بين التقليد والإبداع في فكر الإنسان وتحولاته
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
منذ قرن ونصف تقريبا، ومع الاحتكاك مع النهضة الأوروبية ونهضتها العلمية الكبيرة، ووجود الهوة السحيقة بيننا وبين الغرب، مع هذه النهضة في العلوم والتكنولوجيا ومعارف شتى في الفلسفة والاجتماع انبهر العديد من الأجيال العربية عندما اطلعوا على هذه التحولات الجديدة التي تحققت في غرب أوروبا، منذ أوائل القرن الماضي، والمسافة الضخمة علميا، وتقنيا التي باعدتنا عنه، سواء حصل هذا الانبهار من بعض من درس في الجامعات الغربية، أو منهم من درس في بلدانهم، وتعرّفوا على الفلسفات السياسية والفكرية والعلوم الاجتماعية وغيرها، أو من خلال الترجمات والمعرفة الخاصة من اطلاعهم من خلال معرفتهم باللغة الأجنبية، أو من درسوا في الكليات التي تدرّس تخصصات اجتماعية وفلسفية غربية في بلادهم، وكما هو معروف أن الغرب من خلال النهضة الفكرية والفلسفية، وخاصة في مجال العلوم الإنسانية، حصل لديهم انشطار فكري متعدد في الفكرة الواحدة سنناقشها تاليًا، وهذا حصل بعد التقوقع والانحصار والتراجع الفكري والعلمي عموما الذي فرضته الكنائس الأوروبية في العصور الوسطى، فظهرت العديد من الفلسفات والمصطلحات التي تتناقض مع بعضها البعض، وهذه ربما كانت ردة فعل على التراجعات الكبيرة في الغرب لقرون مضت، والكبت يزرع ردود أفعال كبيرة ومتباينة، ومن هذه الفلسفات التي تبنّت مصطلحات متعددة في التفلسف في مجال الاجتماع، وبرزت أكثر حدة أتت بعد مصطلح الحداثة، وما بعد الحداثة أو الحركة المابعدية التي تلتها، وما برز عنها من فلسفات بعضها عدمية، والبعض الآخر غير ذلك، وتتحدث بعضها عن العقلانية بعيدا عن القيم الدينية، من أمثال فلسفات البنيوية، والتفكيكية، والنزعة التأويلية، والنزعة السلوكية والهرمنيوطيقية، والنزعة الإنسانية -نزعة الأنسنة- وغيرها من الاصطلاحات العديدة التي ظهرت في الغرب بعد عصر ما سُمّي بـ(الأنوار)، وهذه وغيرها، كان لها (رجع الصدى)، بين بعض الباحثين والمثقفين العرب، منذ عقود مضت، ولا تزال هذه النظرات والفلسفات تلاقي الاهتمام من البعض، دون الرؤية الفاحصة لظروف وتحولات الفكر الغربي ومضامينه.
ومن هذه الفلسفات أو النزعات التي كان لها صدى وقبول في واقعنا العربي -كما أشرت آنفا- وإن كانت في حدود بعض النخب المتغرّبة فكريا، لكنها لاقت اهتماما وفق النظرة الغربية وإن حصلت من بعضهم تراجعات فعلية عن هذا المسار. وهذا المصطلح: النزعة الإنسانية، أو الأنسنة، يطلق على هذه بالنزعة بـ(مبدأ الذاتية)، لكن لم تبحث من قبل بعض الكتّاب والباحثين من أبناء أمتنا عن أسباب طرح هذه الفكرة من أساسها في الغرب؟ وهل لها جذور في التاريخ الأوروبي؟ أم هي مجرد فكرة ونظرة مستحدثة؟ وهذه النزعة كما يقول أحمد عاطف في كتابه: (النزعة الإنسانية في الفكر العربي)، إن محتوى هذه: «النزعة الإنسانية من الفلسفة، أنها ليست نظاما فلسفيا ولا هي تعاليم محددة، وإنما هي حوار دائم شهد وجهات نظر مختلفة، ولا يزال، وبالتالي فأي محاولة لتحديد خصائصها لا يمكن الزعم أنها موضوعية، أو نهائية بل تظل دائما تعبيرا عن وجهة نظر شخصية». لكن هذه النزعة تعني بحسب بعض المقولات المتناثرة أن تكون مركزية الإنسان تتقدم على أي مرجعية أخرى تناقضها، وهذا ما جاء بعد القرن الثامن عاشر الذي شهد في هذا القرن، تحولات في الفكر والفلسفة والاجتماع، وحتى إن هذه الأفكار والفلسفات لم تتفق على رؤية فكرية تجاه قضايا متباينة في الفكر الإنساني عموما، وليس فقط مقولة النزعة الإنسانية وحدها، بل غيرها من الأفكار التي برزت، خاصة مقولات ما بعد الحداثة، ونهاية التاريخ، ونهاية الفلسفة، نهاية الأيديولوجيا، موت الإنسان، والكثير من الأفكار التشكيكية، أو التفكيكية.
ويبدو أن مقولة «النزعة الإنسانية»، وإن لم تظهر كما قيل إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، ضمن ظهور عشرات الرؤى الفلسفية، إلا أن لها جذورا تراثية يونانية كما قيل، بحسب رؤية الدكتور عبدالرزاق الدواي وذلك أن: «النزعة الإنسانية لم تظهر في الثقافة الغربية للمرة الأولى بحسب ما تذكره القواميس والموسوعات المختصة إلا في القرن التاسع عشر، حيث استعملها أحد علماء التربية الألمان، وكان يقصد من خلالها في البداية الدلالة على نظام تعليمي تربوي جديد يقترحه.. عن طريق الثقافة والآداب القديمة وبالأخص الآداب اللاتينية والإغريقية وذلك لغاية تلقينها مثلا أعلى في السلوك وفي المعرفة».
والإشكال الذي وقع في قضية نزعة الأنسنة، وفق المفهوم الغربي، وتابعها بعض من أبناء أمتنا تقليدًا لا إبداعًا، أنهم اعتقدوا أن النزعة الإنسانية رؤية جديدة من رؤى عصر النهضة الأوروبية، بكل ما تحمله من تطورات علمية ومعرفية، ولم يفرقوا بين أفكار معرفية بشرية تخمينية، وبين علوم تعتمد على الاختبار المعملي الخالص، لهذا يعتبرون ذلك قمة الفكر الإنساني الذي يجب أن يُتّبع ويُحتذى دون مناقشة، مع أن هذه النزعة مصدرها كما قيل أُخِذت من التراث الإغريقي واللاتيني! لكن للأسف هذه الأفكار حُوّلت إلى أفكار ونظرات مخالفة للقيمة نفسها قبليًّا مع ظهور عصر ما يُسمى بالأنوار، حتى النزعة الإنسانية القديمة التي خرجت منها، تم تحويرها وتحريفها، وتم جعل الإنسان محور الكون وأن العقل هو الذي يأخذ منه، مع أن ما يبرز من العقل يعتبر نسبيا، وقابلا للخطأ والصواب، وهؤلاء المقلدون للأسف الذين يسمون عصريين أو حداثيين، ومن تعلق بكل ما جاء من الغرب (خيره وشره)، غدت لديهم الأفكار الآتية من هناك مكسبا ثقافيا يجب احتذاؤه وتقليده، واعتبروا أن النزعة الإنسانية من فتوحات العقل الإنساني الجديد، بعد القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وهذه نظرة غير صحيحة في الواقع بعد حصول التحولات، وكل الفلسفات المعاصرة في الغرب لها رصيد تاريخي من اليونان والرومان، والغربيون لم يرفضوا كل تراثهم الفكري والديني، لكن خاصموا الكنيسة الغربية على تدخلاتها في غير مجالها الأساسي، وهو المجال الروحي.
وقد ظهرت اتجاهات في عصر الإصلاح الديني الأوروبي، في القرن الخامس عشر نظرة، كما يقول الكاتب مصطفى عاشور نوجه: «لإضفاء الصبغة الدينية على دور الإنسان في الحياة الدنيوية اليومية، وبرروا ذلك بأن الدِّين يتعرض للأمور التي تهتم بالحياة الدنيوية للإنسان، فطلب المصلح الديني «مارتن لوثر» جميع المسيحيين أن يكونوا قساوسة، وهي رؤية تكررت عند آخرين مثل «جون كالفن»، في حين ركز المفكرون الإنجليز مثل «جان كولت» و «السير توماس مور» على دور الدِّين في إصلاح الإنسان من الداخل، وسعى هؤلاء للتوفيق بين المسيحية وبين والإنسانوية المستلهمة من فلاسفة الإغريق القدماء. لكن مع القرن السادس عشر الميلادي، بدأت الإنسانوية ترتحل تدريجيًا بعيدًا عن الآراء الإصلاحية الدينية، وذلك مع الاهتمام بدراسة القانون في فرنسا. ومع تبلور نظام قانون يستقي من القانون الروماني القديم، تم تعريف إنسان عصر النهضة وفق الأسس والأنظمة الفكرية والفلسفية لأرسطو وأفلاطون، وفي ذلك العصر أصبحت فكرة مركزية الإنسان طاغية». لكن قضية النزعة الإنسانية سبقت في الإسلام قبل حركة الإصلاح الديني الغربي، وقبل عصر الأنوار، ولذلك النزعة الإنسانية تبنّاها الإسلام منذ العصر الأول، سواء في آيات الكتاب الكريم، أو أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أشرت في كتابي (أكاديميون ومفكرون عرفتهم)، إلى قضية النزعة الإنسانية، التي تختلف عما تم تحويره وتغييره فيما سُمّي بـ(الأنسنة) في الغرب، وقد أشرت إلى ما طرحه المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، حول ما أشار إليه بعض المثقفين الأوروبيين، الذين تعرفوا على القرآن الكريم، من خلال الترجمات، خاصة ما يتعلق بالنزعة الإنسانية في الإسلام، وإذ سارعوا -كما يشير الجابري- إلى: «توظيف ترجمات القرآن للاستعانة بها في تعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته ونعلي من شأنه كفرد حر... وأكثر ما كان يشدهم إلى القرآن (...)، قوله تعالى: «ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا». ولذلك الإصلاح الديني الغربي، استمد بلا شك مما جاء في الكتاب الكريم، ومن هؤلاء المصلح الإيطالي «جيوفاني بيكو» الذي كتب كتابا عن الكرامة الإنسانية، ومما قاله فيه: (لقد قرأت في كتب العرب أنه ليس ثمة في الكون أكثر روعة من الإنسان)، لذلك كان يفترض ممن تلقّف الأفكار من خارج محيطه أن يبحث في فكره، وقيمه، وتراثه، قبل أن يأخذها من الخارج، ويعتبرها من الفتوحات المعرفية من الخارج، بينهما بعض الغربيين اعترف أن النزعة الإنسانية، جاءت من مضامين الثقافة العربية/ الإسلامية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الفکر فی الغرب من خلال
إقرأ أيضاً:
الغرب انتهى في عصر ترامب وباتت أوروبا بمفردها
في عام 1966، بعد سنوات من الاحتكاك مع الولايات المتحدة حول ما إذا كان ينبغي أن تمتلك فرنسا رادعها النووي المستقل، سحب الرئيس الفرنسي شارل ديجول بلده من القيادة المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (وإن لم يسحبها من الحلف نفسه - وهو فهم خاطئ شائع) وطلب مغادرة جميع القوات الأمريكية المتمركزة في فرنسا. وردا على ذلك، وجَّه دين راسك وزير الخارجية الأمريكي سؤالا لديجول: «هل يشمل هذا القتلى الأمريكيين في المقابر العسكرية أيضا؟»
في إجازة أسبوعية واحدة، حصل ديجول على تبرئة تاريخية من الهجمات المباشرة التي شنها جيه دي فانس على الديمقراطية الأوروبية في مؤتمر ميونيخ للأمن واجتماعه مع القوى السياسية اليمينية المتطرفة المناهضة لأوروبا في ألمانيا.
ثمة أمور يتجنب المرء قولها لأطول وقت ممكن، خوفا من أن يؤدي النطق بها إلى إيجادها.
منذ أن تولى فلاديمير بوتن السلطة، وله مشروع جيوسياسي مزدوج، يتمثل في تفكيك حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وكان نثر بذور الشك والريبة استراتيجية أساسية لتحقيق هذه الغاية. ولقد تم الوصول إلى نقطة تحول، فأصبح التشبث في شيء لم يعد له وجود أخطر من الجهر باختفائه، فها هو بين أيديكم:
لقد انتهى الغرب، بأي معنى متماسك.
يعتقد علماء العلاقات الدولية البنيويون أن مصالح الدول في نهاية المطاف هي نتاج أنظمة المعنى التي نخلقها مع بعضنا البعض. وطالما نظر الكثيرون إلى حلف شمال الأطلسي باعتباره المثال الأبرز للبنائية في العمل. فبعد الحرب العالمية الثانية، حل التحالف العسكري لحلف شمال الأطلسي فجوة الثقة من خلال إعادة تعريفه للأمن الأوروبي باعتباره شأنا جماعيا. ففتح بذلك الباب أمام الدول الأوروبية للإمعان في التخلي عن بعض السيادة سعيا إلى الاتحاد السياسي أيضا.
كانت الدول الأعضاء التي تمثل جوهر حلف شمال الأطلسي هي التي تمثل جوهر «الغرب»، وليس ذلك فقط لأنها كانت ترى الاتحاد السوفييتي تهديدا، ولكن أيضا لأن هذه الدول كان لديها شعور بـ«الجماعة» تجاه بعضها بعضا. فقد كانت تمارس الديمقراطية الليبرالية، القائمة على الانتخابات الحرة والنزيهة وإخضاع السلطة الصرفة لسادة القانون (لا على المستوى المحلي فقط بل وعلى المستوى الدولي أيضا ــ وإن بشكل غير كامل). باختصار، هو مجتمع قائم على القيم، انسحب منه إيلون ماسك ودونالد ترامب وفانس واليمين المتطرف في الولايات المتحدة.
في عام 2019، أثار إيمانويل ماكرون رد فعل عنيف بإعلانه أن حلف شمال الأطلسي «ميت دماغيا»، فما كان من الحلف إلا أن استعاد هدفه بعد غزو بوتن لأوكرانيا في عام 2022. والواقع أن هذا الانبعاث كان أقرب إلى صحوة الموت الأخيرة لا إلى الانبعاث، وجاء انتخاب ترامب فكان بمقام سحب للقابس. وأيا كانت المؤسسات التي تستمر في عجزها، أو أيا كانت الاجتماعات التي تُعقد بالفخامة الدبلوماسية اللازمة، فثمة سؤال واحد فقط هو الجوهري والعملي. هل يعتقد أحد حقا أن ترامب سوف يحترم تفعيل المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي التي يعتبر بموجبها الهجوم على دولة عضو هجوما على الجميع؟
دعكم من الإهمال الحميد. فمع تهديدات بشن حرب اقتصادية أو غزو صريح من أجل ضم كندا وجرينلاند، أصبحت الولايات المتحدة الآن هي التهديد الأساسي لجارتها الشمالية المسالمة، وثاني أكبر تهديد لحلفائها الأوروبيين السابقين. والشعوب الأوروبية تفهم هذا، فـ22٪ فقط منهم هم الذين يرون الولايات المتحدة حليفا.
وكما أن حلف شمال الأطلسي - في الوقت الحالي - لا يستطيع أن يوجد وظيفيا بدون الولايات المتحدة، وهي أقوى أعضائه، فإن «الغرب» لا يمكن أن يوجد مفاهيميا عندما تبدو الدولة التي تمثل 35٪ من سكانه البالغ عددهم حوالي مليار نسمة وأكثر من 40٪ من اقتصاده معادية للقيم الديمقراطية الليبرالية في ظل سيادة القانون، مؤثرة على ذلك حكم الأقلية التكنو-عدمية في ظل استبداد تنافسي.
ماسك الآن ملك بالوكالة، غير منتخب، دخل أتباعه المباني الحكومية الآمنة، واستولوا على أنظمة تكنولوجيا المعلومات، ونفذوا عمليات محو معلومات بالجملة. وأنهت الإدارة برنامج المساعدات الخارجية الأمريكية دون موافقة الكونجرس ـ وهي خطوة وصفها المشرعون الديمقراطيون بـ«غير الدستورية وغير القانونية» ـ دافعة الملايين إلى الجوع والمرض واليأس. وأشار كل من ترامب وفانس إلى أنهما قد يتجاهلان أوامر المحكمة، ويوظفان عشرات آلاف الموالين، ويستعملان الدولة سلاحا ضد الصحفيين والناشطين ومعارضيهم السياسيين. وتجري بالفعل عملية تطهير للخدمة المدنية الفيدرالية. وعلاوة على ذلك، وقع ترامب أيضا أمرا تنفيذيا لوقف مقاضاة الأمريكيين المتهمين برشوة المسؤولين الحكوميين الأجانب للفوز بأعمال تجارية. ولا شيء من هذه التغييرات الجذرية في النظام الدستوري الأمريكي يجري في الخفاء، فقد ذكر ترامب أكثر من مرة أنه سيخدم لفترة رئاسية ثالثة، على الرغم من حدود فترات الرئاسة الأمريكية. وفي نهاية الأسبوع الماضي فقط استحضر شبح نابليون وبدا كأنه يعلن أنه فوق القانون عندما نشر تغريدة قال فيها: إن «من ينقذ بلاده لا ينتهك أي قوانين». وحتى في حال إجراء الولايات المتحدة انتخابات حرة ونزيهة في عام 2028 ـ وهو ما يتضاءل احتمال حدوثه بسرعة ـ فإزاحة ترامب والجمهوريين عن السلطة، فلن يكون هناك سبيل إلى إعادة ما تحطم الآن إلى حالته الأصلية. وليس ذلك على المستوى المحلي فقط، وإنما على المستوى الدولي أيضا. فلا يمكن التنبؤ بتصرفات الولايات المتحدة. ولن تكون إدارة «صديقة» في المستقبل بقادرة على تقديم أي التزامات طويلة الأجل تتجاوز فترة ولايتها في السلطة. وحجم الولايات المتحدة الهائل اقتصاديا يجعل الفوضى الحالية والمستقبلية غير محتملة لبقية العالم الذي يجب عليه الآن أن يحاول تطويقها قدر الإمكان. وقد تكون بداية ذلك هي فرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على واردات تسلا وهو ما كانت تروجه كريستيا فريلاند، المرشحة لمنصب رئيسة وزراء كندا المقبلة، والتحرك بسرعة إلى تعويض هجوم إدارة ترامب على أهداف المناخ العالمية.
لقد أهدر زعماء أوروبا مهلة أربع سنوات، ولكن لعل الأيام الماضية أكدت لهم أخيرا أن الفوضى كدأبها هي نتاج أفعالنا. حظر موقع إكس؟ طال انتظار ذلك. اعتماد على ستارلينك أو سبيس إكس أو أي شيء آخر مرتبط بماسك؟ لا يمكن أن يكون حصان طروادة أوضح من ذلك حتى لو ظهر مكتوبا في النجوم.
يجب على أوروبا أن تستحوذ على كل ذرة من القوة الناعمة تتخلى عنها الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، حيث تعاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، يجب أن يرى الاتحاد الأوروبي فرصة كبيرة للتدخل. وفي حين أننا لا ينبغي أن نستسلم لأي وهم بشأن الصين ـ وهي دولة ذات خطط إقليمية إمبريالية وسياسات اقتصادية استعمارية في جميع أنحاء القارة الأفريقية وسجل فظيع في حقوق الإنسان ـ خلافا للولايات المتحدة، فإنها اللاعب العالمي الوحيد الذي لديه القدرة على التحرك بالحجم والسرعة اللازمين لإزالة الكربون بما يكفي من الانبعاثات حتى نتمكن من الاستمرار في الحصول على فرصة للحد من الانحباس الحراري العالمي إلى درجتين مئويتين. لو أن هناك فرصة لإبرام صفقة تركز على المناخ، فلا يجب أن يتردد الاتحاد الأوروبي في إعطاء الأولوية لذلك على اعتراضات الولايات المتحدة في نهاية المطاف.
من المؤكد أن أوروبا يجب أن تكون قادرة على ردع العدوان بمفردها تماما ـ بغض النظر عن ماهية المعتدي. ثم إنها يجب أن تستدعي روح ديجول وتخبر الولايات المتحدة بأن وقتها في القارة انتهى. أما عن القتلى الأمريكيين في المقابر العسكرية؟ ففي الوقت الحالي على الأقل، لا تزال القيم التي ضحى الأمريكيون بأنفسهم من أجلها قائمة في أوروبا.