لجريدة عمان:
2025-01-27@05:04:05 GMT

بين التقليد والإبداع في فكر الإنسان وتحولاته

تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT

منذ قرن ونصف تقريبا، ومع الاحتكاك مع النهضة الأوروبية ونهضتها العلمية الكبيرة، ووجود الهوة السحيقة بيننا وبين الغرب، مع هذه النهضة في العلوم والتكنولوجيا ومعارف شتى في الفلسفة والاجتماع انبهر العديد من الأجيال العربية عندما اطلعوا على هذه التحولات الجديدة التي تحققت في غرب أوروبا، منذ أوائل القرن الماضي، والمسافة الضخمة علميا، وتقنيا التي باعدتنا عنه، سواء حصل هذا الانبهار من بعض من درس في الجامعات الغربية، أو منهم من درس في بلدانهم، وتعرّفوا على الفلسفات السياسية والفكرية والعلوم الاجتماعية وغيرها، أو من خلال الترجمات والمعرفة الخاصة من اطلاعهم من خلال معرفتهم باللغة الأجنبية، أو من درسوا في الكليات التي تدرّس تخصصات اجتماعية وفلسفية غربية في بلادهم، وكما هو معروف أن الغرب من خلال النهضة الفكرية والفلسفية، وخاصة في مجال العلوم الإنسانية، حصل لديهم انشطار فكري متعدد في الفكرة الواحدة سنناقشها تاليًا، وهذا حصل بعد التقوقع والانحصار والتراجع الفكري والعلمي عموما الذي فرضته الكنائس الأوروبية في العصور الوسطى، فظهرت العديد من الفلسفات والمصطلحات التي تتناقض مع بعضها البعض، وهذه ربما كانت ردة فعل على التراجعات الكبيرة في الغرب لقرون مضت، والكبت يزرع ردود أفعال كبيرة ومتباينة، ومن هذه الفلسفات التي تبنّت مصطلحات متعددة في التفلسف في مجال الاجتماع، وبرزت أكثر حدة أتت بعد مصطلح الحداثة، وما بعد الحداثة أو الحركة المابعدية التي تلتها، وما برز عنها من فلسفات بعضها عدمية، والبعض الآخر غير ذلك، وتتحدث بعضها عن العقلانية بعيدا عن القيم الدينية، من أمثال فلسفات البنيوية، والتفكيكية، والنزعة التأويلية، والنزعة السلوكية والهرمنيوطيقية، والنزعة الإنسانية -نزعة الأنسنة- وغيرها من الاصطلاحات العديدة التي ظهرت في الغرب بعد عصر ما سُمّي بـ(الأنوار)، وهذه وغيرها، كان لها (رجع الصدى)، بين بعض الباحثين والمثقفين العرب، منذ عقود مضت، ولا تزال هذه النظرات والفلسفات تلاقي الاهتمام من البعض، دون الرؤية الفاحصة لظروف وتحولات الفكر الغربي ومضامينه.

ومن هذه الفلسفات أو النزعات التي كان لها صدى وقبول في واقعنا العربي -كما أشرت آنفا- وإن كانت في حدود بعض النخب المتغرّبة فكريا، لكنها لاقت اهتماما وفق النظرة الغربية وإن حصلت من بعضهم تراجعات فعلية عن هذا المسار. وهذا المصطلح: النزعة الإنسانية، أو الأنسنة، يطلق على هذه بالنزعة بـ(مبدأ الذاتية)، لكن لم تبحث من قبل بعض الكتّاب والباحثين من أبناء أمتنا عن أسباب طرح هذه الفكرة من أساسها في الغرب؟ وهل لها جذور في التاريخ الأوروبي؟ أم هي مجرد فكرة ونظرة مستحدثة؟ وهذه النزعة كما يقول أحمد عاطف في كتابه: (النزعة الإنسانية في الفكر العربي)، إن محتوى هذه: «النزعة الإنسانية من الفلسفة، أنها ليست نظاما فلسفيا ولا هي تعاليم محددة، وإنما هي حوار دائم شهد وجهات نظر مختلفة، ولا يزال، وبالتالي فأي محاولة لتحديد خصائصها لا يمكن الزعم أنها موضوعية، أو نهائية بل تظل دائما تعبيرا عن وجهة نظر شخصية». لكن هذه النزعة تعني بحسب بعض المقولات المتناثرة أن تكون مركزية الإنسان تتقدم على أي مرجعية أخرى تناقضها، وهذا ما جاء بعد القرن الثامن عاشر الذي شهد في هذا القرن، تحولات في الفكر والفلسفة والاجتماع، وحتى إن هذه الأفكار والفلسفات لم تتفق على رؤية فكرية تجاه قضايا متباينة في الفكر الإنساني عموما، وليس فقط مقولة النزعة الإنسانية وحدها، بل غيرها من الأفكار التي برزت، خاصة مقولات ما بعد الحداثة، ونهاية التاريخ، ونهاية الفلسفة، نهاية الأيديولوجيا، موت الإنسان، والكثير من الأفكار التشكيكية، أو التفكيكية.

ويبدو أن مقولة «النزعة الإنسانية»، وإن لم تظهر كما قيل إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، ضمن ظهور عشرات الرؤى الفلسفية، إلا أن لها جذورا تراثية يونانية كما قيل، بحسب رؤية الدكتور عبدالرزاق الدواي وذلك أن: «النزعة الإنسانية لم تظهر في الثقافة الغربية للمرة الأولى بحسب ما تذكره القواميس والموسوعات المختصة إلا في القرن التاسع عشر، حيث استعملها أحد علماء التربية الألمان، وكان يقصد من خلالها في البداية الدلالة على نظام تعليمي تربوي جديد يقترحه.. عن طريق الثقافة والآداب القديمة وبالأخص الآداب اللاتينية والإغريقية وذلك لغاية تلقينها مثلا أعلى في السلوك وفي المعرفة».

والإشكال الذي وقع في قضية نزعة الأنسنة، وفق المفهوم الغربي، وتابعها بعض من أبناء أمتنا تقليدًا لا إبداعًا، أنهم اعتقدوا أن النزعة الإنسانية رؤية جديدة من رؤى عصر النهضة الأوروبية، بكل ما تحمله من تطورات علمية ومعرفية، ولم يفرقوا بين أفكار معرفية بشرية تخمينية، وبين علوم تعتمد على الاختبار المعملي الخالص، لهذا يعتبرون ذلك قمة الفكر الإنساني الذي يجب أن يُتّبع ويُحتذى دون مناقشة، مع أن هذه النزعة مصدرها كما قيل أُخِذت من التراث الإغريقي واللاتيني! لكن للأسف هذه الأفكار حُوّلت إلى أفكار ونظرات مخالفة للقيمة نفسها قبليًّا مع ظهور عصر ما يُسمى بالأنوار، حتى النزعة الإنسانية القديمة التي خرجت منها، تم تحويرها وتحريفها، وتم جعل الإنسان محور الكون وأن العقل هو الذي يأخذ منه، مع أن ما يبرز من العقل يعتبر نسبيا، وقابلا للخطأ والصواب، وهؤلاء المقلدون للأسف الذين يسمون عصريين أو حداثيين، ومن تعلق بكل ما جاء من الغرب (خيره وشره)، غدت لديهم الأفكار الآتية من هناك مكسبا ثقافيا يجب احتذاؤه وتقليده، واعتبروا أن النزعة الإنسانية من فتوحات العقل الإنساني الجديد، بعد القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وهذه نظرة غير صحيحة في الواقع بعد حصول التحولات، وكل الفلسفات المعاصرة في الغرب لها رصيد تاريخي من اليونان والرومان، والغربيون لم يرفضوا كل تراثهم الفكري والديني، لكن خاصموا الكنيسة الغربية على تدخلاتها في غير مجالها الأساسي، وهو المجال الروحي.

وقد ظهرت اتجاهات في عصر الإصلاح الديني الأوروبي، في القرن الخامس عشر نظرة، كما يقول الكاتب مصطفى عاشور نوجه: «لإضفاء الصبغة الدينية على دور الإنسان في الحياة الدنيوية اليومية، وبرروا ذلك بأن الدِّين يتعرض للأمور التي تهتم بالحياة الدنيوية للإنسان، فطلب المصلح الديني «مارتن لوثر» جميع المسيحيين أن يكونوا قساوسة، وهي رؤية تكررت عند آخرين مثل «جون كالفن»، في حين ركز المفكرون الإنجليز مثل «جان كولت» و «السير توماس مور» على دور الدِّين في إصلاح الإنسان من الداخل، وسعى هؤلاء للتوفيق بين المسيحية وبين والإنسانوية المستلهمة من فلاسفة الإغريق القدماء. لكن مع القرن السادس عشر الميلادي، بدأت الإنسانوية ترتحل تدريجيًا بعيدًا عن الآراء الإصلاحية الدينية، وذلك مع الاهتمام بدراسة القانون في فرنسا. ومع تبلور نظام قانون يستقي من القانون الروماني القديم، تم تعريف إنسان عصر النهضة وفق الأسس والأنظمة الفكرية والفلسفية لأرسطو وأفلاطون، وفي ذلك العصر أصبحت فكرة مركزية الإنسان طاغية». لكن قضية النزعة الإنسانية سبقت في الإسلام قبل حركة الإصلاح الديني الغربي، وقبل عصر الأنوار، ولذلك النزعة الإنسانية تبنّاها الإسلام منذ العصر الأول، سواء في آيات الكتاب الكريم، أو أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أشرت في كتابي (أكاديميون ومفكرون عرفتهم)، إلى قضية النزعة الإنسانية، التي تختلف عما تم تحويره وتغييره فيما سُمّي بـ(الأنسنة) في الغرب، وقد أشرت إلى ما طرحه المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، حول ما أشار إليه بعض المثقفين الأوروبيين، الذين تعرفوا على القرآن الكريم، من خلال الترجمات، خاصة ما يتعلق بالنزعة الإنسانية في الإسلام، وإذ سارعوا -كما يشير الجابري- إلى: «توظيف ترجمات القرآن للاستعانة بها في تعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته ونعلي من شأنه كفرد حر... وأكثر ما كان يشدهم إلى القرآن (...)، قوله تعالى: «ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا». ولذلك الإصلاح الديني الغربي، استمد بلا شك مما جاء في الكتاب الكريم، ومن هؤلاء المصلح الإيطالي «جيوفاني بيكو» الذي كتب كتابا عن الكرامة الإنسانية، ومما قاله فيه: (لقد قرأت في كتب العرب أنه ليس ثمة في الكون أكثر روعة من الإنسان)، لذلك كان يفترض ممن تلقّف الأفكار من خارج محيطه أن يبحث في فكره، وقيمه، وتراثه، قبل أن يأخذها من الخارج، ويعتبرها من الفتوحات المعرفية من الخارج، بينهما بعض الغربيين اعترف أن النزعة الإنسانية، جاءت من مضامين الثقافة العربية/ الإسلامية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الفکر فی الغرب من خلال

إقرأ أيضاً:

حى فى الغرب ميت بالشرق.. «فصل المقال» و«تهافت التهافت»علامات ابن رشد فى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ليس سهلا، أن يتجاوز تاريخ الفلسفة، دور الفيلسوف العربى ابن رشد الأندلسى المتوفى عام ٥٢٠هـ، وما طرحه من أفكار تصدت للجمود والانغلاق، فمن خلال فلسفته طرح مفهومه للتأويل بوصفه المنقذ من التناقضات الدينية الظاهرية، والمصلح بين الفلسفة والدين، والمتسامح مع الاختلافات والتعددية، ومن خلال فلسفته أيضا تصدى لاستخدام "الإجماع الفقهي" سلاحا لتكفير الفلاسفة وتعطيل جهودهم. 
يأتى اسم ابن رشد كأحد أهم الأصوات الفلسفية فى تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، لما له من دور بارز فى التصدى للأفكار الجامدة التى أطلقها أبو حامد الغزالى ضد الفلسفة والفلاسفة، لذا قدم ابن رشد من خلال رسالته الصغيرة المسماة "فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" عرضا موجزا ومكثفا حول علاقة الدين بالفلسفة، وكيف أن العلاقة بينهما قائمة على التعاضد والتكامل، وليست متنافرة متناقضة، كما أوضح فيه دور الدين فى الحض على التفلسف والنظر العقلي، وناقش عدة قضايا بصورة مكثفة مثل التأويل وأهميته، ومعنى الإجماع، وجواز الاستفادة من علوم الآخرين المختلفين عنا فى الدين واللغة.
أما كتابه "تهافت التهافت" فقد تصدى فيه للمساءل التى ناقشها أبو حامد الغزالى فى كتابه "تهافت الفلاسفة" وبسببها كفَّر الفلاسفة، مثل قدم العالم وحدوثه، ومعرفة الله بالجزئيات، وغيرها من المسائل الكلامية الشائكة.
رشحه ابن طفيل الأندلسى للخليفة الموحدى أبى يوسف يعقوب المنصور الذى طلب منه شرح أرسطو، حينما اشتكى الخليفة من "قلق عبارة أرسطو"، بعدها أصبح مقربا من الخليفة وتمكن من أن يصبح فقهيا وقاضيا وفيلسوفا، وأهم شارح لفلسفة أرسطو.
كتب ابن رشد فى أربعة أقسام مهمة لحركة الثقافة العربية والإسلامية: شروح ومصنفات فلسفية وعملية، شروح ومصنفات طبية، كتب فقهية وكلامية، كتب أدبية ولغوية، واشتهر بشرح التراث الأرسطي، ومن شروحاته لأرسطو: "تلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة، شرح كتاب البرهان، تلخيص كتاب المقولات، شرح كتاب النفس، شرح كتاب القياس". 
وله مقالات كثيرة ومنها: "مقالة فى العقل. مقالة فى القياس، مقالة فى اتصال العقل المفارق بالإنسان. مقالة فى حركة الفلك. مقالة فى القياس الشرطي"، وله أيضا كتب أشهرها: كتاب "مناهج الأدلة"، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية، كتاب "تهافت التهافت" الذى رد فيه على كتاب الغزالى "تهافت الفلاسفة"، كتاب "الكليات"، كتاب "الحيوان"، كتاب "المسائل" فى الحكمة، كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" فى الفقه، كتاب "شرح أرجوزة ابن سينا" فى الطب.‏

البرهان العقلي

اعتمدت فلسفة ابن رشد على القياس العقلى والبرهان، فى كتابه "فصل المقال" رأى أن الشرعَ دعا المؤمنين إلى تدبّر الموجودات عن طريق العقل، ومن الواجب تعلّم القياس العقلى والاعتبار الذى هو "استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه".
وصفَ ابن رشد البرهان بأنه أتمُّ أنواع النظر العقلي، ومن الضرورى لمن يريد أن يعرف الله وسائر الموجودات أن يتعلّم أنواع البراهين، ويدركَ الفارق بينها، وبما خالفَ القياس البرهانى القياس الجدلى والقياس الخطابى والقياس المغالطي، ويُسمّى تلك العلوم بـ"منزلة الآلات من العمل".
انحاز ابن رشد فى فلسفته إلى التاريخ الإنسانى المتكامل فى وضع العلوم وتطوّرها، فقد رأى أن كلّ إنسان يحتاج لجهود غيره حتى يتمّ أيّ فنٍّ وأيّ صنعة، لذا كان من المنطقى أن يسمح ابن رشد بمطالعة جهد الأمم الأخرى غير المسلمة، وأن يتعرّف إلى جهود الأفراد مهما كانوا مختلفين عنه، فليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ أن يتخلّى عن جهود السابقين ويضع علم الفلك كاملًا من نفسه، وليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ "أن يقف على جميع الحجج التى استنبطها النظّار من أهل المذاهب فى مسائل الخلاف التى وقعت المناظرة فيها بينهم فى معظم بلاد الإسلام". 
وهاجم فيلسوف قرطبة ابن رشد فتاوى الإمام الغزالى التى كفَّر فيها الفلاسفة، وأعاد بذلك فتح باب الاجتهاد فى الفقه، كما واجه تحريم النظر العقلى والعمل بالفلسفة، مع وضع شروط تأويل ظاهر النص المخالف لحقائق العقل والمنطق.

خصوصية الخطاب الدينى والفلسفي

طالب المفكر المغربى محمد عابد الجابرى فى مقدمة كتابه "ابن رشد.. سيرة وفكر" بتعميم الروح الرشدية فى الأوساط الثقافية والمؤسسات التعليمية من أجل الحد من التطرف الدينى إلى درجته الأدنى، وترشيد جماعات "الإسلام السياسي".
ركز الجابرى على دراسة السمات العامة لعقلانية ابن رشد الواقعية، ويبرزها من خلال عدة نقاط كالتالي: الفصل بين الدين والفلسفة باعتبار أن لكل منهما مجاله الخاص وطريقته الخاصة، والنظرة الاكسيومية إلى كل من البناء الدينى والبناء الفلسفي، أى ربط القضايا بمنظومتها الفكرية الأصلية، وتأكيد العلاقة السببية فى عالم الطبيعة وعالم ما بعد الطبيعة سواء بسواء، وفهم حرية الإرادة البشرية ضمن الضرورة السببية وربطها بالعلم والأسباب. الميل إلى نوع عقلانى خاص من وحدة الوجود، يعتبر الإله كقوة رابطة بين أجزاء الكون وظواهره، قوة روحية هى فى آن واحد مندمجة فى الكون ومتعالية عليه.
من ناحية أخرى، فإن الشعور المرهف بخصوصية الخطاب الدينى والخطاب الفلسفى وبثقل المسئولية الملقاة على كاهل الفيلسوف، يؤدى إلى صعوبة الإمساك بالحقيقة، بل باستحالة الإمساك بها كاملة سواء فى مجال الدين أو مجال الفلسفة، الإدراك الواعى للأخطار التى تحدق بمن يغامر بالكشف عنها لمن ليس مؤهلا لتقبلها، وبالتالى الإدراك الواعى لثورية الحقيقة من جهة أخرى.

استفادة الغرب من ابن رشد

والمفارقة التى حدثت لابن رشد، كما يرى وهبه، أنه حى فى الغرب ميت فى الشرق، لأن فلسفته قد أجهضت فى العالم العربى إثر ما يسمى بنكبة ابن رشد وهى النكبة التى حدثت حين أصدر يعقوب المنصور (ت. ١١٩٩م) أمرًا بنفى ابن رشد إلى اليسانه، فى حين أن الإمبراطور فردريك الثانى قد أمر بترجمة مؤلفات ابن رشد ونشرها، وقد كان فى صراع مع رجال الدين المسيحى وكانت فلسفة ابن رشد العقلية هادية له فى مواجهة هذا الصراع. والمفارقة هنا أن ابن رشد ميت فى الشرق حى فى الغرب وهى مفارقة فى حاجة إلى تفسير. 
لم ينخدع مراد وهبه فى كلمات ابن رشد الخاصة بالقيود التى فرضها على العامة أو الجمهور لدخول عالم الفلسفة، قائلًا إن الفيلسوف الأندلسى لم يكن راغبًا فى إبعاد الجمهور عن مجال الفلسفة ولكن بشرط ألا ينغمس الجمهور فى المتع الحسية، لأن من شأن هذه المتع أن تمنع الإنسان من التحكم فى ذاته، ومعنى ذلك أن التحكم فى هذه المتع يسمح للإنسان بمجاوزة ما هو حسى إلى ما هو عقلى، أى بمجاوزة ما هو خطابى أو ما هو شعرى إلى ما هو برهانى، ومعنى ذلك أن الباب مفتوح أمام الجمهور كى يصل إلى ممارسة البرهان العقلى، وإذا دخل الجمهور من هذا الباب أصبح من الميسور أن يكونوا رؤساء فى مدينة ابن رشد، وبذلك ينتفى الانفصال بين الجمهور والحكماء.

محورية التأويل

انتبه «وهبه» إلى مقولة محورية فى فلسفة ابن رشد، وهى مقولة «التأويل»، أى تأويل ظاهر النص ليتوافق مع العقل، إذ يقول ابن رشد، فى شأن العلاقة بين الشريعة والبرهان العقلى: "إن أدى النظر البرهانى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو نطق به. فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعى. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا فإن كان موافقا فلا قول هناك وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله".
منح التأويل ابن رشد مساحة كبيرة للقول باستحالة قيام "إجماع حقيقى"، وأن خرق الإجماع لا يقتضى التكفير، ونقلًا عن «وهبه» فإن «التأويل يخرق الإجماع، إذ لا يتصور فيه إجماع، ولهذا يمتنع تكفير المؤول، ولهذا فقد غلط أبو حامد الغزالى عندما كفر الفلاسفة من أهل الإسلام مثل الفارابى وابن سينا فى كتابه «تهافت الفلاسفة».
تساءل : «ماذا يعنى تكفير الفلاسفة؟ يعنى أن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك الحقيقة المطلقة وهذا الوهم هو الذى يحد من سلطان العقل، وقد أراد ابن رشد إزالة سلطان هذا الوهم بحيث لا يبقى سوى سلطان العقل، وهذا هو جوهر التنوير. ومن هنا يمكن القول إن ما حدث لابن رشد من إحراق كتبه ومحاكمته ونفيه مردود إلى دعوته إلى التأويل على نحو ما ارتآه».
يعتقد "وهبة" أن مقولة التأويل لديها الكثير كى تقدمه من أجل نهضة فكرية عربية، فالتأويل منع الإجماع لأنه أعطى مساحة أوسع للاختلاف والبحث عن مضامين أكثر عقلانية ومنطقية، كما أنه يعترف بضرورة التعددية أى أنه يتسامح مع الآخر لذا فسوف ينتفى معه التكفير، أى أن التأويل مفتاح للوصول إلى مرحلة التعددية وقبول الآخر ونفى سلطة الرأى الأوحد، قائلًا إن التأويل الحقيقى يمتنع معه التكفير لأن التأويل معناه التسامح تجاه الاختلاف. ولماذا التسامح؟ لأن العقل لديه بدائل العقل لا يكتفى ببديل واحد وإذا اكتفى العقل بديل واحد يقع فى براثن الدوجماطيقية أى أنه يقع فى توهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وإذا وقع العقل فى هذا الوهم امتنع التطور وبناء عليه فإن مفهوم التأويل عند ابن رشد يبيح التعددية فيمتنع التكفير ويلزم من ذلك التطور. 
شرح "وهبة" فكرة تقديم العقل التى استفادها من ابن رشد بأننا باذلون الجهد الفطرى فى استكناه حقيقة الكون بالفكر الفلسفى البرهانى فإن وجدناها متفقة مع الشريعة كان خيرا وإلا فنحن مضطرون عند التعارض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف والأخذ بما أنتجه البحث العقلى أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان، فإذا ورد فى البرهان وهو أساس التأويل ما يبدو مخالفا للشرع وجب تأويل الشرع ليطابق البرهان لأنه لا يخالف الشرع من حيث أن كليهما حق، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
إجمالًا، فإن "وهبة" حدد طبيعة قانون التأويل الذى رسمه الفيلسوف الأندلسى، بأنه لا يأتى إلا من قبل الراسخين فى العلم. وأن نشر التأويلات فى غير كتب البرهان يفضى إلى تكثير أهل الفساد. وأن الإجماع فى التأويل أمر محال، لأن تحقيق الإجماع يستلزم معرفة جميع العلماء الموجودين فى عصر معين، كما يستلزم ألا يكون هناك من العلماء من يجهل وجوده أو تعلمه ولكنه يكتم رأيه، وأنه لا يجوز التكفير على خرق الإجماع فى التأويل، لأن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك للحقيقة المطلقة ومن شأن هذا الوهم أن يَحد من سلطان العقل، والتأويل بالمعنى الرشدى هو الذى يمنع الإنسان من الوقوع فى ذلك الوهم فلا يبقى حد لسلطان العقل. 

مقالات مشابهة

  • الإنسانية والدين.. صراعٌ أم تكامل؟
  • صالح القرني: منافسة جمهور الاتحاد أمر صعب للغاية.. فيديو
  • القاعة الرئيسية في معرض الكتاب تناقش «العرب والغرب .. رؤى مُتبادلة»
  • محكمة أوربية في سابقة... المرأة التي ترفض إقامة علاقة جنسية مع زوجها ليست مخطئة
  • موسكو تتهم الغرب بالتستر على مجرمي الإنترنت الأوكرانيين
  • «الإسلام في تصورات الغرب».. عرض موضوعي لتصورات الآخر عن ديننا وحضارتنا
  • لطيفة بنت محمد: بناء منظومة مزدهرة للابتكار والإبداع
  • حى فى الغرب ميت بالشرق.. «فصل المقال» و«تهافت التهافت»علامات ابن رشد فى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية
  • مشيرة خطاب: دستور 2014 نقلة نوعية في تاريخ الحقوق الإنسانية
  • لطيفة بنت محمد تلتقي المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية في دافوس 2025