في درنة.. رائحة الموت في كل مكان وجثث يصعب التعرف على اصحابها
تاريخ النشر: 20th, September 2023 GMT
درنة "أ.ف.ب ": ينهمك محمد بدر بتنظيف منزله الغارق في الوحول والتربة، ويتوقف ليعدّد أسماء عائلات من جيرانه وأقاربه لا يعرف شيئا عن مصيرهم منذ الفيضانات المدمرة التي جرفت أجزاء واسعة من مدينة درنة في شرق ليبيا.
جاء الى المنزل مع فريق من ستة عمال محاولا إنقاذ ما تبقى من أثاث المنزل وأغراضه الشخصية، بعد أن نجا من الموت بأعجوبة.
على السطح حيث نقل بضع قطع من أثاث منزله وأغراض عائلته، يعود بتأثر الى الساعات التي كان محاصرًا خلالها بالمياه ليلة العاشر من سبتمبر، "سمعتُ الكثير من الصراخ، هناك جيران لي صرخوا حتى الموت. كانت الدنيا ظلاما وليس هناك أحد" لمساعدتهم.
يؤكد أنه عاش في تلك الليلة "أكثر من كابوس". "توفي شقيقي بعدما نزف لساعات بسبب إصابة في ذراعه التي سقط عليها شيء ما"، من دون أن يتمكن أحد من إسعافه. عندما اجتاحت المياه منزل العائلة، تشبّث محمد بدر بمكيّف الهواء، وظلّت المياه تصعد، فلم يبق لديه سوى مسافة نصف متر تقريبًا أبقى رأسه فيها خارج المياه. لكن المكيّف ما لبث أن اقتُلع من مكانه، وكاد يغرق قبل أن تتحوّل كنبة كانت تطفو بجانبه، الى قارب نجاته. بقي متمسكا بها ساعات قبل أن ينكسر زجاج نافذة الغرفة ويبدأ مستوى المياه بالانخفاض.
على جدران المنزل، لا يزال أثر المستوى الذي وصلت إليه المياه واضحا في أعلى الغرف.
ونجا أيضا والداه وزوجة أخيه وأبناؤهما الثلاثة، لكنه لم يسمع شيئا عن العديد من أقربائه.
ويروي أن لا أثر لـ32 شخصًا من أعمامه وعائلاتهم الذين "لم يُعثر على جثثهم بعد لأن المبنى (الذي كانوا يقطنون فيه) لا يزال مطبقًا على بعضه"، مضيفًا "قد يكون عُثر على جثثهم لكن لم يتعرّف أحد عليها، فالجثة لا تعود محددة الملامح بعد مرور الوقت".
وضربت عاصفة قوية شرق ليبيا ليل العاشر من سبتمبر مصحوبة بأمطار غزيرة تسبّبت بانهيار سدّين في أعلى درنة، ما أدى إلى تدفق مياه أشبه بتسونامي في مجرى نهر جاف إجمالا اجتاحت مناطق واسعة، جارفة في طريقها أبنية وجسورا وموقعة 3351 قتيلا على الأقل، في أحدث حصيلة رسمية موقتة لسلطات شرق ليبيا، بينما لا يزال هناك آلاف المفقودين.
في الأيام الأولى بعد الكارثة، عملت فرق إغاثة ومتطوعون عثروا على جثث من ضحايا الفيضانات، أحيانا على وضعها في أكياس ودفنها في مقابر جماعية من دون التعرّف عليها، وفق بعض التقارير.
يحاول بدر إنقاذ ما قد يكون لا يزال صالحًا للاستخدام من منزله. على السطح، كنبات وأوسدة، وملابس وآلة ركض، بالإضافة إلى مصابيح وطاولات خشبية وكراس بلاستيكية وسجاد وستائر وأدوات كهربائية. ويقول "الله أعلم إن كانت تشتغل"، مضيفا أنه يسعى للعثور على "أغراض ومستندات يجب إخراجها" من المكان.
وليس محمد بدر وحده من ينتظر معرفة مصير معارفه وأقاربه.
في مكان آخر من درنة، وفي "استراحة" متواضعة أقامها لتقديم مياه للشرب ومرطبات لعناصر الإغاثة في المدينة، لم تجفّ دموع محمود ارقيق (50 عامًا) وهو يتحدثّ عن فقدان جيرانه الذين يعرفهم منذ 50 سنة.
ويعدّد بدوره عائلات لم يسمع عنها أي خبر "عائلة الكراز، عائلة بو شتيلة، عائلة غرياني، آل سنيدل، عائلة الطشاني...".
ويقول إنه انتشل من حيّه "في اليوم الأول (بعد الفيضانات) 20 جثة"، موضحا أن جميع من نجا كان يساهم في عملية البحث، لكن الانتشال "من تحت الأنقاض يحتاج إلى متخصصين".
ويردّد كثيرون ممن التقتهم وكالة فرانس برس في درنة أن الجثث موجودة في كل مكان، تحت الأبنية المدمرة، أو ربما تحت التربة التي حولت أحياء بكاملها الى مساحات فارغة. في بعض الأحياء، تنبعث رائحة نتنة يقول مسعفون وسكان إنها صادرة على الأرجح من تلك الجثث.
ولم يتأذ منزل محمود ارقيق الواقع في طابق مرتفع، لكنه يدلّ فريق فرانس برس على "مصدر رزقه"، ورشة خراطة تدمرت بالكامل.
في الاستراحة، يحتسي ميلود بوسرتيه (40 عامًا) الشاي بينما لا تزال الصدمة بادية على وجهه. يقول إنه فقد 25 شخصًا من عائلته. ويضيف "عمارتي انهارت وكان فيها 25 شخصًا توفوا جميعًا رحمة الله عليهم، هذا في عمارتي فقط، لكن لدي عمّي وأقارب آخرون يصل عددهم إلى 70 ماتوا".
ويضيف الرجل الذي لم يكن موجودًا في المنزل لحظة الكارثة، "لا يزال لدينا مفقودون، دفننا الجثث التي عثرنا عليها". بحثا عن هؤلاء المفقودين، يبقى الى جانب فرق الإنقاذ، "وكلما عثروا على جثة، نأتي ونفتح الكيس، لكن الآن لم تعد هناك ملامح" يمكن التعرف عليها.
في أحد الأحياء الأكثر تضررًا في درنة، تساهم مجموعة شبان ليبيين متطوّعين في جهود البحث عن المفقودين، من بينهم طارق ضيف الله الذي جاء من مدينة طبرق التي تبعد نحو مئتي كلم عن درنة.
ويقول لفرانس برس "نساهم في هذه الحملة ونبحث عن إخوتنا المفقودين وأولئك الذين تحت الأنقاض، ونحاول انتشال الجثث... كي لا نبقى في الحيرة التي نعيشها الآن".
ويطالب محمد بدر بتأمين مساكن للناس التي دُمّرت بيوتها، ويقول "هناك أشخاص لا يعرفون إلى أين يذهبون... لم يعد لديهم أقارب الآن، إلى أين يذهبون؟".
ثم يتابع بأسى "درنة كلها راحت، وحتى لو رجعت درنة لكن مَن يردّ الناس؟".
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد بدر لا یزال
إقرأ أيضاً:
هناك أسئلة مهمة تحتاج لإجابات شافية ووافية
هناك أسئلة مهمة تحتاج لإجابات شافية ووافية تتوفر عبر البحث والتنقيب وتوليد أسئلة من الإجابات وتوجيه النقد وطرح مطالب بالتحقيق والمكاشفات من الباحثين حتى نصل لمرافئ آمنة تمنع الاتهامات الجزافية غير المحققة أو على الأقل تحد منها. وقبل البحث تحتاج لإرادة وصدق مع النفس من المعنيين بها للإجابة عليها بل والإصرار على تقديم هذه الإجابات كي تكون هناك فرصة لإعادة الثقة أو تثبيتها بين القوى المدنية المعنية وجمهورها والمدافعين عنها وعن مواقفها بل وعموم الشعب السوداني.
- مثلاً السؤال حول دور الاتفاق الإطاري في إشعال الحرب والذي في رأيي لا يجب أن يتكرر كإكليشيه ومادة مكايدة ومكايدة مضادة، لينزوي ويضيع جوهره بين اتهام نوايا "الناقمين على القوى المدنية" ومحاولاتهم إلصاق كل الرزايا بها، والدفاع المعتاد المكرر للقوى المدنية المبني على إدعاء حسن النوايا في طرحه والقول بأن أحد أهم أهدافه الوصول لجيش مهني موحد، هكذا! هذا جدل دائري ولن يصل بنا إلى جوهر القضية!
- هل كانت هناك قوى أو أفراد من القوى المدنية رأوا أن الد.عم الس.ريع ومنذ وقت مبكر يجب أن يكون بديلاً للجيش السوداني وهل قالوا بذلك تصريحاً أو تلميحاً؟ بحيث يتم تذويب الجيش- باعتباره جيش الكيزان- داخل قوات الد.عم الس.ريع -باعتبارها نواة جيش السودان الجديد في المستقبل-، وإن حدث ذلك، فما المواقف التي اتخذتها القوى التي كانت مؤمنة بخطأ هذا التوجه إن وجدت؟ الإجابة الشارحة على مثل هذا السؤال من المعنيين به في القوى المدنية، تحتاج الوضوح والصراحة وقبلها الحس الوطني السليم والضمير الحي بعد الدمار الذي حاق بحيوات العباد والبلاد، خاصة وأن هناك أسئلة أخرى لم تتم الإجابة عليها بعد والتي قد تعد كقرائن، وهي أسئلة من شاكلة: كيف لبعض القوى المدنية التي كانت جزءاً من الاتفاق الإطاري، وأصبحت لاحقاً جزءاً من تحالف القوى المدنية التي أعلنت الحياد في الحرب، أن تعلن انحيازها الفاضح للمليشيا بعد عام ونصف من الحرب، بل وتتحالف معها وتدخل في إجراءات دستورية وتأسيسية ليكون لهذه المليشيا مشروعية كاملة وترتب معها لتشكيل حكومة جديدة؟ هل وقع هذا الأمر فجأة وفقط خلال الشهر الأخير والذي أعلن فيه عن تباين المواقف بين فصيلين داخل القوى المدنية في تقدم، وشهد " فك الارتباط" بين صمود وتحالف تأسيس، أم كان متوقعاً ويجري الدفع نحوه على قدم وساق في الاجتماعات وأثناء النقاشات، لتنزلق باتجاهه هذه القوى بكل سهولة ويسر تحت نظر جميع القوى الحليفة، بل وتحت سمعها وبين ظهرانيها حتى لتتهم بشبهة التواطؤ الجماعي وفقاً لأحداث ومجريات ومواقف سياسية وإعلامية وإجرائية بدأت ما قبل الحرب واستمرت خلال الشهور الأولى للحرب وصولاً لفك الارتباط؟
- ما الذي جعل قائد المليشيا يعلن في أحد خطاباته أن الاتفاق الإطاري هو سبب الحرب وما الذي استند عليه من معلومات وهل هو قول مرسل أم يقوم على وقائع محددة يرمي لها؟ وما الذي جعل الصمت سيد الموقف من قبل القوى المدنية التي شاركت في صياغة الإطاري حين صدر هذا الاتهام من قائد المليشيا وهي التي طالما نفت هذه التهمة وبقوة وضراوة عندما صدرت من آخرين؟
مثل هذا النوع من الأسئلة وغيرها ضروري الإجابة عليها الآن وليس غداً، وبدون التفاف وتسويف، والسعي لتوفير ذلك بذات قوة السعي لإيقاف الحرب وصياغة المشاريع السياسية المستقبلية، حتى لا يكون للخصوم والناس في عمومهم، على هذه القوى المدنية حجة!
ألا هل بلغت اللهم فاشهد