وداعا للطلاب:مواقف وطرائف
د. #حفظي_اشتية
في مثل هذا اليوم قبل ثمانية وأربعين عاما، دخلت إلى طلابي في #الحصة_الصفية المدرسية الأولى، كان ذلك في مدرسة المنشية (منشية الشونة الشمالية)، التي تقع على تلة مطلة على #نهر_الأردن، ولم أجد مكانا للسكن في #القرية، فاضطررت إلى السكن في إحدى #غرف_المدرسة المخصصة للمقاعد واللوازم التالفة.
طلبت نقلي إلى أي مكان آخر أجد فيه سكنا وأُنسا، فتمّ نقلي إلى قرية “مندح” التابعة للطيبة (طيبة علوان)، وهي تبعد هوائيا كيلومترات قليلة عن المنشية شرقا، لكن موقعها مرتفع، فهي تعتلي لتطلّ على الحدود الأردنية السورية اللبنانية الفلسطينية (يعني:بلاد الشام في الخيال العروبيّ السويّ غير العليل).
وجدت سكنا متواضعا في القرية، وباشرت عملي مطلع الفصل الثاني في “عزّ المربعانية”. كُلّفت بتدريس الصفوف الأول والثاني والثالث مجتمعة، في غرفة واحدة مستأجرة منفصلة عن مبنى المدرسة الأساسي، البعيد مئات الأمتار، المكوّن من أربع غرف للإدارة وباقي الصفوف حتى الثالث الإعدادي.
دخلت الغرفة المبنية من طوب مجرّد دون أيّة إضافة، بباب ونوافذ غير محكمة الإغلاق من أطرافها الأربعة، فهي مُشرعة للريح من جميع الجهات، فيها طاولة متواضعة، وكرسيّ متضعضع، ومقاعد خشبية للطلاب أقضّتها المواجع.
نظرت في وجوه الطلاب فهالني منظرهم كزغب القطا، قد اصفرّت وجوههم وتجمدت من لسعة البرد، وسالت أنوفهم، واصطكّت أسنانهم، وارتعدت فرائصهم وأطرافهم، لا تقوى أصابعهم على فتح كتبهم…..
قلت لهم: عودوا إلى بيوتكم، وليأتِ كلٌّ منكم بما تيسر له من قطع حطب زائدة عن حاجة أهله، وتبرّع أحدهم بإحضار “كانون”. رجعوا إليّ سراعا فرحين جذلين بهذه الانتفاضة غير الاعتيادية على السلطة الروتينية. تكدّس الكثير من الحطب في زاوية الغرفة، وضعت الكانون على الطاولة، وبدأت إشعال النار، فسرى حسيسها في أجسامهم رويدا رويدا، وعندما ارتفع سناها وكاد يلامس السقف كانت فرحتهم قد بلغت منتهاها، فرفعت عقيرتي بالغناء: (أوقدي يا نارنا…. تا يجي مختارنا) وهم يرددون خلفي مصفقين، والحماسة تميد بهم طربا، حتى احمرّت أكفّهم ووجوههم، وتفتحت أذهانهم، وبدأت العمل في خضمّ نشوتهم بهذا الجو البهيج. ومضيت على تلك الحال أو ما يشبهها ثلاث سنوات، أنهض بواجبي دون رقيب أو حسيب إلا الربّ في السماء، والضمير في الذات، ما غبت يوما، ولا خذلت طلابي وأضعت عليهم حصة.
ثم انتقلت إلى أكبر مدرسة ثانوية في الأغوار الوسطى (البلاونة وأبو عبيدة)، فانفتح المجال أمامي لمهمة أعلى، وطلاب أوعى، تآخيت معهم، وحاولت دوما أن أغرس فيهم كل ما يتمناه وطنهم من جدّ وخلق والتزام وحب للغة العربية وتراثها الخالد.
وما هي إلا بضع سنوات حتى تمّت إعارتي إلى المملكة العربية السعودية، لم أشعر أنّ مهمتي اختلفت بين وطني هذا وذاك، فالعروبة واحدة، والمهنة المقدسة كذلك.
إنني في صحراء المدينة المنورة، في بلدة “مهد الذهب”، ثم في “صفينة” بلد الخنساء، أدرّس طلاب المرحلة الأساسية اللغة العربية، وجدتهم يولعون بالشعر، فحوّلت حصة الأناشيد إلى ديوان للذوق والفن وغذاء الروح، ألحّن النشيد، وأترنّم بها على أنغام أهازيجنا وتراويدنا الأردينة الفلسطينية، وهم يردّدون يكادون يطيرون فرحا وطربا، ويعشقون لغتهم ومدرستهم. من ذلك هذه الأنشودة بعنوان “مدرستي” :
هي جنتي يا إخوتي….. فيها ألاقي بُغيتي….. أغدو إليها ذاهبا….. ودفاتري بحقيبتي….. في همتي وعزيمتي….. وهناءتي ومسرتي…..إلخ
وأعيد النشيد وهم لا يملّون الإعادة، وعيونهم تفضحهم يطلبون الزيادة، وما إن أتوقف حتى يعلو صياحهم معا بلهجتهم البدوية المحببة (بعد، بعد، تكفى يا استاد).
ثم رغبت في أن أعرف أماكن أخرى في السعودية، فكتبت إلى د. عبدالعزيز الخويطر رحمه الله، وزير المعارف آنذاك، أطلب النقل، فنُقلت من أقصى غرب المملكة إلى أقصى شرقها، إلى “حفر الباطن” التي تشوّهت ذكراها في الذهن فيما بعد، وحفرت في القلب أخاديد الألم يوم غدت مكان الحشد الغربي اللئيم لسَحْن رأس حربة العرب (العراق العظيم).
عدت إلى الوطن بعد انتهاء إعارتي، وشرعت في العمل بالهمة ذاتها، وتدرجت وظيفيا من معلم إلى مدير مدرسة إلى مشرف تربوي إلى رئيس للإشراف، وكل وظيفة جديدة كانت تتيح لي فرصة جديدة لخدمة طلابي، والوفاء بقدسية مهنتي. وأكملت دراستي العليا خلال عملي، وحصلت على درجة الدكتوراة، وانتقلت إلى التدريس في الجامعة، وتنقلت بين عدة جامعات، لكن ظلّت البوصلة أمامي واحدة واضحة، والهدف بقي ثابتا محددا : أن أُعطي طلابي ذؤابة فكري، وخلاصة تجربتي.
أنظر في عيونهم فلا أرى فيهم إلا أبنائي، يُشعل حماستي تفاعلهم، يفرحني فرحهم، يشقيني ألمهم، يضبطون ساعاتهم على موعد دخولي إلى محاضراتهم، فإن طالبتهم بالالتزام بالدوام ألزمت نفسي قبلهم، أستقرئ نظراتهم لأقيس مدى تركيزهم، إنْ بدا أحدهم سارحا رددته برفق دون إحراج إلى سِربه، وإنْ وجدته حزينا أشفقت عليه وحملت همّه وحاولت مساعدته، وإنْ لمست منه نفورا تودّدت إليه ورغّبته، وإنْ لاحظت فيه اندفاعا ورغبة في المشاركة وإظهار شخصيته أطلقت له العنان وعززته، وإنْ تثاءب داعبته فقلت له : يبدو أن كلامي لا يعجبك، فيستحي ولا يعيد، وكم نظرت إلى بعضهم ترقرقت الدموع في عيونهم لأنهم خنقوا وأجهضوا تثاؤبهم، أبتسم لهم فيعرفون أنني عرفت فتحمرّ وجناتهم! وإنْ حاول أحدهم الغش في الامتحان عاتبته برقة، فيخجل من نفسه، ويأتيني معتذرا قائلا : لا أريد علامة، المهم ألّا تزعل مني، ولا تغيّر فكرتك عني.
أوزّع عليهم أوراق إجاباتهم ليعرفوا علاماتهم، ويتأكدوا من حصولهم بعدالة على حقهم، فيرقص قلبي فرحا لفرحة أصحاب العلامات العليا، ويبكي ألما لكسير الخاطر صاحب العلامة الدنيا، لكنهم جميعا يقرّون بأن كلاً منهم أخذ حقه، ولم يُظلم.
ثمانية وأربعون عاما على هذه الحال، أفواج وأفواج من طلابي تدرج في الأعشاش، ثم تطير وتبتعد عني، وروحي دائما تحوم حولهم وتدعو لهم.
حيثما توجهت أجدهم، منهم من أصبح زميلا، ومنهم الطبيب البارع، والمهندس النابغ، والمعلم الناجح، منهم من انتظم في سلك القوات المسلحة الباسلة، أو الأمن العام حارس الوطن الأمين، منهم المزارع، أو رجل الأعمال، منهم من نجح في حياته وحلّق في عُلاه، ومنهم مهيض الجناح يتعثر في خطاه….. لكنهم حيثما حلّوا وارتحلوا، ظلّوا في حنايا الضلوع، فقد كانوا لي قِطَعا من شغاف القلب تناثرت تلاحق آمالهم وآلامهم….
وها أنذا أعود وحيدا، ألملم بقايا الذكريات، وأسائِل نفسي اللوّامة دائما :
هل أديت واجبي كما ينبغي تُجاه طلابي ووطني؟ أرجو ذلك، وإن كان لكل مجتهد نصيب، فأرجو أن يكون نصيبي رضا ربي، وراحة الضمير، والتصالح مع الذات.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: نهر الأردن القرية ثكنة عسكرية
إقرأ أيضاً:
إقفال بعض الأقسام ونقص في الموظفين .. هل من أزمة في المصارف؟
يعيش لبنان منذ تشرين الأول 2023 حالة حرب، اقتصر تأثيرها بداية على منطقة الجنوب الا ان رقعة الاعتداءات الإسرائيلية اتسعت منذ شهرين لتطال مناطق لبنانية عدة .
أضرار الحرب شملت كافة القطاعات الاقتصادية من الزراعة إلى الصناعة إلى السياحة والتجارة والشركات والمؤسسات، كما أثرت أيضاً على القطاع المصرفي المأزوم أصلا منذ الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بلبنان في أواخر عام 2019 واستمرت حتى الآن.
وعلى الرغم من الصعوبات استمر القطاع المصرفي وتوسعت خدماته في الفترة الأخيرة، الا انه كما سائر القطاعات تأثر بالعدوان الإسرائيلي على لبنان حيث تم إغلاق عدة فروع مصرفية في المناطق المُستهدفة لاسيما في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.
وأشارت معلومات مؤخرا إلى ان عددا من المصارف قام باتخاذ عدة إجراءات لضمان العمل في فروعه وضمان سلامة موظفيه، فتم إغلاق عدد منها خاصة من تضرر جراء القصف الإسرائيلي وتم نقل بعض العاملين إلى فروع أخرى في مناطق أكثر أمنا ومُنح البعض الآخر إجازات مدفوعة.
وحُكي عن ان بعض المصارف يُعاني بسبب توّسع الحرب من نقص في الموظفين في عدد من الأقسام وذلك نتيجة استقالة قسم منهم واختيارهم الهجرة والعمل خارج لبنان وتوقف قسم آخر منهم عن العمل بسبب نزوحهم إلى مناطق أخرى.
وفي هذا الإطار، يقول رئيس نقابة موظّفي المصارف ابراهيم باسيل عبر "لبنان 24" إنه نتيجة الأوضاع الحالية اتخذ كل مصرف القرار الذي يناسبه في ما يتعلق بالموظفين لديه ومن المؤكد ان بعض إدارات المصارف تساهل في التعاطي مع موظفيه حيث تم إعطاء إجازات مدفوعة لقسم منهم، وبما ان الأزمة طالت تم إبلاغ الموظفين الذين يعملون في المناطق المُستهدفة أن يبقوا في منازلهم وان يعملوا عن بُعد او ان يلتحقوا بفروع أخرى".
وأضاف باسيل: "هناك موظفون تم إعطاؤهم إجازات مدفوعة حُسمت من إجازاتهم السنوية للعامين الحالي والمُقبل"، مشيرا إلى ان "قسما منهم سافر إلى الخارج وقرر أخذ فرص غير مدفوعة تتراوح ما بين 3 أو 4 أشهر بانتظار ان تهدأ الأوضاع في لبنان".
وأكد عدم تلقي أي شكوى من قبل عاملين في القطاع بشأن طرد تعسفي او سوء معاملة".
وعن عدد المصارف التي أقفلت نتيجة الحرب، قال باسيل: "لا أعلم عدد فروع المصارف التي أقفلت ولكن من المؤكد انه تم إقفال فروع في مناطق صور والضاحية الجنوبية وبعلبك التي أساسا لا تحتوي على فروع كثيرة بل هناك فرع أو فرعين في المدينة وقد تضرر إحداها مؤخرا بسبب قربه من قلعة بعلبك"، وأشار إلى ان "المصارف في مدينة صيدا تفتح يوميا وبشكل منتظم ولا مشكلة في الفروع الأخرى المنتشرة على كافة الأراضي اللبنانية".
وعن نقص الموظفين في بعض أقسام المصارف، لفت باسيل إلى انه "منذ اندلاع الأزمة المالية في لبنان في تشرين الأول عام 2019 تمّ صرف عدد من الموظفين وإقفال فروع في عدة مناطق والاستغناء عن خدمات موظفين في بعض الأقسام، اضف إلى ذلك قرار عدد كبير منهم ترك هذا المجال لأنه رأى انه لم يعد يلبي طموحاته ولاسيما من جيل الشباب الذين إما هاجروا او سافروا للعمل في الخارج خاصة في منطقة الخليج وثمة من تمّ صرفه وقبض تعويضه وثمة من أُجبر على الاستقالة ".
وأضاف: "مع تراكم هذه الأزمات أصبح هناك نقص في بعض أقسام المصارف، وحاليا تم استدعاء عدد من الموظفين من منازلهم وأصبح هناك طلب على الموظفين الشباب لاسيما المتخصصين في مجال الـ Digital banking مع تحول الخدمات المصرفية إلى رقمية".
ولا بد من الإشارة إلى انه في نهاية عام 2019 كان عدد العاملين في القطاع المصرفي في لبنان يبلغ نحو 24 ألف موظف أما مع بداية الـ 2024 فأصبح العدد أقل من 12 ألف موظف أي ان نسبة من غادر القطاع تبلغ نحو 42 %".
يُشار أيضا إلى ان عدد فروع المصارف التجارية في لبنان تراجع من 1090 فرعًا في بداية الأزمة المالية أي منذ نحو 5 سنوات إلى 710 فروع أي تمّ إقفال نحو 280 فرعاً إستناداً الى تقرير المؤشرات المصرفية الصادر عن جمعية المصارف في لبنان عام 2023.
المصدر: لبنان 24