الوعـي الذاتي والصـور النمطية
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
قد يتـوسـل إلى الوعي الذاتي بوعي الأنا آخرها في ضعة وجوده، أو قـل فيما تحسب أنه من عوامل تفـوق نموذجها الحضاري والاجتماعي على نموذجه، وبالتالي، من عوامل اتضاع مركزه. أما طريقتها المناسبة لمثل هذا «البحث» فهي المقارنة والمضاهاة بين النموذجين، ولكن لا على نحو محايد واستكشافي، هذه المرة، بل على نحو اغتراضي أو مغـترض يسهل على الدارس كشـفه من غير كبير عناء.
هكذا لا يأتي «اكتشاف» التفـوق الذاتي نتيجة لعملية موضوعية من البحث والتمحيص، وإنما يساق الاكتشاف ذاك على سبيل الابتداه، أي بوصفه بديهة، ثم يبدأ في «الاستدلال» على ذلك بعملية توتولوجية! وما أغنانا عن القول إن «المقارنة»، في هذه الحال، ليست مقارنة على الحقيقة؛ لأنها مبنية على عدم التوازن في قواعدها وشروطها، وهي -لذلك السبب- لا تعدو أن تكون انتقائية، تستـل من نموذج أفضل ما فيه من الموارد وتستل من الثاني أسوأ ما فيه منها فتقابل بينهما! وغير خاف أن الانتقائية فعـل أيديولوجي بامتياز؛ حيث مبناه على لعبة الإخفاء/ التلميع: تظهير عناصر وظواهر وأبعاد بعينها -يستحسن تظهيرها- وطمس أخرى يستـقـبح إبرازها!
ما من حاجة بنا إلى الإفاضة والتنفيل لبيان اتصال هذه الكيفية من وعي الآخر، في ثقافتنا اليوم، بتقليد مديد من رفـض الآخـر وإنكاره والحط من موروثه درج على التعبير عنه، في الثقافة الإسلامية، منذ نجحت الثقافة النصية في أن تحاصر تيارات العقل والاجتهاد وتـشنع على مصادرها اليونانية والخارجية عامة.
إن هذه الكيفية من الوعي تكاد أن تستأنف مضارباتها الأيديولوجية مع الآخر -المخالف في الملة- التي كانت قد بدأتها جدتها في العهد الكلاسيكي، وتكاد أن تسير على مطمارها حذفارا. بيد أنه إن دقـقنا النظر في ما وراء أزعومة تفـوق الأنا، وما وراء لوثة التمركز الذاتي، سيظهرنا التمعن على حالة سيكولوجية (لئلا نقول پاثولوجية) تعيشها هذه الأنا المعاصرة: هي حالة الشعور بالانكسار. لكنها لا تفصح عن نفسها بما هي كذلك، بل تنعكس في صورة تفـوق هو اسم مستعار لمكابـرة عنيدة ضد الاعتراف بالأمر الواقع! لنـقل، إذن، إن الأمر يتعلق بميكانيزم دفاعي تلجأ إليه الأنا فرارا بنفسها من وطأة ذلك الشعور السلبي الثقيل.
وقد يتوسل إلى ذلك الوعي (الذاتي) بوعي الأنا آخـرها بوصفه متفوقا وموطنا للقوة التي لا قبل للأنا بموازتها ولا بكف آثارها. غير أن وراء هذه الكيفية من وعي الآخر وجها ثانيا مطموسا أو، على الأقـل، غير مفصوح عنه، هو النظر (الذاتي) إلى الأنا بما هي تجسيد للنقص والقصور والضعف، الأمر الذي ينجم منه وعي شقي، ويتولد معه استعداد ذاتي -أو قابلية- لاستبطان الهزيمة واجترار مشاعر الانكسار والدونية واحتقار الذات، أي استدعاء سائر المشاعر التي تنشأ من سيكولوجيا مازوشية مريضة. من النافل القول إن مثل هذه البيئة النـفسية الكليمة هو ما يصبح مناسبا لانتعاش ظواهر اجتماعية وثقافية طفيلية من قبيل الميل إلى تقليد الآخر (= الغالب) واحتذائـه وائتـثاره في الفكر والسلوك والقيم والـنظم...إلخ!
هذا ضرب من الوعي الذاتي متولـد، هو الآخـر، من فعل المقارنة بين الأنا والآخر. ولقد يكون أسوأ ما في هذه المقارنة أنها تركب لقضيتها مركبا مختلفا، وشديد الإيذاء للذات في بعض الأحيان، حيث تنصرف إلى وضع مواطن قـوة الآخـر في كـفة مقابل مـواطن ضعف الأنا في كفة ثانية. وإذا كان ما هو في حكم المحمود في هذا الوعي أن وعي الأنا، هنا، يتخلص من الأسباب التي تدعو إلى إبداء الشعور بالمكابـرة -من حيث هي، مثلما قلنا، آلية دفاعية ضد الاعتراف بالهزيمة والأمر الواقع- فإن المذموم فيه أنه قد يسوق نفسه، في حالات أخـر، إلى ما هو أسوأ بكثير من المكابرة: إلى جلد الذات والتحقير الذاتي المرضي المتمادي في مرضيـته إلى حدود إنكارية وانتحارية! في هذا النوع من الوعي، يتحول التماهي مع الآخـر وإعدام الأنا، أو تحقيرها في الحد الأقـل، إلى مسلك وحيد إلى تحقيق «التـوازن» وإلى الشعور بالإيجابية! وما أغنانا عن القول إن دعاة خطاب التغربـن والقطيعة الكاملة مع الموروث الثقافي والحضاري هم أشد من يتمسكون بهذا المعتقـد الأيديولوجي، وأكثر من يعبر عن هذا الضرب من الوعي الشقي بالأنا والآخـر في الثـقافة العربية اليوم.
يتولد من كل كيفية من كيفيات الوعي (بالأنا والآخـر) خطاب قائم الذات ومطابق. لا يقتصر مدار كـل خطاب منها على الأنا والآخـر، وما يقع إنتاجه حولهما من صور نمطية فحسب، بل يجاوز ذلك بحيث يتناول العالم المحيط، والماضي (التراث) والحاضر (الحداثة) أيضا، مؤديـا وظائف أيديولوجية متعددة التجليات: إنكار، اعتراف، انغلاق، انفتاح، ممانعة واستنهاض، حوار، تنوير... إلخ. وما أغنانا عن القول إن الامتـناع عن التـفكير في ما وراء المقـول -مـما يخـفيه الفعـل الأيديولوجي- لا يؤدينا إلى إحسان فهم أغراض أي من تلك الخطابات على التحقيق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من الوعی
إقرأ أيضاً:
سهيل دياب: إسرائيل تمارس سياسة «المفاوضات تحت النار»
قال الدكتور سهيل دياب أستاذ العلوم السياسية، إنّ إسرائيل تمارس سياسة المفاوضات تحت النار، ووسط محاولات هوكستين وأمريكا، الوصول إلى وقف إطلاق النار، فإن دولة الاحتلال تستمر في تصعيد هجماتها.
وأضاف «دياب» في مداخلة مع الإعلامية مارينا المصري، مقدمة برنامج «مطروح للنقاش»، عبر قناة «القاهرة الإخبارية»: «في الحروب، كثير من الناس في وضع احتمال تحقيق انتصارا كبيرا، يسعون إلى زيادة الضغط حتى إذا ما جلسوا على طاولة المفاوضات، يكون الطرف الآخر تحت القصف، ويتعرض للضغط بالدرجة التي تجعله يمنح تنازلات بشكل أكبر».
وتابع أستاذ العلوم السياسية: «في حال التفاوض بعد وقف إطلاق النار، فإن الطرف الآخر سيطالب بأمرين مثلا، ولكن إن تفاوضت إسرائيل تحت القصف فإن الطرف الآخر سيكتفي بشيء واحد فقط، وهو ما تفعله روسيا في أوكرانيا، إذ تعلم موسكو أن دونالد ترامب قد يحل الأمور، لكنها زادت من وتيرة التصعيد في الفترة الأخيرة للحصول على اتفاق لصالحها».