الوصول إلى الحكم بأي ثمن. ولكن الكاتب لا يطلعنا على هذه الفتاوي وعن معناها الفقهي والجدلي ، متعللا، بان إثارة هذه الفتاوي من قبل الترابي هدفها الشهرة والاستقطاب، والجنوح العصابي للسلطة، وأن النرجسية الطاغية للترابي، بطبيعتها تلك، لم توفر أي معنى محترم للفكر، أو الدين، ومدفوعاً بشهوتي السلطة والصيت.
ويقول الكاتب: "إن قوة الحرج الأخلاقي التي تطاول موقف الترابي لا تتصل بممارسات التجريب الممكنة حيال قاعدة الخطأ والصواب السياسِيين، وإنما تتصل في جوهرها بقدرته باعتباره مفكراً قادراً على رؤية الخطايا الاستراتيجية التي خاض فيها، وقادر، كذلك، على اجتنابها في الوقت عينه، بما تتوافر عليه مكانته الفكرية والسياسية، حيال مواقف تاريخية مر بها الوطن كان هو المسؤول الأول عن ترتيباتها، لكنه تماهى فيها مع أهواء النفس، وأسباب العظمة الذاتية، أكثر من شروط الموقف الأخلاقي الذي يمليه عليه ضميره بوصفه مفكراً وزعيماً سياسياً في الوقت ذاته."
يقوم الكاتب بمحاكمة الترابي ويقسو عليه، حسب قول رضوان السيد، ويحمله مسؤولية الخراب، الذي حل بالسودان، دون أن يعرض لنا ولو بإيجاز عن سيرة حياة هذه الشخصية الخلافية.
فالترابي الذي ينحدر من أسرة دينية صوفية، وتربى بداية على تقاليد هذه الأسرة، ثم تعليمه العصري، الذي فتحَ آفاقه على قضايا المرتبطة بعصر الحداثة، مثل حقوق الاِنسان والديمقراطية ...، ومحاولته وجود نصوص من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، لتجديد الاِسلام وتحديثه تماشياً مع روح العصر، ويواجه معارضة ليس من داخل حركته فحسب (جعفر شيخ إدريس وصادق عبد الله عبد الماجد)، بل من فقهاء الدين التقليدين المتشددين، ومن خصومه السياسيين العَلمانيين واليساريين، الذين لا يرونا فيه إلا العَلماني في قفطان إسلاموي.
كما أن آرائه حول التجديد وما لاحقها من رفض وتكفير، بجانب تمزقه بين الثقافتين الاِسلامية والغربية، التي قادت إلى تناقضاته وسلوكه، ثم أزمته ونهايته التراجيدية.
أن تخريب السودان، الذي قامت به الحركة الاِسلامية، بدأ منذ أسقاطها للنظام الديمقراطي عن طريق الاِنقلاب العسكري، وإدارة الحكم عن طريق ما كان يعرف "بالنظام ــ السوبر، أي النظام السري، ويسيطر عليه بجانب الترابي نائبه علي عثمان محمد طه، الذي اصبح لاحقاً النائب الأول للبشير. فالكاتب يحمل كل مسؤولية هذا الخراب للترابي، الذي فقد السلطة عام 1999 وإلى الأبد حسب تعبيره ، لا يتعرض إطلاقاً لصقور الحركة، الذين مارسوا الخراب لمدة عشرين عاماً، ويواصلون خرابهم بإشعال الحرب الحالية المدمرة للقضاء على ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. لا مكابرة هنا حول مسؤولية الترابي، وإنما من أجل العدل والانصاف فقط، حتى لو كان الترابي ليس منصفاً ولا عادلاً، فالإنصاف ليس فعل محاباة، بل فِعل من أفعال الفضيلة العلمية والعملية، حسب عبارات الفيلسوف أبن رشد.
يتعرض الكاتب إلى أطروحة البروفيسور الألماني هاينر بيلفيلد، حول "المسلمون في الغرب، قضايا الهجرة والاندماج والاِرهاب". وأطروحة بيلفيلد عبارة عن بحثين طويلين**، قام الكاتب بتقديمها بصور وافية، مع مناقشة عميقة للمادة، متفقاً أو معارضاً آراء الباحث، بموضوعية وتحليل ثاقب.
أما الباب السادس " الاِسلاميون والتجربة السياسية في مصر، الاِخوان المسلمون نموذجاً". قدم فيه الكاتب دراسة عميقة لدور الاِخوان المسلمين منذ فوزهم في الانتخابات التي أعقبت الربيع العربي، والأخطاء الجسيمة التي ارتكبوها منذ انفرادهم بالسلطة، وفرض دستور عن طريق أغلبيتهم البرلمانية، بدلا من مشاركة القوى السياسية الأخرى، فكتابة الدستور التي هي مهمة قومية، وتحتاج إلى توافق كل قوى الشعب، بعيداً عن أي تأثير لكتلة الأغلبية الطارئة في البرلمان. وطرحهم لفكرة الدولة المدنية بديلاً مخففاً عن مفهوم الدولة الاِسلامية، لكنهم لم يلتزمون بذلك، مما ولد الاحتقان ثم الاِنفجار بفض اعتصاميْ: رابعة العدوية، والنهضة، وعودة الجيش إلى السلطة.
يتناول الكتاب في الفصل الأول من الباب السابع، تجربة حركة النهضة في تونس:
" فك الارتباط بين الدعوي والسياسي، الذي بادرت به حركة النهضة التونسية أخيراً، خطوة مهمة في طريق "تصفير" الإسلام السياسي سيكون بمثابة مواجهة اضطرارية قادمة من صراع التناقضات في الحركة الاِسلامية، وهو صراع سيعكس اهتزازاتٍ وربما تصدعات، قريبة ومنتظرة داخل جماعة الاِخوان المسلمين ... فك الارتباط بين الدعوي والسياسي يعني في جوهره إسقاطاً للأيديولوجيا الاِسلامية المؤسسة لاغتراب الجماعة في المجتمع، كما يعني، في الوقت نفسه، تصالحاً مع نظم إدراك معرفية مختلفة لوعي المجتمع والدولة، مما يجعل الحركة جزءاً منهما (المجتمع والدولة) لا متعاليا عليهما، أو منفصلاً عنهما".
يأتي الفصل الأخير من الكتاب "داعش الميراث الأسود"، مشيرا إلى أهواله وجرائمه؛ وهي في حقيقتها (إهانة للمسلمين) أمام العالم". ويختم الفصل بقوله: " لن ينتهي الاِرهاب في العالم؛ لأنه أصبح تصميماً معولماً للعنف، وسيستمر مديداً في ظل خطابي منطق القوة المادية والجنون الداعشي، فيما سيدفع الضحايا الأبرياء من مسلمين وغير مسلمين، ثمناً باهظاً من الأرواح والدماء. ثمة إمكانيات أولية للنظر في استراتيجياتٍ معرفيةٍ يمكن أن تساهم في تسكين العنف الاِرهابي ومواجهته، لكنها ستظل بلا طائل، طالما ظل ذلك الناموس الأعمى لمنطق القوة محركاً أساسياً لمصالح الغرب في رويته المادية للعالم.، وطالما ظل الوعي المفكك للإرهابيين، من الدواعش وغيرهم، هو رد الفعل العشوائي بالحماس الديني على ذلك الناموس."
قام بتقديم الكتاب الباحث والكاتب اللبناني المعروف الدكتور رضوان السيد، فجاء تقييمه مكثفاً مع التركيز على ما جاء في الكتاب عن الحركات الاِسلامية، وقليلاً من الجانب النظري، وربما كان مفيداً للقارئ لو توسع في هذا، فهذه المواضيع تمثل جزءاً كبيراً من أبحاثه ومشاغله. ويقول " كان المؤلف قاسياً على حسن الترابي، إنما من الناحية اللفظية فحسب، وذلك مثل الفصل الذي خصصه له: „الترابي. .. شعلة الفحم". تأتي المفارقة، عندما يقول بنفسه (أي رضوان السيد): " وقد تابعتُ حسن الترابي في أحاديثه ومحاضراته وكتبه وعمله السياسي منذ العام (1980). ولا شيء يفسر فكره وسلوكه غير غرامه الأسطوري والمرَضي بالسلطة. والمعروف أن عنده كاريزما تجذب أنصاف المتعلمين ... ويعلم الله أنني منذ العام (1980) (رأيته في عمان) ما كنت مغرماً ولا معجباً به وقد أحسستُ، منذ ذلك الحين، أن كل شيء فيه مصنوع بعيداُ من الدين، والأهم: بعيداً عن الأخلاق" ... وختم تقديمه بالثناء على الكاتب ومثمنناً الكتاب.
الخلاصة:
يحتوي كتاب محمد جميل على دراسة قيمه لنماذج من حركات الإسلام السياسي. فجاء تحليله لحركة الإخوان المسلمين في مصر (الحركة الأم) جيداً ومفصلاً، لعلني أضيف بأن تشرذم وتفكك القوي المدنية واليسارية ــ التي أشار إليها الكاتب أيضاً ــ وعدم اتفاقها على برنامج موحد، في مواجه برنامج الاِخوان سهل فوزهم. كما قامت بعض الدول الخليجية بدور فاعل في تمويل الاِعلام المضاد للثورة في مصر والمؤيد لعودة النظام القديم ، خوفاً من انتشار نموذج الديمقراطية إقليمياً بتأثير مصر.
كما أن الدور الرئد لحركة النهضة التونسية، التي جسدت أول تجربة إسلامية ديمقراطية للإسلام السياسي في البلاد العربية وجسرت الهوة بين الاِسلام والحداثة، انقطع مسارها بسيطرة الرئيس قيس سعيد على الحكم، الذي قام بتعديل الدستور وتسيس القضاة والزج بقادة حركة النهضة في السجون.
ركز الكاتب تحليله ونقده للحركة الاِسلامية في السودان على حسن الترابي فقط، ومشيراً إلى أدائه السياسي، وغفل عن آرائه وأفكاره عن الدين، والتدين وفهمه للحداثة والتجديد... المنشورة في العديد من كتبه ومقالاته. لا شك في أن الترابي يتحمل مسؤولية كبيرة في الدمار والخراب الكبير الذي أصاب الوطن، 30 عاما من حكم الإسلامويين، خاصة في العشرة سنوات الأولي من سيطرة الترابي على الحكم، والتي مثلت أبشع فترة، من الاعتقالات، والتعذيب والقتل، والفصل التعسفي من الخدمة المدنية. اما بقية العشرين عاماً فأهملها الكاتب في تحليله.
أنني استغرب تكرر دمغ الترابي بصفة السياسي المهوس بالسلطة. كيف يستطيع زعيم سياسي أو حزب سياسي تنفيذ برنامجه، دون السعي للسلطة؟
لماذا شيطنة الترابي، والشخصنة باستخدام ألفاظ مثل: الجنوح العصابي، والأخلاقي والتشنج، والتهيج والاستهزاء والهمز، والخفة (غير المحتملة) في نص جيد مثل هذا، غير مقبولة ولا تخدم النص فحسب، بل ضارة به.
لقد أصابتني الدهشة عندما قراءة مقدمة الكتاب. " ... بيد أن هناك تجربة متكاملة كان يمكن أن تشكل مادة نموذجية للنقد وآلياته، بما توفرت عليه تلك التجربة من زمن كافٍ، وتجريب صافٍ لسلطة الاِسلام السياسي كشف عن أهم خاصية له، أي البنية الاِيديولوجية الانشقاقية، التي تشتغل بكفاءة في تدمير النسيج الوطني. لكن، للأسف، ذلك لم يحدث".
لقد صدرت العديد من الكتب ومئات المقالات في نقد تجربة حكم الإسلامويين في السودان، ومن كتاب مرموقين، مثل عبد الوهاب الأفندي، والتيجاني عبد القادر والمحبوب عبد السلام وحسن مكي والراحل الطيب زين العابدين وهم ( من أبناء التنظيم، وأهل البيت)، وكتابات حيدر أبراهيم علي، ومحمد محمود، وعبد الله النعيم وعبد الله علي إبراهيم، وعشاري خليل وصديق الزيلعي وكتابه المشترك مع ناصف بشير وعمرو عباس، و أضيف للقائمة الطويلة، الكتاب الضخم (1016 صفحه) بعنوان" كولونيالية الاِسلام السياسي، أزمة الوطن والوطنية والمواطنة في خطاب الاِخوان، السودان نموذجاً" بقلم فتح الرحمن التوم الحسن، والذي صدر بعد عام من نشر كتاب محمد جميل.
عندما يطوي القارئ أخر صفحة من الكتاب، تجول في ذهنه الكثير من التساؤلات والقليل من الاِجابات، وهذا ليس عيباً، وإنما يكشف عن التفاعل مع النص وحيويته.
التحية والجهد المقدر للأخ محمد جميل لهذا البحث الرصين، فما أحوجنا لمثل هذه الكتابات الجادة، التي تدفعنا للتفكير والتأمل في واقعنا الخرب.
*محمد جميل أحمد، قناع جانوس، الإسلام السياسي وجدلية التأويل، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء \ المغرب، الطبعة الأولى: 2020
** نُشر المقالين للبروفيسور هاينر بيلفلد، الذين جاء ذكرهما في الكتاب في مجلة المستقبل العربي، بيروت ــ لبنان.
-- Heiner Bielefeldt, Muslime im säkularen Rechtstaat, vom Recht der Muslime zur Mitgestaltung der Gesellschaft.
المسلمون في دولة القانون العلمانية، حول حق مشاركة المسلمين في تشكيل المجتمع، ترجمة حامد فضل الله، المستقبل العربي، السنة 24 ، العدد 273 ( تشرين الثاني \ نوفمبر 2001) .
- Heiner Bielefeldt, Das Islambild in Deutschland: Islamophobie – konzeptionelle Kontroversen und politische Handlungsoptionen, deutsches Institut für Menschenrechte (2007)
هاينر بيلفلد ، صورة الاِسلام في ألمانيا: حول التعلم العلني مع الخوف من الاِسلام، ترجمة فادية فضة وحامد فضل الله. المستقبل العربي، السنة 31، العدد 256 ( تشرين الأول \ أكتوبر 2008 ). ص 80 ت 96 .
hamidfadlalla1936@gmail.com