التجربة القطرية الوحيدة للإسلام السياسي المتحور إلى الإثنية تمثلت في أنموذج إخوان السودان لا غيره حتى الآن. ولعل هذا التمثل العياني البياني للتخثر الإسلاموي يتمظهر كحقل خصب للباحثين في تاريخ الإسلام السياسي لاستجلاء ملمح من ملامح التحويرات التي لحقت بهذه الفكرة الجديدة المتساوقة مع بقية مدارس التفكير الإسلامي المحدث.


وبرغم أن الإسلام السياسي لا ينكشف جل أمره إلا عند التحامه بفضاءات جديدة في تجارب العمل الجمعي الإنساني سوى أن وصوله بهذه السرعة إلى مرحلة تخليه عن عالميته، والاعتماد على عناصر المحلية للبقاء، يعد بشارة بإنه زائل من المشهد السياسي الإسلامي. ذلك رغم فداحة هذه التجربة على صعيد التعايش السوداني، دع عنك تأثيراتها الكارثية على صعيد بناء الدولة التي بذل السودانيون جهداً عظيماً منذ الاستقلال لتأسيسها على السياقات التنموية التي تحفظ وحدتهم الوجدانية.
فالسودانيون الذين يقاومون الإسلام السياسي الآن برفع لافتة (لا للحرب)، وتوعدهم المستمر بأن لا مكانة مستقبلية للإخوان مهما وقفوا خلف الجيش يقدمون للشعوب الإسلامية نضالاً ملحمياً لهزيمة الإسلام السياسي. وهكذا تكون حججهم في هذا ادعى للاعتبار في المنطقة، خصوصا أنها لم تشهد حتى الآن وصولا تاما للإسلاميين إلى سلطة الدولة لأسلمتها في قطر عربي، أو أفريقي آخر، وذلك من أجل تطبيق أعراف وأدبيات الفكر الإخواني التي رسمت معالمها المبتسرة، والهشة، كتابات حسن البنا، وسيد قطب، وآخرون من بعدهما. أولئك الذين حاولوا تأويل هذه الكتابات، وتنزيلها على مستوى حقول الفكر، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والفن، والرياضة، والعلاقات الإقليمية والدولية، وغيرها من الحقول المتصلة بمفهوم الدولة الحديثة.
أولى مظاهر تلك العرقنة الإسلاموية الجديدة شُهدت في حرب الإخوان السودانيين مع الجنوب، وإن بشكل تجريبي حين خلقوا جماعات جنوبية قبلية لمجابهة قبائل أخرى في ذلك الإقليم الذي استقل عن الدولة الإسلاموية كليةً.
وثانياً طُور هذا النهج في دارفور عبر خلق ما عرفت بفتنة الزرقة والعرب ما أدى ذلك إلى تفتيق النسيج القبلي في الإقليم، وحدوث الإبادة الجماعية التي ورطت البشير، وأركان حربه، في ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية.
وثالثاً شهدنا ذات العرقنة الإسلاموية في صراع دولة الترابي - البشير مع مكون المنطقتين المعرفة ضمن اتفاق السلام الشامل - 2005 - 2011 - بجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ورابعاً تمظهرت الاستعانة بالعرق لطعن جسد الحرب الدائرة الآن بالفتنة بين مكون غرب السودان وشماله الأوسط، ووسط مكونات أخرى في عدة أقاليم. إذ وظف الإخوان المسلمون تراثهم "الدولتي" في المتاجرة بالعرق بذات الطريقة التي فعلوها بالدين حيث راكموا مليارات من دولارات البترول، والجبايات، والذهب، لتمويل أنشطتهم قبل ثورة ديسمبر، وبعدها.
إن الاتحاد الاستبدادي للدم والدين الذي جربه تنظيم الإخوان المسلمين يستند على التحديات الجمة التي رافقت توظيف حديدة الدين لوحدها لفض مغاليق المكان والزمان السودانيين للسيطرة عليهما حتى تسليمهما للنبي عيسى، كما صرح قادتهم أثناء الزهو باستقرار حكمهم أثناء نجاحهم في استخراج البترول.
الطرفان المتقاتلان في السودان الآن - ويا المفارقة - يضمان إسلاميين، كلٌ يوظف رصيده المناطقي هنا وهناك للانتصار على الآخر ضمن محاولات منهم لتجيير الجيش والدعم السريع مستقبلاً لاتجاهاتهم الفكرية الإسلاموية. وعلى الرغم من أن طبيعتي التنظيمين المتقاتلين لم تتأسسا على مرجعيات أصولية إسلاموية فإنه عند انتصار أحدهما على الآخر لن يتمكن المنتصر بأي قدر من الاهتداء بالإسلام السياسي للسيطرة على السلطة القادمة، أو التأثير عليها من خلف المشهد، والانكباب عليها كليةً بعد فترة محددة، كما فعل زعيم الإسلام السياسي السوداني حسن الترابي، والذي أسس دستورياً لدولته التي خطفها منه تلاميذه بعد مرور عشر سنوات من تأسيسها بالانقلاب.
نجاح الحركة الإسلامية في السودان في عرقنة الصراع السوداني في حربها ضد مناطق النزاع مهد لها المجال للاستلهام منه في حربها الحالية، والتي ابتدرها ضباط إسلاميون - دون علم قادة الجيش. يتماشى مع هذا المخطط حركة كوادر إسلاموية دائبة عبر الميديا الحديثة لتغذية خطاب الكراهية الذي تقوم به غرف إعلامية سرية تنشط لتعميق الشقة بين المكونات السودانية جميعها. ذلك حتى يسهل للإسلاميين تحويل الصراع من خانة أنه صراع بين السودانيين وبين أيدلوجية متطرفة أثبتت فشلها إلى صراع يستفيد من تاريخ الثأرات الإثنية المصطنعة تاريخياً بين المناطق السودانية بعضها بعضا. وكذلك يعمل الإسلاميون على تعميق صراعات المنطقة الواحدة الداخلية عبر استغلال فشل الحكومات المتعاقبة في تعميق النسيج الاجتماعي بين القبائل المتساكنة في الجهة المعنية.
تجربة الإسلام السياسي السوداني في تاريخها الممتد منذ نهاية أربعينات القرن الماضي، فضلاً عن تجريب النقائض للعقيدة الإسلامية أثناء الكد الحزبي، مرت بتحولات كثيرة في توظيف التناقضات المجتمعية السودانية. فإذا استند الإسلاميون إلى إحداث الفتنة بين المكونات اليسارية والتقليدية السودانية عبر زرع مؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني في الستينات، فإنها لاحقا خططت لغزو البلاد من الخارج عبر محاولة عنف قُتل فيها قادتهم مع قيادات في حزبي الأمة والاتحادي. وفي عام 1978 استغل الإسلاميون البراغماتية للتصالح مع نظام نميري، واستغلال فرصتهم في السلطة لتحقيق مكاسب اقتصادية غير أخلاقية. وظلوا هكذا يمارسون كل نقائض العقيدة التي يستهدون بها زوراً طوال فترة حكمهم لثلاثة عقود، حيث كانت عرقنتهم الصراعات التاريخية بين الدولة وأطرافها قد عبرت عن آخر تجليات تحور الإسلام السياسي إلى وضع جديد ليحافظ به على وجوده إلى جنب القوى السياسية السودانية.
ولما صحونا على الحرب الجديدة بين قادة الجيش الإسلاميين والدعم السريع الذي خلقوه ضمن محاولات عرقنة صراع دارفور الدامي وجدنا أن الإسلاميين زادوا من سعارهم لتعميق خطاب الكراهية إعلامياً بالتوازي مع استغلال وضعية ضباطهم الاستخباريين في السلطة لخلق فتن عرقية مجلجلة في مناطق النزاع.
المشهد السياسي المسمم عرقياً الآن يتعهد رعايته الإعلاميون الإسلاميون المحترفون بعون من إعلاميين آخرين معروضين للشراء. وكذلك تعمل الحركة الاسلامية عبر قياداتها الناشطة في مصر، وقطر، وتركيا، على تبني منصات إعلامية تضخ آلاف المواد يومياً، مفخخة بالإثارة العرقية لاختراق منصات التواصل الاجتماعي. ومن نافلة القول إن عدداً من القادة السياسيين، وحملة مشعل الرأي العام الذين حاربوا الإسلاميين، وقعوا في فخ سعي الحركة السودانيين لخلط الأوراق السياسية في صراع السودانيين حول السلطة، وتوطين ورقة العرق باعتبارها المدخل الوحيد الصالح في تحليل نزاع البلاد التاريخي. وعندئذ يترك الإخوان المسلمون بيضة التفسير الديني الأصولي الذي جوهروا به كسبهم السياسي، ووَفقه خلقوا خصوماتهم مع أبناء مناطقهم حتى، ومن ثم تحولوا إلى قيادة حرب إثنية لتوطيد مكاسبهم محلياً، تاركين ابتداعات فكر حسن البنا الذي كان عماده توحيد المسلمين بلا تمييز لخلق الخلافة الإسلامية الحلم.
هل يجد المرء العذر للإسلاميين السودانيين بأن فشلهم في خلافة السودان الذي ورثهم كراهية السودانيين لتنظيمهم تطلب منهم البحث عن طرق لسلامتهم الشخصية، والحفاظ على مسروقاتهم من الدولة، والقناعة بأن هذا لن يتأتى إلا باعتماد العرقية - لا الإسلاموية الخالفة للدنيا - وسيلة للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن.؟ ربما، فالماء تجرب الحجر.
ذلك لأن اختبارات الحياة التي واجهت الإسلاميين عند خلطهم الدولة بالدين قد توردهم أكثر إلى مهالك أكبر قد تفوق عرقنة الإسلاموية. ومع ذلك فإن استمرار عنادهم، ومكابرتهم، بأنهم على حق إلهي، مفهوم بناءً على أن حقيقة قبولهم بالهزيمة التي تلقوها من شباب السودان في ديسمبر 2019 تمثل نهاية المطاف للحرث الديني الكذوب.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإسلام السیاسی

إقرأ أيضاً:

ميلوني تدين العنصرية في أوساط رابطة شبيبة حزبها الحاكم.. هتافات دوتشي وتحايا للفاشية بالصوت والصورة

كشف موقع Fanpage الإخباري اليساري أن لديه أدلة فيديو لبعض أعضاء الشباب الوطني يستخدمون الافتراءات العنصرية ويقومون بتحية نازية.

اعلان

دانت رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني التصريحات العنصرية والمعادية للسامية التي أدلى بها بعض أعضاء رابطة شباب حزب إخوان إيطاليا الحاكم.

وفي حديثها للصحفيين في بروكسل، قالت ميلوني إن معاداة السامية والعنصرية لا تتماشى مع الحزب، تصريحات رئيسة الحكومة جاءت بعد استقالة عضوين قياديين في رابطة الشبيبة الوطنية بسبب تصريحات وصفت بالمعادية للسامية استهدفت سيناتورا يهوديا في مجلس الشيوخ.

وقالت ميلوني: "لقد قلت مرات عديدة وتكرارا، أعتقد أن أولئك الذين لديهم مشاعر عنصرية أو معادية للسامية أو بالحنين إلى الماضي قد أخطأوا ببساطة في فهم وطنهم، لأن هذه المشاعر لا تتوافق مع حزب "إخوان إيطاليا"، ولا تتوافق مع اليمين الإيطالي، ولا تتوافق أيضا مع الخط السياسي الذي حددناه بوضوح في السنوات الأخيرة، وبالتالي لا أقبل أن يكون هناك أي غموض حول هذا الأمر".

كلام ميلوني جاء بعد ظهور تقرير في صحيفة Fanpage اليسارية على الإنترنت، زعمت أن لديها تسجيلات صوتية وفيديو لبعض أعضاء الشبيبة الوطنية الذين يستخدمون إهانات عنصرية ويوجهون التحية النازية.

أثار تحقيق Fanpage، بعنوان «شباب ميلونيا»، صدمة في صفوف حزب إخوان إيطاليا في نفس الوقت الذي تسعى فيه ميلوني إلى ترسيخ سمعتها كصوت معتدل على مسرح الاتحاد الأوروبي.

كما عم الغضب أعضاء الجالية اليهودية في روما، حيث دعاها البعض إلى معاقبة أعضاء الجناح الشبابي الذين تم الكشف عنهم في التحقيق، ودانت الجالية اليهودية في روما الصور المخزية للعنصرية ومعاداة السامية التي ظهرت في تحقيق Fanpage.

وحث الحزب على اتخاذ «الإجراء المناسب»، قائلاً إنه «من الضروري أن يتفاعل المجتمع» ضد التمييز.

تعود جذور حزب "إخوان إيطاليا" إلى الحركة الاجتماعية الإيطالية (MSI)، التي تشكلت عام 1946 خلفا لحركة بينيتو موسوليني الفاشية التي حكمت إيطاليا لأكثر من 20 عاما.

أدانت ميلوني مرارا القوانين العنصرية المعادية لليهود التي سنها موسوليني في عام 1938 في محاولة لتحويل حلفها إلى قوة محافظة رئيسية.

لكنها تجاهلت أيضا الدعوات لإعلان نفسها "معادية للفاشية"، ما دفع بعض منتقديها إلى القول إنها فشلت في أن تنأى بنفسها تمامًا عن الفاشية الجديدة.

شارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية إيران: جولة إعادة للانتخابات الرئاسية بين الإصلاحي بزشكيان والمحافظ جليلي الجمعة المقبل هل ينجح الائتلاف اليساري الفرنسي في أن يكون عقبة أمام حكومة اليمين المتطرف؟ "بوليفيا تنتصر للديمقراطية".. رئيس المكسيك المنتهية ولايته يشيد بالتصدي لمحاولة الانقلاب الفاشلة إيطاليا جورجيا ميلوني معاداة السامية صحافة استقصائية عنصرية اعلاناخترنا لك يعرض الآن Next مباشر. حرب غزة: قصف إسرائيلي على مناطق جنوب القطاع وإيران تهدد بخيارات شاملة إذا شنت تل أبيب حربا على لبنان يعرض الآن Next عاجل. إيران: جولة إعادة للانتخابات الرئاسية بين الإصلاحي بزشكيان والمحافظ جليلي الجمعة المقبل يعرض الآن Next بوتين يدعو إلى استئناف إنتاج صواريخ متوسطة وقصيرة المدى ذات قدرات نووية يعرض الآن Next هل ينجح الائتلاف اليساري الفرنسي في أن يكون عقبة أمام حكومة اليمين المتطرف؟ يعرض الآن Next تعرف على القيادة الجديدة لأوروبا اعلانالاكثر قراءةمباشر. تغطية متواصلة| سكان القطاع يعيشون في ظروف "لا تطاق" والاشتباكات تستمر في حي الشجاعية هل يستجيب الرئيس ويعلن انسحابه؟.. تصاعد الدعوات التي تطالب بايدن بالتنحي بعد أدائه الضعيف أمام ترامب شاهد: حفرة عملاقة تبتلع عمود إنارة في ملعب بجنوب ولاية إلينوي مناظرة ساخنة: ترامب يصف بايدن بـ"فلسطيني سيء" ويؤكد أنه "سيقودنا إلى حرب عالمية ثالثة" اعتقال قائد الجيش البوليفي عقب محاولة انقلاب فاشلة اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليوم الانتخابات الأوروبية 2024 إسرائيل حركة حماس إيران قطاع غزة غزة علي خامنئي الشرق الأوسط روسيا بوليفيا الاتحاد الأوروبي حادث Themes My Europeالعالمأعمالالسياسة الأوروبيةGreenNextالصحةسفرثقافةفيديوبرامج Services مباشرنشرة الأخبارالطقسجدول زمنيتابعوناAppsMessaging appsWidgets & ServicesAfricanews Job offers from Amply عرض المزيد About EuronewsCommercial Servicesتقارير أوروبيةTerms and ConditionsCookie Policyتعديل خيارات ملفات الارتباطسياسة الخصوصيةContactPress OfficeWork at Euronewsتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024 - العربية EnglishFrançaisDeutschItalianoEspañolPortuguêsРусскийTürkçeΕλληνικάMagyarفارسیالعربيةShqipRomânăქართულიбългарскиSrpski

مقالات مشابهة

  • موقع أميركي: هل تتجه إسرائيل نحو حرب أهلية؟
  • نحن السودانيين اعداء انفسنا بتدخلنا في ما لايعنينا (2)
  • مراسل RT: سيف الإسلام القذافي يرفض مشاركة فريقه السياسي في اجتماع روما
  • ميلوني تدين العنصرية في أوساط رابطة شبيبة حزبها الحاكم.. هتافات دوتشي وتحايا للفاشية بالصوت والصورة
  • من العراق إلى غزة.. كيف يتعامل مسلمو بريطانيا مع الانتخابات؟
  • مصر تغلق أنشطة السودانيين حتى توفيق أوضاعهم.. تقنين أم جباية وتضييق؟
  • باحث بشئون الجماعات الأصولية: الإخوان يريدون طمث الهوية الفكرية والثقافية لمصر (فيديو)
  • حزب الأحرار يشيد بـ"إنجازات" الحكومة و"تماسك" الأغلبية
  • الأمم المتحدة: أكثر من نصف السودانيين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد
  • الحروب الثقافية وحرب غزة.. كيف صاغ السابع من أكتوبر مفهوم الأمة؟