من ملاعب السياسة والصحافة إلى الدين، تنقل الأستاذ محمد حسنين هيكل كفراشة بين الأزهار، متدفق المعلومات، ملتصقاً بصانع القرار، ملماً بالتفاصيل، سباقاً فى الرؤية، وكاشفاً لكواليس كثيرة من أكبر الأحداث.

فى كتابه «عام من الأزمات» ذكر قائلاً: «إن موضوع الوحدة الوطنية، هو وموضوع مياه النيل دون غيرهما وقبل غيرهما، هما اختصاص أصيل لرئاسة الدولة، ومسئولية غير قابلة للقسمة تحت أية دعاوى -بما فى ذلك دعوى الفصل بين السلطات أو دعوى الممارسة الديمقراطية- ذلك أن مسألة دينين على أرض وطن واحد، وكذلك مسألة نهر هو المصدر الوحيد للحياة تجىء موارده من خارج الحدود- هما مما لا يجوز فيه التفويض، ولا طول الجدل والتزيد! فكلتا المسألتين فى ظنى واعتقادى أهم وأخطر من أى مسألة أخرى حتى مسألة الحرب والسلام، وحتى مسألة التنمية والتكنولوجيا، ذلك أنه بدون سلامة القاعدة الوطنية وبدون حماية مياه النيل والمحافظة عليها يصبح أى كلام عن الأمن وعن المستقبل سابقاً للأوان بالقفز على الحقائق».

وعن علاقة الرئيس جمال عبدالناصر بالبابا كيرلس السادس، استفاض «هيكل» بالقول: «وجد جمال عبدالناصر أمامه بطريركاً قبطياً قادماً من عمق الريف المصرى مستوعباً بالحس لحقائق مصر الاجتماعية وضروراتها.

توسط لدى «عبدالناصر» لإنشاء أول كاتدرائية كبيرة للأقباط فى العباسية

إلا أن «هيكل» كشف عن اقتراب غير مباشر بين «عبدالناصر» و«كيرلس» حدث مرة واحدة، وهى تلك الواقعة الخاصة ببناء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، والتى حكاها «هيكل» بالقول: (إنه فى عام 1964جاء لزيارتى فى «الأهرام»، أمين فخرى عبدالنور، والأنبا صموئيل، أسقف البحث العلمى بالكنيسة، وطلبا إرسال رسالة من البابا إلى الرئيس عن طريقى دون إحراج للطرفين، وهو السماح ببناء كاتدرائية ضخمة، وتمويل بنائها).

وأضاف «هيكل» أنه ذهب إلى الرئيس ونقل إليه الطلب وسأله «عبدالناصر» عن الحدود المالية لطلب البطريرك الذى أُحرج من تحديد ما يطلبه، مشيراً إلى أن تكلفة بناء الكاتدرائية كانت تتراوح بين 1.5 و2 مليون جنيه، وأن الكاتدرائية أعدت تصميماً لبناء الكاتدرائية بالفعل، إلا أن الرئيس اقترح بناء الكاتدرائية دون تحمّل ميزانية الدولة تكاليف الإنشاء، حيث دعا «عبدالناصر» رئيس مؤسسة البناء والتشييد، وطلب منه أن تتولى شركات المقاولات التابعة لمؤسسته بناء وتجهيز الكاتدرائية، وأن تضاف تكاليف بناء الكاتدرائية إلى حساب عمليات أخرى يقوم بها القطاع العام.

وكانت هدية البابا كيرلس لـ«هيكل» بعد إتمام هذا الأمر أن أرسل إليه اثنين من كبار أساقفة الكنيسة أحدهما الأنبا صموئيل والثانى الأنبا تاوفيلس لإقامة قداس بركات فى بيته ولأولاده، ومع القداس صفحة من كتاب كنسى عتيق، وقطعة نسيج قبطى قديم، كلاهما داخل حافظة من الزجاج، وقال له البطريرك فيما بعد إن «الصلاة مهما اختلفت الطقوس دعاء لرب واحد ساكن فى قلوب كل المؤمنين».

«الأستاذ» روى أهم الأحداث فى عهدى «كيرلس» و«شنودة» فى كتابيه «عام من الأزمات» و«خريف الغضب».. وربطته علاقة خاصة مع كبار رجال الكنيسة

فى الكتاب ذاته يتطرق «هيكل» إلى العلاقة بين الرئيس الراحل محمد أنور السادات، والبابا شنودة الثالث، فيشير إلى أنه فى بداية رئاسة السادات ترك قضية «تجاور دينين فى وطن واحد» لجهاز الدولة العادى، خاصة وزارة الداخلية، والتى شغلها ممدوح سالم الذى كانت طبيعة اهتمامه بعامل الأمن قبل أى اعتبار دفعه دون تعمد إلى صدام مع البابا شنودة، رغم أن الأول كان من أكبر المحبذين لانتخاب الأنبا شنودة بطريركاً للكنيسة، إلا أنه غير رأيه لأن البابا شنودة كانت له نظرة فى إدارة شئون كنيسته يصعب أن تتحكم فيها كلها قيود الأمن.

واستفاض الأستاذ فى شرح وقائع ما حدث بين «السادات» والبابا شنودة منذ 1971 وصولاً إلى مشهد النهاية فى 1981، فى كتابه «عام من الأزمات»، إلا أن تفاصيل جديدة أضافها على المشهد فى كتابه «خريف الغضب»، حيث خصص فصلاً كاملاً للحديث عن الكنيسة والأقباط ودور البابا الراحل شنودة الثالث الذى قال عنه إنه كان أحد أكثر نجوم جيله من الأساقفة لمعاناً، والذى استن تقليداً مشهوراً، هو «درس الجمعة»، وأصبح مناسبة هامة فى حياة الكنيسة القبطية، فقد كان الآلاف يتقاطرون لسماعه، بل أصبح الأنبا شنودة معبود الشباب القبطى.

ويكشف «هيكل» عن اجتماع تم فى بيت «السادات» حضره الرئيس ووزير داخليته ممدوح سالم، ورئيس الوزراء محمد عبدالسلام، وكان يدور حول انتخاب البابا الجديد خلفاً للبابا الراحل كيرلس السادس، وكان وزير الداخلية يميل إلى انتخاب الأنبا شنودة عكس رأى هيكل، وانحاز الرئيس إلى رأى وزير الداخلية وفعلاً فاز البابا شنودة فى القرعة الهيكلية وأصبح البطريرك الـ117 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث وجد البابا شنودة نفسه على رأس كنيسة هبت عليها رياح التغيير وأعطتها مجموعة من أسباب القوة كانت جاهزة لمن يستطيع استعمالها.

وكانت أبرز عوامل التغيير فى أوضاع الكنيسة هى فروعها التى امتدت فى المهجر ونشطت، خصوصاً فى الولايات المتحدة وكندا، وأعطت للكنيسة سنداً نشيطاً وبعيداً فى الوقت نفسه عن سلطة الدولة فى مصر، خاصة أن تلك الفروع أصبحت مصدر موارد مالية تستطيع أن تساعد وتدعم، قبل أن يضاف إلى مصادر الدعم مجال المساندة المعنوية والسياسية.

ويرى «هيكل» أن أى مراقب للأحداث كان لا بد أن يتوقع صداماً بين «السادات» و«شنودة»، لأن كليهما من وجهة نظر «هيكل» كان فيه شىء من الآخر، على الأقل من ناحية الإحساس بالذات.

ولم يتأخر الصدام كثيراً، فقد بدأ أول احتكاك بين الاثنين بعد 6 أشهر من انتخاب البابا شنودة، عبر حادث الخانكة، وبين مد وجزر تأرجحت علاقة البابا والرئيس حتى جاء عام 1980 وكان البابا شنودة قد وصلت قوته وقتها إلى مداها، فأصبح له وضع مستقل عن سلطة الدولة، وتوثقت علاقاته الكنسية بأطراف متعددة فى الخارج ولم تعد الكنيسة فى حالة ضيق مالى، وكانت قواعدها تتسع كل يوم فى عدد من القارات.

وفى 26 مارس عام 1980، ألقى البابا شنودة خطاباً غاضباً عارض فيه أن تكون الشريعة الإسلامية أساساً لقوانين تطبَّق على غير المسلمين، وأعلن خلال الخطاب أن صلوات عيد القيامة لتلك السنة لن تقام كنوع من الاحتجاج على إهمال ما تقدم به الأقباط من طلبات وعوضاً عن حضور قداسات الجمعة الحزينة، فقد قرر البابا أنه سيذهب ومعه الأساقفة إلى أحد الأديرة فى الصحراء يصلون من أجل الخلاص مما يعانونه من ضغط، وأصدر أمره إلى كل رجال الكنيسة بألا يتقبلوا التهانى بعيد القيامة من أى مسئول رسمى تبعث به الدولة لتهنئة الأقباط بهذا العيد، كما جرى التقليد من قبل.

وزاد الصراع بين الرئيس والبابا حتى وقع حادث الزاوية الحمراء فى يونيو 1981، قبيل زيارة الرئيس السادات إلى الولايات المتحدة فى أغسطس من ذات العام، وحدث أثناء الزيارة أن قامت الجمعيات القبطية فى أمريكا بنشر إعلان بمساحة نصف صفحة فى الـ«واشنطن بوست»، والـ«نيويورك تايمز» تعبر فيها عن المضايقات التى يلقاها الأقباط فى مصر.

ثم حدث أن نظمت هذه الجمعيات مظاهرتين ضد السادات فى واشنطن: إحداهما أمام البيت الأبيض أثناء اجتماعه مع «ريجان»، والثانية أمام متحف المتروبوليتان الذى كان سيحضر فيه احتفالاً بإقامة قسم جديد للآثار المصرية.

ليعود الرئيس إلى مصر ويصدر قراراته بالتحفظ على أكثر من 1000 شخصية عامة يوم 3 سبتمبر من العام نفسه، وسحب اعتراف الدولة بانتخاب البابا شنودة، وقام بتعيين لجنة بابوية مؤقتة من خمسة أعضاء لكى يتولوا مهام ومسئوليات الكرسى البابوى.

فى الكتابين وضع «هيكل» شهادته على تاريخ العلاقة بين القصر الرئاسى والمقر البابوى، إلا أن شهادته عن مآل الأحداث والوضع القبطى فى الدولة ظل ماثلاً فى لقاءاته وحواراته وتصريحاته الفياضة لما ربطه من علاقات خاصة مع كبار رجال الكنيسة.

البابا تواضروس: الكاتب الكبير قاموس للمعرفة ومحلل قوى للأحداث وقامة من قامات الوطن

وبعد رحيل البابا شنودة فى 2012، وجلوس البابا تواضروس الثانى، على الكرسى البابوى، زار الكاتب الكبير البابا فى 2014، قال عنها البابا تواضروس وقتها إنها كانت زيارة محبة ومودة، مشيراً إلى أنه يعرف الأستاذ من خلال كتاباته على صفحات الأهرام منذ عشرات السنين، قائلاً: «الأستاذ هيكل قاموس للمعرفة ومحلل قوى للأحداث، سواء كانت مصرية أم عالمية، وهو قامة من قامات الوطن».

وأشار إلى أن الحديث بينهما تمحور حول الكنيسة وتاريخها والأوضاع الراهنة فى مصر، كما تحدثا كثيراً حول تاريخ البطاركة الأقباط وخصّ هيكل البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث بالذكر، كما تطرق الحديث إلى تاريخ بناء الكاتدرائية المرقسية باعتبار أن عمرها قد قارب النصف قرن من الزمان وقتها.. ولقيمة ما كتبه الأستاذ وتركه من تاريخ دوّنه فى كتبه.

الكنيسة وضعت كتبه فى مكتبة وادى النطرون

وضع البابا تواضروس الثانى كُتب هيكل فى المكتبة البابوية المركزية بدير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، التى افتتحها فى 19 نوفمبر 2019، والتى تعد أكبر مكتبة قبطية فى العالم.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: هيكل ملفات الوطن البابا تواضروس البابا شنودة إلى أن إلا أن

إقرأ أيضاً:

البابا تواضروس الثاني يستقبل سفير إثيوبيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

استقبل قداسة البابا تواضروس الثاني في المقر البابوي بالقاهرة اليوم الاثنين، السفير حسن إبراهيم موسي، سفير إثيوبيا بالقاهرة، وذلك في أول زيارة للسفير الإثيوبي لقداسة البابا.

وتحدث قداسته أثناء اللقاء في نبذة مختصرة، عن تاريخ الكنيسة القبطية والعلاقات الطيبة التي تربط الكنيسة القبطية بالكنيسة الإثيوبية بحكم أنهما كنيستان شقيقتان.
كما أشار قداسة البابا إلى الحضارة المصرية، لافتًا إلى أهمية نهر النيل لكافة المصريين حيث أنهم يعيشون طوال تاريخهم معًا حوله، ومنه يستمد المصريون وحدتهم الوطنية القوية، وأضاف: "فالنهر بالنسبة للمصريين هو الأب والأرض المحيطة به هي الأم التي تحضننا جميعًا، وعليها نحيا معًا في سلام مسلمون ومسيحيون. وشدد على أن نهر النيل له دورُ هام في الحفاظ على العلاقة الطيبة بين مصر وإثيوبيا.

وأوضح أن الكنيسة القبطية بالإضافة إلى دورها الروحي لديها دور اجتماعي بهدف لمساعدة المجتمع داخل مصر وخارجها  من خلال إنشاء المدارس المستشفيات التي يوجد العديد منها في دول إفريقيا ومن بينها إثيوبيا.

ومن جهته أعرب السفير الإثيوبي عن حرصه على الحفاظ على العلاقة الطيبة بين مصر و إثيوبيا، مشيرًا إلى اهتمامه بالتاريخ المصري والقبطي وأنه يتطلع دومًا إلى زيارة المتاحف والأديرة المصرية.

حضر اللقاء الراهب القس كيرلس الأنبا بيشوي مدير مكتب قداسة البابا، والقس رافائيل رمزي من سكرتارية قداسة البابا، والسيدة بربارة سليمان مدير المكتب البابوي للمشروعات والعلاقات.

مقالات مشابهة

  • البابا تواضروس الثاني يستقبل سفير رواندا بالمقر البابوي
  • البابا تواضروس الثاني يستقبل سفير إثيوبيا
  • حزب الدعوة: ثورة العشرين جسدت الوحدة الوطنية
  • بالتزامن بدايته.. تعرف على علاقة صوم الرسل بتلاميذ المسيح الـ12
  • ما هي الحالات التي يجوز فيها الصلاة بالحذاء؟.. أمين الفتوى يُجيب
  • تفاصيل أول لقاء روحي للبابا تواضروس بعد توقف ٥٠ يوماً
  • ما علاقة الوحدة المزمنة بالسكتة الدماغية؟
  • في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر
  • النائبة نورا علي: 30 يونيو ثورة مفصلية في تاريخ مصر
  • البابا تواضروس في ذكرى ثورة 30 يونيو: نقدّر ما أنجزته الدولة على مختلف الأصعدة