بقوة الفكرة وعمق الرؤية، فرض حضوره فى مختلف العصور.. وعندما شاءت الظروف أن يكون شاهداً وشريكاً فى التحولات الكبرى التى مرت بها مصر منذ ثورة يوليو 1952 مروراً بحرب أكتوبر 1973 وثورتَى 25 يناير و30 يونيو، حكم قُربه وبعده من دوائر التأثير قناعة استقاها من حكمة صينية تقول: «قُل كلمتك وامشِ».

الرئاسة نعت «الأستاذ» ووصفته بـ«عَلَم صحفى قدير وشاهد على محطات تاريخية مهمة».

.

«الصحفى أبقى من السياسى، والكلمة أقوى من السلطة».. هذه أيضاً أحد ثوابته.. ضبطت حركته فى كثير من المواقف التاريخية عند التخوم الفاصلة بين ما هو سياسى وما هو صحفى.. وفى خضم التحولات الكبرى التى شهدتها مصر منذ 25 يناير 2011، لم يكن بوسع القوى الفاعلة فى ذلك الوقت إلا أن تكون رؤية الأستاذ محمد حسنين هيكل حاضرةً أمامها، وهى تواجه التحديات والأخطار وترفع الأنقاض وترمم البناء وتنطلق إلى المستقبل.

قبل «25 يناير» لم يكن «الأستاذ» بعيداً عن إرهاصات التغيير التى تخيم بظلالها على مصر، رغم «استئذانه فى الانصراف»، ومع تعالى نبرة الاحتجاجات الشعبية وإلحاح سؤال: «مَن يخلف مبارك»؟، أطلق دعوة لتشكيل مجلس أمناء الدولة والدستور كمرحلة انتقالية مدتها 3 سنوات، فى محاولة لتجاوز الموقف المتفجر.

وفى آخر لقاء له على قناة «الجزيرة» قبل شهور من ثورة 25 يناير، رصد عن قُرب حيوية الشباب المصرى فى ظل ثورة التكنولوجيا وقدرته على التعبير عن نفسه وارتباطه بمطالب التغيير. وبعد زلزال «25 يناير»، كان «الأستاذ» من أوائل الذين اعتبروها ثورة شعبية أزاحت شرعية النظام القائم، ومن موقعه تفاعل مع الأحداث بالرأى والتحليل متطلعاً لإزالة ركام الماضى والانطلاق بالثورة إلى المستقبل، محذراً من أخطار تواجهها من داخلها، وتحديات تنتظرها عند أول منحنى.

فى تلك المحطات وما بعدها، كان صوت «الأستاذ» حاضراً فى المجال العام، ورؤيته للمرحلة الانتقالية جديرة بالاستماع لها والنقاش حولها، فكان أن التقاه المشير حسين طنطاوى بعد أحداث «يناير» بشهور، ودار حديث بينهما يتعلق بأهمية التخلص من الماضى وترتيبات الانتقال ودور القوات المسلحة.

ومن نافذة المتابع الدؤوب للأحداث، رغم تقدمه فى السن، رصد «الأستاذ» وقائع اختطاف الثورة، وفشل «الإخوان» فى الحكم ودخولها فى صدام دموى مع التيار المدنى، دفع «الأستاذ» يوم فض اعتصام رابعة جزءاً من ضريبة هذا الصدام الذى أتى على مزرعته «التاريخية» فى برقاش.

فى خضم هذه الأحداث العاصفة التى مرت بمصر من 2011 إلى 2014، وبينما كان اللواء عبدالفتاح السيسى، مدير إدارة المخابرات الحربية وقتها، فى موقع يجعله على اطلاع بكل ما يحدث وإعداد تقدير موقف له، مع ما يتطلبه ذلك من التقصى واستطلاع الآراء والاستماع لأصحابها على تنوعهم.. كان حتمياً التعرف على رؤية الأستاذ هيكل لما يحدث، وهو ما تولدت عنه علاقة من نوع خاص بين الرئيس السيسى والأستاذ هيكل، على قاعدة ثابتة هى أن «قيمة الأستاذ لدى صانع القرار وواضع السياسات تؤكدها مواقفه وآراؤه التى أثبتت السنون والعقود صحة كثير مما رمت إليه».

«هيكل» روى فى أحد اللقاءات التليفزيونية قصة مقابلة «السيسى» للمرة الأولى: «طلبت منه أن يتحدث عن نفسه ولم أقاطعه طوال ساعة ونصف»

لقاءان محددان بين لقاءات متعددة مع «السيسى» اختار «هيكل» أن يتحدث عنهما بإسهاب، هما اللقاء الأول ولقاء ثانٍ عقب انتخاب «السيسى» رئيساً للجمهورية فى 2014، وعلى شاشة «سى بى سى»، أبريل 2014، روى الأستاذ «هيكل» للإعلامية لميس الحديدى تفاصيل أول لقاء له مع «السيسى» مدير المخابرات الحربية آنذاك «يوم 8 مارس 2011 بمقر القيادة المشتركة للقوات المسلحة».

يروى الأستاذ قائلاً إنه طلب منه أن يتحدث عن نفسه وعن الأحداث، على أن يسمعه هو، وهو ما استجاب له السيسى وقتها: «تحدث ولم أقاطعه لمدة ساعة ونصف وأسمعه باهتمام.. وروى لى كيف كانوا يتابعون الظروف السياسية منذ 2010 وموقف القوات المسلحة فى ظل الاحتمالات المطروحة، وتحدث عن اللى حصل فى 25 يناير وقرار القوات المسلحة بالوقوف بجانب الشعب. ثم سألنى: طب يا أستاذ هيكل انت تقدر تساعد بإيه.. وهل بصراحة مستعد أن تقبل أى مسئولية أو أى مهام؟».

ويكمل الأستاذ «هيكل» قائلاً: «رفضت أى مهمة أو مسئولية، لأسباب واضحة أن السن والزمن يمنعاننى، كما أننى محمل بتجارب سابقة قد لا تكون مناسبة للمرحلة الحالية، وأنا ابن عصرى ولن أتجاوزه، وقلت للرئيس إنه فى أى وقت يريد أن يستمع لرأيى فسأكون معه».

وفى لقاء تليفزيونى آخر على قناة «سى بى سى»، فى 11 سبتمبر 2014، كانت الحلقة مخصصة للحديث عن لقاءات الأستاذ بالرئيس السيسى، يومها قال إنه منح صوته للرئيس السيسى فى تلك الانتخابات ثم سافر للخارج وعاد لمصر فترة قصيرة «3 أيام»، التقى خلالها الرئيس الذى أراد الاطمئنان على صحة الأستاذ، بينما أراد الأستاذ أن يهنئه بانتخابه رئيساً.

منحتُه صوتىفى الانتخابات الرئاسية وقلت له «شعبيتك رصيدك الاحتياطى وصمام الأمان»

اللقاء شهد -وفق ما روى الأستاذ- إضاءات كثيرة، وقال فيه هيكل للرئيس: «أكثر حاجة مهمة عندك هى الكاريزما والشعبية التى تتمتع بها، وهى رصيدك الاحتياطى وصمام أمان، ومصدره هو انتباهك للتغيير اللى البلد مقبلة عليه فى 2010. وإدراك أن الإخوان دُفعوا للسلطة ولم يقوموا بثورة، وأنهم ليسوا جواب سؤال 25 يناير وأنهم استولوا عليه، و30 يونيو كانت بمثابة يوم انتخاب السيسى واختياره رئيساً لمصر، وليس مجرد ثورة».

ويكمل «هيكل» سرده لحديثه مع الرئيس، قائلاً: «أنت استجبت 3 مرات للشعب فى 25 يناير وفى 30 يونيو وقبولك انتخابات الرئاسة وقبلت المسئولية فى ظروف صعبة جداً بعد أن رأيت الحقيقة وأقبلت عليها».

أشهر ما قاله عن الرئيس: الناس رأت بالوعى فى الرئيس السيسى صورة الحقيقة

ثم عرج الأستاذ على إضاءة مهمة فى حديثه للرئيس قائلاً له: «الشعب شاف إنك رأيت الحقيقة وبعد تردد قبلت المسئولية فى ظروف تجعل المهمة مستحيلة، بينما آخرون رأوا الحقيقة مثل الإخوان وخدوها فى اتجاه الخلافة وغيره، ولم يطل احتمال الشعب على هذا، وأنت شعبيتك لم تكن صدفة بل لأسباب حقيقية، وأرجوك ألا تنفق منها وتحتفظ بها لأكبر قدر ممكن وعندما تتصرف فيه يكون هناك هدف يراه الناس مثلما حدث فى مشروع قناة السويس الجديدة، وكان رأيى له أنه يجب أن تغلف هذه الشعبية ليس ببرنامج انتخابى بل بحلم ورؤية». وأكمل «الأستاذ» أن «الناس رأت بالوعى فى الرئيس السيسى صورة الحقيقة».

هل كان الرئيس قلقاً فى هذه اللحظة؟ سألت المذيعة الأستاذ ليرد قائلاً: «بعد عودتى من الخارج، التقيت به لمدة 3 ساعات ونصف، بدأه الرئيس باستفسار حميمى عن سفر الأستاذ للخارج فى ظل هذه الظروف الحرجة: انت فين ما شُفتكش من مدة طويلة!».

وعن هذا اللقاء قال الأستاذ: «كان حديث الحقيقة ماثلاً أمامنا، ونحن نتحدث عن أمور كثيرة جداً، لكنى كنت حريصاً على أن أسمع منه، وقلت له إننى فى عاصمة أوروبية علمت أن هناك تربصاً بك ورغبة فى تحويلك لجنرال عادى، وهذا خطر جداً، فأنت جنرال مضاف إليه شعبية كبيرة أعطاها له الشعب بثقة».

عُمق العلاقة بين الرئيس والأستاذ دفعت المذيعة خلال اللقاء لممازحته قائلة إن الناس تصفه بـ«المستشار الأول للرئيس» فضحك ورد حازماً وباسماً: «بحكم السن والتجربة التاريخية عيب أقول إننى مستشار، أنا رجل زمانى ولست رجل كل العصور، وأعرف حدودى ولا أتجاوزها، وموجود برأيى فقط». ورغم ذلك لم يتكتم الأستاذ على الرؤية التى تشكلت فى ذهنه عن شخصية الرئيس، وذكر منها مراراً: «له دور عظيم فى حسم 25 يناير لصالح الشعب، واستوعب فشل الإخوان أثناء حكمهم، ومرشح الضرورة الذى وضعته الأقدار فى موقف لا يُحسد عليه فتصرف بوطنية ومسئولية».

مرت الأيام وواجهت مصر أزمات عصيبة، والرئيس عبدالفتاح السيسى يتحمل المسئولية ماراً فوق هذه الصعاب محاولاً تجاوزها بعزم وإصرار رآه فيه الأستاذ منذ لقائهما الأول، فيما كان الأستاذ فى نفس الوقت وحتى فترة مرضه الأخير وقبل وفاته بأيام يرى مكامن الأخطار ويدعو إلى سد ثغراتها.

فى تلك الأثناء تلقى «الأستاذ» اتصالات عديدة من الرئيس يطمئن فيها على حالته الصحية.. اتصالات تغلفها المودة والتقدير البالغ لقيمة الأستاذ، وتتضمن عروضاً كريمة بتحمل علاجه، لكنه كان يرفض بود شديد شاكراً وممتنا ًكما لم يُرِد أن تكون جنازته عسكرية بأى حال.

الرئاسة نعت «الأستاذ» ووصفته بـ«عَلَم صحفى قدير وشاهد على محطات تاريخية مهمة»..

هذه العلاقة التى ارتقت إلى درجة كبيرة من التقدير والاحترام المتبادل، وجدت صداها فى نعى رئاسة الجمهورية للأستاذ فور إعلان خبر وفاته، وجاء فيه: «فقدت مصر اليوم عَلَماً صحفياً قديراً، أثرى الصحافة المصرية والعربية بكتاباته وتحليلاته السياسية التى تناولت فترات ممتدة من تاريخ مصر والأمة العربية، فكان شاهداً على أحداث ومحطات تاريخية مهمة فى التاريخ المعاصر.

أثرى الصحافة المصرية بكتاباته وتحليلاته السياسية وسيظل رمزاً للكاتب الصحفى وخير معلم لأجيال من الصحفيين

فضلاً عن إسهاماته العديدة من خلال الكثير من المؤلفات التى تناولت العديد من الأزمات والأحداث التى مرت بها مصر ومنطقة الشرق الأوسط، وسيظل الفقيد رمزاً للكاتب الصحفى وخيرَ معلمٍ لأجيال من الصحفيين الذين أثروا الصحافة المصرية بعطاء ممتد وتفانٍ لا ينقطع».

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: هيكل ملفات الوطن الرئیس السیسى

إقرأ أيضاً:

مستشار الرئيس الفلسطيني: ما يجري في شمال غزة.. تطهير عرقي وإبادة جماعية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أكد مستشار الرئيس الفلسطيني وقاضي قضاة فلسطين الدكتور محمود الهباش، أن الاحتلال الإسرائيلي قام بإسقاط أخر القلاع الصحية في شمال قطاع غزة وهي مستشفى كمال عدوان دون النظر إلى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.

وقال الهباش في مداخلة لقناة القاهرة الإخبارية اليوم الجمعة إنه "لا يمكن وصف ما يجري في شمال القطاع سوى بأنه تطهير عرقي وحرب إبادة جماعية، عندما يحرم المواطنون في منطقة كاملة من أدنى مستوى من الرعاية الصحية ومن الخدمات الطبية هذا يعني خطوة في اتجاه تنفيذ المخطط الإسرائيلي الذي أطلقه عليه (خطة الجنرالات) الرامي إلى إفراغ كل منطقة شمال قطاع غزة من سكانه وجعله منطقة عازلة وربما حتى الاستيلاء عليها واستخدامها فيما بعد".
وأضاف أن القانون الدولي هو أول ضحايا هذا العدوان الإسرائيلي، حيث أن قوات الاحتلال لا تقيم وزنا لا للقانون الدولي ولا للشرعية الدولية ولا الأعراف ولا للأخلاق ولا للدين ولا للقيم.

وأشار إلى أن العالم يرى ويسمع ويشاهد بشكل يومي تلك الجرائم التي ترتكب وحرب الإبادة التي يتعرض لها المواطنين في قطاع غزة ولا يحرك ساكنا، لافتا إلى أن هذا الصمت الدولي هو الذي يغري إسرائيل للمزيد من العدوان والمزيد من المغالاة والتمادي في الغرور والعدوان وحرب الإبادة والتطهير العرقي التي تنفذها في قطاع غزة.

وشدد على أن "هناك قرار من مجلس الأمن يقضي بوقف العدوان والاحتلال وانسحاب الجيش الإسرائيلي وتمكين المواطنين في قطاع غزة من الحصول على المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية، ولكن المشكلة ليست في صدور القرار لكن في التنفيذ، منوها بأنه ما دامت الإدارة الأمريكية تتخذ موقفا داعما للعدوان الإسرائيلي لا يمكن للوضع أن يتغير إذا لم يكن هناك جدية دولية ليس فقط على صعيد اتخاذ القرار وإنما على صعيد تنفيذ هذا القرار، وإيجاد آليات عملية لتنفيذ هذا القرار بالقوة حماية للسلم الإنساني وحماية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي".

مقالات مشابهة

  • مستشار الرئيس الفلسطيني: ما يجري في شمال غزة.. تطهير عرقي وإبادة جماعية
  • محافظ مطروح يهنئ الرئيس السيسى بحلول العام الميلادى الجديد 2025
  • الرئيس السيسى يوجه بمواصلة الارتقاء بمنظومة التعليم.. فيديو
  • الرئيس السيسى يوجّه بمواصلة العمل على الارتقاء بالمنظومة التعليمية
  • مستقبل وطن: كلمة الرئيس السيسى بقمة الثمانية رصدت المشهد السياسى والاقتصادي
  • الرئيس السيسي يوفد مندوبا للتعزية
  • الرئيس السيسي يصدر قرارا جمهوريا جديدا
  • عربية النواب: قرارات العفو من الرئيس السيسى تعكس تقديرا كبيرا لأهالى سيناء
  • مجدي مرشد يثمن قرار الرئيس السيسي بالعفو عن 54 من أبناء سيناء
  • بعد العفو عن أبناء سيناء.. علاء عابد: الرئيس السيسي يسعد المصريين بقراراته الحكيمة (فيديو)