عادل حمودة يكتب: 100 سنة هيكل «رفيق مشاكل تجرجر أذيالها»
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
يستقبل محمد حسنين هيكل زواره فى شقة مكتبه المجاورة لشقة سكنه فى العمارة المطلة على نيل الجيزة الملاصقة لفندق «شيراتون» القاهرة.. شقة صغيرة بها حجرة سكرتيرته «جيهان عطية» وحجرة مكتبه ومطبخ وعلى جدرانها علقت صوره مع شخصيات حكمت العالم.. حجرته بها مكتب يجلس وراءه واضعاً عليه نسخاً من كتبه المنشورة بلغات أجنبية ومكتبة، وخلفه على الحائط علق خريطة تاريخية نادرة لمصر.
وهو يفضل استقبال ضيف واحد حتى يستمع إليه ويركز معه ويستفيد منه، ويفسر ذلك وجود مقعد وحيد أمامه مثله مثل وزراء بريطانيا.
شقة المكتب اشتراها من عائد كتابه «وثائق القاهرة»، أول كتاب نشره باللغة الإنجليزية عام 1971 وترجم إلى 21 لغة، منها اللغة العربية حيث تغير عنوانه إلى «عبدالناصر والعالم»، حسب رغبة الناشر اللبنانى (دار النهار). جاء الكتاب بعد أن أقنع «هيكل» بأهميته اثنان من أصدقائه هما «دنيس هاملتون» رئيس التحرير العام لصحف «طومسون» ومنها «التايمز» و«ساى سالزبيرجر» أحد رؤساء صحيفة «نيويورك تايمز».
بعد نحو العامين شعر بضرورة تلك الشقة محدودة المساحة عندما اختلف مع الرئيس «أنور السادات». كان خلافهما حول النتائج السياسية لحرب أكتوبر وتغير البوصلة الرئاسية ناحية الولايات المتحدة، والتسليم بأن غالبية أوراق اللعبة فى يدها وحدها، وسنجد شرحاً وافياً لوجهة نظر هيكل فى كتابه (أكتوبر السلاح والسياسة).
كان وراء ذلك الانقلاب هنرى كيسنجر قيصر السياسة الأمريكية الذى بدأ يمهد للسلام بين مصر وإسرائيل خطوة خطوة، ولكن هيكل وجد فيما يجرى حوله اندفاعاً نحو هاوية تنتهى بخروج مصر من معادلة القوة العربية.
وبدعوة من «السادات» جلس هيكل وزوجته «هدايت تيمور» على مائدة العشاء، ورغم كرم سيدة البيت، فإن الحوار بين الرجلين أفقد الطعام مذاقه، واعتذر هيكل عن عدم تناول القهوة لتأخر الوقت فاعتبرها السادات إهانة، ولكنه كتم غيظه وسحب نفساً من «البايب».
فى طريق العودة سيراً على الأقدام قال هيكل لزوجته: «لن أدافع عن سياسة غير مقتنع بها»... «لكن السادات لن يتركك تعبر عن رأى يخالف رأيه»... «غالباً سيخرجنى من الأهرام»، بدت لحظة الفراق قريبة ولم يتذكر السادات أن هيكل وقف إلى جانبه فى صراعه على السلطة ضد رجال عبدالناصر الذين وصفهم بـ«مراكز القوى»، كما أن هيكل صاغ التوجيه الاستراتيجى لحرب أكتوبر بعد أن شارك فى خطة الخداع التى سبقت صوت المدافع وأزير الطائرات.
كما توقع هيكل، لم يقبل السادات باستمراره فى «الأهرام» وفى أول فبراير 1974 وبعد 17 سنة قضاها رئيساً للتحرير غادر الصحيفة التى شيد مبناها على أحدث طراز وفرض اسمها على العالم. هنا برزت أهمية الشقة الصغيرة التى اشتراها بعائد أول كتبه من النشر الدولى.
أصبحت مكتباً ملاصقاً إلى بيته يستقبل فيها ضيوفه ويحتفظ فيها بملفاته ويضع مؤلفاته.
سمعت هذه القصة التى لم تنشر من قبل منه مضيفاً: «بسبب تلك الشقة لم يتغير برنامجى اليومى فى لعب الجولف أو قراءة الصحف فى السيارة أو ارتداء ملابسى الكاملة وأنا أدخلها لأجد كل شىء مثلما كان فى الأهرام».
وبإزاحة ثقل مهام رئيس التحرير عن كاهله وجد وقتاً فسيحاً ليلتقى بمصادره الخارجية وليجدد صداقته بصناع السياسة والصحافة فى كل مكان، وليجد وقتاً للسفر ليتابع عن قرب ما يجرى فى العالم.
فى جدول سفرياته المهنية ثلاث رحلات يحرص عليها، رحلة إلى أوروبا (خاصة لندن وباريس) مرة كل سنة (على الأقل) غالباً فى شهر يوليو يتابع فيها ما يحدث فى القارة الأوروبية ليعود منها إلى شاطئ قرية «الرواد» فى الساحل الشمالى، ثم إذا اشتد البرد التمس الدفء فى الغردقة.
ورحلة إلى آسيا وأفريقيا مرة كل عامين ليرصد إرهاصات الأحداث فى مناطق تقف بين العالمين الأول والثالث، وإن خرجت تلك الرحلة من حساباته فى السنوات العشر الأخيرة من عمره.
أما الولايات المتحدة فالرحيل إليها مرة كل ثلاثة أعوام باعتبارها المحرك الأكثر تأثيراً فى الأحداث، لكنه فى كثير من الأحيان سافر إليها مريضاً يبحث عن شفاء لعارض صعب ألمَّ بصحته.
فى مستشفى كليفلاند (ولاية أوهايو) أزال ورماً فى الكلى وورماً فى البروستاتا وتناول نوعاً متطوراً من أدوية السرطان لتجنبه.
بقيت الكلى نقطة ضعفه الصحية وقبل رحيله أصيبت كليتاه بالفشل ورغم وجود جهاز للتنقية، فإن الرجل الذى تعود أن يهز الدنيا لم يقبل أن يكون ساكناً.
حافظ هيكل على مصادره الصحفية والسياسية ليتجنب الظل الذى فرضه عليه السادات بعد أن سار كل منهما فى طريقه.
فى الصفحة التاسعة من كتابى المنشور عام ألفين تحت عنوان: «هيكل الحياة والحرب والحب» كتبت على لسانه: أن السادات اندهش عندما عرف أن الزعيم الإيرانى «آية الله الخمينى» استقبله فى ديسمبر 1978 فى منفاه الأخير (قرية نوفيل شاتو) القريبة من باريس والتى كان يقود منها الثورة على شاه إيران «محمد رضا بهلوى» على بعد 3 آلاف كيلومتر من طهران.
وعندما عاد هيكل من رحلته عرف أن السادات غضب منه، لأنه قابل الخمينى فقد أحرجه أن يلتقى مصرى برجل يريد إسقاط عرش صديقه الشاه.
يضيف هيكل: «وسأل السادات واحداً من معارفنا المشتركين هو المهندس سيد مرعى عن الصفة التى قابلت بها الخمينى وكان ردى أننى قابلته بصفتى الصحفية وكان تعليق السادات: «هل نسى أننى أحلته إلى التقاعد؟»، وحين بلغتنى الملاحظة رجوت صاحبنا المشترك أن ينقل للرئيس «أنه ربما أحالنى إلى التقاعد من منصب، ولكنه لم يحِلنى إلى التقاعد من مهنة»، ونقل إلىّ أنه لم يقتنع.
الدرس المهم هنا: أن الصحفى بمصادره لا بمناصبه.
فى ذلك الوقت أيضاً فوجئ هيكل بالدكتور مصطفى خليل يتصل به من أسوان ليقول له: «إن كل مصادر الأخبار هنا وأنه لا معنى أن يبقى عنده فى القاهرة».
واستطرد الرجل الذى وصل إلى منصب رئيس الوزراء: «إن مقعدين قد حجزا له ولزوجته على طائرة الرئاسة التى تسافر كل يوم من القاهرة إلى أسوان وتعود فى المساء من أسوان إلى القاهرة، ولعلها فرصة لإعادة المياه إلى مجاريها بينه وبين السادات».
لكن كان المطلوب من هيكل أن يكتب «ورقة أو ورقتين» عن نيات الخمينى يسترشد بها الشاه فى قراراته. وكان رد هيكل: «إننى لم أتعود كتابة ورقة لأحد».
واعتذر عن السفر..
والدرس الأهم هنا أن الصحفى لا يكتب إلا للقارئ وحده.
استخدم هيكل أحاديثه مع الخمينى فى كتابه «عودة آية الله» الذى ترجم إلى العربية تحت عنوان «مدافع آية الله» وكان تبريره للعنوان: «استعملت تعبيراً عسكرياً لتصوير الوضع أنى أسمع دوى مدافعك، ولكنى لا أرى أثراً لمشاتك».
والمشاة فى الثورة هم الكوادر السياسية والخبراء القادرون على تنفيذ مهامها وبرامجها.
وبذلك الكتاب وكتب أخرى (مثل «خريف الغضب» و«حرب الخليج» و«المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل وغيرها) التى تعاقد عليها هيكل لنشرها فى الخارج أصبح واحداً من أهم 11 صحفياً فى العالم وترجمت أعماله إلى 31 لغة مختلفة.
ولكن يلاحظ أن كتبه المنشورة بلغة أجنبية غالباً ما تكون أصغر حجماً وأكثر تركيزاً من كتبه التى تنشر باللغة العربية وكأنه يريد إشباع القارئ العربى بمزيد من التفاصيل والوثائق، ولكنَّ المتربصين به مثل «جلال كشك» يرون أن هناك تناقضاً بين ما يقوله للخارج وبين ما يقوله للداخل ورصد ذلك فى كتابه: «كلمتى للمغفلين ثورة يوليو الأمريكية» الذى نشره عام 1988 فى 650 صفحة رداً على كتب هيكل «حرب الثلاثين سنة».
و«جلال كشك» بدأ كاتباً يسارياً منتمياً للحزب الشيوعى المصرى واعتقل فى حملة عام 1954 وعندما أفرج عنه ترك القاهرة واتجه إلى بيروت حيث انضم إلى صحفيى مجلة «الحوادث» التى يمتلكها «سليم اللوزى».
فيما بعد انقلب على نفسه وعلى أفكاره وبدأ الترويج للحكومات ذات النهج الإسلامى التى تصادف أنها حكومات ثرية يمكنها تمويل كتبه وبيعها بسعر زهيد لا يصل إلى ربع تكلفتها.
وعندما عاد إلى القاهرة فتحت مجلة «أكتوبر» له صفحاتها ليضع «هيكل» هدفاً دائماً على تبة ضرب النار منافساً الدكتور عبدالعظيم رمضان فى تبديد مئات الطلقات الطائشة فى حرب بدت ساذجة. وكالعادة لم يرد هيكل عليهما.
وأيضاً لم يرد على الدكتور «فؤاد زكريا» عندما نشر كتاباً بعنوان: «كم عمر الغضب؟» انتقد فيه ببراعة وحنكة وحكمة كتاب هيكل: «خريف الغضب».
وعندما سألت هيكل عن رأيه فى الكتاب أجاب: «إنه لم يسمع عنه ولم يسمع عن مؤلفه، هو أستاذ جامعى شهير متخصص فى الفلسفة وينشر كثيراً من المقالات فى دوريات عربية».. «لم أسمع عنه»، الحقيقة أنه يعرفه وسبق أن أشاد بمقاله «العلمانية هى الحل» رداً على مقولة «الإسلام هو الحل» وطلب من أحمد بهاء الدين أن يدعوه إلى «غداء» معه فى مزرعته الريفية على أطراف الجيزة عند «برقاش».
لكنها طبيعته فى احتراف الصمت إزاء المنتقدين والمختلفين والمهاجمين.
فى تلك السياسة يتمثل على حد قوله نصيحة الفيلسوف القديم: «قل كلمتك وامشِ».
وفى موضع آخر يجد فى قول الساخر «برنارد شو» منفذاً للهروب من الرد: «إنهم يقولون ماذا يقولون دعهم يقولون».
وكثيراً ما وصف مهاجميه بأنهم «فرسان الساحات الخالية» هؤلاء الذين يمرحون فى ميادين يعرفون مقدماً أنه ليس فيها «عدو» وبالتالى ليس عليها قتال».
وحسب ما سمعت منه، فإنه تلقى برقية من صحفى لبنانى لامع فى بيروت كتب إليه: «أنا أحسدك على عدد خصومك»، ورد هيكل: «أنت على صواب فأنا أستحق الحسد على خصومى، ولكننى أيضاً أستحق الحسد على أصدقائى ولو خُيِّرت لما اخترت غير ما لدىّ على الناحيتين».
ومن العبارات التى سمعناها منه كثيراً عبارة شهيرة لا يكف عن ترديدها: «بلا خوتة» وتعنى «بلا دوشة» والدوشة تعبير دارج يعنى الصخب المزعج أو الضجيج بلا طحين.
لكن «الخوتة» كثيراً ما تزيد على الحد لتصبح ضجة مؤثرة لا يمكن الفرار منها.
بعد خروج مصطفى أمين من السجن بعفو صحى من السادات اشتدت الحملة على هيكل، وكأنه لفق له اتهامه بالتجسس رغم إثباتها بالصوت والصورة وباعتراف مصطفى أمين نفسه فى خطاب أرسله إلى عبدالناصر.
رد هيكل بقوة على كل ما نسب إليه فى كتابه «بين الصحافة والسياسة» الذى نشره عام 1984 ومصطفى أمين على قيد الحياة قائلاً: «الآن وقت الكلام وإلا فلا كلام».
بنشر الكتاب انتقلت عدوى الصمت إلى مصطفى أمين.
ويجد هيكل فى الكتاب فرصة ليروى بعضاً من سيرته المهنية، ولكنه لم يقترب من سيرته الشخصية التى أباح للكاتبة المميزة سناء البيسى بعضاً منها وخصنى بتفاصيل أخرى بعد أن جمعت معلومات عن نشأته وصباه من أحد أصدقاء الطفولة وزميله فى مدرسة التجارة المتوسطة وزوج صغرى بنات خاله (كرم) هو مصطفى البكرى الذى أصبح فيما بعد واحداً من أبرع خبراء السياحة ونائباً لرئيس مجلس إدارة شركة «حياة ريجنسى» العالمية.
أمدنى مصطفى البكرى وزوجته «كرم» بما لم يفصح عنه «هيكل» كما سنعرف فيما بعد.
كان فى خطة هيكل تجهيز كتاب عن «ظهور وتراجع القوة العربية» ولكنه أمام كثافة النيران ضده نشر «بين الصحافة والسياسة».
فى ذلك الوقت خرج ذات يوم ليقول إنه «يتقاضى جنيهاً إسترلينياً عن كل كلمة يكتبها».
تضاعفت الضربات واللكمات التى وجهت إليه من أنصار السادات وخصوم عبدالناصر واختلطت رائحة الحبر برائحة الحسد.
وفى الوقت نفسه تضاعف عدد المعجبين به والحريصين على الحصول على نسخ من كتبه التى مُنعت فى مصر سنوات طوال.
أما أنا فكنت أراه دائماً نجماً من طراز آخر.
إننى لا أهوى عبادة النجوم.
النجوم عادة تماثيل من «عجوة» نعبدها ثم نلتهمها.
إننا نصنع النجوم من خيوط الضوء.
نرسم صورها بأشعة الليزر المتحركة على موسيقى ناعمة أو صاخبة.
وعندما تطفأ الأنوار ويسود الظلام وينصرف الجمهور يصبح النجم وحيداً حزيناً تشوه دموعه المكياج فقد انتهى العرض واحترقت الصورة.
أصبحت الصورة نيجاتيف.
لكن بدا لى أن علاقة هيكل بالضوء مختلفة.
الضوء يتكاثر وينضج وينطلق من عقله وأفكاره وصموده.
ينطلق من امتزاج الكلمة بالرؤية والرأى بالخبرة والكتابة بالرشاقة والبصر بالبصيرة والتعبير بالتغيير والبقاء بالاستمرار.
فى عام 1995 استجبت لدعوة من وزارة الخارجية اليابانية لزيارة «طوكيو» العاصمة، حيث تستعد خبرات التكنولوجيا فى شركاتها ومصانعها لدخول عصر «الديجتال» ومدينة «هيروشيما»، حيث ألقيت القنبلة الذرية الأمريكية عليها، ومدينة «كيوتو» المشهورة بمعابدها الأثرية التى صعبت على الطيار الأمريكى المكلف بتدميرها فلم يلقِ عليها قنبلة واحدة.
كنت أتناول السوشى فى مطعم صغير وعندما عرف صاحبه من مرافقى أننى من مصر أصر على احتساء مشروب الساكى فى صحة «هيكل» وليس فى صحتى.
كان الرجل يتابع مقالات هيكل فى جريدة «يوميورى شيمبون» التى نشرت فيما بعد ترجمة لها فى كتاب «المقالات اليابانية».
و«يوميورى شيمبون» أكثر الصحف انتشاراً فى العالم حيث تبيع 10 ملايين نسخة من الطبعة الصباحية و3.5 مليون نسخة من الطبعة المسائية.
ولم تكن الصحيفة اليابانية الشهيرة تكتفى بنشر مقالات هيكل وإنما كانت أيضاً توزعها على صحف كثيرة فى جنوب شرق آسيا لتمثل بالنسبة إليه نوعاً من الوجود الدولى «هناك بعيداً على شواطئ المحيط الهادئ» بعد وجود دولى فى أوروبا بمقالات ينشرها فى صحف يومية أو أحاديث يدلى بها أو تعليقات رأى تتابع ما يجرى له فى مصر، خاصة عندما قُبض عليه بأمر السادات فى اعتقالات 5 سبتمبر 1981.
عدت إلى القاهرة من طوكيو لأروى له ما سمعت من صاحب المطعم الصغير، فإذا به يسأل عن أصغر التفاصيل وكأنه صحفى مبتدئ يتلقى أول إشادة بما يكتب ودون تردد طلب من «عبدالمنعم» المختص بالقهوة إحضار صندوق السيجار، وراح يقلب فيه حتى اختار نوعاً يناسب الظهيرة لندخنه معاً.. السيجار يسعده جداً ويعرف عنه ما يكفى كتاباً ويفضل أنواعاً متميزة تصنع فى جزر كوبية صغيرة ولا يقدر على ثمنها سوى الأثرياء.
كان هيكل قد كف عن تدخين السيجار يوم تعهدت زوجته بالكف عن تدخين السجائر، ولكنه فى الكشف الدورى على السرطان فى الولايات المتحدة سأل الطبيبة: «هل يمكن أن أدخن سيجاراً فى اليوم؟».. «كم عمرك؟».. فوق الثمانين».. «دخن.. دخن أنت فى سن لا تحرم نفسك من شىء.. ثم إن عواقب السيجار لن تكون أسوأ من متاعب الشيخوخة».
وعاد «هيكل» لتدخين السيجار، لكنه لم ينسَ كلمة «الشيخوخة» التى ألقت بها الطبيبة فى وجهه.
وحاول مجاراة العصر بالتعامل مع «الكومبيوتر»، ولكنه فشل إلا أنه لم يجد مشكلة فى التعامل مع «الموبايل» فلم يبعده عنه.
البقية فى المقال القادم
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: هيكل ملفات الوطن مصطفى أمین فیما بعد فى کتاب بعد أن
إقرأ أيضاً:
مشيرة عيسى.. صاحبة الطلة المبهجة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
صُدمت بخبر وفاة السيدة الجميلة الرقيقة المهذبة د. مشيرة عيسى صوليست البيانو، ابنة الكونسرفتوار والأستاذة بمعهد الموسيقى العربية.. كانت كالفراشة الهائمة، فى رقة الزهور أو كالأميرة الحالمة فى قصص الأطفال، هى صاحبة الطلة المبهجة، والتى بظهورها على المسرح تمنح الجميع الطاقة والحيوية، هى عملة نادرة مهذبة النفس، وتحيا بروح الله النقية والتى جعلت ابتسامتها لا تفارقها فى أحلك الظروف، هاجرت حين حاوطها الظلم، ولم تهاجر خارج حدود بيتها الذى عشقته “أكاديمية الفنون” فلم تكن هجرتها للحصول على عائد! ولكن لتقدم مزيدًا من العطاء، ورد جميل هذا المكان المقدس فى عيون أبنائه.. ولم يسرق ابتسامتها المرض حين هاجمها وتصدرت له بالجسارة والصمود، والرضا والتفاؤل بعطاء الله.. منذ أيام كنت أتحاور معها عن د. جمال سلامة، كى أضيف شهادتها فى الكتاب الذى أعده عنه “جلينكا العرب.. جمال سلامة” واستمتعت بحديثها الجميل ووفائها الجم لأستاذها وصديق عمرها د. جمال حسب ما وصفته، والتى ذكرت أنه بجانب العلاقة الفنية والإنسانية التى ربطتهما لن تنس له أنه كان سببا فى تعارفها على زوجها د. محمد حلمى هلال، والذى بدا من حديثها كم كانت تحبه وزاد حبها لدكتور جمال بسببه.. بدأت دكتورة مشيرة عيسى رحلتها مع البيانو مبكرا، فقد ورثت حبه من والدتها السيدة آمال السبنجى (الحاصلة على دبلوم الكلية الملكية فى الموسيقى فى لندن)، فكانت تستمع لعزف والدتها على البيانو وهى لا تزال جنينا، وبعد أن بدأت تحبو كانت والدتها تحملها على ساقيها وهى تتدرب على العزف، وبالتالى كان البيانو لعبتها الأولى، وبدأت تتعلم قواعد عزفه وهى فى الرابعة من عمرها.. أما الأب د. صلاح عيسى طبيب النساء والتوليد الشهير، فقد كان شغوفا بالموسيقى أيضا، لذلك عندما لاحظت عائلتها تعلقها بالبيانو، اصطحبتها أمها الى أستاذها المؤلف البولندى اجناز تيجرمان،
Ignaz Tiegerman
والذى أشاد بموهبتها وقام بتدريبها حتى التحقت بالكونسرفتوار ونجحت بتفوق.. وتخرجت من كونسرفتوار القاهرة، وكانت الأولى على دفعتها، إلا أنها عُينت معيدة فى معهد الموسيقى العربية عقب تخرجها، بعد أن وجدت تعنتا من بعض المسؤولين فى الكونسرفتوار آنذاك.. وظلت د. مشيرة على مدار عمرها تقدم حفلاتها فى دار الأوبرا، وتتفانى فى تعليم طلابها حتى أواخر أنفاسها.. ماتت مشيرة واقفة كالأشجار، لم تنحن إلا لله، وستظل روحها المرحة فرحة بالرحمات.
رحم الله د. مشيرة الإنسانة النبيلة الرائعة التى عرفت مدى رقتها وانسانيتها منذ طفولتى، فقد جمعنى بها موقف عصيب لا ينس، عندما كنت طالبة فى المرحلة الإعدادية، فقد كنا ندرس مادة بيانو إضافى، واستعرت كتاب بيانو لتصوير بعض الأجزاء فيه من شقيقة أقرب صديقاتى فى الفصل، وكانت شقيقتها طالبة فى معهد الموسيقى العربية فى فصل د. مشيرة التى أعارتها هذا الكتاب لتصويره.. وتلك الكتب لمن لا يعرف لا تباع فى مصر، ويتم شراؤها من الخارج بمبالغ لا يستهان بها، وفى ذلك الوقت لم يكن متاحا كما هو الآن تحميل كتب من خلال الإنترنت، أو شراؤها من خلال مواقع إلكترونية، وبالتالى كان الحصول على النوت الموسيقية عزيزا، ولا يتاح سوى الكتب الموجودة فى المكتبة أو ما يجود به الأساتذة الكبار على تلاميذهم.. ولسوء حظى ضاع الكتاب الذى فى عهدتى أثناء تركه للتصوير! وكانت كارثة بالنسبة لى، فهو كتاب أعارته د. مشيرة لطالبتها! وإستعارته صديقتى لى من شقيقتها! وأصبحت فى موقف لا أحسد عليه، بين البكاء ومحاولات البحث التى لا تنته دون جدوى! والحرج الشديد من مواجهة هذا الموقف الذى فرض على!
وللأسف لم تكن فكرة شراء كتاب بديل ممكنة حينها، فلا يمكن أن أسافر للخارج كى أشترى كتابا آخر! ولا يمكن أن أنتظر لشهور حتى أحاول البحث عن شخص ربما يسافر للخارج ويمكنه شراء الكتاب إذا وجده؟! ضاقت الدنيا فى وجهى ولم أكن أعرف كيف أتصرف؟! وكيف أعتذر؟! وماذا أفعل لشقيقة صديقتى التى ستضار وتتعرض لهذا الموقف المحرج والسئ مع أستاذتها بسبب (جدعنتها) معى؟!
لم يكن أمامى سوى المواجهة وتحمل عواقب الموقف، والاعتذار بكل ما يحمله كيانى من شعور بالحزن والخذلان، وابلاغهم بمسئوليتى عن دفع قيمة الكتاب أيا كانت (على نفقة عائلتى بالطبع).. وكنت على استعداد لتحمل اللوم وربما التوبيخ عن الإهمال وعدم المسئولية.. الخ.
لم تكن كل كلمات الاعتذار تكفى أو تحل الأزمة مع شقيقة صديقتى التى صدمت هى الأخرى، فالموقف أكبر منها ومنى! وبعد كل كلمات الاعتذار والشعور الحقيقى بالأسف والحزن طلبت من شقيقة صديقتى مقابلة د. مشيرة لابلاغها والاعتذار لها حتى أعفيها من الحرج وأتحمل خطأى.. ذهبت للدكتورة مشيرة وأنا أتمنى أن تنشق الأرض وتبلعنى قبل أن أصل إليها من شدة الخجل والضيق! ولكن فوجئت باستقبال د. مشيرة لى بكل المرح والبشاشة والرقة، وهى تسألنى بكل ود (إنت اللى ضيعتى الكتاب وعاملة كل القلق ده علشان كده؟! ولا يهمك حصل خير وفداكى ومتزعليش نفسك) ورفضت بحسم وبشكل قاطع فكرة دفع قيمة الكتاب، أو محاولة شراء كتاب بديل بعد فترة من خلال أى قريب أو صديق يسافر للخارج، وغمرتني بمحبتها وبساطتها ورقتها وحديثها المرح، ودار حوار بيننا لدقائق عن الكونسرفتوار الذى تركته بسبب اضطهادها وتعنت بعض مسئوليه معها..ومنذ ذلك الوقت صرت أحبها من كل قلبى، وقابلتها كثيرًا بعد ذلك أثناء عملى فى أوركسترا القاهرة السيمفونى عندما كانت تعزف كصوليست مع الأوركسترا.. ومنذ فترة طويلة لم ألتق د. مشيرة لا مصادفة ولا فى عمل، وكان آخر حوار معها عن د. جمال، وآخر كلمة كتبتها لى عنه “كان جميل جمال ملوش مثال”.. والحق يقال كانت هى أيضا بقلبها ورقتها وعذوبتها وروحها جميلة جمال.. وليس لجمالها مثال..خالص العزاء لأسرتها ولزوجها المحترم د. محمد حلمى هلال..ورحم الله د. مشيرة عيسى ود. جمال سلامة وكل من فارقونا وسبقونا إلى دار البقاء، وستظل سيرتهما وأرواحهما المرحة ونس وابتسامة ومصدر طاقة وعطاء.