ضجيج لأجل الانتشار.. لماذا يكون العلم مضللا أحيانا؟
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
في عالم اليوم الذي يتغير بوتيرة غير مسبوقة بفضل العلم واكتشافاته، ربما يكون مفاجئا أن الكثيرين لا يثقون في العلم، ويلجأون للعديد من البدائل الزائفة وغير المقننة، مثل الطب البديل و"الهوميوباثي"، والعلاج بالطاقة والعلاج بالملح، ويؤمنون بأن الأرض مسطحة، وينكرون الاحتباس الحراري، إلى غير ذلك من التوجهات التي أصبحت تلقى رواجا كبيرا بين الناس يوما بعد يوم، أولئك الذين تزداد ثقتهم في العلم الزائف ويزيد تشككهم في المؤسسات الطبية والعلوم، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا فقد الكثيرون من أبناء عالم اليوم الثقة في العِلم؟
وباء المعلومات تعتمد الكثير من الجامعات والمؤسسات العلمية على كم الأوراق العلمية والدراسات المنشورة كمعيار أساسي في سبيل الترقي الوظيفي للباحثين، دون تركيز كبير على جودتها.
(مصدر الصورة: شترستوك)
يعود جزء من افتقار الثقة في العلم إلى فوضى المعلومات المحيطة بنا، وسهولة النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، لقد طُرحت هذه القضية خاصة في فترة جائحة "كوفيد-19″، فيما أُطلق عليه "وباء المعلومات" (Infodemi)، حيث تداول الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي العديد من المعلومات المضللة والزائفة، سواء حول إجراءات الوقاية من المرض أو خطوات العلاج أو اللقاحات.
تُعَدُّ وسائل التواصل إذن متهما جاهزا لنلومه على "وباء المعلومات"، لكن واقع الأمر أن هذه المشكلة تحمل جذورا أعمق وأكثر تعقيدا، تتجاوز سلوكيات الأفراد إلى المؤسسات البحثية والبحث العلمي نفسه. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2021 مثلا نشرت مجلة "سيركوليشن" (Circulation) التابعة لجمعية القلب الأميركية ملخصا لا يتجاوز 300 كلمة لورقة بحثية تحذر من تسبب لقاحات "mRNA" الخاصة بكوفيد في أعراض التهاب القلب للأشخاص المشاركين في الدراسة.
نُشر الملخص بمفرده دون أن ترفق به الورقة البحثية كاملة، وسرعان ما انتشر هذا الخبر على نطاق واسع، حيث شاركه أكثر من 69 ألف مستخدم على تويتر، ونشرته 23 وكالة إخبارية على الأقل، كما انتشر مقطع فيديو على موقع "BrandNewTube" يتهم اللقاحات بأنها جريمة قتل ومؤامرة (1). وفي 21 ديسمبر/كانون الأول في العام نفسه صدر تصحيح غيَّر العنوان ليشير إلى أن الدراسة لم تحدد بدقة السبب وراء النتائج، مع ملاحظة عدم وجود "مجموعة ضابطة" (Control group) ولا تحليل إحصائي للنتائج.
هكذا يحدث أن تُقدَّم مثل هذه الادعاءات الكبيرة، متجاوزة عمليات مراجعة الأقران، في أوقات حرجة دون انتباه لتأثيرها على العامة. لكن المشكلة الأعمق أن بعض الأوراق العلمية التي مرت عبر مراجعات الأقران يمكن أن تؤدي هي الأخرى إلى ادعاءات لا أساس لها. وعموما، يعاني البحث العلمي من مشكلات عديدة، واحدة منها هي اعتماد الكثير من الجامعات والمؤسسات العلمية على عدد الأوراق العلمية والدراسات المنشورة بوصفها معيارا أساسيا في سبيل الترقي الوظيفي للباحثين، دون تركيز كبير على جودتها، وهو ما تسبب في نشر عدد من الأوراق والدراسات دون الالتزام بمعايير الجودة والدقة الكافية (2).
ضجيج من أجل الانتشار من أشهر الادعاءات المضللة التي شاعت بين الكثيرين هي زعم أن المطعوم الثلاثي (MMR) الذي يعطى ضد الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية قد يؤدي إلى الإصابة بالتوحد. (مصدر الصورة: شترستوك)
هناك عامل آخر من عوامل انتشار البيانات المضللة مرتبط بالمؤسسات العلمية، هل تتساءل كيف تصل نتائج الأبحاث العلمية والدراسات المنشورة إلى المواقع الإخبارية؟ يتعلق الأمر بمكاتب العلاقات العامة في الجامعات والمؤسسات العلمية، وهي المسؤولة عن البيانات الصحفية وغيرها، في بعض الأحيان تبالغ هذه المكاتب في صياغة البيانات الصحفية بشكل يُضفي عليها اليقين، وقد تبالغ في تصدير النتائج اللامعة أملا في لفت الأنظار وإثارة المزيد من الترويج والضجيج الذي قد يعود على باحثيها بالتمويل والمنح العلمية.
مثل هذه الادعاءات قد تحمل آثارا اجتماعية عميقة وخطيرة، مثلا في عام 1980 نشرت مجلة "نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن" ما يشير إلى أن الإدمان نادر في المرضى الذين يعالجون بالمخدرات، وهو الادعاء الذي يُعتقد أنه أثّر بشكل كبير على أزمة المواد الأفيونية، وقد اعتمد العديد من الأطباء على هذه الدراسة بوصفها داعما للمعتقد بأن الإدمان على المواد الأفيونية نادر في مرضى الألم المزمن. استغرق الأمر 37 عاما قبل أن تضيف مجلة "نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين" ملاحظة افتتاحية تحذر من أن الخطاب قد "استُشهِد به بشكل واسع وغير نقدي" (3).
واحد من أشهر الادعاءات المضللة التي شاعت بين الكثيرين ولا تزال تجد صدى لها حتى اليوم كان نتاج دراسة نشرها الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد في عام 1998 في المجلة البريطانية الطبية. وقد ربطت دراسته بين التطعيمات والتوحد، وزعم فيها أن المطعوم الثلاثي (MMR) الذي يُعطى ضد الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية قد يؤدي إلى الإصابة بالتوحد. لقد انتشرت هذه النتائج ووجدت صدى كبيرا سواء في المجتمعات الطبية أو مجتمعات أولياء الأمور الذين امتنعوا عن تطعيم أطفالهم، وهو ما أدى إلى ارتفاع حالات الحصبة مرة أخرى. لقد سحبت المجلة الدراسة فيما بعد، وسُحب ترخيص ممارسة الطب من ويكفيلد.
ورغم ذلك لا تزال هذه النتائج تجد صداها، منذ سنوات قليلة انتشر فيديو للفنانتين المصريتين منى زكي وعلا رشدي تتحاوران فيه حول العلاجات البديلة (الهوميوباثي)، وأكدت الفنانتان امتناعهما عن إعطاء التطعيمات للأطفال، وهو الفيديو الذي شاع وحقق انتشارا كبيرا وقتها (4).
حية.. وإن تراجعت القلق وانعدام الثقة في المؤسسات والحكومات الناتج عن غياب الصحافة العلمية الجادة يدفع الناس لقبول تفسيرات العلم الزائف. (مصدر الصورة: شترستوك)
يخبرنا ذلك شيئا ما عن المعلومات المضللة، حيث يبدو وكأنها تحتفظ بحياتها الخاصة التي تستمر رغم تراجع المؤسسات العلمية عنها، في بعض الأحيان يظن عامة الناس أن سبب التراجع لا يعود لخطأ النتائج، لكنهم يعتقدون أن هناك نوعا من نظرية المؤامرة خلف هذا التراجع. في حالة التطعيمات على سبيل المثال، لا يزال البعض يعتقد أن سبب التراجع عن نتائج الدراسة هو التآمر بين المؤسسات العلمية وشركات الأدوية التي ترغب في زيادة أرباحها (5).
لا يمكننا أيضا استبعاد التحيز المعرفي بوصفه عاملا أساسيا في بقاء هذه الادعاءات حية، ويُعرَّف ببساطة بأنه ميل الناس إلى اتخاذ قرارات أو آراء مبنية على خبراتهم السابقة أو التوقعات أو المشاعر، حيث يجنح الناس للبحث عن المعلومات بطريقة تتوافق مع افتراضاتهم ومعتقداتهم المسبقة، فيما لا يهتمون بالمعلومات التي تتعارض معها. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تخلق لنا ما يشبه غرفة مغلقة نسمع فيها أصداء أصوات مشابهة لأصواتنا، حيث نتفاعل مع أفراد العائلة والأصدقاء الذين يشبهوننا غالبا، وهو ما يعني أننا صرنا أكثر عُرضة للمعلومات المضللة المتوافقة مع آرائنا المسبقة، حيث يمكننا ببساطة حجب الأشخاص الذين لا نتفق معهم، حتى لا نضطر لرؤية الجوانب الأخرى من القضية (6).
لا يقدم العلم في ذاته حقائق مطلقة، بل يشمل تاريخ العلم مئات الأمثلة لنظريات اعتقد العلماء أنها حقائق، ليثبت بعدها خطأها، ولعل أشهرها الاعتقاد في مركزية الأرض. كما أن الحقائق العلمية عموما ليست بسيطة، بل هي معقدة بقدر تعقد الكون، وهي تحتوي على العديد من المصطلحات العلمية المتخصصة والدقيقة التي قد تؤدي إلى الخطأ في الفهم. وهنا يكمن بشكل أساسي تحدي الصحافة العلمية الجادة في توصيل المعلومات العلمية المحدثة للعامة بشكل مبسط دون إخلال بجوهرها، وهو ما قد يكون عملية صعبة.
يحصل الناس على معلوماتهم من المشاهير والمؤثرين متجاهلين المصادر الجادة لمجرد صعوبة التعامل معها أو لتعارضها مع انحيازاتهم السابقة. (مصدر الصورة: شترستوك)إن القلق وانعدام الثقة في المؤسسات والحكومات والفراغ الناتج عن غياب الصحافة العلمية الجادة والمواكبة لمختلف التطورات المعاصرة قد يدفع الناس لقبول تفسيرات العلم الزائف، خاصة مع شعور الجماهير بنوع من الإحباط تجاه المؤسسات والأنظمة. وطبقا "لدومينيك بروسارد" (Dominique Brossard)، رئيس قسم اتصالات علوم الحياة بجامعة ويسكونسن، فإن أحد أهم الأسباب التي قد تجعل المزيد من الناس يصدقون المعلومات المضللة هو تدهور ثقتهم في المؤسسات.
وطبقا لتيموثي كولفيلد، ماجستير في القانون، ومدير الأبحاث في معهد قانون الصحة بجامعة ألبرتا، الذي يدرس حملات التضليل: "ينجذب الناس إلى المجتمعات المغلقة التي لا تثق في نظام الرعاية الصحية لأنهم يبحثون عن إجابات، وبمجرد أن يصبحوا جزءا من المجتمع، فإنهم يتبنون هذه النظرة للعالم ببطء" (7) (8).
إذا كنت تبحث عن إجابة لسؤال طبي سريع فأي الطريقين تختار؟ هل ستقرأ عشرات الأوراق البحثية الدقيقة المنشورة حوله أم ستكتفي بمقطع فيديو قصير يعدك بعلاج سريع لحالتك؟ أغلب الأشخاص من غير المتخصصين وما لم يكن لديهم شغف خاص يدفعهم تجاه البحث سوف يلجأون للطريق الثاني.
ولا يعني ذلك أنهم يرفضون العلم، بل هم يبحثون عن العلم الذي يدعم معتقداتهم، وهو ما قد يتسبب في عواقب وخيمة، حيث يكتفي الناس بمتابعة المشاهير والمؤثرين الذين يشاركون قيمهم الخاصة التي لا تخضع سوى لمعاييرهم الشخصية، فيحصل الناس على معلوماتهم من هذه المصادر متجاهلين المصادر الجادة لمجرد صعوبة التعامل معها أو لتعارضها مع انحيازاتهم السابقة.
———————————————————————————–
المصادر:1- Abstract 10712: Observational Findings of PULS Cardiac Test Findings for Inflammatory Markers in Patients Receiving mRNA Vaccines Circulation (ahajournals.org)
2- Peer Review in Science: the pains and problems
3- The One-Paragraph Letter From 1980 That Fueled the Opioid Crisis
4- هل يؤدي التطعيم إلى التوحد؟
5- The big question: Why do people believe fake science? | The Biomedical Scientist Magazine of the IBMS
6- Biases Make People Vulnerable to Misinformation Spread by Social Media
7- If You Say ‘Science Is Right,’ You’re Wrong
How Science Fuels a Culture of Misinformation | OpenMind Magazine -8
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: وسائل التواصل فی المؤسسات الثقة فی وهو ما
إقرأ أيضاً:
العلمية لمكافحة كورونا تطلق تحذيرا عاجلا.. ما القصة؟
كشف الدكتور حسام حسني، رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورونا، الفارق بين الالتهاب الفيروسي والالتهاب البكتيري، مشيرا إلى أن التمييز بينهما يمكن أن يتم من خلال متابعة بعض الأعراض البسيطة.
دعاء المطر المستجاب.. يزيد الرزق والبركة في المال والعمرجبل زاو.. موطن وحوش الثلج في اليابان.. تقريرالإهمال في علاج التهابات الجهاز التنفسي قد يؤدي إلى كحة مستمرةوأضاف الدكتور حسام حسني، رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورونا، خلال حواره ببرنامج "الستات مايعرفوش يكدبوا"، والمذاع عبر فضائية cbc، أن الطبيب المعالج يسأل عادة عن وجود بلغم ونوعه، فإذا لم يكن هناك بلغم فمن المرجح أن يكون الالتهاب فيروسيًا، أما إذا وجد بلغم، فإن لونه يلعب دورًا مهمًا في التشخيص.
وأوضح الدكتور حسام حسني، رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورونا، أن البلغم الشفاف أو الأبيض يرتبط عادة بالالتهابات الفيروسية، بينما اللون الأصفر أو الأخضر يشير إلى وجود التهاب بكتيري.
وفي السياق نفسه أشار إلى أن الإهمال في علاج التهابات الجهاز التنفسي قد يؤدي إلى كحة مستمرة ومزعجة، خاصة لدى الأطفال، حيث تصبح الكحة مصحوبة بصوت "البُحة" نتيجة التهاب الحبال الصوتية والجهاز التنفسي العلوي.
وأوضح أن الأطفال الذين يعانون من هذا النوع من الكحة يسببون قلقًا كبيرًا لأسرهم، لأن الكحة تكون مرعبة وتؤثر على نوم الطفل والأسرة بأكملها، مشددًا على أن هذا النوع من الكحة، المعروف باسم "التهاب الجهاز التنفسي العلوي الحاد"، يمكن التعامل معه بتناول السوائل الدافئة واستنشاق بخار الماء الدافئ، مع تجنب الإجهاد الصوتي.
وشدد على أن الاستخدام غير المبرر للمضادات الحيوية يعزز من ظاهرة مقاومة الأدوية، مما يجعل العلاج أكثر صعوبة في المستقبل ويشكل تهديدًا للصحة العامة.