الاستدامة في التعليم.. خارطة طريق أجيال المستقبل للتعامل مع أزمة المناخ
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
أبوظبي: «الخليج»
تولي دولة الإمارات أهمية كبيرة لترسيخ الاستدامة بين مختلف محاور العملية التعليمية من طلبة ومعلمين وأكاديميين ومشرفين تربويين، وذلك إيماناً من الدولة بمحورية دور التعليم في مواجهة تداعيات أزمة المناخ، حيث يعد عاملاً رئيسياً في تشكيل الثقافة البيئية لدى أبناء المجتمع، وتأسيس جيل يدرك أهمية مفهوم الاستدامة في مختلف مجالات ونواحي الحياة.
لذلك تعمل دولة الإمارات على تضمين قضايا المناخ والاستدامة ضمن المنظومة التعليمية من خلال تطوير المناهج التي تعزز الوعي البيئي، مع استحداث برامج لتدريب وتأهيل المعلمين والمسؤولين التربويين، وتأسيس مدارس صديقة للبيئة تشكل محركاً لبناء مجتمعات خضراء مستدامة.
ويعتبر بناء الثقافة والوعي البيئي أحد أبرز المحاور التي ركزت عليها الخطط الاستراتيجية الوطنية بدولة الإمارات الرامية إلى مواجهة التغير المناخي، واستكشاف أفضل السبل للحد من آثاره وتداعياته، والتحلي بالمرونة والكفاءة للتعامل مع تحدياته الحالية والمستقبلية. وقد كثفت الدولة في سبيل ذلك حملات التوعية المجتمعية، كما وضعت البرامج التي تضمن غرس الثقافة البيئية ومفاهيم الاستدامة في نفوس الأجيال بشكل ممنهج، من خلال إثراء المنظومة التعليمية وتعزيزها بالأسس النظرية والخطوات العملية.
وتنسجم مبادرات الاستدامة في قطاع التعليم مع محور «الأثر»، ضمن حملة «استدامة وطنية» التي تم إطلاقها مؤخراً تزامناً مع الاستعدادات لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ «COP28» الذي يُعقد خلال الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر من العام الجاري في مدينة إكسبو دبي، حيث تستعرض الحملة النتائج والتأثير الإيجابي لمبادرات الاستدامة الإماراتية على مختلف المجالات، كما تهدف الحملة إلى نشر السلوكيات الإيجابية نحو البيئة وتعزيز الوعي حول قضايا الاستدامة البيئية، وتشجيع المشاركة المجتمعية.
مبادرة شراكة التعليم الأخضرأطلقت دولة الإمارات العديد من المبادرات والبرامج التي أظهرت حرصها على حشد طاقات الأجيال لمواجهة آثار التغير المناخي، وكان من أبرزها مبادرة شراكة التعليم الأخضر، التي أعلنت عنها وزارة التربية والتعليم، وترتكز على أربعة محاور تغطي مختلف جوانب العملية التعليمية وهي: «التعليم الأخضر»، و«المدارس الخضراء»، و«المجتمعات الخضراء»، و«بناء القدرات الخضراء»، لترسم خارطة الطريق هذه ملامح المستقبل وتعزز جهود الدولة الرامية إلى الوصول للحياد المناخي، وقد حرصت دولة الإمارات على أن تكون خارطة الطريق عملية وقابلة للتطبيق في دول أخرى، وذلك انطلاقاً من إدراكها لأهمية تنسيق الجهود على المستوى الدولي لمواجهة قضية التغير المناخي.
وحددت خارطة الطريق مستهدفات بيئية ومناخية واضحة تسعى الوزارة لتحقيقها قبل انطلاق مؤتمر COP28، من بينها الالتزام بأن يكون نصف المدارس والجامعات في الدولة خضراء مع انطلاق المؤتمر، وتدريب وتأهيل أكثر من 2800 معلم و1400 مدير مدرسة. وإطلاق مجموعة من المبادرات والبرامج التي تستهدف توفير التدريب المناخي المناسب للطلبة والمعلمين والكوادر التربوية، وتضمين قضايا المناخ ضمن المناهج التعليمية، وصولاً لبناء ثقافة بيئية لدى كافة أفراد المجتمع بما في ذلك من هم خارج منظومة التعليم الرسمي.
شراكات محلية وتعاون دوليحرصت دولة الإمارات على أن تقود الجهود لترسيخ التعاون الدولي في مجال التعليم الأخضر، لا سيما لجهة عقد الشراكات مع الجهات والمنظمات الدولية والمؤسسات المحلية المعنية بقضايا الشباب والتعليم، حيث أعلنت وزارة التربية والتعليم عن شراكة مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) لإطلاق عدد من البرامج والمبادرات ضمن إطار «شراكة التعليم الأخضر» بهدف نشر الوعي المناخي وإيصال صوت فئات الشباب واليافعين والأطفال لصناع القرار حول قضايا البيئة والمناخ.
كما أعلنت الوزارة عن تعاون مشترك مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) بهدف حشد الجهود بشأن قضايا التعليم والمناخ خلال مؤتمر «COP28»، حيث ستدعم منظمة اليونيسكو، تحت قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة، تنظيم جلسة رفيعة المستوى تجمع قادة الدول الأعضاء بشأن دور التعليم في معالجة أزمة المناخ. ويشمل التعاون بين الجانبين كذلك عقد أول اجتماع مشترك لإنشاء صندوق الأمم المتحدة الاستئماني المتعدد الشركاء من أجل التعليم المراعي للبيئة.
وعززت وزارة التربية والتعليم مبادراتها البيئية بإطلاق مبادرة «صوت المعلمين»، خلال العام الجاري وذلك بالتعاون مع مكتب التعليم المناخي «OCE» وألف للتعليم، وهي مبادرة تهدف إلى تسليط الضوء على جهود الكوادر التعليمية في تعزيز الوعي ومواجهة التغير المناخي والاستعداد لتأثيراته المحتملة.
ويأتي التعاون مع مكتب التعليم المناخي بهدف تعزيز مشاركة المعلمين لاستعراض مشاريعهم المناخية من جميع أنحاء العالم، وتنظيم فعاليات جانبية ذات صلة بالعمل المناخي في جناح التعليم الذي يتم افتتاحه في «COP28»، وذلك للمرة الأولى في تاريخ مؤتمرات الأطراف، فضلاً عن ترسيخ إرث متميز لمرحلة ما بعد «COP28» من خلال ترجمة جميع موارد مكتب التعليم المناخي للغة العربية ليتم استخدامها على نطاق واسع ونشرها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وتتضمن المبادرة تنظيم النسخة الثالثة من مسابقة «COP» للمعلمين والتي أنشأها مكتب التعليم المناخي «OCE»، وتعتبر حدثاً دولياً يهدف إلى إطلاع المسؤولين الدوليين وصناع القرار على العمل الذي يقوم به المعلمون والدور الذي يلعبونه في مواجهة التحديات وتعزيز الاستجابة العالمية لتغير المناخ.
كما تسعى وزارة التربية والتعليم إلى رفع الوعي البيئي والوطني من خلال ورش عمل توعوية تستهدف المجتمع المحلي وذلك بالتعاون مع مؤسسة عبدالله الغرير للبرامج التعليمية.
وتعتزم وزارة التربية والتعليم البناء على شبكة علاقاتها المحلية والدولية الواسعة لإطلاق مزيد من البرامج والمبادرات الرامية إلى تعزيز حضور الاستدامة في مختلف جوانب العملية التعليمية، بما في ذلك دعم جهود البحث والتطوير في مجال التعليم الأخضر، قبل وخلال وبعد مؤتمر «COP28».
«إرث من أرض زايد» في «COP28»ومع استضافة الدولة فعاليات «COP28» خلال العام الحالي وما تعكسه هذه الاستضافة من مكانة عالمية متميزة للدولة في العمل المناخي العالمي، كشفت وزارة التربية والتعليم عن افتتاح جناح «إرث من أرض زايد» في «COP28»، وهو أول جناح تعليمي في تاريخ مؤتمرات الأطراف.
ويهدف الجناح إلى توفير منصة للجهات المحلية والعالمية والخبراء التربويين لتأكيد محورية دور التعليم في مواجهة قضايا المناخ، والاتفاق على حلول عملية وقابلة للتطبيق يمكن لمختلف الدول الاستفادة منها في تضمين الاستدامة والثقافة البيئية ضمن نظمها التعليمية.
وسيساهم جناح «إرث من أرض زايد» في تحقيق الربط بين التعليم والتمويل المناخي بما يدعم حشد الموارد والجهود والخبرات والاستثمارات والطاقات المجتمعية لإطلاق مبادرات وشراكات عالمية تدعم حضور التعليم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وتسعى الوزارة لأن يترك جناح «إرث من أرض زايد» في «COP28» تأثيراً إيجابياً مستمراً وإرثاً مستداماً يمكن للدول التي ستستضيف النسخ المقبلة من مؤتمرات الأطراف البناء عليه لمواصلة العمل على تطوير التعليم المناخي بما يستجيب لاحتياجات وتطلعات الدول ويساهم في بناء أجيال تضع الأجندة المناخية على رأس قائمة أولوياتها في مختلف دول العالم.
مبادرات مستدامةوسعت مدارس دولة الإمارات إلى تأكيد حضورها في ميدان حماية البيئة والحد من تداعيات المناخ، حيث أعلنت هيئة البيئة – أبوظبي في يوليو الماضي بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم ومؤسسة الإمارات للتعليم المدرسي ودائرة التعليم والمعرفة - أبوظبي عن التزام جميع المدارس في الإمارة بتقليل بصمتها البيئية بانضمامها إلى مبادرة المدارس المستدامة المعترف بها دولياً، بهدف تعزيز ثقافة الاستدامة والممارسات الصديقة للبيئة.
وخلال الأعوام الماضية، لم تتوقف مبادرات المجتمع التعليمي التي تشجع على الممارسات المستدامة بين الطلبة وفي المدارس والجامعات، ولم تكن مبادرة شراكة التعليم الأخضر الأولى بهذا الخصوص، بل كانت حلقة ضمن سلسلة مستمرة ومتواصلة من المبادرات التي تبنتها الدولة، حتى أصبح التعليم البيئي أحد أبرز العناصر في آليات تطوير المناهج الدراسية، وتوجيه الجهود لتضمين المحتوى البيئي في مختلف المناهج على مستوى جميع المراحل الدراسية.
ففي عام 2009 أطلقت هيئة البيئة - أبوظبي مبادرة المدارس المستدامة التي تعتبر واحدة من المشاريع الرائدة في مجال التعليم البيئي، نظراً لدورها في تعزيز الاستدامة البيئية في المدارس ويشارك فيها اليوم أكثر من 152 مدرسة، كما قدمت التدريب لأكثر من 4646 معلماً فيما وصل العدد الإجمالي لمشاريع التوعية المجتمعية إلى 2081، وتم خفض 97200 كجم من ثاني أكسيد الكربون في المدارس المستدامة.
وفي الإطار ذاته، أطلقت هيئة البيئة - أبوظبي خلال العام الماضي منصة «التعليم الإلكتروني الخضراء» التي تعتبر أول أداة تعليمية إلكترونية مجانية مخصصة للمواضيع البيئية في المنطقة والتي تهدف إلى تعزيز المعرفة والوعي البيئي، ومنذ إطلاقها وصل مجموع المستفيدين منها إلى 712 مستخدماً في حين تم إصدار 194 شهادة للمشاركين.
ويعتبر المارثون البيئي أحد البرامج السنوية التي تحرص هيئة البيئة – أبوظبي على تنظيمه منذ إطلاقه في عام 2001 ويهدف إلى تعزيز المهارات اللغوية والبيئية وزيادة الوعي بأنواع النباتات والحيوانات المحلية والقضايا البيئية المحلية بين طلاب أبوظبي من خلال ممارسات أكاديمية منظمة، وشارك بالبرنامج أكثر من 91٪ من مدارس أبوظبي، حيث نجح بالوصول إلى نحو مليوني طالب، كما أطلقت الهيئة في أكتوبر من العام الماضي بالتعاون مع مؤسسة الإمارات للتعليم المدرسي تحدياً يشجع مدارس أبوظبي على تبني أنماط صديقة للبيئة من خلال إعادة تدوير عبوات المياه البلاستيكية المستخدمة لمرة واحدة.
كما وقّعت وزارة التربية والتعليم العام الماضي مذكرة تفاهم مع مؤسسة الإمارات للتعليم المدرسي، ومركز أبوظبي لإدارة النفايات – تدوير، ومجموعة بيئة، لإطلاق وتنفيذ «مشروع مدارس بلا نفايات» في نطاق 63 مدرسة حكومية تم اختيارها على مستوى الدولة، وأطلقت وزارة التغير المناخي والبيئة خلال العام الجاري، بالتعاون مع برنامج إكسبو للمدارس، مبادرة برنامج سفراء المناخ لإعداد طلاب المدارس من جميع أنحاء دولة الإمارات وتدريبهم على تولي مسؤوليتهم البيئية المستقبلية من خلال خوض تجربة إجراء حوارات لمواجهة تحديات تغير المناخ مماثلة لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP28).
اهتمام عالميوحجز التعليم الأخضر مكانة جيدة ضمن الخطط الاستراتيجية التنموية للكثير من الدول حول العالم في ضوء الاهتمام المتزايد بالقضايا البيئية والحرص على إشراك الشباب في مواجهة تداعيات المناخ، وإتاحة الفرصة لهم ليمارسوا دورهم الحضاري في التصدي للظاهرة، وانعكس ذلك بشكل واضح في قيام الكثير من دول العالم بتضمين هذا النوع من التعليم في مناهجها الدراسية، على اختلاف المراحل التعليمية.
وقد أشارت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» إلى أن هناك حاجة لإجراء تحوّل سريع وجذري على جميع المستويات وفي العديد من جوانب حياتنا مع التعليم كوسيلة مركزية وقوية لدعم التكيّف وتعزيز مرونة الطلاب والمجتمعات، ولضمان أن تصبح أنظمة التعليم أكثر مرونة في مواجهة تغيّر المناخ لإنشاء مدارس آمنة ومقاوِمة للمناخ.
وأكدت منظمة اليونيسكو أنه من خلال «إطار الشراكة من أجل التعليم الأخضر» يمكن للمدرسة لعب دور مهم في التصدي «للقلق البيئي» الذي تشعر به الأجيال الشابة، مشيرة إلى دراسة أجرتها خلال العام 2021 على 100 منهج وطني للدول أظهرت أن نصفها فقط ذكر شيئاً متعلقاً بتغيّر المناخ، ولم يأتِ النصف الآخر على ذكر تغيّر المناخ.
المصدر: صحيفة الخليج
كلمات دلالية: فيديوهات الإمارات المناخ البيئة وزارة التربیة والتعلیم التغیر المناخی الأمم المتحدة دولة الإمارات الوعی البیئی الاستدامة فی بالتعاون مع هیئة البیئة التعلیم فی خلال العام فی مواجهة فی مختلف أکثر من من خلال
إقرأ أيضاً:
عاجل - التغير المناخي يهدد المعالم الأثرية.. كيف تحركت مصر في السنوات الأخيرة؟
أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تحليلًا جديدًا حول "تأثير تغير المناخ على التراث الثقافي والأثري" استعرض خلاله تأثير تغير المناخ على التراث الثقافي والأثري، وذلك من خلال التطرق لكيفية تأثير الظواهر المناخية المختلفة على المعالم الأثرية، ومدى اهتمام المجتمع الدولي والمنظمات الدولية بهذه القضية، وتحليل كيفية تهديد تغير المناخ والظواهر المصاحبة له للمناطق الأثرية على الصعيد العالمي.
وتطرق إلى تجربة مصر من خلال تناول التأثيرات المختلفة المهددة للتراث الثقافي والأثري المصري المتنوع، وكيف تعاملت الدولة مع تلك التهديدات، وما المناطق الأثرية التي تأثرت، وكيف تدخلت الحكومة لإنقاذها وحمايتها من تأثيرات تغير المناخ.
أشار التحليل إلى أن الأنشطة البشرية منذ القرن التاسع عشر أسفرت عن حدوث تغير غير مسبوق في درجات الحرارة؛ مما أدى للتأثير على أنماط الطقس والمناخ، وهو ما يعود سببه في بادئ الأمر إلى حرق الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز)، الذي يتولد عنه انبعاثات الغازات الدفيئة (مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرها من الغازات ذات الصلة)، مُسببًا ما يطلق عليه ظاهرة الاحتباس الحراري، والتي يترتب عليها ارتفاع درجة حرارة الأرض على نحو غير معتاد، وما يترتب عليها من ظواهر مناخية متطرفة مثل زيادة معدل هطول الأمطار، والفيضانات، وموجات الجفاف الحادة، وظاهرة ارتفاع مستوى سطح البحر، وحرائق الغابات، كما أنه يؤدي إلى تسارع وتيرة الظواهر المناخية الطبيعية مثل الأعاصير والانفجارات البركانية.
ومع تفاقم أزمة المناخ، التي تؤثر على حياة الملايين من البشر والكائنات الحية، يتضح أن تأثيرها لا يقتصر على ذلك فقط، بل امتدت عواقبه إلى التراث الثقافي، وخاصة المواقع الأثرية التاريخية.
تأثير تغير المناخ على التراث العالميوعن تأثير تغير المناخ على التراث العالمي، فقد أوضح التحليل أن هناك علاقة وثيقة بين استقرار التراث الثقافي والأثري، والنظام البيئي، فإذا كانت البيئة مستقرة لا تتعرض لتهديدات فإن التراث الثقافي في مأمن من التأثيرات المصاحبة، ولعل تغير المناخ والظواهر المناخية الحادة التي تصاحبه، تؤدي إلى تغيرات غير طبيعة في النظام البيئي والتأثير سلبًا على اتزان النظام الإيكولوجي، وهو ما ينعكس بصورة غير إيجابية على المواقع الأثرية، سواء الثابت منها أو المنقول أو تلك المدفونة تحت سطح الأرض، وبالتالي يكمن تأثير تغير المناخ على التراث العالمي في تعرض الأماكن الأثرية المكشوفة للظواهر المناخية في البيئة المحيطة بها، واحتمالية إصابتها بالتلف نتيجة للملوثات الناجمة عن الأنشطة البشرية المختلفة، وخاصة الأنشطة الصناعية الكبيرة، مما قد يؤدي إلى تآكل القشرة الخارجية للآثار، وخاصة في المباني الحجرية والمكونات الصخرية.
وعلى سبيل المثال، قد يؤثر التغير في معدل هطول الأمطار ومستويات المياه الجوفية ومعدل الرطوبة والطبيعة الكيمائية للتربة على البقايا الأثرية المدفونة تحت الأرض، فضلًا عن تأثير ارتفاع درجات الحرارة على المناطق القطبية وتسببها في ذوبان الجليد، وهو ما قد يؤول إلى حدوث الانهيارات الأرضية بسبب عدم استقرار باطن الأرض والتسبب في تلف المناطق الأثرية في بعض الأرجاء.
فقد البيانات المحفوظة على الأثركما تستعرض المناطق الأثرية القريبة من سطح البحر لخطر فقد البيانات المحفوظة على الأثر بفعل تأثير ظاهرة ارتفاع سطح الأرض التي ينتج عنها تآكل للشواطئ أو الغمر الدائم للمناطق الأثرية الواقعة في الأراضي المنخفضة، كما أنه يتسبب في زيادة نسبة ملوحة التربة الساحلية وتشبعها بالمياه الممزوجة بالأملاح في ظل تربة خالية من الأكسجين؛ مما قد يؤدي إلى فقدان سلامة تلك المناطق الأثرية وتآكلها.
بالإضافة إلى أن الفيضانات وزيادة معدل المياه قد يضر بمواد البناء الخاصة بالأثر، والتي لا تتحمل الرطوبة لفترات طويلة، إلى جانب احتمالية تلف الأسطح المزخرفة في المباني الأثرية بسبب زيادة معدل الرطوبة، ويمكن أن تؤدي زيادة غزارة الأمطار كذلك إلى فقدان أنظمة الصرف لقدرتها على استيعاب المياه، مما قد يتسبب في حدوث خلل في أنظمة مياه الأمطار وحدوث انقسامات وتشققات في الأثر، كما يمكن للحوادث المناخية المفاجئة، مثل الزلازل والعواصف وتباين درجات الحرارة، أن تؤدي إلى انقسام وتشقق وتقشير المواد والأسطح؛ مما يؤثر على المباني الأثرية الواقعة في المدن التاريخية المختلفة ويحدث أضرارا في هيكل المباني وجوهر ارتكازها.
تسريع عملية التدهور والتآكلوأفاد التحليل أن التغيرات المفاجئة في طبيعة التربة جراء الظواهر المصاحبة لتغير المناخ قد تُشكل تهديدًا كبيرًا على المعالم الأثرية المدفونة في باطن الأرض التي لم يتم اكتشافها بعد؛ نتيجة لإحداث خلل في التوازن الهيدرولوجي والكيميائي والبيولوجي للتربة التي تحفظ البقايا الأثرية لمئات وآلاف السنين، مما يتسبب في تسريع عملية التدهور والتآكل في المناطق الحساسة في الأثر.
وأشار التحليل إلى أن العلاقة بين ملف تغير المناخ والإرث الثقافي والأثري حظيت باعتراف دولي موسع بسبب مخاطرها المحتملة، ففي مؤتمر الأطراف COP 25 المقام في مدينة مدريد عام 2019، تمت الإشارة لقضية تأثير تغير المناخ على الإرث الثقافي بمختلف أنواعه، وأصبح تأثيره أكثر وضوحا في مؤتمرات الأطراف التي تلته، وفي مؤتمر الأطراف “COP 28” في ديسمبر 2023 ترأست دولة الإمارات العربية طاولة الحوار بشأن العمل المناخي القائم على الثقافة في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية، وتطرقت من خلاله إلى تناول ملف تغير المناخ من منظور واسع يتضمن التحديات الثقافية والبيئية والمالية والعلمية.
24 موقعًا أثريًّا تأثرو فعلياوأضاف التحليل أن الحراك العالمي للمحافظة على الإرث الثقافي يأتي كرد فعل على الخسائر والأضرار التي تعرضت لها المعالم التراثية فعليًّا، فجدير بالملاحظة أنه يوجد نحو 24 موقعًا أثريًّا تم الاعتراف بها من جانب منظمة اليونيسكو، متأثرين بتغير المناخ في قارة إفريقيا، حيث إنها تأتي في المرتبة الأولى كأكثر القارات التي تحتوي على مواقع تراث عالمي ومعرضة للتأثر بتقلبات المناخ، وفي المرتبة الثانية تأتي قارة أوروبا بنحو 21 موقعًا، وتليها قارة آسيا بقرابة 15 موقعًا.
واستعرض التحليل أهم الأمثلة على المناطق الأثرية المتضررة من تبعات المناخ وذلك على النحو التالي:
- مدينة البندقية (Venice): تلك المدينة التراثية الأيقونة في شمال إيطاليا، التي تبلغ مساحتها 118، جزيرة متصلة بقنوات مائية، إذ إنها تأسست في القرن الخامس، وتتسم بأنها تحفة معمارية من القصور والمباني التاريخية، وكانت دائمًا عُرضة لارتفاع منسوب سطح البحر والتهديد بالغرق بفعل التغيرات الطبيعية في سطح الأرض، إلا أن الظاهرة أصبحت أكثر تواترًا وحدة في السنوات الأخيرة بفعل تغير المناخ والظواهر المصاحبة له، مما شكل خطرًا كبيرًا على المدينة الأوروبية الشهيرة، وقد أفادت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) بأن المتوسط العالمي لمستوى سطح البحر قد ارتفع بين 0.1 متر و0.2 متر خلال القرن العشرين.
كما أنها تتوقع زيادة متوسط المنسوب العالمي بما يتراوح بين 0.09 و0.88 مترًا في الفترة ما بين عامي 1990 و2100، وبالفعل تأثرت البندقية من خلال فقدان جزء من ارتفاعها جراء الفيضانات التي تحدث بالمدينة، ومن المتوقع وفقًا للسيناريوهات المعتدلة لتغير المناخ أن تفقد المدنية 54 سم من ارتفاعها جراء الغمر بالماء بفعل تلك الحوادث.
- منطقة تشان تشان(Chan Chan): التي تقع شمال بيرو والمدرجة في قائمة التراث العالمي باليونسكو عام 1982 و1983 تأثرت بالتغير في وتيرة ظاهرة النينيو الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ، والتي تسببت في هطول الأمطار الغزيرة والفيضان الجزئي في المنطقة الأثرية الطينية الهشة، وألحقت الضرر بقاعدة الهياكل المعمارية الطينية بالمنطقة، وجدير بالملاحظة أن الخسائر الاقتصادية العالمية الناجمة عن ظاهرة النينيو خلال تلك الحقبة تم تقديرها من جانب البنك الدولي بنحو 14 مليار دولار أمريكي، وكان نصيب "بيرو" من تلك الخسائر ما يقارب مليار دولار أمريكي.
- كهوف موجاو (Mogao Caves): تقع الكهوف المدرجة ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي في "دونهوانغ" شمال غرب الصين، حيث تتعرض الأعمال والنقوش الفنية العتيقة في المنطقة لظواهر جوية متضاربة بشكل مستمر نتيجة لتغير المناخ، مثل ارتفاع الحرارة والرطوبة والأمطار الغزيرة بشكل مفاجئ وغير معتاد، مما يمثل تهديدا صريحا للمنطقة التاريخية.
جهود مصرية لا تتوقف للحفاظ على التراثوأشار التحليل إلى أن التاريخ المصري وما يتضمنه من معالم أثرية على مر العصور يُعد من أهم ركائز التراث الثقافي العالمي، مضيفًا أن مصر تمتلك حضارة تاريخية عريقة وإرثًا ثقافيًا فريدًا بداية من العصور الفرعونية حتى التاريخ المعاصر، ومع وضوح تأثيرات تغير المناخ على مختلف القطاعات -ومن ضمنها التراث الثقافي والحضاري للدولة-، فقد بذلت الحكومة المصرية جهودًا حثيثة لتسليط الضوء على قضية تأثير تغير المناخ على الآثار المصرية على الصعيد الدولي، وهو ما ظهر جليًّا على مستوى الخطط والاستراتيجيات وبرامج العمل الوطنية.
وركزت على أهمية "الحفاظ على التراث التاريخي والثقافي من الآثار السلبية لتغير المناخ" كأحد توجهات الهدف الثاني في الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر 2050، الذي ينص على "بنـاء المرونـة والقـدرة علـى التكيـف مـع تغيـر المنـاخ وتخفيف الآثار السلبية المرتبطة بتغيـر المنـاخ"، عن طريق تحديد عدة مسارات، ومنها تقليل الخسائر والأضرار التي تمس أصول الدولة والحفاظ عليها من تغير المناخ، ومن أهم هذه الأصول إرث الدولة الثقافي.
وأضاف التحليل أنه على هامش استضافتها لمؤتمر قمة المناخ (COP 27) بمدينة شرم الشيخ، أطلقت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (ICESCO) بالشراكة مع وزارة السياحة والآثار مبادرة إنشاء صندوق حماية المواقع التراثية والمتاحف من أضرار التغيرات المناخية، مما عزز من التزام مصر بمكافحة تأثير تغير المناخ على إرثها الثقافي؛ إذ يعمل الصندوق على تحقيق عدة أهداف، وهي دراسة واقع تأثير تغير المناخ على المناطق الأثرية والمتاحف، والبحث عن فرص تمويلية لصياغة خطط حماية الآثار.
ووضعت وزارة السياحة والآثار هدفًا رئيسًا متمثلًا في "الحفاظ على التوازن البيئي واستدامة نشاط السياحة والآثار" كأحد أهداف الوزارة الاستراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة في إطار رؤية مصر 2030، وهو ما ترجمته الوزارة بالعديد من البرامج والمشروعات التي تنهض باتجاه الحفاظ على استدامة المعالم الأثرية، وحفظها من تأثيرات تغير المناخ، ولعل من أبرز تلك المشروعات: (ترميم صالة الأعمدة الكبرى بمعابد الكرنك - مشروع خفض منسوب المياه الجوفية في مقابر كوم الشقافة - مشروع ترميم وتطوير معبد دندرة).
حماية الآثار المصريةولا يقتصر تنفيذ مشاريع حماية الآثار المصرية من العوامل الناتجة عن ظواهر تغير المناخ على وزارة السياحة والآثار فقط، بل تتشارك الوزارات الأخرى المعنية في تلك المشروعات، فقد قامت وزارة الموارد المائية والري بتنفيذ عدة مشروعات بهدف التكيف مع ظواهر تغير المناخ، ويتم تطبيقها تحت شعار حماية الشواطئ المصرية من ظاهرة ارتفاع مستوى سطح البحر الناتج عن الاحترار العالمي وما يتسبب به من تبعات ومشاكل بيئية تُهدد المناطق الساحلية المصرية مثل "النوات" - ظاهرة مناخية تحدث في فصل الشتاء في المناطق الساحلية تصحبها رياح شديدة وأمطار غزيرة وعواصف رعدية - الساحلية وتآكل الشواطئ وتملح الأراضي ومشاكل النحر.
ولعل أبرز تلك المشروعات: (حماية قلعة قايتباي والمنتزه من خطر "النحر" الناجم عن الأمواج العالية في أوقات النوات والتقلبات الجوية - حماية مدينة رأس البر التاريخية ضمن مشروع حماية سواحل محافظة دمياط - مشروع خفض مناسيب المياه الجوفية بمنطقة "أبو مينا" الأثرية بالإسكندرية والتي تم تسجيلها على قائمة التراث العالمي لليونسكو في عام 1979 وتعد المنطقة الوحيدة المدرجة في القائمة بالإسكندرية ويتضمن المشروع إنشاء خطوط صرف للمياه لتخضع لعملية التطهير بصفة دورية وتحديث منظومة التحكم الإلكتروميكانيكية).
أفاد التحليل أن الإجراءات الوقائية التي اتخذتها الحكومة لا غنى عنها لأجل ضمان سلامة المعالم الأثرية المصرية وحمايتها من المخاطر التي تهددها، سواء ارتبطت بالمناخ أو العوامل الجغرافية الأخرى.
توصية بإنشاء وحدات بحثوأوضح التقرير في ختامه أنه من الضروري زيادة رصد تأثير الظواهر المصاحبة لتغير المناخ على المعالم الأثرية المختلفة عن طريق إنشاء وحدات بحث ومتابعة مختصة لإيجاد حلول لتقليل الضرر وبناء القدرة على التكيف، وضمان سرعة التدخل من جانب أجهزة الدولة وتنفيذ شراكات مع المنظمات الدولية المعنية، ومع كفاءة المشاريع القائمة، لا تزال هنالك المزيد من الحاجة لمضاعفة الجهود لضمان الحفاظ على سلامة الإرث الحضاري المصري.