(مقالات معطلة)
تعطلت مقالاتي في الأسابيع الماضية لأسباب كثيرة؛ أقلها شخصي وأكثرها سياسي، فالظروف الصحية (وبالتالي الذهنية) مقدور عليها، فكم كتبنا ونحن نعاني، وسنظل نكتب برغم كل معاناة، لكن الظرف العام الذي نعيشه في مصر محزن ومهلك للمشاعر وللضمائر وللعقول أيضا، فتصور أننا دولة بعد 21 قرنا من ميلاد المسيح تصورٌ افتراضي لا يقترب من حقيقة المعيشة التي يعيشها في مصر أي مواطن يحمل فوق كتفيه رأسا ويلتمس بعضا من (وليس كل) الكرامة.
الدولة في مصر بكل أطيافها ومؤسساتها أقل احتراما ومواثيق من أي طور قَبَلي أو إدارة ريفية في قرية نائية، دولة تتحدث في كل شيء بمنطق "اللغة الخشبية" التي هجاها "أورويل" في مقال جريء وهجومي، وبديهي أن تتأثر المقالات السياسية بحالة الكلام الدائر لدى النخب ولدى الناس في الشارع، وبديهي أيضا أن تتخذ الكتابة هدفا أو جمهورا تخاطبه وتؤثر فيه، وبديهي أن يقيس الكاتب حالة التلقي، ومدى تأثير كتاباته في جمهورها المفترض.. لكن هذه البديهيات غائبة تماما، وتجعل من الكتابة السياسية (في مصر تحديدا) خالية من أي هدف وأي تأثير، يعني "كلام فارغ" حسب التعبير الشعبي المصري الثاقب..
ربما كان لهذا المناخ العام التأثير الأكبر في تعطلي عن الكتابة، فأنا لم أتعود المشاركة في السرادقات التي ينصبها النظام كلما رغب في "جمع النقطة" من المعازيم، وهذا العزوف عن المشاركة "وضع الماء في فمي"، وهي حالة مزعجة لتكويني النفسي فلا أستطيع الصبر عليها، وسريعا ما أبصق الماء في وجوه المنافقين وأنطلق في الكلام المضاد..
لكن يعاودني السؤال:
هل يفيد الكلام؟
وهل يعقل العجول؟
(لا تلقي الجواهر أمام الخنازير)
كتبت في الأسابيع الماضية أجزاء من مقالات لم أستكملها لشعوري بأنها أخطر من أن تنشر في "سوق الخبل المنصوب"، منها مقال بعنوان "ما لكَ وأولادنا أيها المالتوسي؟"؛ أناقش فيه تصريحات السيسي خلال ما سمي "المؤتمر العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية" الذي أقيم قبل أسبوعين برعاية الحاكم الكاره للسكان وللصحة وللتنمية، ومنها مقال عن الهدم العشوائي الذي يقترفه "مقاول الهدد" بزعم سعيه للبناء والتطوير، ومنها مقال عن خلفيات الانضمام لـ"بريكس"، والذي يذكرني بإجابة التلاميذ الظرفاء على سؤال: بتعملوا إيه في المدرسة يا حبيبي؟
بالنسبة للناس في بلادي، فهم يعرفون أكثر بكثير مما نكتب عنه، فسوء الأحوال المعيشية بلغ درجة يصعب وصف مرارتها بأي كلام، ومن هذه الأزمة يفرض الصمت حضوره
فيقولون: بنلعب مع أصحابنا وناكل الساندويتشات، فالنظام الذي لا يملك ما يصدره وينتفع به انتفاعا إيجابيا، ينظر للانضمام باعتباره فرصة سانحة للاقتراض، فدخول مطعم أو نادٍ والتعرف على بعض الأثرياء يعتبر "إنجازا" عند أصحاب العقول والجيوب المفلسة، لأنه يدعم سياسة "سلّفني وخد الساعة رهن"..
لم تكتمل هذه المقالات وغيرها، ربما لأنني وصلت لحالة اليأس القاطع من الإصلاح السياسي عن طريق النقد، أو النقاش، أو تحليل الخطاب، أو إظهار العيوب والأخطاء لنظام أحمق لا يعترف إلا بما يقوله ويفعله هو، فمن الصعوبة على عاقل أن يضع نفسه في موضع حوار مع أحمق يتذاكى.
وبالنسبة للناس في بلادي، فهم يعرفون أكثر بكثير مما نكتب عنه، فسوء الأحوال المعيشية بلغ درجة يصعب وصف مرارتها بأي كلام، ومن هذه الأزمة يفرض الصمت حضوره.
(عن ماذا أكتب إذن؟)
توقفت برهة أمام عنوان هذه الفقرة، وسألت نفسي: أكتبها "إذن" أم "إذاً"؟ وسخرت بمرارة من هذا التدقيق مستدعياً قولا شهيرا يتداوله الظرفاء على مواقع التواصل وفي البيوت للفيلسوفة يسرا تقول فيه "يا اختي كده ينفع، وكده ينفع"..
وبينما أنا مستغرق في التفكير المعطل على طريقة "حمار بوريدان" طرأ على ذهني تعبير "العِجْل هدّ المصطبة"، وتصورت في أول الأمر أنه مثل شعبي، ثم تذكرت أنه مقطع من أغنية ريفية شهيرة في حفلات الزواج تقول كلماتها: "العجل هدّ المصطبة/ يا مْنجِّد عللّي المرتبة/ عروستنا حلوة مؤدبة/ واعمل حساب الشقلبة"..
انتبهت أن الأغنية عبرت سريعا على "جريمة العِجل" ووجهت رسالتها للمنجّد لتؤكد عليه تعلية المرتبة تحسبا لمخاطر الشقلبة.
لكن لماذا سيطر العِجْل على تفكيري؟
قلت بما يناسب الحالة العبثية التي تحاصرني: ولماذا لا أكتب عن هذه القضية المهمة؟.. لماذا لا أكتب عن العِجْل وما فعله بالمصطبة؟
(كده ينفع وكده ينفع!)
أتأخر في إصدار أحكامي لأسباب ترتبط بالتدقيق والإتقان والتيقن (ثلاثة تاءات)، وبالمرة حتى لا أسقط ضحية لأبواق الجماعة الإرهابية، ثم يخرج المصدر الأمني لينفي كل ما تحمست من أجله ضد النظام البريء، ولذلك لم أنجرف في أحاديث الناس الطيبين على مواقع التواصل بخصوص هدم الآثار والمقابر التاريخية، لكن فجأة وجدت أمامي نص استقالة مهندس مسؤول يحتج على طريقة التعامل التي تتم في منطقة المقابر التاريخية في صحراء المماليك شرق القاهرة، مؤكدا بأن هناك "إهدارا وصل لتحطيم أماكن لها قيمة تاريخية".
أستاذ الهندسة المحتج "أيمن ونس"، كان يتولى رئاسة لجنة الطراز المعماري في شرق القاهرة، ويتحدث من واقع تخصصه الهندسي ومن منطلق مسؤوليته عن الثروة المعمارية في المنطقة محل الهدم..
إحساس جميل أن تشعر بشجاعة مسؤول مصري يحترم تخصصه ويراعي ضميره العلمي والوطني، فيكشف لنا حقيقة ما يحدث من تخريب تحت مسمى التطوير، لذلك ينبغي أن نناقش القضية كجريمة (بحكم قوانين حماية الآثار والطرز المعمارية)، فهي منسوبة لجهة اختصاص وليس لشائعات تستهدف البلبلة وتطعن في الإنجازات العظيمة للجمهورية الجديدة، وكنت أبتسم وأنا أفكر في ورطة المصدر الأمني المتخصص في النفي، فالكلام هذه المرة من المشرف على المصطبة بذات نفسه!
المخيب للابتسام أنني قرأت النفي سريعا، ولكن على لسان المشرف نفسه، فقد حذف الاستقاله من حسابه وكتب مؤيدا لجهود الدولة ومؤكدا عودته لرئاسة لجنة "الهدر الحتمي"، وقال الدكتور ونس: لاحظت إساءة استخدام استقالتي للهجوم على جهود الدولة المستمرة في التطوير وتحسين البيئة العمرانية وحياة المواطنين (بالمرة)، وقال إنه يثمن جهود الدولة ويعلم قيمتها جيدا، من خلال عمله كرئيس لإحدى اللجان الدائمة لحصر المباني التراثية، وكدت أسمع الكمنجات تعزف: ضحيت هنايا فداه.. اشهد عليه يا ليل.
وقلت: حتى أنت يا ونس؟
سألتني شيطانتي: ونس أم ولس؟
قال قريني المستظرف: يا أختي كده ينفع وكده ينفع.
(أين العِجْل؟)
عادت شيطانتي لدأبها الشرير فقالت هازئة:
كتبت عن حمار بوريدان والمنجِّد والمرتبة ويسرا وأستاذ التصميم المعماري وبروتس.. ثم فعلت ما فعلته الأغنية الريفية ولم تخبرنا عن العِجْل وما فعل.
قلت: سأكتب، سأكتب بكل تأكيد.. أعرف أن الناس يرددون النصيحة التي تربى عليها عمرو أديب: إن دخلت بلد تعبد العِجْل حِشّ واديلو، لكنني لم أحش يوما لأي عجل ولا أنوي علف العجول.
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الكتابة الآثار مصر آثار السياسة سخرية الكتابة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الع ج ل فی مصر
إقرأ أيضاً:
ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟
تتسم المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا الجديدة بنهج عدائي شديد الوضوح، فقد نظرت القيادة الإسرائيلية إلى التحولات الجيوسياسية الناشئة كتهديد للأمن القومي الإسرائيلي، حيث شرعت منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد بشن سلسلة من الاعتداءات والغارات الجوية وقامت بتوغلات برية أسفرت عن ضم واحتلال مزيد من الأراضي السورية. وقد أعلنت إسرائيل دون لبس أو مواربة عن عدائها للقيادة السورية الجديدة، وكشفت عن رغبتها وعزمها على إبقاء سوريا دولة هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية. وعبّرت إسرائيل بجلاء عن قلقها وخوفها من تنامي النفوذ التركي المتصاعد، وأكدت على خوفها وخشيتها من عودة وإحياء الإسلام السياسي السني الذي بات يسيطر على دمشق، وأثره وتداعياته على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة غير سارة للكيان الإسرائيلي، لكنه كان خبرا سعيدا لتركيا، ففي الوقت الذي تريد تركيا أن تكون سوريا الجديدة دولة ناجحة، ترغب إسرائيل بوجود دولة سورية جديدة فاشلة، ولذلك سارعت إسرائيل بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، بشن سلسلة من الهجمات، ولم تكتف تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري.
انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت
ورغم أن تركيا وإسرائيل استفادتا بشكل كبير من تفكك المحور الذي تقوده إيران، وخاصة في سوريا، لكن تركيا كانت الرابح الأكبر، بينما تضاربت المشاعر الإسرائيلية وأفضت إلى نشوة مؤقتة أعقبها قلق دائم، فالعداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والتحديات التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد الأسد تشير إلى تشكل منعطف حاسم في الجغرافيا السياسية الإقليمية، الأمر الذي يغير بصورة جذرية الديناميكيات التي طبعت العلاقات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، والتي تأرجحت بين نسق من التحالفات البراغماتية والانقسامات الأيديولوجية، وقد أدى زوال عدوهما المشترك في سوريا إلى تحول في توازن القوى الإقليمي، وهو ما خلق تحديات جديدة وأخل بمرونة علاقاتهما الهشة.
إن انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت، فالدعم التركي العلني الذي يقدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأعداء إسرائيل وفي مقدمتهم حركة حماس، قد يتطور إلى آفاق بعيدة.
وبحسب تقرير لجنة "جاكوب ناجل" بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من كانون الثاني/ يناير 2025، فإن طموحات تركيا إلى "إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق" تشكل تحديا أمنيا ملحا، وقد أوصت اللجنة في تقريرها إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستعداد لحرب محتملة مع تركيا، في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد. ونبهت اللجنة في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي، الذي ربما "يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل"، وقد يتطور إلى شيء "أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، وفقا للجنة التي تم تشكيلها عام 2023، قبل بدء الحرب على غزة، لتقديم توصيات لوزارة الدفاع الإسرائيلية بشأن مواطن الصراع المحتملة التي تواجهها إسرائيل في السنوات المقبلة، ويترأس اللجنة يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي.
إن التهديد الذي تشكله تركيا لإسرائيل يشكل تحديا جديا كبيرا لأمن إسرائيل في ضوء التحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، وهو تحد بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، إذ يعد الجيش التركي أحد أكبر الجيوش وأكثرها قوة في الشرق الأوسط، ويتألف الجيش التركي من 425 ألف جندي نشط و380 ألف جندي احتياطي. ووفقا لمصادر أمنية، فإن النفوذ المتزايد لتركيا في سوريا كقوة مهيمنة يستلزم دراسة جدية لقدراتها العسكرية، وتشكل المليشيات العسكرية الموالية لتركيا في سوريا، مثل "الجيش الوطني السوري"، تهديدا محتملا لإسرائيل، وخاصة على طول الحدود السورية الإسرائيلية. ويمكن للرئيس أردوغان أيضا الاستفادة من مجموعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع ضد إسرائيل.
وقد أعلن الجولاني، في السابق ذات مرة أنه "بعون الله، لن نصل إلى دمشق فحسب؛ بل إن القدس تنتظرنا". وكان أردوغان قد أصدر تهديدات مباشرة لإسرائيل، ففي 28 تموز/ يوليو 2024، صرح في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية بالقول: "كما دخلنا قره باغ وليبيا، سنفعل الشيء نفسه مع إسرائيل".
إن السيناريو الإسرائيلي المفضل في سوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية، فأُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب.
وكانت وكالة رويترز كشفت نقلا عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تسعى للضغط على الولايات المتحدة من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وأضافت المصادر أن إسرائيل أبلغت واشنطن أن من سمتهم الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، المدعومين من أنقرة، يشكلون تهديدا لحدودها. ووفقا لرويترز، فقد ذكرت ثلاثة مصادر أميركية أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء الدور الذي تلعبه تركيا كحليف للإدارة السورية الجديدة.
في هذا السياق أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وأكد نتنياهو على أن إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية" في المنطقة. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود الإدارية بين المحافظتين.
وقال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس في بيان إن الهجمات "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".
وعقب حالة التوتر في الأول من آذار/ مارس 2025، جراء اشتباكات بين عناصر أمن تابعين للسلطة السورية الجديدة ومسلحين محليين دروز في ضاحية جرمانا قرب دمشق، أسفرت عن مقتل شخص وإصابة تسعة آخرين بجروح، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليمات للقوات الإسرائيلية "بالاستعداد للدفاع" عن مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وقال بيان صادر عن مكتب كاتس إن المدينة "تتعرض حاليا لهجوم من قبل قوات النظام السوري"، وقال كاتس: "لن نسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه". وأضاف: "نحن ملتزمون تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيذاء إخوانهم الدروز في سوريا، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامتهم".
تستند إسرائيل في سياساتها العدوانية في سوريا إلى دعم أمريكي عسكري وسياسي مطلق، فما تقرره القيادة الإسرائيلية كضرورة للحفاظ على أمنها القومي تصادق عليه الإدارة الأمريكية، وتعتبر واشنطن ممارسات إسرائيل العدوانية بداهة استراتيجية من باب حق الدفاع عن النفس، فالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية حجر الزاوية الأساس في مشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، والاشتراطات الأمريكية على القيادة السورية الجديدة هو الالتزام بأمن إسرائيل ومحاربة أي مجموعة أو كيانات تناهض إسرائيل، وهو ما عبرت عنه واشنطن بوضوح، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية هي جوهر البحث والمداولة. فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء:سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر إن أبو محمد الجولاني التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، فالولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني).
خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى تنامي النفوذ التركي المتصاعد، ويشير إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية. ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، ولذلك فإن أولوية سوريا الجديدة هي تعزيز روابط التحالف مع تركيا، والعمل بجد على تأسيس جيش موحد قوي، وإخضاع كافة النزعات الانفصالية. فالرد على الكيان الاستعماري الإسرائيلي يجب أن يكون داخليا أولا باتخاذ قرارات وإجراءات قانونية وعسكرية وسياسية حاسمة تجاه المكونات الانفصالية؛ بدءا بقوات سوريا الديمقراطية ثم الانعطاف إلى بقية الكيانات الموازية.
x.com/hasanabuhanya