الجزيرة:
2024-12-27@10:20:09 GMT

نظرية المؤامرة بين الأنظمة العربية وشعوبها

تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT

نظرية المؤامرة بين الأنظمة العربية وشعوبها

لم تكن الدول العربية بمنأى عن النظريات التآمرية، على المستويين الرسمي والشعبي، فعلى مرّ التاريخ الحديث بعد التحرر من الاستعمار الغربي، تعلن الدول العربية لشعوبها من حين لآخر عن خطط تآمرية تحيكها قوى خارجية بالتعاون مع أطراف داخلية لضرب مصالحها وزعزعة استقرارها. وتستمر الأنظمة الحاكمة في هذه الدول في تغذية النظريات التآمرية التي تقدّمها لشعوبها إلى أن تعشش في أدمغتهم، وتصبح عند الأغلبية العظمى منهم بمثابة الحقيقة التي لا يساورها أدنى شك.

في المقابل تبدأ الأقلية النخبوية والدوائر المتأثرة بها في تتبع ما يصلها من معلومات وآراء متناثرة مهزوزة، وتقدّم تفسيراتها التآمرية الخاصة -والمتناقضة أحيانا- للمؤامرات التي تسوقها الأنظمة الحاكمة من أجل تبرير ممارساتها وأدائها وهزائمها وفشلها وخططها الجديدة ومشروعاتها الداخلية أو الخارجية. ويؤدي هذا التعارض بين النظريات التآمرية للأنظمة الحاكمة من جهة، والأقلية الشعبية النخبوية من جهة أخرى، إلى نتائج كارثية تتفاوت في حدتها وآثارها تبعا لحجم ردود الفعل الصادرة عن الجهتين. وتتوالى السنوات والعقود لتدفن في طياتها حقيقة المعلومات التي تكمن وراء هذه النظريات وتلك التفسيرات.

نجحت الخطة التآمرية الناصرية في تثوير عواطف الشارع العربي، وتدجين كيانه الشعبي، وتخديره تخديرا شاملا لا يسمح له برؤية التضليل والخداع الذي يتعرض له

 

بسبب الحالة الشمولية الاستبدادية التي تهيمن على الأنظمة العربية، وما يترتب على هذه الحالة من مِلْكية مطلقة للدولة، وغياب للشفافية، واحتكار للمعلومات، ومصادرة للحريات، لا نحتاج إلى جهد كبير للعثور على أمثلة من الواقع العربي تدلل على حالة النظرية التآمرية الرسمية والتفسير التآمري المضاد، ونكتفي في هذا المقام بتناول المثالين التاليين:

النظرية التآمرية الناصرية

منذ أن استولى الجيش المصري على السلطة في يوليو/تموز 1952، تبنى النظام الشمولي الاستبدادي الحاكم برئاسة الراحل جمال عبد الناصر النظام الاشتراكي، وانضم للمعسكر الشرقي آنذاك بقيادة الاتحاد السوفياتي. ونظرا للموقف العربي الديني العام الرافض للشيوعية الملحدة، تبنى النظام خطة طموحة لتعزيز السلطة وبسط الهيمنة وتعميم النموذج السياسي، تقوم على فكرة تحرير الدول العربية من الاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والعمل على إسقاط الأنظمة الملكية الرجعية المتخلفة الحليفة للاستعمار، وتحرير الشعوب العربية، وتحرير فلسطين والقضاء على العدو الصهيوني، حسب التعبيرات المستخدمة حينها. وتجسدت هذه الفكرة في العديد من الشعارات والأغاني والفعاليات الجماهيرية، والتغطيات الدرامية والإعلامية، والتشكيلات التنظيمية في المدارس والجامعات، وتقودها جميعا الأجهزة الأمنية القمعية المتوحشة.

نجحت هذه الخطة التآمرية في صناعة كيانين: الأول الزعيم القومي الأوحد متمثلا في شخصية الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أصبح أمل الأمة العربية على امتداد دول الهلال العربي الخصيب (العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن) والمغرب العربي ما عدا المغرب (ليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا)، إضافة إلى السودان واليمن. أما الكيان الثاني الذي تمت صناعته فهو العدو المتمثل في الاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والأنظمة الرجعية المتحالفة معها، وتضم دول مجلس التعاون الخليجي والمغرب والأردن.

كما نجحت هذه الخطة في تثوير عواطف الشارع العربي، وتدجين كيانه الشعبي، وتخديره تخديرا شاملا لا يسمح له برؤية التضليل والخداع الذي يتعرض له، ولا برؤية الاستبداد والفساد الذي يمارسه النظام، ولا بوحشية الاضطهاد والبطش الذي يقوم به ضد معارضيه.

وفي المقابل، عملت هذه الدول (الرجعية) والنخب المعارضة للمد الاشتراكي، بما فيها التيارات الإسلامية، على تقديم تفسيرها الخاص لما يقوم به النظام الناصري في مصر والدول العربية الموالية له، باعتباره الخطر الداهم والشر الأكبر الذي يتربص بالأمة والعميل للاتحاد السوفياتي، الذي يعمل على نشر الشيوعية ويحارب الدين الإسلامي. ومع ذلك لم تكن النخب المعارضة للمدّ الناصري تجرؤ على الجهر بموقفها في الدول الموالية له، نظرًا للقبضة الأمنية الحديدية التي تتربص بهم.

وتوالت السنوات على هذه الحال حتى وقعت هزيمة الناصرية الكبرى على يد قوات الكيان الصهيوني في نكسة يونيو/حزيران 1967، وتبخرت الوعود القومية، وانهارت الآمال العربية الشعبية، وتكشفت بشاعة الممارسات التي كان يقوم بها النظام في شتى المجالات، وبشاعة الخلل الموجود في بنية الدولة ومؤسساتها، وبشاعة التقصير في حق الشعب المخدوع الذي كان أغلى ما يملكه هو الحناجر الرنانة التي لا يبح صوتها من طول الهتاف للزعيم الأوحد. وبعد وفاة جمال عبد الناصر الغامضة في سبتمبر/أيلول 1970، ساهمت الجهود التي قام بها نظام خلفه الراحل أنور السادات في زيادة فضح النظام الناصري بصورة لم تكن تخطر ببال الجماهير الحاشدة، التي خرجت تهتف بعد إعلانه التنحي عن الحكم في أعقاب هزيمة 1967.

ذهب عبد الناصر، وانهارت الناصرية، وسقطت نظرية المؤامرة بانتقال مصر إلى المعسكر الغربي، وتوقيع اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني عام 1978، واستعادة العلاقات مع الدول العربية (الرجعية)، لتبدأ نظرية مؤامرة جديدة لتسويغ زيارة السادات إلى دولة الاحتلال الصهيوني، والدخول في تطبيع شامل معها.

 

دخلت المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي في أتون صراعات دامية وأزمات متشابكة، لا يبدو لها نهاية قريبة حتى الآن، وتطايرت شعارات الثورة، وتحطمت أهدافها وتهاوت تحت أكوام الدمار وجثث القتلى، لتفتح الباب واسعًا أمام نظريات تآمرية جديدة تبحث عن تفسيرات مقنعة لما حدث

الربيع الحائر

فجأة ودون سابق إنذار، اندلعت في المنطقة العربية ما يعرف بـ"ثورات الربيع العربي"، انطلاقا من تونس أواخر عام 2010، ثم مصر واليمن وليبيا وسوريا في ما بين شهري يناير/كانون الثاني ومارس/آذار 2011. وإن كانت هذه الثورات قد أطاحت بالأنظمة السياسية لأربع دول من هذه الدول الخمس سوى سوريا، إلا أن بقية الدول العربية لم تسلم من تداعياتها بشكل أو بآخر.

وأمام هذا الحدث المفاجئ، كان على الأنظمة العربية أن تقدم تفسير هذا الحدث، والتحرك العاجل لمواجهة تداعياته التي تهدد كياناتها بالانهيار، فلجأت في البداية إلى نظرية المؤامرة، واتهام المتظاهرين بأنهم يعملون لأجندة خارجية تديرها الاستخبارات الأميركية. ومع تسارع الأحداث، وتشابك التحركات، وضبابية المعلومات، وتعدد الأطراف والأدوار، تفاوتت ردود الفعل، فسارعت بعض الدول إلى احتواء الحدث، وسارعت أخرى إلى تصعيد العنف، في حين تهاوت الأنظمة الحاكمة بشكل درامي في أربع دول خلال أيام وأسابيع قليلة في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا.

وفي المقابل، كان على الطرف الثائر أن يقدم نظريته المضادة التي تفسّر قيامه بالثورة، والانتقال بها من المطالبة بإصلاح النظام إلى الإصرار على إسقاط النظام.

وكما تمرّ أيام فصل الربيع سراعا، فقد مضت أيام الربيع العربي كذلك سراعا، لتدخل المنطقة بعدها في أتون صراعات دامية وأزمات متشابكة لا يبدو لها نهاية قريبة حتى الآن، وتطايرت شعارات الثورة، وتحطمت أهدافها وتهاوت تحت أكوام الدمار وجثث القتلى، ولتفتح الباب واسعا أمام نظريات تآمرية جديدة تبحث عن تفسيرات مقنعة لما حدث، فمن مؤامرة في مصر إلى أخرى في اليمن إلى ثالثة في ليبيا، وأخيرا في تونس، وجميعها تلتقي في نقطة واحدة، وهي القضاء على نجاحات ثورات الربيع العربي عن طريق ما يُعرف بالثورات المضادة. أما في سوريا، فكانت الأكثر تعقيدا بين بقية الدول.

أسئلة كثيرة مطروحة ساهمت إجاباتها الافتراضية في تشكيل النظرية التآمرية في ظل غياب المعلومات، وأمام هذا التشابك في الأطراف والتصادم في المصالح الداخلية والخارجية، وعلى رأس هذه الأسئلة:

من وراء ثورات الربيع العربي؟ لماذا فشلت الثورات في الدول التي سقطت أنظمتها القديمة؟ لماذا لم يحمِ الغرب الديمقراطي التجارب الديمقراطية الوليدة التي تلتقي مع مبادئه وقيمه على حد زعمه؟ لماذا يصمت الغرب الديمقراطي إزاء الانتهاكات الإنسانية التي تعرّض لها نشطاء ثورات الربيع العربي؟ لماذا لم يقاطع الغرب الديمقراطي الأنظمة الانقلابية على الديمقراطية الوليدة؟ لماذا لم يمنع الغرب الديمقراطي التدخلات الإقليمية العسكرية والمالية في دول الربيع العربي؟ ولماذا عجز الشباب حتى الآن عن القيام مرة أخرى بما سبق أن نجح فيه أيام الربيع العربي مع التشابه الشديد بين الظروف الأمنية القائمة حاليا وما كانت عليه آنذاك؟

ولا تزال قلة المعلومات تقف عائقا أمام وضع تفسير مقنع لما حدث، تاركة فوضى التخمينات تهيمن على المشهد، وتقدم قراءاتها المختلفة حسب النقطة التي تبدأ منها، فالبعض يبدأ في قراءة تاريخ الحدث من ثورة الياسمين التونسية، والبعض يعود إلى أبعد من ذلك ليربطها بالحرب على الإرهاب، وآخر يظل حائرا مترددا بين الوهم الذي تولّد في صدره فجأة لتغيير الواقع السياسي القائم إلى الأفضل، وبين الهزيمة المطبقة التي تعيشها المنطقة ولا تسمح لها بالحركة إلا ضمن خطوات محسوبة بدقة وتحت رقابة مشددة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الدول العربیة عبد الناصر

إقرأ أيضاً:

لماذا غابت مصر عن المشهد السوري وأخذت موقفا عدائيا رغم الحضور العربي؟

يتواصل وصول وفود عربية وغير عربية لزيارة دمشق واللقاء مع الإدارة الجديدة، وذلك بجانب اتصالات تجري على مستوى وزارات الخارجية، لكن ظلت مصر غائبة عن المشهد واكتفت باتصال مع أطراف عديدة عبر وزير خارجيتها.

وفي الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، سيطرت الفصائل السورية على العاصمة دمشق وقبلها على مدن أخرى، مع انسحاب قوات النظام من المؤسسات العامة والشوارع، لينتهي بذلك عهد دام 61 عاما من حكم نظام "حزب البعث" و53 سنة من حكم عائلة الأسد.

وحكم بشار الأسد، سوريا لمدة 24 عاما منذ 17 تموز/ يوليو 2000 حتى 8 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، خلفا لوالده حافظ الأسد الذي حكم من 1971 حتى وفاته عام 2000، فيما غادر الأسد الابن دمشق إلى موسكو التي منحته حق اللجوء لـ"أسباب إنسانية".



وفود واتصالات
والاثنين، هاتف وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان نظيره السوري أسعد حسن الشيباني، وزير الخارجية بالحكومة السورية الانتقالية بأول اتصال رسمي إماراتي منذ سقوط بشار الأسد، وذلك رغم أن رئيس الإمارات محمد بن زايد، الوحيد الذي أجرى مكالمة مع بشار الأسد خلال  معركة "ردع العدوان" والتي انتهت بسقوط نظام الأخير.

وفي زيارة هي الأولى لأرفع مسؤول عربي، زار وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، دمشق الاثنين، والتقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، حيث أعلن استعداد بلاده دعم سوريا.

في 14 كانون الأول/ديسمبر الجاري، استضافت عمان اجتماعا حول سوريا بمشاركة وزراء خارجية ثمانية دول عربية بينها مصر، وأمريكا وفرنسا وتركيا والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة.

وقام وزير الدولة بوزارة الخارجية القطرية محمد الخليفي بزيارة هي الأولى إلى دمشق الاثنين، للقاء الإدارة السورية الجديدة، فيما وجه الشرع، دعوة لأمير قطر لزيارة دمشق قريبا، كما أعلنت الدوحة تقديم مساعدات إنسانية لسوريا.

وزار السياسي اللبناني وزعيم الطائفة الدرزية، وليد جنبلاط، دمشق والتقى الشرع، الأحد، بقصر الشعب بالعاصمة دمشق، كما التقى رئيس حكومة تصريف الأعمال السورية محمد البشير.

ونقلت وكالة "فرانس برس" عن مصدّر مقرب للحكومة السعودية، الاثنين، أن وفدا حكوميا سعوديا التقى الشرع، الأحد، في دمشق، في أول تواصل بين الحكومة السعودية والإدارة الجديدة.

وفي أول زيارة رسمية رفيعة لدمشق، زار وزير الخارجية التركي الأحد، دمشق، والتقى الشرع.

والجمعة الماضية 20 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، التقى وفد الخارجية الأمريكية برئاسة باربرا ليف، أحمد الشرع، وناقشا رفع العقوبات عن سوريا ومن بينها "قانون قيصر"، ورفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وإلغاء المكافأة المالية بقيمة 10 ملايين دولار لتوقيف، الشرع.

مصر وإسرائيل وإيران
ويحظى الشرع، بقبول يتزايد بشكل يومي لدى دوائر الحكم الغربية، حيث قالت صحيفة "الغارديان"، البريطانية، الثلاثاء، إن "قائد سوريا الحالي – بحكم الواقع - أثبت إتقانه للمساومة والإقناع، فبالرغم من أن هيئة تحرير الشام وُضعت على قوائم الإرهاب لدى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، إلا أن الشرع استقبل ممثلي هذه الجهات بدمشق".

وفي المقابل، اجتمع الموقف الإسرائيلي والإيراني والمصري على رفض الإدارة السورية الجديدة.

وإلى جانب إعلان دولة الاحتلال عدائها للشرع، ووجهت ضربات عسكرية للأراضي السورية، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية الاثنين، عدم وجود أي اتصال مباشر بين حكومة طهران ودمشق الحالية.

وبينما كان عبد العاطي على تواصل دائم مع وزير خارجية الأسد، بسام صباغ، قبل انهيار النظام السابق، اكتفت مصر باتصالات مع أطراف عديدة، كان آخرها الاثنين، بين وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، والسعودي فيصل بن فرحان، وهو ما سبقه وتبعه اتصالات مصرية بوزير الخارجية الأردني، والإماراتي، والروسي سيرغي لافروف، والعراقي فؤاد حسين، والجزائري أحمد عطاف، أيضا.

وإزاء الإدارة السورية الجديدة أصدر وزير الخارجية المصري رسائل قد تقرأها دمشق، على أنها رسائل سلبية، حيث قال لموقع "المصري اليوم"، المحلي، إن "عدم تحوّل سوريا لمركز للتطرف والتشدد، مسألة هامة جدا".

وأثار ظهور المعارض المصري ورئيس حزب "الفضيلة" من أنقرة، محمود فتحي، بجوار الشرع، في زيارة لدمشق، غضب القاهرة، واعتبرتها رسالة غير إيجابية، ولاقت انتقادات واسعة من الإعلام المصري.

وإثر اتخاذه مسارين متضادين في الملف السوري أولهما معارضا للثوار السوريين وثانيهما داعما لنظام الأسد؛ يواصل الإعلام الحكومي بالقاهرة انتقاداته للإدارة الجديدة في دمشق ويواصل تخويف المصريين من مسلك مماثل، ومنها تعليق للإعلامي أحمد موسى، الذي اتخذ موقف المحذر من "تركيز القوى الخارجية على إسقاط الدولة المصرية".

وأحيت أحداث سوريا، وانتصار المعارضة، وفرار الأسد، وعودة السوريين من المنافي والشتات، آمال المصريين في إنهاء حكم رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، خاصة مع تفاقم أوضاعهم السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، مع دعوات للثورة مع قرب الذكرى الـ14 من ثورة يناير 2011.

وتحدث خبراء ومراقبون لـ"عربي21"، راصدين أسباب غياب مصر عن المشهد السوري رغم حضور حلفائها الإقليميين السعودية والإمارات والأردن، وحضور قطر وتركيا البارز، واكتفائها بالتشاور مع أطراف عربية وأجنبية دون التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، وما قد يخلقه ذلك من حالة عداء مع دمشق، واحتمال التصادم مع التوجه التركي الداعم للإدارة السورية الحالية.

الحياد الحذر
وفي رؤيته يعتقد الأكاديمي المصري الدكتور محمد الزواوي، أن "مصر وقفت موقف الحياد الحذر تجاه ما يحدث في سوريا، وإن كان طبعا في المجمل ظهرت رسائل عدم ترحيب بالنظام الجديد في سوريا".

المحاضر في معهد الشرق بجامعة سكاريا التركية، قال لـ"عربي21": "ويبدو أن مصر بدأت تعتمد على القوى الإقليمية الأخرى كالسعودية والإمارات نظرا إلى تراجع قدرتها على التأثير الإقليمي بجانب التراجع في ملاءتها المالية".

ولفت إلى أن القاهرة كذلك "لم تكن طرفا فاعلا في الصراع السوري، بعكس قوى أخرى مثل السعودية والإمارات ربما تدخلت في دعم بعض الفصائل، بالإضافة إلى تركيا التي تعد الداعم الرئيسي للمعارضة السورية".

وأضاف: "ومن ثم فإن مصر ليس لديها ورقة تأثير على الوضع في سوريا، ولا توجد صلات؛ ومن ثم اختارت القرار الانعزالي عن سوريا حتى يتبين لها ما يحدث في البلاد".

وتابع: "وإن كانت هناك بعض الرسائل جاءت من سوريا على سبيل المثال بلقاء أحمد الشرع، بالمهندس محمود فتحي، أحد المطلوبين أمنيا في قضية اغتيال النائب العام المصري، ومن ثم فالرسائل التي تأتي من سوريا على عكس إرادة الدولة المصرية كرسائل غير مطمئنة لمستقبل سوريا ومستقبل العلاقات بين البلدين".

الاستراتيجيات الأربع
من جانبه، قال الباحث في التربية السياسية يحيى سعد: "علينا إدراك أن مصر  منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، تعيش أسوأ فتراتها التاريخية؛ فلا عقل سياسي، ولا مؤسسات حقيقية، ولا اقتصاد حقيقي، ولا إدراة علمية، ولا حتى وطنية حقيقية، وإنما هناك اعتماد على 4 استراتيجيات: الكذب، والمنظرة، والمكايدة، والعشوائية".

وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف، أن "النظام الحالي بنى حكمه على كذبة كبيرة؛ وهي (تخليص مصر من أهل الشر)، وأهل الشر في زعمه هم الإسلاميون، لذا يعيش حالة من الارتباك وعدم الاتزان، فلا يرى مصلحة الشعب السوري في التحرر والاتجاه نحو  بناء سوريا الحرة الجديدة؛ بقدر ما يرى كابوسا يخشاه أحل قريبا من داره".

ويرى، أن "ما حدث في سوريا يمثل صدمة عصبية للسيسي وأجهزته، وخاصة مع القبول الشعبي السوري وحالة الارتياح التي عمت شعوب المنطقة بسقوط الطاغية".

وخلص للقول، إن "السيسي على رأسه بطحة؛ وهو وأذرعه الإعلامية في مأزق حقيقي؛ لكنه لن يستطيع الصمود وحده طويلا على هذه الحالة من الخرس، خاصة مع تحسن الأوضاع السورية على الأرض يوما بعد يوم".



أسباب التحفظ والعداء
وفي رؤيته، رصد الصحفي المصري والرئيس التنفيذي السابق بالتليفزيون العربي، إسلام لطفي، في حديثه لـ"عربي21"، أسباب "موقف القاهرة المتحفظ ذو الملمح العدائي تجاه النظام الجديد الذي يتشكل بدمشق".

 وقال، إن "أولها: نتيجة سوء التقدير السياسي الذي حدث في 2011، تجاه الثورة السورية، ففي حين كان الإجماع العربي وقتها في اتجاه دعم الثورة السورية وعزل نظام الأسد ومحاصرته كان المجلس العسكري المصري يقوم بتزويد الجيش السوري النظامي بالأسلحة لقتل شعبه".

وأضاف، "وفي الوقت الذي كانت تستدين فيه القاهرة لتوفير المحروقات ومخاطبة السعودية والجزائر والدول النفطية لسرعة إمداد مصر بما يلزم خاصة في ظل فترة الاضطراب الاقتصادي التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011؛ كانت مصر تورد المشتقات البترولية للنظام السوري مجانا، تستدين وتريق ماء وجهها لدعم النظام السوري".


كما أكد لطفي، أن "هذا كان أول ملمح، فيما استمر الاستثمار في دعم القمع والطغيان بعد مرحلة 3 يوليو 2013، بشكل سافر على عكس ما حدث بعد 2011، وكان في طي الكتمان، إذ أصبح الاصطفاف المصري مع النظام السوري الوحشي القمعي أمر معلن للعيان وحتى على خلاف رغبة حلفاء النظام المصري من دول الخليج السعودية والإمارات".

ولفت إلى أن "الملمح الآخر، وهو أن النظام المصري الحالي بنى شعبيته وشرعيته على عداء ومحاربة الحركات الإسلامية، وكل ما هو إسلامي ومنظم في مرمى النظام الذي بنى شرعيته السياسية على إنجاز القضاء عليهم وتحجيمهم وخلخلة جذورهم في المجتمع".

ويعتقد الكاتب والباحث السياسي المصري، أنه "وبالتالي فالنظام الذي يتشكل في دمشق وهو ذو خلفية إسلامية فإن وصوله للحكم واضطرار النظام المصري للدخول في علاقات معه يخلخل الأساسات التي بنى عليها شرعيته".

النقطة الثالثة، في رؤيته، هي أن "الحليف الأكبر والأكثر استمرارية للنظام المصري الحالي منذ أن تشكل في (2013- 2014)، بانتخاب السيسي، هي إسرائيل، وتتخذ موقف العداء من وصول حركة (فتح الشام) لحكم دمشق، لأنها تعي أن الحركات الجهادية لو هادتنتها الآن فإن قضية فلسطين قضية مركزية لديها، وبالتالي فإسرائيل تعي ذلك وتعي أنها ستأتي اللحظة التي لا يترك فيها الحكام الجدد الجولان، وبالتالي تأخذ موقفا معاديا".

وأشار، إلى أن "مصر تأخذ موقفا معاديا مخالفا لكل الاتجاه العالمي والإقليمي، فالسعودية التقى وفد رسمي منها بالشرع، وكان هناك أيضا جس نبض وتواصل بين ملك البحرين والشرع، بمثابة بالون اختبار تستكشف فيه الإدارة السعودية الأجواء، والإمارات هي الأخرى قامت بإعلان موقفها للإدارة الأمريكية ولكن بشكل براجماتي قررت الاتصال بدمشق".

عدم حصافة وغباء سياسي
ويرى أن "مصر الوحيدة التي تتعامل بعدم حصافة وغباء سياسي بهذا الملف، وهو أمر مستغرب لأن أمن مصر مرتبط بأمن سوريا، وطوال التاريخ الشام امتداد شمالي للأمن القومي المصري، والعلاقات وثيقة ومترابطة، ودعنا نتذكر سوريا عندما توحدت تحت دستور وجمعية تأسيسية ثلاثينيات القرن الماضي، بعد الاحتلال الفرنسي اختار السوريون أول رئيس لهم، تلقى تعليمه في مصر واستقر بالقاهرة بعد سقوط السلطنة العثمانية وبعد 25 عاما تم استدعاءه لسوريا ليكون أول رئيس بعد توحيدها، وهذا ملمح".

وأوضح أن "الملح الآخر، هو أن سوريا عندما كانت على شفا حرب أهلية جمع الوجهاء والسياسيين أنفسهم وجاءوا لجمال عبدالناصر ليعرضوا عليه الاندماج، وهذا يصف لك كيف كانت العلاقة وطيدة بين الشعبين دون حساسيات، وما يفعله النظام المصري حاليا هو تقطيع للأوصال وتدمير للقوة السياسية المصرية الناعمة والصلبة".

وأكد أنه "كان منتظرا منها أن تكون أول من يبادر بالوقف بجانب الشعب السوري لمنع تفتت سوريا ووقوعها في حرب أهلية، ولم يكن منتظرا من مصر عندما يقوم رئيس بقصف شعبه البراميل المتفجرة ويضربه بالكيماوي أن تصطف معه بدلا من الشعب".

ويرى لطفي، أن "النظام المصري يقوم بتكرار نفس الأخطاء، وهو الوحيد في العالم الذي يتباكى على رحيل بشار، ونستشف هذا من الخطابات الإعلامية، فمثلا عمرو أديب بأول أيام سقوط بشار ملأ الدنيا ضجيجا، والآن تغير خطابه عبر خطاب عاقل متوازن، وهو بوق من أبواق الإعلام السعودي ويعبر عن الدبلوماسية السعودية الناعمة".

وأضاف، "الإمارات تواصلت بشكل رسمي، وبقية دول العالم ترحب برحيل الأسد ولو أبدت انزعاجها من الجهاديين؛ لكن نظام القاهرة الوحيد الذي يتباكى على بشار، حتى روسيا حليفته قالت: لقد نصحناه ولم يستمع وعقدنا اتفاقا لكنه لم ينفذ، والوحيدون الذين يدافعون هم السياسيين المصريين الرسميين".



وأد آمال المصريين
الأمر الأخير وفق الصحفي المصري، هو أن "ما يحدث في سوريا مثل دفقة أمل قوية بكل الوطن العربي، وربما العالم، والأنظمة المستبدة تعادي الأمل، ونظام السيسي دائما يقوم على تيئيس المصريين ويزيد إحساسهم بالعجز والفشل وينمي احساسهم بالخطر، وبالتالي انزعاجه الأكبر من دفقة الأمل التي وصلت إلى نفوس المصريين بما قد يعنيه ذلك تفكيرهم في مآلات الأمور".

وأوضح أنه "إذا كان نظام بشار الأكثر دموية وقمعا فنظام السيسي أقل منه في ذلك، وبالتالي فرص نجاح التحركات الشعبية ضده أعلى، وإذا كان هناك بلد بعد 13 سنة من الحرب الأهلية نجح في فرض إرادته وإزاحة النظام، بالتالي تكون المهمة أيسر في بلد لا تتوفر فيها نفس الظروف القمعية، لذا أن جزءا من العداء للتغيرات الحادثة في دمشق هو محاولة وأد الأمل في نفوس المصريين".

مقالات مشابهة

  • الجيش الإسرائيلي يكشف تفاصيل عن الأهداف التي قصفها للحوثيين باليمن
  • ما قصة الضريح الذي حاولت فلول الأسد استغلاله لإشعال الفتنة؟
  • العالم يتعرف إلى السلطة الجديدة في دمشق
  • هذا ما تتعلمه الولايات المتحدة من إخفاقاتها السياسية في الربيع العربي
  • 3 مصريين ضمن الفائزين بجائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها الـ28
  • التدريب على أنظمة التحكم الرقمية في القطاع الصحي
  • صور عيد الميلاد من الفضاء تؤجج نظرية المؤامرة.. ماذا قالت ناسا؟
  • لماذا غابت مصر عن المشهد السوري وأخذت موقفا عدائيا رغم الحضور العربي؟
  • صخر الشارخ.. قصة العربي الذي جعل الحواسيب تتحدث بالعربية
  • ما الذي تخشاه دول عالمية وإقليمية من الوضع الجديد بسوريا؟