الجزيرة:
2024-12-17@10:44:06 GMT

البدعة مفهوم وصفي لا معياري

تاريخ النشر: 22nd, September 2023 GMT

البدعة مفهوم وصفي لا معياري

من الأحاديث المشهورة أن "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وهو من الأحاديث التي أثارت -ولا تزال- الكثير من الاختلاف والجدل بين العلماء والوعاظ على السواء، لأمرين:

الأول: من جهة الرواية، وهي أن ثمة نصوصا أخرى تعارض ظاهر هذا الحديث. والثاني من جهة التأويل، وهو أن حَمْل هذا الحديث على عمومه يعني أن المحدثات كلها ضلالة، سواء كانت في الأقوال أم في الأفعال أو الذوات أو الأشياء، وهذا مشكلٌ.

أما الأحاديث المعارضة لحديث البدعة، فمنها حديث: "من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، فهو يقسم السنة (المُحْدَثة) إلى سنة حسنة وأخرى سيئة. وهذه السنة الحسنة المُحدثة تتعارض مع ظاهر النهي عن عموم "مُحدثات الأمور" الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمور".

ومنها أيضا حديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، فهذا حديث يعتبر محدثات الخلفاء الراشدين سنة تُحتذى، ومن ثم يتعارض مع ظاهر حديث "كل محدثة بدعة". وثمة آثار مروية عن بعض الصحابة تعارض أيضا ظاهر حديث "كل محدثة بدعة"، منها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح جماعةً في المسجد: "نعمت البدعة هذه"، أي أنه قسم البدعة إلى حسنة وسيئة، ومنها كذلك قول عبد الله بن عمر في صلاة الضحى جماعة في المسجد: هي "بدعة" (البخاري؟)؛ يريد أنها حسنة، ومنها قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"، وهذا -لا شك- يفتح الباب على كثير من المحدثات "الحسنة".

أما بخصوص تأويل الحديث، فإن حمل "البدعة" هنا على المعنى المذموم فقط، وأن كل محدثة هي ضلالة كما هو ظاهر الحديث، يعني تضليل سائر الناس، لأجل محدثاتهم التي لا تنتهي؛ لأن أفعال البشر لا تنقطع عن التجدد والتنوع في الزمان والسياق وبحسب الإمكان والحاجات. وهذا الظاهر لا يُطيقه حتى أشد المتوسعين في مفهوم البدعة؛ ولهذا اتفق العلماء على أن حديث "كل محدثة بدعة.." ليس على ظاهره بل مؤوّل، وعبروا عن ذلك بقولهم: إن العموم في "كل بدعة ضلالة" هو "عموم مخصوص"، لأنه ليس جميع المُحْدَثات بِدَعًا سيئة، ولا جميع البدع هي ضلالة. فكل مُحدثة بدعة، والبدعة قد تكون سيئة أو حسنة، ولكن كل بدعة سيئة هي ضلالة. ومثل هذا العموم المخصوص له نظائرُ في القرآن الكريم كقوله تعالى: (تدمر كل شيء) وقوله تعالى: (وأوتيت من كل شيء).

يظهر مما سبق أن حديث البدعة مشكل لجهتين: جهة الرواية وجهة المعنى، وترك ظاهر الحديث ضروري لأنه يحل إشكالين رئيسين:

الإشكال الأول: دفع التعارض بين النصوص

فكون العموم الوارد في "كل بدعة ضلالة" ليس على ظاهره، يجعل الأحاديث والآثار المذكورة -جميعًا- في انسجام؛ بحيث لا يعارض بعضها بعضًا. وكثيرٌ من أشكال التعارض الموهومة بين الأحاديث والآثار ناتج عن التمسك بحديث "مفرد" فهمًا وتنزيلاً. وفقه الحديث لا يتأتى إلا بالانتقال من مستوى "الحديث المفرد" إلى مستوى "الخطاب النبوي".

فالأحاديث والآثار المشار إليها سابقا تنسجم جميعًا -بوصفها خطابًا- ضمن مفهوم كلي هو أن "البدعة" مفهوم وصفي لا معياري، ومعناه: المُحْدَث على غير مثال سابق، ولكن هذا الوصف يتحول إلى حكم معياري (إما مدحًا أو ذمًّا) بعد تقويم نقدي للفعل المُحدَث: هل ينسجم مع "الخطاب النبوي" أو خطاب الشارع عموما؟ وتقويم الفعل المحدث بالاحتكام إلى الخطاب يتجاوز القصور القائم في طريقة الحرفيين الذين يقوّمون -عادة- الفعل المُحْدَث بالاستناد إلى أحد طريقين:

الأول: البحث عن "حديث مفرد" يوافق الفعل المحدث، أو البحث عن معهود فعل نبوي أو فعل سلفي (في القرون الثلاثة الأولى) يطابق هذا الفعل المحدث، للحكم عليه، فإن عُهد هذا الفعل كان سنة وإلا كان بدعة. الثاني: الاحتجاج بعدم فعل النبي أو السلف الصالح لهذا الفعل بعينه (أي مجرد الترك) لتأكيد ذمه وأنه بدعة؛ بحجة أن هذا الفعل المحدث استدراكٌ على الشارع أو السلف الصالح، أو مخالفةٌ لسنتهم، رغم أن مجرد الترك ليس دليلاً على شيء عند عامة العلماء، بعيدًا عن خطابات بعض السلفيين المحدثين.
ثم إن مجرد إحداث فعل على غير مثال سبق لا يعني الاستدراك أو التنقيص ممن لم يفعله، لأن أبواب الخير -كأبواب الشر- لا حصر لها، ولا يمكن تحنيط أفعال البشر في صورة أو صور محدودة، كما أن الخطاب النبوي يردنا إلى أصول ومبادئ كلية لا تنحصر تطبيقاتها فتكون كثير من المحدثات داخلة في عموم أو مندرجة تحت مبدأ كلي.

البدعة هي مفهوم وصفي لا معياري، ومن ثم تفتقر إلى صفة معيارية إضافية لأن البدعة "فعل ما لم يُسبق إليه"، كما قال القاضي عياض

الإشكال الثاني: ليس كل عام أريد به العموم

فالتمسك بظاهر اللفظ في "كل" محدثة بدعة و"كل" بدعة ضلالة يقود إلى إشكالات لا حصر لها. فلو حملنا "البدعة" على أنها حكم معياري يقصد به الذم فقط، وأن "كل" بدعة هي ضلالة بالضرورة، لأنها مذمومة لذاتها، لوقعنا في تضليل عامة أفعال العباد المحدثة التي لم تكن على مثال سابق مع تراخي الأزمنة والتحولات الجذرية التي حصلت في واقع الناس، وخاصة في أزمنة الحداثة والدول القومية ومؤسساتها، سواء كانت هذه المحدثات في الدنيا أم في الدين، وسواءٌ كانت في العادات أم في العبادات، وسواء تناولت أعمال الخير أم اختراع طرائق مسلوكة تضاهي الطريقة الشرعية، ولا قائل بذلك من العلماء.

ثم إن أحد أنواع العام هو "العام المخصوص"، وهي طريقة سائغة في كلام العرب ونصوص القرآن والحديث، وهي أحد وجوه البيان التي تحدث عنها الإمام الشافعي قديما. فلو حملنا -مثلا- قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) على ظاهره لترتب على أن تكون كل عوالم الأشياء مذكورة في القرآن نصا، ولا يقول بهذا عاقل. ومن ثم فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن البدعة قد تكون حسنة وقد تكون سيئة؛ فقوله: "نعمت البدعة": صريح في هذا المعنى، لأن "نعمت" كلمة تجمع المحاسن كلها، كما أن "بئس" كلمة تجمع المساوئ كلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر". وهذا يؤكد أن عمر كان يرى أن البدعة مفهومٌ وصفي وليس حكما معياريا في ذاته، وذلك على خلاف ما قاله الزرقاني حين قال: "إذا أجمع الصحابة على ذلك -مع عمر- زال عنه اسم البدعة"؛ فالبدعة -عند عمر- ليست اسما لازما للذم حتى يقال: "زال عنه اسم البدعة".

وقد حاول الحافظ ابن رجب الحنبلي وغيره من العلماء أن يميزوا بين البدعة في اصطلاح الشرع وأنها مذمومة دوما، والبدعة في اللغة وأنها تطلق على المختَرَع أو المحدث، وهذا التمييز لا يستقيم بالنظر إلى النصوص السابقة وأوجه الإشكال المذكورة، فالبدعة هي مفهوم وصفي لا معياري، ومن ثم تفتقر إلى صفة معيارية إضافية؛ لأن البدعة "فعل ما لم يسبق إليه" كما قال القاضي عياض، أو "إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام" كما قال الطيبي؛ ولكن مجرد الإحداث لا يدل على حكمٍ أو تقويم لا سلبي ولا إيجابي، بل يتطلب هذا الفعل المُحدث تقويمًا، وفق منهجية محددة هي التي يجب أن تكون محل النقاش بين المتنازعين في هذه المسألة.

وقد جرى على هذا المعنى الواسع للبدعة -بالإضافة إلى بعض الصحابة- عدد من العلماء، ويظهر ذلك من تقسيماتهم للبدعة إلى بدعة هدى وبدعة ضلالة، أو بدعة محمودة وبدعة ضلالة، أو بدعة حسنة وبدعة سيئة، على اختلاف تعبيراتهم عنها. وعلى رأس هؤلاء الإمام الشافعي؛ فقد روى عنه أبو نعيم والبيهقي، ونقل عنه عدد من العلماء أنه قال: "البدعة بدعتان: بدعة محمودةٌ وبدعة مذمومةٌ". ولكن كيف نميز بين النوعين؟ وما المعيار في ذلك؟ وما صلة ذلك بقانون الفقه؟ هذا ما سأناقشه في المقال القادم بإذن الله.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: من العلماء هذا الفعل الم ح د ومن ثم جمیع ا

إقرأ أيضاً:

وزير الأوقاف: ربطَ الذِّكر الحكيم مفهوم الأمن بمقاصد الشرع الشريف

شارك الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، في ختام فعاليات الندوة الدولية الأولى التي نظمتها دار الإفتاء المصرية، على مدار يومين، بمناسبة اليوم العالمي للإفتاء، تحت عنوان: «الفتوى وتحقيق الأمن الفكري»، برعاية كريمة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك بقاعة مؤتمرات الأزهر الشريف.

محافظ المنوفية يشهد استلام أربعة أطنان من لحوم الأوقاف وزير الأوقاف السوداني الأسبق: ندعم الأزهر ومواقفه في مكافحة الأرهاب والتطرف

اختتم الأستاذ الدكتور نظير عياد، مفتي الديار المصرية – رئيس الأمانة العامة لهيئات ودور الإفتاء في العالم، الندوة، بمشاركة الأستاذ الدكتور إبراهيم نجم، الأمين العام لهيئات ودور الإفتاء في العالم؛ والمفتي مصطفى سيرتش، مفتي البوسنة والهرسك السابق؛ والدكتور محمد مصطفى الياقوتي، وزير الأوقاف والإرشاد السوداني الأسبق، وعدد من السادة العلماء والوزراء.

وفي كلمته قدَّم الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، خالص التهاني إلى مفتي الجمهورية على نجاح تنظيم هذا المنتدى العلمي المهم، الذي استمر على مدى يومين برعاية سامية من السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، مشيرًا إلى أنه قد اختير لهذا المنتدى عنوان مهم، هو «الفتوى وتحقيق الأمن الفكري»، مؤكدًا أن محور الأمن الذي يناقشه المنتدى من أهم المحاور الذي تدور في فلكه عشرات العمليات العلمية والفكرية، التي منها عملية الإفتاء.

وأشار وزير الأوقاف إلى أنه عند التأمل في الذكر الحكيم نجد أن الذكر الحكيم ربط مفهوم الأمن بمقاصد الشرع الشريف، فأشار سبحانه إلى أن البيت الحرام جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنًا، وأشار سبحانه إلى أن من دخله كان آمنًا، وامتن سبحانه على قريش أن الله -جل جلاله- أن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ثم بيَّن الله تعالى واجب المؤمن تجاه البشرية من حوله، إذ يقول سبحانه: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ"، فكم ألحَّ القرآن الكريم على تحقيق الأمن في كل مفرداته وأبعاده ومستوياته وآليات صناعته.

وأضاف إنه من جميل التوفيق أن تقف دار الإفتاء هذه الوقفة العلمية المتأنية التي يحتشد لها العلماء والمفتون من داخل مصر وخارجها، حتى ترصد دار الإفتاء دور المؤسسة الموقرة في إرساء دعائم الأمن الفكري، وكيف أن من صميم عملها ووظيفتها أن تتصدى لرصد كل ما يدور في المجتمع المصري وفي العالم من حولنا من الرؤى والأفكار والأطروحات والفلسفات ووجوه الاستدلال والأفكار والمفاهيم، وكيف تعكف على رصد ذلك كله وفرزه ودراسته وتنسيبه والنظر فيه وتحريره ومراجعته، حتى تخرج على الناس بالبيان العلمي الهادي المنير، الصانع للعقول، المحقق لمقاصد الشرع الشريف.

واختتم وزير الأوقاف كلمته بتوجيه خالص التحية والتهنئة لسماحة المفتي على الإدارة والتنظيم الناجح للمؤتمر، مقدمًا الترحيب لضيوف مصر، موضحًا أن تحقيق الأمن والأمان هو على رأس أولويات المؤسسة الدينية في مصر بجميع مكوناتها، ومؤكدًا أن الأمن كما حرصت عليه الشريعة حرصت عليه النظريات النفسية فيما يعرف باسم «هرم ماسلو - هرم الدوافع»، حتى حددت له خمسة دوافع تحرك الفعل عند الإنسان، هي: «تحقيق الوجود، وتحقيق الأمن، وتحقيق الاكتفاء، وتحقيق الذات، وتحقيق التميز»، فجعل تحقيق الأمن أحد البواعث الكبرى التي تدفع الإنسان للعمل والفكر والسعي. ثم توجّه الوزير بالدعاء للجميع بالسداد والتوفيق، وبالتوفيق في حمل مواريث النبوة على أكمل وجه، وأن يجعلنا باب أمان للعالمين.

مقالات مشابهة

  • عادل طعيمة: استبعاد صلاح من جائزة الأفضل غير مفهوم
  • حديثٌ عن معجزة.. ماذا قال محلل إسرائيليّ بشأن حزب الله؟
  • وزير الأوقاف: ربطَ الذِّكر الحكيم مفهوم الأمن بمقاصد الشرع الشريف
  • مفهوم الكرامة الإنسانية في الفلسفة والأديان
  • مخالفات المرور.. تعرف على حالات إلغاء تراخيص السيارات طبقا للقانون
  • كهربا يدخل في حالة نفسية سيئة بعد مباراة باتشوكا
  • أمير هشام: كهربا نفذ ركلة الترجيح أمام باتشوكا بتعليمات من كولر.. واللاعب في حالة نفسية سيئة
  • أمير هشام: كهربا في حالة نفسية سيئة ونفذ ركلة الترجيح بتعليمات من كولر
  • مسؤول أوكراني يبين لـCNN ردة الفعل على فشل قائد عسكري بالحفاظ على مدينة استراتيجية مهمة أمام التقدم الروسي
  • فيها حبس.. تعرف على عقوبة استخدام حيوان لترهيب المواطنين