مقاربة لآثار إعصار درنة وارتداداته المحتملة على الجغرافيات الليبية
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
هذا الحدث الكارثي الذي جاء بأيادي الطبيعة من أمطار وسيول ووديان جارفة هدّت سدود وجسور وبنيان اكتسحت بها الجزء الكبير من مدينة درنة، وقذفت به إلى البحر، مُخلّفة ورائها آلاف الضحايا والمفقودين، وما يصاحب ذلك من ثكل ويتم وفقّد، وما قد سيترتب عليه في ما بعد من ارتدادات تتساوى مع هول الكارثة التي ألحقها الإعصار بالبشر والشجر والحجر بمدينة درنة ومحيطها، وبعد الترحّم والإلحاح بالمطالبة بجبر الضرر لمن أصابه ضرر، أقول، لا اعتقد أنه يغيب عن فهْم الجميع، وُجوب الاشتغال على فتح مسارب وسبل مسؤولة تعمل على تنفيس وتصريف الاحتقان المحتمل وقوعه، كارتدادات مُحمّلة بشّدَة وعنف تتساوى مع هذا الفعل الكارثي الصاعق قبل انفجار الارتدادات وانفلاتها في غضب قد يتخذ وجوه عديدة، يصعب التنبؤ بها والسيطرة عليها زمانا ومكانا.
وهذا الاستباق يجب أن ينهض على تفعيل المساءلة المسؤولة من خلال التحديد الدقيق للجهة التي أسست لولادة هذه البيئة على امتداد هذه السنين العجاف التي مرت بها ليبيا جعلت من البلاد حاضنة لكوارث تلد أخرى، حتى انتهت إلى الفاجعة التي نعيشها في مدينة درنة ومحيطها.
ولمحاولة تحديد ممن يجب أن تتجه إليه المساءلة، يجب – في تقديري – الرجوع قليلا لمساءلة الماضي الذى يقول إن الليبيين قد انتخبوا عام 2014م، برلمان بديل عن المؤتمر الوطني السابق لينوب عنهم في إدارة شأنهم العام، ولكن – في ما يبدو – كان للشرعية الدولية التي وضعت ليبيا تحت مفاعيل البند السابع لسردية الهيئة الأممية، كان لها رأي آخر، صاغته وبلورته من خلال مؤتمر عُقِد بالصخيرات والذي صار يُعرّف باسمها، انتهى المؤتمر في مخرجاته إلى تشكيل أجسام مثلت بديل عن كل ما أنتجه الليبيون في ما سبق، وأضفى هذا المؤتمر على مخرجات الصخيرات مجلس أعلى للدولة، مجلس رئاسي، مجلس نواب، جهاز تنفيذي سُمّيَ في ما بعد بحكومة الوحدة الوطنية، أضفى عليها شرعية دولية تستمد مفاعيلها من مضامين البند السابع للسردية الهيئة الأممية، وفوّض مجلس الأمن أحد أعضائه، كممثل لهذه الدولية وخوّله إدارة وتصريف الملف الليبي بداخل مجلس الأمن وخارجه، ومند ذلك الحين المسنود بالبند السابع للسردية الأممية صارت ليبيا تُدار ممن بيده تفويض مجلس الأمن وذراعه التنفيذي الممثل في حكومة الشرعية الدولية بليبيا.
وهنا يأتي التساؤل الذي يقول: هل ممن مسؤول غير من بيده إدارة وتصّريف الملف الليبي داخل مجلس الأمن وخارجه، وذراعه التنفيذي المتمثل بحكومة الشرعية الدولية بليبيا، عن هذا الذي جرف البعض الكثير من مدينة درنة ومحيطها، وتركه أثر بعد عين؟، وهل كان أن يحدث هذا الكم الثقيل الذي خلفه الإعصار دانيال لو اُسْتقبلت محاولات الليبيون المتكررة لتشكيل أجسام بديلة تحظى وتتمتع بشرعيتهم المحلية الوطنية الليبية بالقدر المطلوب من الدعم الدولي بعدما تبين لليبيين العجز الكارثي لحكومة الشرعية الدولية بليبيا عن تصريف وإدارة شأنهم العام على نحو يتخطون به كل العقبات التي تمنع بلادهم من الفكاك مما هي فيه.
ولكن واستنادا إلى الواقع المأزوم الذي تعاني منه البلاد، وارتداداته الإجرائية على المحلي والإقليمي والدولي، أقول، هل كان في مَقّدور جناب حكومة الشرعية الدولية بليبيا، وهل كان في متناول يدها، أو في استطاعتها أن تقوم بأي فعل أو عمل أو خطوة لا ترى فيها خدمة لمن تستمد منه شرعيتها وديمومة وجودها، أو دونما إيعاز أو تلميح أو مُوافقة مُسبقة منه.
فالحكومة المدعومة بغطاء الشرعية الدولية تعرف بأنها ليست مسؤولة غير أمام من فوّضه مجلس الأمن، وأسند وأوكل له إدارة شئون ليبيا داخل الهيئة الأممية وخارجها، وما سلوكها وتحركاتها إلا صدى لتوجّهات ورغبات من بيده تفويض مجلس الأمن المتعلق بليبيا.
وهنا أصل إلى القول، إن هذا السلوك قد ألّحق ضرر كبير بليبيا وساكنتها، وآخرها ما يعانيه الليبيون من هَمْ كان من آثاره آلاف الضحايا والمفقودين وتوابعها بمدينة درنة عقب ما انْكشف عنه إعصار دانيال بعد انكشافه.
فالتفويض الأممي الذي يصُغُه ويصّدره مجلس الأمن لمعالجة الحالات الشبيه بما تمر به ليبيا يحتاج ولكي يكون ذو مردود إيجابي ومفيد على المحلي والإقليمي والدولي إلى التقّيد بمحددات يضعها مجلس الأمن تُلزم وتضبط وتلجم تصرّف وسلوك من بيده تفويض المجلس، بما يحتاجه الأمن والاستقرار المحلي والإقليمي والدولي، بمعنى، أن يتعامل صاحب التفويض الأممي مع الحالة الليبية مثلا، على نحو لا يتجاهل أو يتخطى واقع ليبيا الجغرافي الديمغرافي الثقافي، بل يجعل منه منطلق ومُرّتكز أساسي للاشتباك مع المعضلة الليبية في محاولته الاشتغال على تفكيكها، خاصة عندما نعرف بأن الحالة الليبية وما تعانيه من استعصاء، ليس تمت – في تقديري – مهما تعددت الوجوه والسُبل والصيغ غير مُدّخلين اثنين لا ثالت لهما، للمرور نحو التعاطي معها.
* أحدهما يعتمد الجغرافي الديمغرافي الثقافي الليبي كمرتكز أساسي تنهض عليه المُعالجة والمُتوخى منها، ويظهر في هذه الصيغة بمحدداتها الجغرافية الديمغرافية الثقافية تغّليب المحلي الوطني الليبي ومحيطه الإقليمي القريب منه والبعيد على ما سواه، ويرجع تغّليب هذا التوجّه على غيره إلى احتضان جنوب حوض المتوسط وإقليم شمال غرب إفريقيا للوعاء الجغرافي الليبي كمفردة أساسية في فضاءه الجغرافي وما يترتب على هذا التموضع من اشتراطات موضوعية من الضروري مراعاتها لتحقيق استدراج الأمن والاستقرار إلى داخل ليبيا وفضاءه الإقليمي القريب منه والبعيد، وسينتهب هذا التوجه – في تقديري – بدفع ليبيا إلى خارج معاناتها ببُعّديها المحلي والإقليمي مما سينعكس إيجابا على المحلي الليبي وفضاءه الإقليمي ومن ثم السلم والاستقرار الدوليين.
** وثانيهما يعتمد ويشتغل على أن ليبيا مفردة من مفردات كيان الشرق الأوسط ولبنة في بنيان هيكله الذي يتغطّى بالفضاء الجغرافي لجنوب وشرق المتوسط، وسيترتب على هذا التوجه الذهاب نحو تغليب احتياجات هذا الكيان على ما سواه، حتى وإن جاء هذا على حساب متطلبات الحياة في بُعديها المادي والمعنوي لساكنة ومواطني جنوب وشرق المتوسط، وسينتهي هذا التوجه إلى إعادة إنتاج ما كان سائد منذ عقود طويلة بكل ما يحمل من تعقيدات انعكست حينها سلبا وبؤسا على وجه الحياة في الفضاء المحلي والإقليمي لجنوب وشرق المتوسط.
من هنا، اعتقد أن ما تعانيه ليبيا من استعصاء يُربك ويرهق المحلي الليبي ومحيطه الإقليمي، والذي كانت من نتائجه في وقتنا الراهن ما تعانيه ليبيا في مُصابها بمدينة درنة ومحيطها، استطيع إرجاع ورد كل هذا – دونما تحفظ – إلى اعتماد التعاطي والتفاعل مع ليبيا، كمفردة أو كلَبِنة في بنيان كيان الشرق الأوسط، لا كوعاء جغرافي طبيعي بإقليم شمال غرب إفريقيا، وأحد المكونات الجغرافية الديمغرافية الثقافية لشعوب حوض المتوسط، ولبنة أساسية في بنيان الفضاء المغاربي، وهذا سيذهب في اتجاه تغليب احتياجات كيان الشرق الأوسط على ما سواه، حتى وإن جاء ذلك على حساب متطلبات الحياة في بُعديها المادي والمعنوي بليبيا.
انتهى.
*ملاحظة: من المهم التفريق بين ممثل مجلس الأمن ومفوضه بإدارة الملف الليبي، والآخر ممثل الأمين العام للهيئة الأممية السنغالي باتيلي، فهما شخصيتان اعتباريتان مختلفتان في الوظيفة والمهام.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: مجلس الأمن
إقرأ أيضاً:
الأخلاق في فلسفة كانط مقاربة إسلاميَّة
آخر تحديث: 19 دجنبر 2024 - 1:07 مشاكر الغزي في فيلم أَسوار (Fences, 2016)، يدور حوارٌ مهمٌّ بين الممثل ــ الذي أحبُّه كثيراً ــ دِنزِل واشنطن وبين ابنه، يقول له: إنَّ هناك سقفاً يحميك، وملابس تُغطّي ظهرك، وطعاماً تأكله كلَّ يوم، لماذا هذا باعتقادك؟ فيجيبه: بسببك. يضحك الأب قليلاً، ثمّ يسأل: أعرف أنّه بسببي، ولكن برأيك، ما السبب الذي يدفعني لفعل ذلك؟ يجيب الابن: لأنَّك تُحبُّني. فيردّ الأب: أنت على وشك أنْ تكون أحمقَ من رأيتُ في حياتي؛ أنا أفعل ذلك لأنَّ مسؤوليتي تُحتِّمه عليَّ؛ لأنَّ من واجب الرجل أنْ يرعى أسرته. أنت تعيش في بيتي، وتملأ بطنك بطعامي، وتستلقي على سريري؛ لأنَّك ابني، وليس لأنَّني أحبُّك. لأنَّ من واجبي رعايتك. ثمَّ ينصحه قائلاً: لا تحاول المضيّ في حياتك وأنت قلِقٌ حيالَ هل يُحبّك الآخرون أم لا؟ الأفضل لك، أنْ تحرصَ على أنْ يتصرّفوا بفعل الصواب معك!. تقريباً، يكاد هذا الحوار أنْ يمثّل فحوى فلسفة كانط الأخلاقيَّة التي تقوم على فكرة أنَّ الفعل الأخلاقيّ يصدر استجابة لنداء الواجب، لا بدافع (التعاطف المؤثِّر) الذي يحتقره كانط. ولتوضيح هذه الفكرة أكثر، نقول: افترض أنَّك تجلس في بيتك، وانطرق الباب. وحين فتحته، وجدت شخصاً ينزف بحاجةٍ إلى مساعدة طبيَّة؛ فأَدخلتَه وضمَّدت جرحه، وتركته ليرتاح قليلاً، ثمَّ اتَّصلتَ بسيّارة الإسعاف. بحسب الظاهر، يبدو أنَّ تصرّفك هذا هو أحسنُ ما يُمكن أَن يفعله رجلٌ صالحٌ في مثل هذا الموقف. ولكنَّك لن تُعْدَم شخصاً فضوليّاً يسألك عن السبب الذي دفعك إلى مساعدة هذا الشخص المجروح. قد تقول: أيّاً كان السبب فهو ليس مهمّاً. المهمّ أنَّ هناك شخصاً يحتاج إلى المساعدة، وقد حصل عليها. وهذا هو لبُّ القضيّة. لكنَّ الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط سيقول لك: أنت واهمٌ جدّاً. لبُّ القضيّة هو السبب الذي دفعك إلى هذا التصرُّف؛ فعلى ضوئه يتقرّر هل تصرّفك هذا فعلٌ أخلاقيٌّ أم لا؟ مثلاً، لو اصطدم بك شخص مسرع في الشارع، واعتذر لك فوراً بأنَّه لم يتقصّد ذلك؛ فإنّك ستبتسم له وتقبل اعتذاره. ولكنَّ نفس الشخص لو اصطدم بك بنفس تأثير الصدمة الخفيفة السابقة، والتفت إليك وهو يمزح مستمتعاً؛ فإنَّك لن تتقبَّل تصرّفه هذا وستؤنِّبه عليه. لاحظ كيف أنَّ السبب وراء الفعل ــ أو قل: النيّة، هنا ــ جعل التصرّف نفسه يأخذ انطباعين: أحدهما مقبول، والآخر مرفوض. افترض أنَّ إنساناً غيرك، تقزَّز من منظر الدم والجرح، ولكنه رغم ذلك ساعد الشخص المجروح؛ لأنَّ الواجب يُحتِّم عليه ذلك خلافاً لمشاعره التي تدفعه إلى عدم مساعدته، فإنَّ فعله سيكون أخلاقيّاً بلا شكّ. الأخلاق ــ عند كانط ــ لا تتعلَّقُ بفعلك نفسه مهما كان ظاهره صالحاً وفاضلاً، وإنّما بالسبب الذي يقف وراء فعلك. وبالتالي، فإذا ما ساعدت شخصاً ما لأنك شعرتَ بالشفقة تجاهه؛ فإنَّ مساعدتك هذه ليست من الأخلاق في شيء! التعاطف والشفقة جزءٌ من طبيعتك البشرية، فقد تتعاطف مع شخصٍ في موقف صحيح، وتتعاطف مع آخر في موقف خاطئ. الشَّفقةُ، إذن، لا علاقة لها بالتصرُّف الأخلاقيّ. تتفاوت المشاعر والأحاسيس من إنسان إلى آخر، يشعر بعض الناس بالتعاطف تجاه شخص دميم، بينما يسخر منه آخرون، وثمَّة من يتعامّل معه بحياديَّة وكأنَّ شيئاً لم يكن. يستمتع الكرماء بالجود؛ فيهبون أموالهم وممتلكاتهم لمساعدة غيرهم، بينما يجد البخلاء صعوبة وعناءً في الإنفاق والعطاء؛ لذا يرى كانط أنَّ الأخلاق يجب أن تظلَّ بمعزلٍ عن المشاعر. كما يرى أنَّ كلّ إنسان عاقل قادر على فعل الخير باتخاذه القرارَ المناسب. فإذا ساعدتَ مَن يحتاج مساعدتك؛ لأنّ ذلك هو التصرّف الصحيح الذي يجب على كلّ إنسانٍ أن يفعله في تلك الوضعية، فتصرّفك فعل أخلاقيّ. الفعل الصحيح أخلاقيّاً ــ في فلسفة كانط ــ يجب أن يُؤسَّس على قرارٍ صادر من العقل يُبيِّن لك واجبك الذي عليك أن تفعله في تلك اللحظة، بغضّ النظر عن الشعور الذي تحسّ به. بمعنى آخر: يجب أن يصدر الفعل الأخلاقيّ استجابةً للواجب، لا استجابةً للمشاعر والأحاسيس. حتّى الأتقياء الذين يفعلون الخير، ويساعدون الآخرين، إذا فعلوا ذلك؛ لأنّ هذا فقط ما سيُدخلهم الجنَّة، فأفعالهم هذه ــ بحسب كانط ــ ليست أَخلاقيَّة على الإطلاق، بل هي تعاملات نفعيّة. وكأنَّ هذه الفلسفة أُخذت من قول الإمام عليّ: إنَّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجَّار. أو حفيده الإمام السجَّاد: إني أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلّا ثوابه؛ فأكون كالعبد الطَمِع، إن طمِع عملَ وإلّا لم يعمل. وقد أعاد الإمام الصادق كلمة جدّه بصياغة أخرى: وقومٌ عبدوا الله طلبَ الثواب فتلك عبادة الأُجَراء. يقول نايْجل واربُرتون، في كتابه مختصر تاريخ الفلسفة: قد تكون نظرة كانط للنوايا مقبولة أكثر من نظرته للمشاعر. نحكم على بعضنا البعض من خلال ما نحاول فعله، عوضَ ما ننجح في فعله. لكنَّ النوايا الحسنة ليست كافيةً لجعل فعلك أخلاقيّاً. على العكس تماماً؛ فقد تدفعك نيّتك الحسنة إلى تصرّفٍ لا أخلاقيّ، فمثلاً، لو أنَّ صديقك المقرَّب طرق الباب، وحين فتحت له، طلب منك أنْ تُخبِّئه لأنَّ قاتلاً يطارده؛ فخبَّأته. وحين خرجت تستطلع الوضع في الشارع، صادفك القاتل، بيده سلاحه والشرُّ يشعُّ من عينيه، وسألك عن مواصفات الرجل الذي يبحث عنه ــ هو لا يعرف أنّه صديقك ــ فأَخبرته أنَّك رأيته يتّجه إلى الحديقة العامّة. كذبتَ عليه بحسن نيّة. حاولت إنقاذ حياة صديقك. لكنَّ حسن النيّة لا يجعل الكذب مقبولاً أخلاقيّاً عند كانط. ليس هناك استثناءات ولا أعذار مهما كانت الظروف، ودائماً كان الفعل اللا أخلاقيّ غير محمود العواقب. ماذا لو أنَّ صديقك خرج من النافذة وذهب فعلاً إلى الساحة العامَّة! سيكون خطأك إذا ما عثر القاتل على صديقك وقتله. نشر كانط كتابه (نقد العقل العمليّ) عام 1788. وهو يبحث في فلسفة الأخلاق والضمير الإنسانيّ. وخلاصة هذا الكتاب أنّ الفلسفة الأخلاقيَّة لا تقوم على التجربة أو الأحاسيس، بل على العقل وحده، فهو مصدر الواجب الذي هو بدوره أساس الأخلاق. ويُعرِّف عبدالرحمن بدوي مفهوم الواجب عند كانط، بأنَّه مبدأ يتعالى على التجربة، ولكنّه لا يخرج عن العقل ونطاق ذاتيته. العقل العمليّ، إذن، هو السلوكيات والتصرفات التي ينبغي أن يفعلها كلّ إنسان، والتي يجب أن تكون أخلاقيَّة لا غير. وسمّاها العقل العمليّ؛ لأنّ ضابطة كون الفعل أخلاقيّاً عنده أن يصدر بإيعاز من العقل. وهذا الإيعاز العقليّ هو ما نُسمّيه الإرادة. يقول يحيى محمَّد أنَّ كانط قام بتحجيم العقل النظري؛ ليفسح المجال للعقل العمليّ أن يتوسَّع، ويُدلي بدلوه الفاعل. يرى كانط أنَّ الأخلاق فطرية فينا، ولم تُستمدّ من التجربة. والأوامر الأخلاقيَّة، التي نحتاج إليها لتكون أساساً للدين، يجب أن تكون عامّة ومطلقة، مستمدّة من فطرة الإنسان. يشعر كلّ إنسان منّا ــ إذا تعرَّض لإغراءٍ ما ــ بشعور مباغت أنَّ هذا العمل خطأ! قد يستلم البعض للخطأ، لكنَّه في قرارة نفسه يدرك بأنَّه قد أخطأ، ويشعر بالندم، وربّما يعزم على عدم ارتكاب مثل هذا الخطأ ثانيةً. ما الذي يُثير في الإنسان مثل هذا الشعور بالندم والتبكيت، ويحضّه على تجنّب ارتكاب الأخطاء مرّة أخرى؟ إنّه الضمير الآمر في النفس البشرية. يميّز كانط بين نوعين من الأوامر: (1) الأمر الإلزاميّ القطعي. (2) الأمر الافتراضيّ. يرد الأمر الافتراضي بصيغة: إذا أردت كذا؛ فافعل كذا. مثل: إذا أردت أن لا تدخل السجن؛ فلا تسرق. أما الأمر الإلزاميّ القطعيّ، في هذه الحالة، فهو: لا تسرق. إنه أمر يصف لك الواجب ببساطة. والأخلاق هي نظام من الأوامر القطعية الإلزامية. واجبك الأخلاقيّ، هو واجبك الأخلاقيّ، مهما كانت الظروف. يضع كانط ضابطة أخرى، ولكن هذه المرّة، لتمييز الفعل غير الأخلاقيّ، وهي أن تسأل نفسك قبل إقدامك على الفعل: (ماذا لو فعل الجميع ذلك؟) بمعنى أنَّه لا يجوز لك أن تمنح نفسك حقَّ الاستثناء على اعتبار أنّك حالة خاصّة؛ فلا توجد استثناءات ــ مهما كانت الظروف ــ من الفعل الأخلاقيّ. ما تُبرِّر به لنفسك أن تكون مستثنى، هو ذاته ما يبرّر به غيرك لأنفسهم ذلك؛ وبالتالي ينتفي الفعل الأخلاقيّ وينهدم بنيانه. بمعنى أنَّ فينا شعوراً قويّاً ومباشراً، ندرك من خلاله أنّنا يجب أن نتجنّب السلوك الذي لو اتّبعه جميع الناس فإنَّ ذلك سيؤدّي إلى تعذّر الحياة الاجتماعية واستحالتها. قد نقع في مأزق حرج لا نخرج منه إلّا بالكذب؛ فيفكّر البعض منّا بأن يُبيح لنفسه أن يكذب في هذا المأزق ويعتبره حالة استثنائية. لكنَّ كانط يرفض الكذب إطلاقاً بلا استثناءات. يقول: ماذا لو كذب الجميع؟ ستضيع الثقة وتنتقض الوعود والعهود، وكلّنا لا نريد ذلك. بل نرفض فكرة أن يصبح الكذب قانوناً عامّاً منتشراً بين الناس؛ حتّى ولو كان في الكذب منفعة خاصّة لنا. الخير الوحيد في هذا العالم هو إرادة الخير، وهي الإرادة التي تنبع من القانون الأخلاقيّ، بغضّ النظر عمّا يعود على الإنسان من كسب أو خسارة، يقول كانط: (شيئان فقط يسببان الخوف لي: السماء المليئة بالنجوم من فوقي، والقانون الأخلاقيّ في داخلي). وبحسب كانط؛ فلا يُراد من الأخلاق أن تؤدِّي إلى سعادة المرء ورضاه الشخصيّ، يقول: (ليست الأخلاق مبدأ يعلّمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، ولكن كيف نجعل أنفسنا جديرين بالسعادة). من الجيّد أن يسعى الإنسان إلى إسعاد الآخرين، أمّا هو فعليه أن يسعى إلى الكمال سواء أكان في ذلك سعادته أم ألمه. ولكي يبلغ الإنسان الكمال في نفسه والسعادة في غيره، عليه أن لا يستعمل الآخرين ويوجّههم من أجل منفعته الشخصية، بل يعترف باستقلاليتهم وقدرتهم على اتخاذ قرارتهم الخاصة، عليه أن يعاملهم باحترام. هم غايات لا وسائل. هذه هي الطريقة الوحيدة من التعامل ــ فقط ــ التي تحفظ للإنسان كرامته وقيمته، وترتفع به عن مرتبة الحيوانية، وتسمو به إلى مصافّ الألوهة. يقول كانط: (يجب أن يكون هذا المبدأ أساساً لحياتنا، فإن تمسّكنا به فسرعان ما نخلق لأنفسنا مجتمعاً مثالياً فاضلاً). إنَّ فكرة نداء الواجب، كما يقول كانط، هي أفضل دليل على حرّية إرادتنا؛ إذ لو كنّا لا نشعر بأنفسنا أحراراً، لما وقفنا موقف الاختيار بين سلوكين؟ نلمس هذه الحرّية في داخل أنفسنا حين نستشعر نشاط العقل الخالص وهو يفحص المواقف والأحداث وفق قوانينه الفطرية الثابتة. وهنا نعود ثانية إلى الفلسفة الأخلاقيَّة الإسلاميَّة، فنجد أنَّ الإمام عليّ يوصي ولده الإمام الحسن قائلاً: (اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس لك ما ترضى به لهم منك). ونلاحظ أنَّ الإمام الحسين يوم عاشوراء قال للمعسكر الآخر: (كونوا أحراراً في دنياكم) بمعنى أنَّ تصرّفكم هذا ليس أخلاقياً؛ لأنّه لم يصدر عن إرادة وحرّية، فلو كنتم أحراراً لكان لكم حقّ الاختيار، ولعرفتم أنَّ الواجب يحتِّم عليكم أن لا تفعلوا ما تفعلون. يضرب نايْجل واربُرتون مثالاً في كتابه مختصر تاريخ الفلسفة، عن استعمال الناس الآخرين لأغراض المنفعة الشخصية اللا أخلاقيَّة، يقول: تخيَّل أن تمتلك متجراً لبيع الفواكه، فتعامل الناس دائماً بلطف؛ لأنَّ ذلك جيّد لتجارتك، ويجعل الناس يعودون للتسوّق من متجرك مرّة ثانية. في هذه الحالة، فأنت ــ في فلسفة كانط ــ تستعمل الناس لمنافع شخصية؛ وفعلك ليس أخلاقيّاً! ببساطة، فهذا التعامل في حقيقته هو نوع من الخداع والتملُّق من أجل استعمال الناس لتحصيل المكاسب التي تريدها. الصحيح أخلاقيّاً أن تعامل زبائن متجرك وفقاً لقاعدة (لا تخدع الآخرين) فقط، وهي قاعدة يمكن تطبيقها في كلّ الحالات. هذا النوع من الخداع لا يمكن أن يصبح مبدأ أخلاقيّاً؛ لأنّ الثقة ستنعدم. مثال آخر ذكره كانط: لو أنّ رجلاً مفلساً رفض البنك إقراضه المال، وسيطرد من بيته، فذهب إلى صديق له؛ ليقرضه بعض المال، ووعده بتسديد الدين خلال شهر، وهو يعرف أنّ ليس قادراً على ذلك. يقول كانط أنّ اقتراض المال من صديق دون نيّة إرجاعه هو ــ بالتأكيد ــ تصرّف غير أخلاقيّ. يقول: (في القانون يعتبر الإنسان مذنباً، في حال قام بمخالفة أحد القوانين، في الأخلاق يعتبر مذنباً لو فكّر بمخالفتها)!. يقول، أيضاً، إنّ العقل الخالص يحكم بخطأ هذا السلوك؛ لأنَّ الوضع سيصبح عبثياً حين يقترض الجميع المال ــ ويعدون بتسديد الدَّيْن ــ وهم يعرفون أنَّهم لن يفوا بوعودهم. عندها، ستصبح الوعود بلا أيّة قيمة على الإطلاق. تحدَّث كانط في كتابه (نقد العقل العملي) عن ضرورة الاعتقاد بوجود الله، وذكر أنّ وجود الله فكرة يُجيزها العقل المحض، ولكنّه لا يبرهن عليها، هي فكرة لا يمكن عزلها عن فكرة السعادة، وفكرة الفضيلة، وكلّها أفكار ترتبط بمفهوم الخير، أو المثال الأسمى. وحده العقل العمليّ هو الذي له القدرة على إثباتها. ولا بدّ من الربط بين هذه المفاهيم، بل هو ضروري جدّاً من الناحية العملية من أجل إيجاد عالم ذي أخلاق. كتب كانط في (محاضرات في المنطق)، الذي نشره عام 1800: (لا يمكن لأحدِ منّا تقديم حقيقة موضوعية حول أيّة فكرة نظرية، عدا فكرة الحرّية؛ لأنّها شرط القانون الأخلاقيّ الذي حقيقته مُسلَّمة. حقيقةُ فكرة الله يمكن أنْ تُقدَّم فقط عبر فكرة الحرّية مع غايةٍ عملية، مثلاً التصرُّف كما لو أنَّ الله موجود)، تماماً كما قال ڤولتير: (لو أنَّ الله ليس موجوداً؛ فسيكون من الضروريّ اختراعه). أيضاً، ذكر كانط أنَّ بناء الدين على أساس من العلم واللاهوت النظري ليس بمأمون الجانب؛ لأنَّ العقل معرَّض للزلل والخطأ. الدين يجب أن يُشيّد على أسس أخلاقيَّة مطلقة غير مستمدّة من التجربة أو الاستنتاج المزعزع. يجب أن تكون المبادئ الأخلاقيَّة مطلقة ويقينية ومسلَّم بها كمبادئ الرياضيات، تُستمدّ من باطن النفس البشرية بإدراك عقليّ خالص؛ لأنّ العقل الخالص يمكن أن يتحوَّل إلى عقل عمليّ من خلال توجيه الإرادة، التي هي نداء الواجب الذي تستجيب لك الأفعال الأخلاقيَّة. كذلك، يرى أنّ هذه الحياة ليست كما يحبُّ الناس، والكلّ يُدرك ذلك جيّداً، ليس فيها عقاب للمسيء ولا ثواب للمحسن. يقول منطق الحياة أنَّ حكمة الثعبان أفضل من رقّة الحمامة! وأنَّ السرقة ــ إذا كان المال المسروق كبيراً ويغطّي معالم السرقة ــ تؤدّي بالسارق إلى الفوز والتنعُّم. كلّ يوم، يتكرّر هذا المنطق في الحياة، ولكن رغم ذلك، فالجميع يُدركون أفضلية التقوى وعمل الخير، وأنَّ من الحكمة أن يكونوا فضلاء متمسّكين بأهداب الفضيلة. الواجب يدعونا جميعاً، إلى عمل الخير حتّى وإن كان يتنافى مع مصالحنا! فالنفعية والوصول إلى الغاية ليست من الفضيلة في شيء، بل هي سلوكيات ممقوتة أخلاقيّاً. يقول كانط، لا يمكن لهذا الشعور الغريزيّ بالواجب الذي يدفعنا إلى عمل الخير أن يعيش في داخلنا، ويستمرّ، إلّا إذا كنّا ندرك بطريقة غامضة أنَّ الحياة الدنيا مجرّد حلم ومقدّمة لميلاد جديد وبعث آخر، وأنَّ هناك حياة أخرى أطول أمداً، سيُحاسب فيها السَّارقون والظَّلَمة. هذا هو الدليل الذي يُبرهن به كانط على وجود الله، من خلال إثبات حرّية الإرادة في الاختيار بين سلوكين أحدهما صحيح والآخر خطأ، وأنّ الشعور بالواجب الذي يدفع الإنسان لفعل الصواب والخير يتضمّن الإيمان بالخلود (الجزاء الأخرويّ)؛ ولا يمكن أن نُسلِّم بالخلود إلّا على افتراض وجود علّة متكافئة قادرة على تحقيق العدالة المنشودة (الانتصاف من الظالم ومحاسبة السارق، وما إلى ذلك)، والتي لم تتحقّق في الحياة الدنيا، وهذا هو معنى التسليم بوجود الله. يرى كانط أنّ البرهان على وجود الله ليس برهاناً عقلياً، وإنما هو برهان عمليّ مستمدّ من الشعور الأخلاقيّ الفطريّ، وهو يفوق كثيراً المنطق النظريّ الذي وُجد لمعالجة الظواهر الحسّية. يُجيز لنا العقل النظريّ أن نعتقد بوجود إله وراء الأشياء، ولكنّ شعورنا الأخلاقي (العقل العمليّ) يأمرنا أن نعتقد بالإيمان بذلك الإله. كان روسو على صواب حين قال: إنَّ شعور القلب فوق منطق العقل. وأصاب پاسكال في قوله: إنَّ للقلب أسباباً خاصّة به لا يمكن أن يفهمها العقل. المصادر: 1. قصة الفلسفة، ول ديورانت: ص315 – 348. 2. مختصــر تاريـخ الفلســـفة، نايجــل واربــرتون، ص 157 – 171. 3. مقدّمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة، كانط، تقديم: عمر مهيبل.