خريف العمر.. قليلٌ من الود وكثيرٌ من الجفاء
تاريخ النشر: 20th, September 2023 GMT
د. سليمان بن خليفة المعمري
إذا كان "من الخير ألا يرحل الكبار إلا بعد أن يتعلم الصغار"، وهو فعلا كذلك، إلًّا إنه في أحايين كثيرة بقاء هؤلاء الكبار حتى يبلغوا من الكبر عتيًا ويصلوا سن الشيخوخة والكهولة، قضت معه سنن الكون ونواميسه بأن تقلب لهم الحياة ظهر المجن وتمتحنهم بأشد البلايا والمحن فإذا بأحلام الحياة الجميلة تثقلها هموم الشيخوخة والمشيب.
هذا ما جعل جوناثان سويفت يُردد "إن هبة العمر الطويل تشترى بثمن بالغ الفداحة"؛ فالعمر الطويل بما يحمله من فقد لأعزاء ومآس ومرارات وجراحات خبرها هؤلاء المعمرون تترك بصماتها على سلامهم النفسي والروحي، ناهيك عن غول المرض الذي ينقض عليهم في أواخر أعمارهم ليفرغ سمه في مفاصلهم وأجسادهم فيصبحوا مجردين من كل بواعث الهمة والصحة والأمل والنشاط، وقد أبدع الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري في تصوير هذا المآل البائس في بيت شعري خالد قال فيه:
لم يبقَ عنديَ ما يبتزّهُ الألمُ // حسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرمُ
وإن مما يزيد الأسى والأسف على الإنسان وهو في هذه السن المتأخرة من العمر وتحيط به ظلال الموت والمرض من كل جانب أن يتنكر له الأقربون ومن أحسن إليهم فيعاملوه بالجفاء والخذلان ما يجعله يشعر بالانكسار والهوان إذ لم يحفظوا له الود ويردوا له الجميل، ولله در الشاعر حين قال:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة // على النفس من وقع السيف المهند
فكيف إذا كان من وقع عليهم الظلم هم الوالدين وهم من أحاطانا بالرعاية واللطف والحنان وحدبا علينا وقدما لنا الحب الناصع المبرأ من أية مصالح أو منافع مادية، فلطالما سمعنا وقرأنا عن قصص العقوق والإساءة التي يتعرض لها الوالدان ما يجعلهم ينزفون ألما وحسرة لإحساس الغدر والفجيعة بمن توسموا فيهم العون والسند وأعداهم ليكونوا سندا وعكازا في خريف العمر فإذا بهم يخذلونهم أشد الخذلان، وقديما تم الغدر والتآمر على يوليوس قيصر الروماني وطعن 23 طعنة كان آخرها تلك التي تلقاها من صديقه الصدوق "بروتوس" فقال له يوليوس عبارته الشهيرة: "حتى أنت يا بروتوس" ثم احتضر ومات. ولعلها كانت تلك الطعنة التي قتلته معنويًا قبل أن تقتله حسيًا؛ إذ تلقاها من صديقه الذي خصه برعايته، ونحن في الواقع نتأثر كثيرًا وتصبح جروحنا غائرة وعميقة حينما يخذلنا أعز وأقرب النَّاس إلينا وليس الأباعد منهم.
إن حوادث الإساءة للوالدين تجعلنا نتساءل من أي الأحجار الصلدة قُدت قلوب هؤلاء الذين يعقون والديهم؟ وكيف تستريح ضمائرهم إلى هذا التقصير الإنساني الفاضح؟ كما تثير في نفوسنا أحيانا الكثير من التأملات والشكوك حول جدوى العطاء والتضحية والبذل- وإن كانت واجبة- التي يقدمها هؤلاء الآباء في شبابهم وسنوات عطائهم وكفاحهم لأبنائهم لولا تذكرنا أن هذه الصور المشينة القاسية ما هي إلّا استثناءات قليلة جدًا في حياة الناس، وأن الأصلاء من الناس هم من لا يتنكرون لمن أحسن إليهم ولا ينسون صنيعهم معهم، وأن الجميل الذي طوق به الوالدان أعناقهم لا يمكن أن ينسى لهم، والحقيقة إنه من شذوذ العواطف وانتكاس الفطر أن يحمل الإنسان في نفسه مشاعر النبذ والكراهية لمن ربياه وعلماه وغمراه بالعطف والحب والحنان، وهيهات لأمثال هؤلاء أن يكونوا أسوياء أو أن يعيشوا حياة طبيعية وهم يعاملون آباءهم بكل هذه القسوة والجفاء، على أننا نبشر العاق لوالديه بأن يوطن نفسه لدفع الضريبة العادلة فالساقية تدور ولا مفر من سداد ديون الحياة في قادم العمر، وليهنأ بالقصاص العادل عن فعلته الشنيعة، كيف وقد قيل "خُلِقت النار لإذابة القلوب القاسية".
فعلى الأبناء أن يبروا بوالديهم وأن يعاملوهم بوصية الله تعالى "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا" (الأحقاف: 15)، ووصية نبيه صلى الله عليه وسلم "فَفِيهِما فَجَاهِدْ" (رواه البخاري)، من خلال إيلائهم الرعاية والاهتمام فهم أحوج ما يكونوا في هذه السن إلى من يخفف أحزانهم ويرطب جفاف حياتهم بكلمة طيبة ولمسة حانية وجلسة أنس صافية يتجاذبون فيها معهم الدعابة وأطراف الحديث، وألا يكون لسان حال التعامل معهم " كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي" فيشعرونهم بمشقة إقامتهم بينهم وصعوبة بقاؤهم معهم ويتأففون من خدمتهم والجلوس والحديث معهم، فيحسون بالوحدة والعزلة والانطواء والغربة النفسية، فما أقسى الوحدة عليهم في هذه السن المتأخرة من العمر.
وقديما قال الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه: "أن تكون وحدك هذه نعمة كبرى، بشرط أن يكون لديك ما يكفيك من طعام الأحزان، أو من العظمة والسمو فوق اهتمامات الإنسان".
وقد وجدت الدراسات حديثًا أن الوحدة والانعزال عن الحياة والناس لدى هذه الفئة مما يسرع تدهور الذاكرة والإصابة بالخرف أو ألزهايمر، وأن من الأمور المشينة أن تتحول خدمة الوالدين ورعايتهما إلى عبء يتبرم منه الأبناء وتنشب بينهم الخلافات حول من توكل إليه مسؤولية القيام بها، فخدمتهما واجب ديني وإنساني لا ينبغي التنصل منه؛ بل هو في الحقيقة محل شرف واعتزاز وسعادة الإنسان، وأن وجودهما بيننا هبة وهدية ربانية من شأنها أن تمنح القائم على أبويه الظفر بجوائز السماء العادلة من توفيق وبركة ورحمة وزيادة رصيد حسنات في الدار الآخرة، وعلى العاقل أن يغتنم هذه السانحة وأن يقتنص هذه الفرصة حيث ما إن تغيب شمس الأبوين عن دنيانا فلن تعود ثانية.
وختامًا.. ولأن واقع هذه الفئة- للأسف- في كثير من الأحيان يتسم بالقليل من الود وكثير من الجفاء من قبل بعض أصحاب النفوس الجاحدة، وإزاء ما يتكرر من حوادث الإساءة لهذين الرمزين العزيزين، فقد اقترح وفي القلب غصة- لكن ماذا يفعل المرء في هذه الحياة التي ما فتئت ترينا كل عجيب وغريب في طبائع النفس البشرية وتقلباتها- بأن يتم انشاء دار لرعاية المسنين في كل محافظة من المحافظات؛ إذ إن وجود مثل هذه الدار من شأنها أن يتعزى بها هؤلاء المسنون المحكومون بأقدار التعاسة والشقاء والوحدة والانعزال، فينعموا بدفء الصحبة الإنسانية والمشاركة الوجدانية لوجود أشخاص معهم يعيشون نفس المعاناة والظروف، ولعل مثل هذا التجمع يخلصهم من رواسب المرارة والحرمان ويجدوا فيه العزاء والسلوى عن فقد الأبناء والأحبة والخلان، فيتأسوا بمن حولهم كما تأست من قبل شاعرتنا الجميلة النبيلة (الخنساء) عن فقد أخيها فأنشدت:
وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي // عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي
هذا، والله المستعان.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أزمة أخلاق «2»
أصاب الكاتب الكبير فاروق جويدة فى مقاله بالأهرام السبت الماضى والذى جاء تحت عنوان «الأخلاق قبل التعليم».. ما كتبه الكاتب الكبير يأتى فى إطار علاج الأزمة التى يعيشها المجتمع من الجذور لا القشور.. صحيح أن الأزمة تفجرت بمشاجرة مدرسة كابيتال الدولية بالتجمع الأول.. لكن الواقع أعمق من ذلك بكثير ويستحق وقفة عاجلة، لأن الأزمة فى الحقيقة هى أزمة أخلاق ويتحمل مسئوليتها الجميع خاصة الأسرة والمدرسة.
الربط بين التغييرات الاجتماعية التى غيّرت صورة مصر فى كل شىء وبين ما حدث فى مدرسة التجمع والذى أشار إليه الأستاذ فاروق جويدة كان دقيقًا.. لكن وصفه لما حدث بأنه صورة من صور التراجع الأخلاقى والسلوكى لم يكن دقيقًا.. لأن ما حدث يصل إلى حد الكارثة الأخلاقية وليس التراجع فقط.. فالأزمة لم تتوقف على الطالبات الأربعة أطراف الخناقة وأصحاب القاموس البذىء المتدنى.. ولكنها امتدت لتشمل أعدادًا كبيرة من الطلاب والطالبات الذين حضروا المعركة من البداية حتى النهاية.. هذه الأعداد كانت كفيلة بإنهاء المعركة فى حال تدخلهم تدخلًا إيجابيًا وهو ما يعنى منع الاحتكاك والسيطرة على الموقف لحين حضور المسئولين.. لكن ما حدث كان صادمًا وكاشفًا لغياب دور الأسرة فى تربية الأبناء.. لم يتعلم هؤلاء أن مجرد سماع هذه الألفاظ هو سلوك معيب.. لم يتعلم هؤلاء أن الاكتفاء بالمشاهدة وكأنهم جماهير فى حلبة مصارعة هو تصرف وضيع.. لم يتعلم هؤلاء أن الانشغال بتصوير هذا المشهد المأساوى ونشره على السوشيال ميديا هو سلوك مشين لا يليق بهم.
الغريب أن غياب دور الأسرة لم يكن سابقًا للأزمة فقط بل كان لاحقًا لها أيضًا.. ففى أعقاب «الخناقة» لم يصدر اعتذار من أى طرف ولم تتوقف المعركة، بل امتدت إلى التراشق وتبادل الاتهامات على وسائل الإعلام وكأن ما حدث لم يكن كافيًا.
ضاعت الأخلاق بفعل فاعل.. والفاعل هنا هو الأسرة أولاً.. الأسرة التى لم تغرس فى نفوس أبنائها القيم والمبادئ والأخلاق.. الأسرة مسئولة عن كل ما حدث فى خناقة مدرسة التجمع.. الأسرة مسئولة عن سلوك البنات الأربع وعن السلوك المشين للأعداد الكبيرة من الطلاب والطالبات الذين حضروا الواقعة.