إخوان السودان: أنموذج التحور إلى عرقنة الإسلام السياسي
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
التجربة القطرية الوحيدة للإسلام السياسي المتحور إلى الإثنية تمثلت في أنموذج إخوان السودان لا غيره حتى الآن. ولعل هذا التمثل العياني البياني للتخثر الإسلاموي يتمظهر كحقل خصب للباحثين في تاريخ الإسلام السياسي لاستجلاء ملمح من ملامح التحويرات التي لحقت بهذه الفكرة الجديدة المتساوقة مع بقية مدارس التفكير الإسلامي المحدث.
وبرغم أن الإسلام السياسي لا ينكشف جل أمره إلا عند التحامه بفضاءات جديدة في تجارب العمل الجمعي الإنساني سوى أن وصوله بهذه السرعة إلى مرحلة تخليه عن عالميته، والاعتماد على عناصر المحلية للبقاء، يعد بشارة بإنه زائل من المشهد السياسي الإسلامي. ذلك رغم فداحة هذه التجربة على صعيد التعايش السوداني، دع عنك تأثيراتها الكارثية على صعيد بناء الدولة التي بذل السودانيون جهداً عظيماً منذ الاستقلال لتأسيسها على السياقات التنموية التي تحفظ وحدتهم الوجدانية.
فالسودانيون الذين يقاومون الإسلام السياسي الآن برفع لافتة (لا للحرب)، وتوعدهم المستمر بأن لا مكانة مستقبلية للإخوان مهما وقفوا خلف الجيش يقدمون للشعوب الإسلامية نضالاً ملحمياً لهزيمة الإسلام السياسي. وهكذا تكون حججهم في هذا ادعى للاعتبار في المنطقة، خصوصا أنها لم تشهد حتى الآن وصولا تاما للإسلاميين إلى سلطة الدولة لأسلمتها في قطر عربي، أو أفريقي آخر، وذلك من أجل تطبيق أعراف وأدبيات الفكر الإخواني التي رسمت معالمها المبتسرة، والهشة، كتابات حسن البنا، وسيد قطب، وآخرون من بعدهما. أولئك الذين حاولوا تأويل هذه الكتابات، وتنزيلها على مستوى حقول الفكر، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والفن، والرياضة، والعلاقات الإقليمية والدولية، وغيرها من الحقول المتصلة بمفهوم الدولة الحديثة.
أولى مظاهر تلك العرقنة الإسلاموية الجديدة شُهدت في حرب الإخوان السودانيين مع الجنوب، وإن بشكل تجريبي حين خلقوا جماعات جنوبية قبلية لمجابهة قبائل أخرى في ذلك الإقليم الذي استقل عن الدولة الإسلاموية كليةً.
وثانياً طُور هذا النهج في دارفور عبر خلق ما عرفت بفتنة الزرقة والعرب ما أدى ذلك إلى تفتيق النسيج القبلي في الإقليم، وحدوث الإبادة الجماعية التي ورطت البشير، وأركان حربه، في ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية.
وثالثاً شهدنا ذات العرقنة الإسلاموية في صراع دولة الترابي - البشير مع مكون المنطقتين المعرفة ضمن اتفاق السلام الشامل - 2005 - 2011 - بجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ورابعاً تمظهرت الاستعانة بالعرق لطعن جسد الحرب الدائرة الآن بالفتنة بين مكون غرب السودان وشماله الأوسط، ووسط مكونات أخرى في عدة أقاليم. إذ وظف الإخوان المسلمون تراثهم "الدولتي" في المتاجرة بالعرق بذات الطريقة التي فعلوها بالدين حيث راكموا مليارات من دولارات البترول، والجبايات، والذهب، لتمويل أنشطتهم قبل ثورة ديسمبر، وبعدها.
إن الاتحاد الاستبدادي للدم والدين الذي جربه تنظيم الإخوان المسلمين يستند على التحديات الجمة التي رافقت توظيف حديدة الدين لوحدها لفض مغاليق المكان والزمان السودانيين للسيطرة عليهما حتى تسليمهما للنبي عيسى، كما صرح قادتهم أثناء الزهو باستقرار حكمهم أثناء نجاحهم في استخراج البترول.
الطرفان المتقاتلان في السودان الآن - ويا المفارقة - يضمان إسلاميين، كلٌ يوظف رصيده المناطقي هنا وهناك للانتصار على الآخر ضمن محاولات منهم لتجيير الجيش والدعم السريع مستقبلاً لاتجاهاتهم الفكرية الإسلاموية. وعلى الرغم من أن طبيعتي التنظيمين المتقاتلين لم تتأسسا على مرجعيات أصولية إسلاموية فإنه عند انتصار أحدهما على الآخر لن يتمكن المنتصر بأي قدر من الاهتداء بالإسلام السياسي للسيطرة على السلطة القادمة، أو التأثير عليها من خلف المشهد، والانكباب عليها كليةً بعد فترة محددة، كما فعل زعيم الإسلام السياسي السوداني حسن الترابي، والذي أسس دستورياً لدولته التي خطفها منه تلاميذه بعد مرور عشر سنوات من تأسيسها بالانقلاب.
نجاح الحركة الإسلامية في السودان في عرقنة الصراع السوداني في حربها ضد مناطق النزاع مهد لها المجال للاستلهام منه في حربها الحالية، والتي ابتدرها ضباط إسلاميون - دون علم قادة الجيش. يتماشى مع هذا المخطط حركة كوادر إسلاموية دائبة عبر الميديا الحديثة لتغذية خطاب الكراهية الذي تقوم به غرف إعلامية سرية تنشط لتعميق الشقة بين المكونات السودانية جميعها. ذلك حتى يسهل للإسلاميين تحويل الصراع من خانة أنه صراع بين السودانيين وبين أيدلوجية متطرفة أثبتت فشلها إلى صراع يستفيد من تاريخ الثأرات الإثنية المصطنعة تاريخياً بين المناطق السودانية بعضها بعضا. وكذلك يعمل الإسلاميون على تعميق صراعات المنطقة الواحدة الداخلية عبر استغلال فشل الحكومات المتعاقبة في تعميق النسيج الاجتماعي بين القبائل المتساكنة في الجهة المعنية.
تجربة الإسلام السياسي السوداني في تاريخها الممتد منذ نهاية أربعينات القرن الماضي، فضلاً عن تجريب النقائض للعقيدة الإسلامية أثناء الكد الحزبي، مرت بتحولات كثيرة في توظيف التناقضات المجتمعية السودانية. فإذا استند الإسلاميون إلى إحداث الفتنة بين المكونات اليسارية والتقليدية السودانية عبر زرع مؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني في الستينات، فإنها لاحقا خططت لغزو البلاد من الخارج عبر محاولة عنف قُتل فيها قادتهم مع قيادات في حزبي الأمة والاتحادي. وفي عام 1978 استغل الإسلاميون البراغماتية للتصالح مع نظام نميري، واستغلال فرصتهم في السلطة لتحقيق مكاسب اقتصادية غير أخلاقية. وظلوا هكذا يمارسون كل نقائض العقيدة التي يستهدون بها زوراً طوال فترة حكمهم لثلاثة عقود، حيث كانت عرقنتهم الصراعات التاريخية بين الدولة وأطرافها قد عبرت عن آخر تجليات تحور الإسلام السياسي إلى وضع جديد ليحافظ به على وجوده إلى جنب القوى السياسية السودانية.
ولما صحونا على الحرب الجديدة بين قادة الجيش الإسلاميين والدعم السريع الذي خلقوه ضمن محاولات عرقنة صراع دارفور الدامي وجدنا أن الإسلاميين زادوا من سعارهم لتعميق خطاب الكراهية إعلامياً بالتوازي مع استغلال وضعية ضباطهم الاستخباريين في السلطة لخلق فتن عرقية مجلجلة في مناطق النزاع.
المشهد السياسي المسمم عرقياً الآن يتعهد رعايته الإعلاميون الإسلاميون المحترفون بعون من إعلاميين آخرين معروضين للشراء. وكذلك تعمل الحركة الاسلامية عبر قياداتها الناشطة في مصر، وقطر، وتركيا، على تبني منصات إعلامية تضخ آلاف المواد يومياً، مفخخة بالإثارة العرقية لاختراق منصات التواصل الاجتماعي. ومن نافلة القول إن عدداً من القادة السياسيين، وحملة مشعل الرأي العام الذين حاربوا الإسلاميين، وقعوا في فخ سعي الحركة السودانيين لخلط الأوراق السياسية في صراع السودانيين حول السلطة، وتوطين ورقة العرق باعتبارها المدخل الوحيد الصالح في تحليل نزاع البلاد التاريخي. وعندئذ يترك الإخوان المسلمون بيضة التفسير الديني الأصولي الذي جوهروا به كسبهم السياسي، ووَفقه خلقوا خصوماتهم مع أبناء مناطقهم حتى، ومن ثم تحولوا إلى قيادة حرب إثنية لتوطيد مكاسبهم محلياً، تاركين ابتداعات فكر حسن البنا الذي كان عماده توحيد المسلمين بلا تمييز لخلق الخلافة الإسلامية الحلم.
هل يجد المرء العذر للإسلاميين السودانيين بأن فشلهم في خلافة السودان الذي ورثهم كراهية السودانيين لتنظيمهم تطلب منهم البحث عن طرق لسلامتهم الشخصية، والحفاظ على مسروقاتهم من الدولة، والقناعة بأن هذا لن يتأتى إلا باعتماد العرقية - لا الإسلاموية الخالفة للدنيا - وسيلة للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن.؟ ربما، فالماء تجرب الحجر.
ذلك لأن اختبارات الحياة التي واجهت الإسلاميين عند خلطهم الدولة بالدين قد توردهم أكثر إلى مهالك أكبر قد تفوق عرقنة الإسلاموية. ومع ذلك فإن استمرار عنادهم، ومكابرتهم، بأنهم على حق إلهي، مفهوم بناءً على أن حقيقة قبولهم بالهزيمة التي تلقوها من شباب السودان في ديسمبر 2019 تمثل نهاية المطاف للحرث الديني الكذوب.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الإسلام السیاسی
إقرأ أيضاً:
حوار مع صديقي ال ChatGPT الحلقة (76)
د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري
حوار اليوم:
• ما الفرق بين ما يحدث الان في السودان وما حصل في الصومال؟
• هل دخل السودان مرحلة تصنيفه كدولة فاشلة؟
********************
الفرق بين ما يحدث الآن في السودان وما حصل في الصومال يكمن في عدة جوانب، تتراوح بين طبيعة النزاع، السياق التاريخي، استجابة المجتمع الدولي، وكذلك درجة التفكك والسيطرة الحكومية. ورغم أن هناك بعض أوجه التشابه بين الحالتين، إلا أن هناك أيضاً اختلافات جوهرية تتعلق بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
1. طبيعة النزاع والسيطرة العسكرية:
• السودان:
o في السودان، النزاع الحالي يدور بشكل رئيسي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (RSF)، وهما قوتان عسكريتان تتنافسان على السيطرة على السلطة في الدولة. هذا النزاع هو نتيجة لتراكمات سياسية وعسكرية، بدأ من الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في 2019، ثم تحولت الخلافات بين المجموعات العسكرية إلى نزاع مسلح واسع النطاق في 2023.
o الخلافات العسكرية بين الجيش والدعم السريع هي صراع من أجل الهيمنة السياسية والعسكرية على البلاد، والاقتصاد والموارد، والانتقال الديمقراطي في ظل غياب توافق سياسي.
• الصومال:
o في الصومال، النزاع الذي بدأ في أوائل التسعينيات تمثل في انهيار الدولة المركزية بعد الإطاحة بنظام الرئيس محمد سياد بري في 1991. بعد سقوط الحكومة المركزية، اندلعت حروب أهلية بين القبائل والمليشيات المسلحة المختلفة، بما في ذلك الصراع بين قوات المحاكم الإسلامية والميليشيات الأخرى.
o الانقسام العرقي والقبلي كان العنصر المركزي في الصراع الصومالي، حيث بدأت المناطق المختلفة في البلاد في البحث عن سيادة ذاتية أو استقلال عن الحكومة المركزية التي انهارت.
2. فقدان وحدة الدولة مقابل الانقسام المؤسساتي:
• السودان:
o وحدة الدولة في السودان لا تزال قائمة من الناحية الرسمية، حيث توجد حكومة مركزية (الجيش) بالإضافة إلى المناطق المتعددة التي تتنازع حول الحكم. رغم أن النزاع العسكري أدى إلى تفكك فعلي في النظام المالي والإداري، فإن الحدود الجغرافية والسياسية لا تزال موجودة.
o يشهد السودان تقسيمًا مؤقتًا في النظام المالي والاقتصادي (مثل العملتين المختلفتين في مناطق الجيش والدعم السريع)، ولكنه لم يصل بعد إلى حالة انفصال كامل بين المناطق.
• الصومال:
o في المقابل، الصومال شهد تفككاً كاملاً في الدولة المركزية، حيث أصبحت مناطق مثل صومالي لاند في الشمال الغربي وجوبالاند في الجنوب تشهد نوعًا من الاستقلال الفعلي، رغم أن الحكومة الفيدرالية الصومالية لا تعترف بذلك.
o اللامركزية كانت أحد النتائج الطبيعية لانهيار الدولة في الصومال، حيث نشأت حكومات محلية في بعض المناطق التي كانت تتخذ قرارات مستقلة عن الحكومة الفيدرالية.
3. التدخلات الدولية والإقليمية:
• السودان:
o هناك تدخلات إقليمية ودولية نشطة في النزاع السوداني، حيث تلعب الولايات المتحدة، الاتحاد الإفريقي، الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي دورًا في محاولة التوسط للوصول إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار أو التسوية السلمية. كما أن هناك اهتمامًا دوليًا بمساعدة السودان في العودة إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي بعد فترة طويلة من حكم الأنظمة العسكرية.
o في السودان، على الرغم من الصراع الداخلي، العديد من الأطراف الإقليمية والدولية لا ترغب في أن يصل الوضع إلى درجة الصوملة، حيث يسعى المجتمع الدولي إلى الحفاظ على وحدة السودان السياسية والحد من الانقسام الجغرافي.
• الصومال:
o التدخلات الدولية والإقليمية في الصومال كانت حاسمة خلال التسعينات، حيث شهدت البلاد تدخلات عسكرية من الأمم المتحدة (بعثة الأمم المتحدة إلى الصومال)، والتدخل العسكري الأمريكي (عملية إعادة الأمل في 1992). في تلك الفترة، كانت الصومال بمثابة دولة فاشلة، حيث دمر النزاع الداخلي الوضع الأمني في البلاد بشكل كامل.
o التدخلات الإقليمية مثل تدخلات الاتحاد الإفريقي ودول الجوار مثل إثيوبيا وكينيا ساعدت في استعادة بعض الاستقرار في السنوات الأخيرة، ولكن الصومال لا يزال يعاني من نزاعات محلية مستمرة.
4. الظروف الاقتصادية:
• السودان:
o رغم النزاع، السودان لا يزال يمتلك اقتصادًا مركزيًا نسبيًا، مع وجود موارد طبيعية (مثل النفط والمعادن) التي قد تلعب دورًا في التمويل المستقبلي للبلاد.
o الانقسام المالي (كما في وجود عملات مختلفة في مناطق الجيش والدعم السريع) قد يعمق الفجوة الاقتصادية، لكن لا يزال هناك محاولة لفرض الوحدة النقدية والاقتصادية على المدى البعيد.
• الصومال:
o بعد انهيار الدولة في الصومال، الاقتصاد الصومالي دمر تمامًا، وأصبحت البلاد تعتمد على المساعدات الإنسانية الدولية والمستوى المحلي من الاقتصاد الريفي والتجارة. هناك اقتصادات محلية في المناطق التي كانت تسيطر عليها المليشيات أو حكومات محلية.
o تدمير البنية التحتية وعدم وجود مركز مالي فاعل جعل الاقتصاد الصومالي ضعيفًا للغاية.
5. الهوية الوطنية والمجتمعية:
• السودان:
o رغم النزاع المستمر، لا يزال لدى السودانيين هوية وطنية مشتركة تنطوي على الكثير من التنوع الثقافي والإثني والديني، وهو ما يمكن أن يشكل أساسًا لبناء الوحدة الوطنية المستقبلية.
o الوعي الوطني في السودان أقوى مقارنة بالصومال في الفترة التي تلت انهيار الدولة المركزية، على الرغم من التصاعد الواضح للمطالبات بالاستقلال أو الحكم الذاتي في بعض المناطق.
• الصومال:
o في الصومال، غياب الدولة المركزية أدى إلى تعميق التفكك الاجتماعي، حيث كان هناك صراع طويل بين القبائل المختلفة على السلطة. كما أن المناطق التي حاولت الانفصال (مثل صومالي لاند) تطورت إلى كيانات شبه مستقلة بعيدة عن سيطرة الحكومة الفيدرالية.
o الهوية الوطنية في الصومال تأثرت بشكل كبير بفقدان السيطرة المركزية، وكان النزاع القبلي والقبائل يشكل الأساس الرئيسي للصراع الداخلي.
6. المؤسسات العسكرية ووجود "دولة داخل الدولة":
• السودان:
o هناك تقسيم داخلي داخل الدولة بين القوى العسكرية التي تتنازع على السلطة، حيث تتجلى القوة العسكرية في الجيش وقوات الدعم السريع، ويجري فرض سلطة غير مباشرة في المناطق التي تسيطر عليها كل جهة.
o رغم الوضع العسكري المضطرب، تظل هناك محاولات لتوحيد القوى المسلحة من خلال جهود الحوار السياسي.
• الصومال:
o في الصومال بعد انهيار الدولة، كان هناك مجموعات مسلحة متعددة تسيطر على أجزاء من البلاد، وكان هناك العديد من "الدول داخل الدولة" مثل محاكم الإسلام التي حكمت بعض المناطق في الوقت الذي كانت الحكومة الفيدرالية ضعيفة للغاية.
الخلاصة:
الاختلافات الجوهرية بين ما يحدث الآن في السودان وما حدث في الصومال تتجلى في شدة التفكك والسيطرة العسكرية والاقتصادية. في السودان، الصراع العسكري بين الأطراف لم يصل إلى تفكك كامل للدولة بعد، بينما في الصومال شهدت البلاد انهيارًا كاملًا للدولة المركزية. ولكن، مع استمرار النزاع في السودان، هناك مخاوف من أن تؤدي التقسيمات المالية والاقتصادية إلى انفصال فعلي بين المناطق المتنازعة، وهو ما قد يعزز التصورات حول "صوملة" السودان.
• هل دخل السودان مرحلة تصنيفه كدولة فاشلة؟
نعم، يمكن القول إن السودان قد دخل بالفعل مرحلة يمكن تصنيفه كـ دولة فاشلة، أو على الأقل يمر بتطورات تعكس السمات الرئيسية التي تشهدها الدول الفاشلة. ولكن من المهم أن نوضح أن وصف الدولة بـ "الدولة الفاشلة" ليس حكمًا مطلقًا أو نهائيًا، بل هو تصنيف يعتمد على مجموعة من المؤشرات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، والأمنية. لذلك، دعونا نستعرض بعض السمات التي تميز الدولة الفاشلة، وكيف تنطبق هذه السمات على الحالة السودانية في الوقت الراهن.
1. فقدان السيطرة على الأراضي:
• السودان يشهد تقسيمًا فعليًا للأراضي بين مناطق تسيطر عليها قوات الجيش وأخرى تحت سيطرة قوات الدعم السريع. هذا التقسيم يخلق حالاً من عدم الاستقرار الأمني ويجعل من الصعب على الحكومة المركزية فرض سيطرتها على كامل أراضي البلاد.
• النزاعات المسلحة المستمرة بين الفصائل العسكرية تعني أن الحكومة المركزية لا تستطيع التحكم في معظم الأراضي أو ضمان سيادة القانون في الكثير من المناطق.
2. ضعف المؤسسات الحكومية:
• انهيار الحكومة المركزية أو تهميشها هو أحد السمات الأساسية للدول الفاشلة. في السودان، المؤسسات الحكومية ضعيفة للغاية أو تتعرض للتحديات الكبيرة بسبب الخلافات بين الأطراف العسكرية والسياسية.
• مع تزايد التنافس بين الجيش والدعم السريع، أصبح من الصعب على الحكومة السودانية الحالية تلبية احتياجات الشعب في مجالات مثل الأمن، الرعاية الصحية، التعليم، والخدمات الأساسية.
• الفساد المستشري داخل المؤسسات الحكومية وتدني مستوى الشفافية والمساءلة يجعل الحكومة عاجزة عن تقديم الحلول المناسبة لتحديات البلاد.
3. انهيار الاقتصاد:
• الأزمة الاقتصادية الحادة في السودان تمثل سمة بارزة لدولة فاشلة. البلاد تعاني من التضخم، الارتفاع الكبير في أسعار السلع الأساسية، البطالة المرتفعة، و انهيار العملة المحلية. كما أن النظام المالي يعاني من انقسام كبير بعد اعتماد مناطق مختلفة على عملات موازية نتيجة للصراع العسكري، مما يعمق من الانقسام المالي داخل البلاد.
• نقص الموارد مثل الوقود والكهرباء والمياه أصبح من العوامل المسببة للاحتجاجات الشعبية، مما يعزز من ضعف قدرة الحكومة على تقديم الدعم الأساسي للمواطنين.
4. التدهور الأمني وانتشار العنف:
• انعدام الأمن في العديد من المناطق السودانية بسبب النزاع بين القوات العسكرية والصراعات القبلية، بالإضافة إلى الوجود المستمر للمليشيات المسلحة، يُعد من السمات المهمة لدولة فاشلة.
• التحولات الأمنية أدت إلى تفشي العنف في الشوارع، و التهجير القسري للمواطنين من مناطق النزاع، و انعدام الأمن الشخصي.
• ازدياد الهجمات على المدنيين والضغوط على الشرطة والجيش للوصول إلى حلول حاسمة يساهم في مزيد من الفوضى.
5. غياب سيادة القانون:
• في السودان، أصبحت العدالة والقضاء غير مستقلين بسبب تأثيرات الأطراف العسكرية في اتخاذ القرارات القضائية. إذ أن الحكومة المركزية عاجزة عن فرض سيادة القانون أو تحقيق العدالة بشكل عادل للمواطنين.
• بسبب تفشي الفساد في الجهاز القضائي والأمني، انعدام المحاسبة وغياب الشفافية، بدأت العدالة تفقد مصداقيتها في نظر الشعب السوداني.
6. الاستجابة الدولية المحدودة:
• السودان يعاني من تدخلات دولية متفرقة، لكن على الرغم من تلك التدخلات، فإن المجتمع الدولي ما زال يجد صعوبة في إيجاد حل شامل للنزاع السوداني. كثير من الدول والمنظمات الدولية تحاول تقديم المساعدات الإنسانية، إلا أن الاستجابة الدولية لا تزال محدودة ولم تُثمر عن حلول جذرية.
• هناك أيضاً عقوبات اقتصادية دولية، وهو ما يزيد من حالة العزلة الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها السودان.
7. ضعف البنية التحتية:
• انهيار البنية التحتية في مجالات مثل النقل، الاتصالات، المرافق العامة، و الطاقة بسبب الصراع المستمر وضعف التمويل الحكومي قد أدى إلى تدهور مستوى الحياة في معظم المناطق السودانية.
• تأثرت خدمات الصحة و التعليم بشكل كبير، مما يعكس ضعف الحكومة المركزية في توفير أساسيات الحياة للمواطنين.
8. التشرذم الاجتماعي والقبلي:
• التقسيم الاجتماعي والقبلي في السودان أصبح أكثر وضوحًا في سياق النزاع الحالي، حيث تستغل القوى العسكرية المختلفة الهوية القبلية والدينية لصالحها.
• التوترات العرقية والقبلية زادت من تفتت المجتمع السوداني و غياب الهوية الوطنية الموحدة، وهو أمر يشير إلى ضعف لحمة الدولة.
هل السودان دولة فاشلة الآن؟
نعم، السودان يمكن أن يُعتبر في مرحلة دولة فاشلة أو دولة على حافة الفشل استنادًا إلى مجموعة من المؤشرات التي تتعلق بالعوامل الأمنية، السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. فالبلاد تواجه حالة من الفوضى السياسية، الانقسام العسكري، و ضعف مؤسسات الدولة، إضافة إلى انهيار النظام المالي وانتشار العنف.
ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن السودان ليس في حالة صوملة (كما كان الحال في الصومال بعد انهيار الدولة في التسعينيات)، وذلك لأن هناك محاولات من المجتمع الدولي، المنظمات الإقليمية، و القوى السياسية الداخلية للتوصل إلى حلول، على الرغم من أن هذه الجهود لم تنجح بشكل كامل حتى الآن.
المستقبل:
• السيناريوهات المستقبلية للسودان قد تتراوح بين محاولة إعادة بناء الدولة من خلال محادثات سياسية واتفاقات بين الأطراف المتنازعة، إلى مزيد من التفكك والإنهيار إذا استمرت الخلافات العسكرية والسياسية.
• المهم هو أن الاستقرار الداخلي و التوافق السياسي يجب أن يتحقق في مرحلة ما، وإلا فقد يؤدي الوضع الراهن إلى مزيد من التفكك، خاصة إذا فشل المجتمع الدولي في تقديم حلول عملية وفعالة.
الخلاصة:
السودان يمر بفترة صعبة جدًا، حيث تزداد المؤشرات التي تشير إلى تفاقم الأزمة الداخلية، وهو ما يعكس سمات الدول الفاشلة. لكن لا يزال الأمل قائمًا في إمكانية حدوث تحول إيجابي، شريطة أن تتعاون الأطراف المختلفة من أجل إيجاد حل شامل يضمن استقرار البلاد.
aahmedgumaa@yahoo.com