أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
الوضع الأوروبي ليس بخير. زاد تعقيدا في السنوات الأخيرة. لم تعد لأوروبا أية مبادرة بعد غرقها في حرب لا شي من ورائها إلا التهيؤ لانهيار أوروبي مدوي يرتسم في الأفق، ولا قوة تنتشله من هذه الوضعية إلا العودة إلى المنطلق الأول، منطق الحوار والجنوح نحو السلم. في ظل الهيمنة الأمريكية الكلية، تراجعت أوروبا فكريا أيضا، بعد أن أصبح الإعلاميون المرتبطون بمؤسستهم يسطرون كل شيء، وغاب كليا المثقف الخالق للتوازن المجتمعي.

وليست العنصرية المستشرية إلا الامتداد الطبيعي لفكر أصبح لا شغل له إلا العربي، الإفريقي، الذي حول إلى بعبع مدمر. الجرائم العنصرية الأخيرة تدفعنا إلى بعض التأمل. فالمشكلة أصبحت كبيرة ورائحة عفنها تزكم الأنوف. قتل شاب على مرأى من كاميرات المراقبة في نانتير، في فرنسا يدفع إلى تساؤلات كثيرة. إلى أين تتجه أوروبا؟ هل أصبحت نظرية رونو كامو ” الإبدال الكبير” هي الشيء الوحيد المتاح؟ الا تخدم هذه التصورات اليمين المتطرف الذي سيكون حاضرا بقوة في الانتخابات القادمة في فرنسا مثلا؟ لقد استبيح الجسد الغريب الذي ليس غريبا إلى هذا الحد بشكل كبير حتى أصبح تدميره أمرا مشروعا، أمام جبن النخب التي أصبحت تسير وفق معطيات أحادية وفي نفس المسلك. من يتأمل خطابات بعض القنوات التليفزيونية الأوروبية والفرنسية على وجه الخصوص يتساءل إلى أين تسير بنا هذه الخطابات الخطيرة؟ وإلى أي مآل تنتهي بمن يسمعها؟ الجريمة الأخيرة الموصوفة والممارسة عن سبق إصار وترصد تعيدنا إلى الخطابات العنصرية المعلنة التي أصبحت لا حدث مع أن القانون يعاقب عليها بصرامة سابقا. إهانة البرلمانية ذات البشرة السمراء، على قناة تليفزيونية فرنسية من طرف إيريك زمور وأشباهه، لا يمكن إلا أن يقود إلى جرائم تعتمد الخطاب ضمنيا وتتجاوزه باتجاه المرور إلى الفعل، الذي لا يمكن وصفه إلا بالجريمة الإرهابية.

العنصرية جريمة قاتلة عندما تستبيح المختلف في الخطاب اليومي والمتكرر، دون أدنى عقاب. الخطاب العنصري هو العتبة الأولى للجريمة العنصرية. كلما اتسعت في غياب كلي للآليات التي تحد من اتساعها، تفتح جرحا جديدا في جسد المجتمع. بل وتدفع به إلى الهاوية. وإذا كانت هناك من نقطة إيجابية هي أنها تكشف عن عمق المرض المترسب في المجتمع. يذكر ذلك بمعادة السامية الذي ظهر في القرن التاسع عشر الجبن العام هو الذي قاد إبان الحرب العالمية الثانية إلى الانهيار الكلي والخطير. وتتطور الحالة على مطاردة الأجنبي حتى لو ولد في الوطن وخدمه أهله طويلا. قد تبد الصورة بعيدة لكن كل ما هو بعيد يقترب أو يندثر بحسب التعامل معه. تعامل العشريتين الأخيرتين بهذه الحدة العنصرية أدى إلى ارتكاب الجريمة بشكل معلن وصاحبه لا يخفيه. المغتال اليوم كرديا، في المركز الثقافي الكردي، نتمنى ألا ينتهي القضاء إلى اتهام المجرم وليام (69 سنة) بالجنون من خلال تصريح الطبيب المختص الذي فحصه؟ حينما اعتبر الجاني غير قابل للحجز القضائي، وتم اقتياده من هناك إلى مصحة نفسية باعتبار كرهه للأجانب حالة باتولوجية مرضية: قبل انتحاري كانت لدي رغبة دائمة لقتل المغتربين الأجانب.” واعترف أنه يوم الجمعة أخذ معه مسدسه الأوتوماتيكي كولت 45، وذهب إلى منطقة سان-دوني لكنه تراجع عن جريمته. قبل أن يتوجه إلى شارع أنغان في الدائرة العاشرة، نحو مركز ثقافي كردي، مصمما على إفراغ كل الخراطيش التي أخذها معه، والانتحار بعدها، لكن هجم عليه الناس وأوقفوه قبل انتحاره، في صالون حلاقة. وقد انجر على البحث عن مبررات الجنون للقاتل، حركات احتجاجية عنيفة وعلى رأسها المجلس الديمقراطي للأكراد في فرنسا، ضد الشرطة.

في ظل هذه الأوضاع الخطيرة والأحقاد العمياء، التي تتطور بشكل متسارع، والمدمر للنسيج الوطني، نتساءل: إلى أين تتجه فرنسا واوروبا؟ أين صوت النخب الديمقراطية؟ تحتاج هذه النخب الأوروبية اليوم إلى إعادة النظر في مشاريع القرن التاسع عشر والعشرين التي انجبت المثقف الملتزم بقضايا عصره والمنخرط فيها بقوة. لأن المهمة صعبة وما يقع في المحيط ثقيلا جدا ويحتاج إلى قوة تتشكل من أفراد فاعلين يستطيعون ليس فقط التفكير في القادم المعقد جدا في ظل الأزمات العاصفة، ولكن أيضا نقد ممارسات الماضي. العنصرية مرض العصر ليست أمرا سهلا بل ابتذلت حتى أصبحت أو تكاد أن تتحول إلى أمر عادي. وينشئ المتطرفون مقابلها ما أسموه بالعنصرية ضد الرجل الأبيض وهو كلام لا يستقيم في النهاية، يستعمل فقط لإراحة ضمير يهتز كل يوم قليلا. مثبتا هزاله وضعفه الكبيرين. لأن المسألة أصبحت مثل المارد الذي خرج من قمقمه ولما نعود إلى التاريخ نرى مثل هذه الأمراض تنتعش في ظل الأزمات الكبرى عندما تفشل النخب في إيجاد حلولها الحقيقية فتلصق التهمة في الآخر الجالب لكل الأمراض بما في ذلك الأمراض الجسمانية المرتبطة بالوافد المتخلف. نحتاج اليوم بقوة إلى إميل زولا جديد يصطف بجانب الحق كما فعل مع دريفوس في نهايات القرن التاسع عشر، ضد آلة أيديولوجية جهنمية، ومصطفة وراء اللاَّحَقْ. لأن الحق هو التاريخ. رسالته العظيمة: إني اتهم J’accuse ما تزال إلى اليوم تطن في الآذان، على الرغم من مرور أكثر من قرن عليها. من المؤكد أن ما تقوله الخطابات العنصرية يجد اليوم من يتلقاه في ساحة كل يوم تقضم شيئا من نور أوروبا وتنوعها الثقافي لحساب أحادية مقيتة تنظر إلى المسلم ككائن غير أرضي، ينتمي إلى حضارة دنيا، قادم من مجرة أخرى لا شغل لها إلا تدمير الحضارة الغربية؟ ومن المؤكد أيضا أن جُمَلا عنصرية هاربة من هنا وهناك، في ظل أزمة خانقة يعيشها الأوروبيون بكل أطيافهم وأديانهم بصعوبة وقسوة، يمكنها أن تتحول إلى حقد يتنامي في هدوء وسكينة ليصبح في النهاية عنفا يصعب التحكم فيه بسهولة. فعقلية التقسيمات الحضارية بهذا الشكل لا يمكنها إلا أن ترجع الكثير من الاوروبيين إلى زمن يتم فيه الحكم على الناس وفق علامات أوجههم، وثقافتهم، ولغاتهم ودياناتهم، وليس وفق ما يمكن أن يمنحوه للمجتمع الفرنسي من غنى وإسهام في التطور. المؤكد أيضا أن الاوروبيين الذين اكتووا بنار النازية واللاسامية، والعنصرية المقيتة، سيحاربون بقوة، مثل هذه الأفكار التي تغلّب المصلحة السياسوية الضيقة، المرتبطة بظرفية انتخابية طارئة، على حساب الوحدة، واللحمة التي تكونت عبر القرون، وكان ثمنها باهظا.

إن العنصرية مثل الوباء في ظل الأزمات الكبرى، تنتشر كالنار في الهشيم. لتصبح في الدول الأوروبية التي كانت إلى وقت قريب مسالمة: هولندا والدانمرك والسويد وسويسرا والنرويج وغيرها مرضا مستعصيا ينميه المحافظون الوطنيون، ومكانا لانتشار الوباء ضد الأجنبي المخالف عرقيا ودينيا، وربما كان العربي والمسلم هو الضحية المثلى في ظل الأزمات والأفعال الإرهابية التي كان ضحيتها هو قبل غيره، مثلما كان اليهودي في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، ضحية زمانه، فألصقت به كل تهم الدنيا، وقيس شعب ودين بكامله، من خلال ممارسات الأقلية الباهتة. مشكلة العنصرية هي أنها مثل المارد الذي يظل محجوزا في قمقمه، لكنه عندما يخرج يصبح تدميريا وتصعب مراقبته. يجب أن تدفع جريمة العنصرية بنا كتابا ومثقفين وناسا عاديين إلى التأمل والتفكير لأن المستقبل ينبئ بفظاعات أكبر. يجب أن توقظ فينا الحالة حواسنا المقتولة بالإعلام المظلل في أغلبه الأعم، وتدفع بمنظّري النقاء العرقي الجدد، إلى إعادة النظر في أطروحاتهم، وأنهم يعودون بالبشرية إلى الخلف، أي إلى أوبئتها القديمة؟ أوبئة مقولات العنصرية التي بدأت تنتشر بدون أن يكون للقانون ردة فعل ردعية حقيقية.

السبل والمخارج كثيرة، ولكني على يقين من أنّ أوروبا اليوم في حاجة، لتفادي كارثة أخرى تلوح في الأفق شبيهة بالهولوكست، إلى رديف للمجلة البيضاء La revue Blanche التي كان يكتب فيها الكثير من المثقفين والفنانين والتشكيليين، والموسيقيين والسياسيين، والكتاب الذين لعبوا دورا عالميا حاسما في تمييل القضية نحو احترام الإنسان وجدارته بالعيش حرا في المجتمع المتعدد الذي ينتمي إليه. فقد كانت فضاء للنقاش الحر إذ ضمت في صفوفها كل المتعطشين إلى الحرية والعدالة من فوضويين Les Anarchistes واشتراكيين ومناصري حقوق الإنسان الذين رفضوا في زمانهم جرائم الإبادة في أرمينيا، وأدانوا البربرية الأوروبية في حروبها الاستعمارية، كما نشروا هجاءات Pamphlets تولستوي ونتشه وشتنير Steiner وغيرهم ضد عصرهم القاسي.

إنّ الإنسانية تحتاج اليوم إلى أوروبا أخرى غير تلك المتصفة بالأنانية، الضيقة الرؤية ومحدودية الأفق، التي بدأت تترسخ للأسف، لتعيد إنتاج العنصرية نفسها بأنياب أكثر شراسة، وضحية هذه المرة عدو آخر، ذنبه الوحيد أنه عربي وربما مسلم، وتدفع بالمواطنة التي هي رهان حقيقي في الانتماء الفردي للجماعة، إلى الانزلاق إلى الرتبة العاشرة لتفقد قيمتها كإسمنت اجتماعي حقيقي يوحّد أبناء الأمة بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم وقناعاتهم السياسية والفكرية. لا بديل عن المواطنة الحقة لتجاوز معضلات هذا الزمن الذي يهيئ لحرب مدمرة قد تفني العنصر البشري والحياة كلها. المواطنة هي التساوي في الحقوق والواجبات من أجل بناء مجتمع جديد، إذا غابت غاب معها المجتمع كليا وغاب نسيجه ووحدته. البحث في منافسة التطرف في أفكاره لا يقود المجتمعات الأوروبية إلا إلى المزيد من الانهيار.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: التاسع عشر

إقرأ أيضاً:

“التجارة” توضح الحالات التي يحق للمستهلك فيها الحصول على سيارة بديلة

المناطق_واس

أوضحت وزارة التجارة الحالات التي يحق للمستهلك عند حدوثها الحصول على سيارة بديلة.

وأفاد المتحدث الرسمي للوزارة عبدالرحمن الحسين أنه يحق للمستهلك الحصول على سيارة بديلة خلال فترة الصيانة في ثلاث حالات: الأولى أن تكون السيارة مشمولة بالضمان أما ثاني تلك الحالات إذا لم يوفر الوكيل قطع الغيار أو ذات الطلب النادر لمدة تتجاوز 14 يومًا، فيما تكون الحالة الثالثة في حال أن الوكيل لم يلتزم بالموعد المتفق عليه لتقديم خدمات الصيانة.

أخبار قد تهمك جامعة الملك عبدالعزيز تناقش سبل التعاون مع “مانشستر متروبوليتان” البريطانية 16 يناير 2025 - 4:33 مساءً مدير عام الجوازات يتفقد سير العمل في جوازات مطار الملك عبدالعزيز بجدة 16 يناير 2025 - 3:56 مساءً

ودعا المستهلك في حال تعرضه لتلك الحالات الثلاث المطالبة بسيارة بديلة أو تعويضه بمبلغ مالي يعادل (قيمة السيارة مقسومة 400 مضروب في عدد أيام التأخير).

وأكد متابعة الوزارة التزام الوكالات بتطبيق أحكام اللائحة التنفيذية لنظام الوكالات التجارية بما ينسجم مع أحكام نظام الوكالات التجارية ويضمن حفظ حقوق المستهلك.

يذكر أن وزارة التجارة تتلقى شكاوى وبلاغات المستهلكين عبر تطبيق “بلاغ تجاري” أو عن طريق مركز البلاغات على الرقم 1900 .

نسخ الرابط تم نسخ الرابط 16 يناير 2025 - 4:36 مساءً شاركها فيسبوك ‫X لينكدإن ماسنجر ماسنجر أقرأ التالي أبرز المواد16 يناير 2025 - 3:52 مساءًوزارة الداخلية توقّع مذكرة تعاون في مجال التعاون المشترك والتكامل في المجال الإعلامي أبرز المواد16 يناير 2025 - 3:51 مساءًالدفاع المدني يستعرض جهوده في مجال العمل التطوعي في مؤتمر ومعرض الحج بجدة أبرز المواد16 يناير 2025 - 3:46 مساءًأمير الباحة يطلع على تقارير العمل التطوعي بالمنطقة خلال العام 2024 أبرز المواد16 يناير 2025 - 3:44 مساءًلأول مرة في العالم.. “التخصصي” يزرع مضخة قلب اصطناعية بدون شق الصدر باستخدام الروبوت أبرز المواد16 يناير 2025 - 3:42 مساءًوزير الخارجية يلتقي رئيس البرلمان ورئيس مجلس النواب في مملكة تايلند16 يناير 2025 - 3:52 مساءًوزارة الداخلية توقّع مذكرة تعاون في مجال التعاون المشترك والتكامل في المجال الإعلامي16 يناير 2025 - 3:51 مساءًالدفاع المدني يستعرض جهوده في مجال العمل التطوعي في مؤتمر ومعرض الحج بجدة16 يناير 2025 - 3:46 مساءًأمير الباحة يطلع على تقارير العمل التطوعي بالمنطقة خلال العام 202416 يناير 2025 - 3:44 مساءًلأول مرة في العالم.. “التخصصي” يزرع مضخة قلب اصطناعية بدون شق الصدر باستخدام الروبوت16 يناير 2025 - 3:42 مساءًوزير الخارجية يلتقي رئيس البرلمان ورئيس مجلس النواب في مملكة تايلند جامعة الملك عبدالعزيز تناقش سبل التعاون مع "مانشستر متروبوليتان" البريطانية جامعة الملك عبدالعزيز تناقش سبل التعاون مع "مانشستر متروبوليتان" البريطانية تابعنا على تويتـــــرTweets by AlMnatiq تابعنا على فيسبوك تابعنا على فيسبوكالأكثر مشاهدة الفوائد الاجتماعية للإسكان التعاوني 4 أغسطس 2022 - 11:10 مساءً بث مباشر مباراة الهلال وريال مدريد بكأس العالم للأندية 11 فبراير 2023 - 1:45 مساءً اليوم.. “حساب المواطن” يبدأ في صرف مستحقات المستفيدين من الدعم لدفعة يناير الجاري 10 يناير 2023 - 8:12 صباحًا جميع الحقوق محفوظة لجوال وصحيفة المناطق © حقوق النشر 2025   |   تطوير سيكيور هوست | مُستضاف بفخر لدى سيكيورهوستفيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق البحث عن: فيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب إغلاق بحث عن إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • صنع في تركيا: “أوكهان” المركبة البحرية التي تستعد لغزو الأسواق العالمية
  • ما الرسائل التي ارادت “صنعاء” ايصالها لـ”احتلال” و”الفلسطينيين” على السواء
  • شاهد مقطع فيديو للطيار الحربي الذي تمكن من إدخال صاروخ في نفق ضيق كان يتمركز تحته “الدعامة” وبسببه تم تحرير مدني
  • “التجارة” توضح الحالات التي يحق للمستهلك فيها الحصول على سيارة بديلة
  • “الشهري” يكشف عن أهم العوامل التي تسبب نقص هرمون الذكورة.. فيديو
  • احتفالات في غزة على أصداء “القصف الإسرائيلي” الذي لم يتوقف بعد 
  • “التجربة التي وثبت بالعطاء ومهدت لولوج ايقونات فنية تخصصت بالإبداع وحده”
  • المرتضى يعلن تحرير الأسير “البحري” ويستنكر التعذيب الذي تعرض له في سجون “الإصلاح”
  • عمر أبو رصاع يكتب .. ما الذي يعنيه سالم الفلاحات ؟
  • “فصل جديد”.. رئيس الحكومة اللبنانية المكلف يتحدث عن التحديات التي تواجهها البلاد