ملتقى التأثير المدني: سرديتان وحلف موضوعي خارج التاريخ والاختبار الجيو - سياسي
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
عبر ملتقى التأثير المدني عن قناعته بأن هناك من يعتقد أن "بقدرته تطويع لبنان بالترهيب والترغيب". وأن من بينهم ممن "يتبنون سردية فائض القوة. وآخرون يلعنون سردية لبنان الرسالة". كاشفا إلى ان بين "السرديتين حلف موضوعي يقتات من أيديولوجيات مقفلة" ولم يدركوا بعد أن "ليس في لبنان أزمة نظام ولا أزمة عيش معا"، إنما "انقِضاض على السيادة، واستباحة لثقافة الدولة، وتعميم لشرعية الفساد اللامشروعة.
دون ملتقى التأثير المدني على حسابه الخاص على منصة "إكس" فكتب: "هي الجمهورية اللبنانية قيد الاستهداف الممنهج. قد يعتقد البعض أن قدرته على تطويعها بالترهيب والترغيب حتمي، وقد يذهب آخرون إلى مربع إعلان انتهاء صيغتها الميثاقية. الأولون يتبنون سردية فائض القوة. والآخرون يلعنون سردية لبنان الرسالة".
وأضاف الملتقى:"بين هاتين السرديتين حلف موضوعي يقتات من أيديولوجيات مقفلة، يغتال الحقائقِ والوقائع بإسم الحقيقة الواقعية. في المحصلة مشروع الشمولية خارج التاريخ، ومشروع التفتيت خارج الاختبار الجيو - سياسي".
وانتهى إلى القول:"ليس في لبنان أزمة نظام. ولا أزمة عيش معا. في لبنان انقضاض على السيادة، واستباحة لثقافة الدولة، وتعميم لشرعية الفساد اللامشروعة، فهل نستعيد بوصلة المواجهة؟"
وأرفق الملتقى مدونته بهاشتاغ #القضية_اللبنانية، ونشر إلى جانبها صورة مركبة تشير إلى الضوء في آخر النفق الأسود تحت عنوان "لبنان المدمر والنفق المضيء".
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
العقوبات الأمريكية: ما مَكْمَنُ التأثير؟
الواثق كمير
kameir@yahoo.com
تورونتو، 27 يناير 2025
سألني بعض الأصحاب: ما هو تأثير العقوبات الأمريكية في حق القائد العام للجيش السوداني على أوضاع الحرب في البلاد؟ بدوري، "سألت وبحثت وما خليت" حتى أوفر إجابة موضوعية وأقدم قراءة عن ماهية التأثير ودرجته وعلى من يكون هذا التأثير، وكيفية مخاطبة الأمر من قبل الحكومة.
رأيي في هذا المقال المقتضب أنّ هذه العقوبات لن تسهم في تغيير مجرى الحرب أو وقفها، ولا أحسب أن يكون لها، بحسب طبيعتها المالية الشخصية، تأثيراً ملموساً على الأوضاع الاقتصادية. بل فإن مَكْمَنُ تأثيرها سيكون على العلاقات الثنائية بين السودان وأمريكا، في سياق العلاقات مع المجتمع الدولي قاطبة.
إنّ الرك والمحك لوقفِ الحرب مرهون بموازين القوة العسكرية على الأرض بين الجيش والمليشيا. فالحرب بين الجيش السوداني والجيش الشعبي لتحرير السودان لم تتوقف حتى أدرك كل من الطرفين المقولة السودانية (تلت المال ولا كتلته)، عندما وصل الطرفان إلى نقطة توازن القوة هذه بأن ما يحققه السلام أفضل من مواصلة الحرب. وذلك، بالرغم من العقوبات الأمريكية الثقيلة التى توالت على حكم نظام الإنقاذ منذ سنواته الأولى. فبعد إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993, فرضت عليه عقوبات اقتصادية متعددة ومتنوعة في 1997، ولحد تخفيض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين لأدنى درجاته.
وبالرغم من أنّ التجارب أثبتت عدم جدوى العقوبات، بخلاف تأثيرها المعنوي المؤقت، إلاّ أنّها لا تخلوا من آثارٍ سياسية سالبة بالنسبة لأمريكا، خاصة بعد اعتراف وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلنكن، بفشلهم في إيقاف الحرب وإعرابه عن أسفه. فيرى كثيرٌ من السياسيين والمراقبين أنّ خسارة هذه العقوبات بالنسبة لأمريكا أكبر من نفعها، إذ أنها ستطلق يد الحكومة للتحلل من، ولتجاوز المناورات الأمريكية والتركيز على حسم الجيش للمعارك. فبجانب أنها قد تطعن في مصداقية أي وساطة أمريكية، بجانب أنّها ربما تخدم القائد العام للجيش أكثر من توقيع الضرر عليه وتجعلة بطلاً قومياً تلتف حوله قطاعات شعبية واسعة.
العقوبات: هل تضع الجيش والمليشيا الدعم على كفة واحدة؟
إبتداءاً، لم يكن قرار فرض العقوبات الامريكية على القائد العام للجيش مُفاجِئاً، بل كان متوقعاً أن يصدر مباشرة بعد أن طالت العقوبات قائد مليشيا الدعم السريع في 8 يناير الجاري. فغياب العمق الاستراتيجي في سياسة الإدارة الأمريكية لإنهاء الحرب، يجعلها تستخدم العقوبات في شكل مصفوفة تفرض على الجيش ومليشيا الدعم السريع سوياً بالنظر إلى الجانبين على أنهما "طرفان متحاربان". فمنذ أواخر مايو 2023، بعد أقل من ستة أسابيع من اندلاع الحرب، فرضت هذه الإدارة عقوبات اقتصادية عليهما شملت منع التأشيرات وحظر التعامل مع شركاتٍ تابعةٍ لهما، وتبعتها عقوبات على نفس الشاكلة خلال عام 2024. هكذا، فإنّ أى اجراء كانت تصدره الإدارة الأمريكية ضد مليشا الدعم السريع كان يعقبه إجراءٌ مماثلٌ ضد الجيش، ولذلك عندما عاقبت حميدتي أدرك الجميع أن مسك الختام سيكون البرهان.
وبالرغم من أنّ هذه السياسة الأمريكية تُحمل الإدارة الجيش وقوات المليشيا مسؤولية استمرار الحرب، ولكنها لا تضعهما على كفةٍ واحدةٍ أو تساوي بينهما في طبيعة ودرجة الجرائم المرتكبة. ففي اليوم التالي لانهيار مفاوضات جدة، 6 ديسمبر 2023، اتهمّ وزير الخارجية الأمريكي الجيش والدعم السريع بارتكاب جرائم حرب، بينما خصّ المليشيا بتحمّيلها مسؤولية جرائم ضد الإنسانية وممارسة التطهير العرقي.
وفي أولِ اجتماعٍ لوفد الحكومة السودانية مع المبعوث الأمريكي الخاص، توم بيربللو، بجدة في 9 أغسطس 2024، بخصوص الدعوة الأمريكية لمفاوضات جنيف، عبرّ الوفدُ عن هواجسه ومخاوفه من موقف الإدارة الأمريكية حول المستقبل العسكري والسياسي للمليشيا. ومن أهمّ الإنجازات التي عددها رئيس الوفد الحكومي، د. بشير أبو نمو، في تقريره المُفصل عن الإجتماع هو
انتزاع الاعتراف بعدم المساواة بين القوات المسلحة والمليشيا المتمردة من الناحية القانونية والشرعية، من جانب الولايات المتحدة. فعلى حَدِّ قوله أنَّ المبعوث قد أوضح أنَّه "يؤيدنا تماماً في هذا الطرح وأنه يقوم بتصميم هذه العملية حتى لا يتمكن الدعم السريع من تحقيق المزيد من التوسع في عملياته مما قد يشير لانتصاره، وأنهم لا يرغبون في وجود الدعم السريع أو أن يكون له دور سياسي في مستقبل السودان، وأن مستقبل السودان سوف يحدده الشعب السوداني الذي يرفض الدعم السريع تماماً. مبيناً أن أمريكا لا تضع الدعم السريع في نفس المرتبة الأخلاقية والقانونية الشرعية التي تضع فيها القوات المسلحة، وأن مباحثات جنيف المحتملة لن تضفي أي صفة قانونية على قوات الدعم السريع".
ومما يعزز فرضية أنّ الإدارة الأمريكية لا تساوي بين الجيش ومليشيا الدعم السريع هي تحركات وتوجهات وتصريحات المبعوث الأمريكي منذ ذلك الحين، وحتى بعد انتهاء فترة تكليفه الرئاسي:
1. حتى بعد فشل المحادثات الثنائية بين الوفدين الأمريكي والسوداني ورفض الحكومة والجيش المشاركة في مفاوضات جنيف، التي دعت لها أمريكا وعولت عليها في إحداث اختراق في مهمة وساطتها، لم تثن المبعوث من مواصلة التواصل مع الحكومة. وبالفعل بذل مجهوداً مُقدراً في الحصول على التصريح الأمني security clearance الذي يسمح له بالدخول إلى بورتسودان ومقابلة القائد العام للجيش وبصفته كرئيسٍ لمجلسِ السيادة، بل واجتمع مع رئيس مجلس السيادة، ووزير الخارجية، وهذا ما حدث بالفعل في 18 نوفمبر 2024.
2. وفي حديثه مع الفريق البرهان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة (24-28 سبتمبر 2024)، أكدّ له المبعوث الخاص بشكلٍ واضح أنّ الإدارة الأمريكية لا ترى مستقبلاً سياسياً لمليشيا الدعم السريع في الحياة السياسية أو المشهد العسكري في البلاد، وأنهم لا يساوون مطلقاً بين المليشيا والجيش الوطني. وعززّ المبعوث قوله هذا بفعله، إذ ذهب إلى بورتسودان بعد أقل من شهرين من هذا اللقاء واجتمع مع القائد العام للجيش ورئيس محلس السيادة في مكتبه.
3. بينما في نفس الوقت، ولو أنّه قابل وفد التفاوض للمليشيا، إلاّ أنّ المبعوث الخاص لم يحرصُ أبداً على اللقاء كفاحاً مع قائد مليشيا الدعم السريع طوال فترة تكليفة التي كادت أن تُكملّ عاماً كاملاً، رغماً عن أنّ مهمته كوسيط تُملي عليه أن يلتقي بكافة قيادات أطراف الأزمة.
4. التقى المبعوث مع طيفٍ واسعٍ من القيادات السياسية والمجتمعية والأهلية السودانية في بورتسودان وفي عددٍ من عواصم بلدان المنطقة، مؤكداً في كل هذه اللقاءات نفس الموقف من المليشيا في مقارنتها مع القوات المسلحة السودانية.
5. أما في خطابه إلى المجتمعين السياسي والمدني في الداخل الأمريكي، فربما أنّ أقوى تصريحات المبعوث الخاص، كانت قبل بضعة أيام من نهاية تكليفه، في ندوة نظمها المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية (CFR) بواشنطون بمثابةِ وداعٍ له، في 16 يناير المُنصرم. اقتبسُ مما قاله فقد بالحرف مخاطباً الحضور من الفاعلين في الإدارة الأمريكية وقيادات الرأي العام في أمر شرعية مليشيا الدعم السريع "إذا نظرت إلى العام الماضي، فربما كانت قوات الدعم السريع في ذروة شرعيتها *المتصورة*. فلقد هيمنت على ساحة المعركة وبدأت في إنشاء زخم حيث كان هناك بعض التحرك للبدء بالقول، مهلاً، ربما نحتاج إلى الاعتراف بهؤلاء الأشخاص. وقد كان قائدهم يقوم بجولاته، ويتم الترحيب به تقريبًا مثل رئيس دولة في المنطقة. وإذا أعدت النظر بعد مضي عام على ذلك، فقد نقلنا العقوبات إلى العائلة، عبر الإخوة، وصولاً إلى حميدتي، الذي صُنِفّ بارتكاب إبادة جماعية، وبدأنا في ملاحقة بعض شركات المشتريات التابعة له". وختم المبعوث خطابة بقوة بقوله "*وأعتقد أن الشيء الوحيد الذي لا ينبغي أبدًا أن يكون قابلاً للتفاوض في هذا الأمر هو منح أي شرعيةٍ أو شرعيةٍ حاكمة لقوات الدعم السريع*". (انتهى الاقتباس).
لذلك، حينما نأتي للقراءة الموضوعية لمدى ودرجة خطورة العقوبات على القائد العام للجيش مقارنة بالعقوبات التي سبقتها من نفس الإدارة على قائد مليشيا الدعم السريع، نجد أنّ هناك تمييز جوهري وفرق واسع بين الاثنين. ففي معايير ثِقل وجِسامَة الجرائم المرتكبة خلال الحرب، تُعدُ الإبادة الجماعية من أفدح الجرائم الأساسية تليها الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب.
فحيثيات العقوبات المفروضة على القائد العام للجيش تقوم على: استهداف الجيش للمدنيين والبنية الأساسية المدنية، ومنع وصول المساعدات، إضافةٍ إلى رفض المشاركة في المحادثات التي دعت لها الإدارة الأمريكية في أغسطس من العام الماضي. فمثل هذه الانتهاكات تُصنف كجرائمِ حرب وتُعتبر أقلّ جسامةً في ميزان انتهاكات القانون المدني الإنساني gravity scale)). بينما مسوغات العقوبات على قائد مليشيا الدعم السريع فدافعها الأساس هو ما خلُصت إليه الإدارة الأمريكية بأنّ المليشيا والفصائل المتحالفة معها ارتكبوا إبادة جماعية في السودان. بالإضافة إلى أنّ هذه القوات، على لسان وزير الخارجية الأمريكي، قد "استمرت في مهاجمة المدنيين وقتل رجال وصبية على أساس عرقي واستهداف نساء وفتيات من جماعات عرقية بعينها عمدا لاغتصابهن وممارسة أشكال أخرى من العنف الجنسي". بجانب أنّ العقوبات الصادرة من الخزانة الأمريكية على قائد المليشيا تضمّنت عقوبات على سبع شركات تقوم بِتمويل وتزويد قواته بالأسلحة، كما تشمل حظر جميع الممتلكات والمصالح الخاصة بالكيانات المدرجة في القرار، سواء كانت موجودة في الولايات المتحدة أم في حوزة أو تحت سيطرة أشخاص أمريكيين. وربما الأهم أنْ العقوبات فرضت حظراُ على قائد المليشيا وأسرته من السفر إلى أمريكا، بينما لم تضع الإجراءات ضد القائد العام للجيش قيوداً على تحركاته الخارجية.
ولذلك، فإنّ ردود الفعل والتعامل مع أمر العقوبات ينبغي أن لا يقوم على الخطاب *الشعبوي* القائم على التحشيد والشجب والإدانة والتنديد بسبب فرض عقوبات على القائد العام للجيش أُسوة بقائد للمليشيا، فالأمرانِ مختلفانِ نوعاً وكماً. فقد تبنى نظام الإنقاذ، خلال النصف الأول من عُمرِهِ، نهج هذا الخطاب في مقاومته للعقوبات الأمريكية والذي يحمِلُ في طياته المعاداة الإيديولوجية العمياء للغرب، عبرت عنه شعارات تجاوزها وعفى عليها الزمن على شاكلةِ "أمريكا قد دنا عذابها". وتصاحب ردود الفعل المتسرعة هذه دعواتٌ للإنخرط في المحاور الدولية بالقطيعة مع أمريكا، والغرب عموماً، والتوجه شرقاً بالتحالف مع روسيا (ولنُستذكر ما جنى الأسد من تحالفه معها في نهاية المطاف). لا أدري، ما المشكلة في أن يكونّ لنا علاقات مع أمريكا ومع روسيا، على حدٍ سواء، يقوم تعريفها على أساس مصالح السودان القومية، دون أن نقع في أحضان أيٍ من المُعسكرين؟
وللمفارقة، فبعد أن تاكثرت الزعازع على نظام الإنقاذ بعد انفصال الجنوب، شرع النظام في سنواته الأخيرة في الطرق على باب الحوار، والسعي الحثيث نحو استعادة علاقاته مع أمريكا بالتواصل engagement السياسي والطرق الدبلوماسية. فمنذ أواخر عام 2014، ابتدرت حكومة الإنقاذ مسارين للتفاوض مع الإدارة الأمريكية على مواضيع الخلاف (تم تحديد خمس قضايا رئيسة) التي فُرِضت العقوبات الاقتصادية على إثرها، على أن تكون النتيجة النهائية للمسار الأول هي إلغاء هذه العقوبات. وبالفعل فيما يتصل بهذا المسار، أصدر الرئيس أوباما في يناير 2017، وهو على أعتاب مغادرة البيت الأبيض، قراراً بإلغاء الأمر التنفيذي للرئيس كلنتون الذي تأسست عليه العقوبات التجارية والمالية في عام 1997، كما اعتمدت إدارة ترمب رفع العقوبات بقرارٍ تنفيذيٍ جديدٍ في أكتوبر 2017. ومن ثمّ، تم تحديد المسار الثاني للمحادثات أيضاً حول خمس قضايا خلافية شملت: الحريات العامة، الحريات الدينية، العلاقات مع كوريا الشمالية، العمل الإنساني، والقضايا الأمريكية المرفوعة ضد السودان (تفجير سفارتي أمريكا في شرق أفريقيا وقضية المُدمرة كول)، على أن تكون المحصلة النهائية لهذا المسار هي رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. بالرغم من أنّ المحادثات في هذا المسار كانت قد قطعت شوطاً مُقدراً إلاّ أنّها لم تصل إلى نهاياتها المنطقية، إذ تفجّرت ثورة ديسمبر مما دعا إدارة ترمب لتعليقها في فبراير 2019. ومع ذلك، فإنّ ما تم التوصل إليه من تفاهمات حول هذه المواضيع الخمسة مهدّ لحكومة الفترة الانتقالية (تقريباً بنفس الفريق التفاوضي) إسدال الستار على هذه الملفات ورفع السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب في منتصف ديسمبر 2020.
خاتمة
إنّ فرضّ إدارة الرئيس بايدن العقوبات على قائد مليشيا الدعم السريع والقائد العام للجيش قبل أسبوعين فقط من نهاية ولايتها، خاصة تحديد determination انتهاكات المليشيا وتصنيفها كجرائم "*إبادة جماعية*"، هو بمثابة تمرير البطاطس الساخنة إلى إدارة الرئيس ترمب (بمعنى تجنب التعامل بسرعة مع قضية صعبة أو مثيرة للجدل عن طريق تسليمها لشخص آخر). ومن التصريحات المتفرقة لقيادات من الحزب الجمهوري الحاكم، وعلى رأسهم المرشح المُعتمد لمنصب وزير الخارجية، يبدو أنّ إدارة الرئيس ترمب ستتعامل مع هذه البطاطس بتبني نفس موقف ادارة الرئيس بايدن تجاه مليشيا الدعم السريع. فمن الصعب عليه التراجع من هذا الموقف سياسياً وأخلاقياً، خاصة وأن قيادات الحزب الجمهوري في الكونقرس، على رأسهم السيناتور جيم ريتش، قد طالبوا الإدارة منذ عامٍ مضى بوصف فظائع المليشا ب "الإبادة الجماعية".
فعلى خلفية هذا التحليل، أظّنُّ أنّ التعامل مع العقوبات الأمريكية وكيفية احتوائها ينبغّي أن يقومّ على التواصل السياسي political engagement والطرق الدبلوماسية. وذلك، من خلال مواصلة المحادثات لبناء الثقة ومحاولة بناء علاقات ثنائية مستقرة بين السودان والولايات المتحدة، وفي سياق خطابٍ إيجابي ورسائل موجبة بلغة للمجتمع الدولي قاطبة وفق ما تقتضيه مصالح السودان العُليا.
نقطة البداية لهذا التواصل السياسي مع الإدارة الأمريكية الجديدة تبدأ بتعريفِ وتحديدِ القضايا الأساسية والحاسمة لمستقبل العلاقات السودانية الأمريكية، وفي تقديري أنّ الرئيس ترمب سيُعين مبعوثاً خاصاً خلال هذا العام. ولعل بعض أعضاء الفريق السابق لإدارة ترمب من المُلمين بالشأن السوداني قد يكونوا حُضوراً (من أمثال بيتر فام وتيبور ناج)، مما يُسهل الوصول إلى تفاهماتٍ مُشتركةٍ . وهذا بدوره يعني أن تُطوِّر الحكومة تصوراً واضحاً بشأن: 1) وقف وإنهاء الحرب، ودور الإمارات والدول الأخرى التي تعيق ذلك، و2) الانتقال إلى الحكم المدني، بعد عملية سياسية تأسيسية تتسم بالشمول تقود إلى انتخابات حُرة ونزيهة، ضمن أجندة وخارطة طريق المحادثات بين الجانبين.
بجانب ذلك، ففي رأيي أنّ شاغلين رئيسيين سيحكُما توجة الرئيس ترامب ويتحكما في سياسته تجاه السودان، مما يتطلب من الحكومة إعداد العدة والاستعداد لمخاطبتهما بما يصب في مصلحة السودان. أولهما: رغبته الأكيدة في توسيع مظلة التوقيع، والمضي قُدماً في "*الاتفاقيات الإبراهيمية*"، خاصة وأن السودان ودولة الإمارات من الموقعين عليها. وما يُعزز هذه هو الفرضية أنّ "*مشروع 2025*"، أو المخطط التفصيلي، لسياسة إدارة ترمب لم يذكُر السودان في صفحاته التسعمائة إلاّ في سياق "معاهدة اتفاق إبرهيم للسلام". والشاغل الثاني للرئيس ترمب هو الاستثمارات الاقتصادية في أفريقيا عبر الشركات الأمريكية، خاصة في مجال الوقود الأحفوري fossil fuels وهو ما ظلت تحاربه إدارة بايدن في مقابل مصادر الطاقة المُتجددة، الأمر الذي ركز عليه وزير الخارجية القادم في جلسه اعتماده أمام مجلس الشيوخ. وربما شاغلٌ ثالثٌ للرئيس ترمب في اتجاه تعامل الولايات المتحدة مع السودان هو العلاقات مع روسيا والصين في ظلِ الاستقطاب الحادث الآن، خاصة في سياق ما يتردد من سعي روسيا للظفر بقاعدة عسكرية على البحر الأحمر.