الاستعمار يعبث مجددا.. العداء بين العرب والأتراك
تاريخ النشر: 20th, September 2023 GMT
دعونا نعرف هذا أولاً: "كراهية الأجانب" أيديولوجية غريبة عن تركيا وثقافتها وتاريخها ومعتقداتها ونسيجها الاجتماعي. وتشهد على ذلك آلاف السنين من التراث الحضاري والثقافي لسكان هذه المنطقة. فبعيدًا عن أي نوع من الغطرسة أو تجميل التاريخ، فإن التنوع الاجتماعي والثقافي كان السمة البارزة على مدار ألف عام من الزمان، حيث لا يشعر أحد أنه "غريب" أو "أجنبي" في هذه الأرض.
وعندما اعتنق الأتراك الإسلام، امتلأ شعورهم بالامتنان له، كما فعل العرب الذين اعتنقوه، وملأهم هذا الشعور بالسمو، وعندما تسلم الأتراك الراية من العرب الذين اجتهدوا في سباق نشر كلمة الله، استمروا في إظهار نفس التسامح الديني في المدن التي أسسوها، تماما كما فعلت الحضارتان الأموية والعباسية في كل مكان رفعت فيه أعلامهما.
ولم يكن هذا التسامح كرامة من العرب ولا من الأتراك. كانت معجزة الإسلام نفسه؛ إذ يمكن النظر إلى حقيقة أن الله جعل من أعداء الأمس "إخوة" على أنها الجانب الأكثر ثورية في الإسلام {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ}.
وتعمل جميع إستراتيجيات السلطة على خلق عدو تحدده وتستهدفه وتسعى إلى تدميره، ويستند وجود هذه السلطة إلى كراهية ذلك العدو، لكن كتاب الله العزيز (القرآن الكريم) نحا منحى آخر؛ فقد زرع المودة بين قلوب من كانوا بالأمس أعداء بعضهم البعض، وجعلهم إخوة بنعمته.
ولم تظلل نعمة هذه الأخوة (الصداقة) المسلمين وحدهم، بل حصل غير المسلمين أيضًا على نصيبهم من منها، فاستطاعوا الاستمرار في العيش تحت المظلة السياسية الجديدة، أحرارًا في دينهم ولغتهم وثقافتهم.
وشعور المسلم -حتى تجاه غير المسلمين- خالٍ من الكراهية، ما داموا لم يظلموه أو يعادوه. فالله هو خالق البشر جميعا، وقد خصص الرزق وحق الحياة والإرادة والحرية للجميع دون تمييز بين مسلم وغير مسلم.
ولذلك فالمسلم، حتى لو كان يعرف أنه على الطريق الصحيح، فإنه ليس غريبًا عن حقيقة أن الله قد أعطى الناس الحق في أن يكونوا كما يريدون بإرادتهم الحرة. وعند هذا المؤمن -الذي اعتاد على رؤية الآيات في اختلاف الخلق- لا يوجد مفهوم "الأجنبية" أو "الأجانب".
العنصرية في مواجهة قيم الإسلاموعلى نقيض ذلك، كلما ابتعدنا عن نعمة هذا الدين الذي يجعل من الأعداء إخوة، أصبح من المحتوم أن يصبح الإخوة أعداء لبعضهم البعض، لأن هذه النعمة الجميلة يتم تفضيل عقل الجاهلية العنصري عليها، وهو عقل لا يخرج منه سوى الحقد والكراهية والعداوة.
والحقد والكراهية المنبعثان من هذا العقل لا تتوجهان فقط إلى الأشخاص الذين يُعرَّفون بأنهم "أجانب"، فعندما تعلق في هذا المستنقع، لا يكون هناك حد لمن سيتوجه إليه هذا الحقد، ولا يمكن أن نعرف أين سيتوقف صاحبها. والعنصرية سقوط عن أنبل مكانة للإنسان، وضلال عن أجمل المعارف، وغفلة عن أعمق وعي.
إن حالة فقدان الوعي التي تجعل العرب يبدون "كأجانب" بالنسبة للأتراك هي ثقافة غريبة عن هذا المجتمع. ولسوء الحظ، فإن إغراءات الجهلة، الذين يحاولون تأجيج المشاعر ونشر هذه الثقافة، قد وصلت إلى حد إلحاق ضرر كبير بتركيا. والغريب أن هؤلاء الذين يرتكبون العنصرية نيابة عن الأتراك، يتعاونون مع أولئك الذين يرتكبونها نيابة عن العرب، ويحاول الطرفان إبعاد العرب والأتراك، الذين أصبحوا إخوة بنعمة من الله، عن بعضهم البعض.
قلناها من قبل، ونكررها: خطر الخطاب العنصري -الذي يستهدف إخواننا العرب- على تركيا، لا يقل عن خطر منظمات إرهابية، مثل "بي كيه كيه" (PKK) و"داعش"(تنظيم الدولية الإسلامية) ويجب أن نقاومه بنفس ما نقاوم به هؤلاء الإرهابيين
وفي تركيا، كانت هناك حملة قوية في وسائل الإعلام العربية ضد الأتراك منذ فترة طويلة. وكانت هذه الحملة تهدف إلى منع العرب من الذهاب إلى تركيا أو حبها. ولم تنجح هذه الحملة أبدًا لأن إخوتنا العرب الذين يملؤون قلوبهم حبًا لتركيا لم ينجرفوا وراء هذه اللعبة.
والآن، مع الحملة التي نشهدها، ينضم إلى أولئك الجهلاء الذين يمارسون العنصرية باسم العرب، أولئك الذين يمارسون العنصرية باسم التركية. ويتعاون هؤلاء معا لإبعاد الأتراك والعرب عن بعضهم البعض. وهذا لا يعني شيئًا سوى استعادة مشروع استعماري إمبريالي قد بدأ قبل قرن من الزمان على أراضي الدولة العثمانية.
ودعنا نؤكد أن أولئك الذين يقودون الحملات العنصرية المعادية للأجانب في تركيا هم أقلية غريبة عن الأتراك. وأن غالبية الشعب التركي يدركون أهداف هذا الشحن العنصري ولا يمنحونه أبدًا الأولوية.
وإذا كانت "العنصرية" حركة منظمة وذات صوت مرتفع لأنها تدار من مراكز التآمر، فإن صوت الغالبية التي تعتبر العنصرية موقفًا معاديا للبشرية آخذ في الارتفاع يومًا بعد يوم.
وقبل أيام، تم تنظيم فعالية تضامنية ضد العنصرية في حديقة "سراج خانة" في منطقة الفاتح. شارك فيها عديد من منظمات المجتمع المدني. وفي معرض حديثه عن هذا الحدث، قال رضوان كايا رئيس إحدى هذه المنظمات إن "العملية التي بدأت بفاشية الحزب الواحد، تعبر عن نفسها اليوم من خلال التحريض على كراهية اللاجئين، وهو أمر لم يكن حاضرا في تاريخ المسلمين أبدًا". وأكد كايا أن "كراهية اللاجئين" في تركيا منبعها كراهية البعض للإسلام نفسه.
وتُظهر هذه الاحتجاجات وردود الفعل التي نشهدها على نحو متزايد أن تركيا لن تستسلم لهذا الإرهاب العنصري الذي يرتكبه حفنة من البلطجية ضدها.
والرئيس أردوغان يعلن أيضا موقفا واضحا وقويا تجاه هذا الخطر. فقد قال في أحد خطاباته الأخيرة: "لن نسمح لهذه الألعاب الخبيثة التي تدمر نسيجنا الاجتماعي، من استفزازات منظمات إرهابية، وبعض السياسيين، إلى سم العنصرية وكراهية الأجانب، أن تتجذر. سنحبط جهود حفنة المحتالين الذين ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي لتفريق شعبنا وتحويل بلادنا إلى ساحة معركة".
ولقد قلناها من قبل، ونكررها: إن خطر هذه الخطابات العنصرية -التي تستهدف إخواننا العرب- على تركيا، لا يقل عن خطر منظمات إرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني "بي كيه كيه" (PKK) و"داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية)، ويجب أن تكون الإجراءات المتخذة ضدهم من عينة ما نواجه به تلك المنظمات الإرهابية، ويجب أن يتحول الموقف القوي للرئيس في هذا الشأن إلى سياسة بنفس القوة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
«الكونجو الديمقراطية لعنة الموارد وإرث الاستعمار» إصدار جديد لهيئة الكتاب
استأنفت وزارة الثقافة، من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، سلسلة افريقيات بهيئة تحريرها الجديدة، برئاسة تحرير الدكتور السيد علي فليفل، ومديرا التحرير الدكتور بدوي رياض عبد السميع، والدكتور مصطفى عبد العال، وصدر أول كتاب بعنوان «الكونجو الديمقراطية لعنة الموارد وإرث الاستعمار»، للدكتورة إيمان عبد العظيم.
الكتاب يسعى إلى تفسير تأثير الموارد الطبيعية في استمرار الصراع في شرق جمهورية الكونجو الديمُقراطية، وفي إطار تفسير هذه الإشكالية، تنطلق الدراسة التي يضمها الكتاب من فرض رئيسي مفاده وجود علاقة طردية بين ثراء الكونجو الديمُقراطية بالمعادن والموارد الطبيعية (الكوبالت والكولتان) واستمرار الصراع في شرق البلاد.
كما تبرز العديد من التساؤلات الفرعية ومنها: كيف تركت الخبرة الاستعمارية تأثيراتها في جمهورية الكونجو الديمُقراطية، هل يمثل التكالب الإقليمي والدولي على موارد الكونجو الديمُقراطية أحد أسباب الحرب أم أنه جاء نتيجة للحرب؟ وما القُوى السياسية والمجتمعية المؤثرة في الكونجو؟ ما المظاهر المتعددة لضعف الدولة في الكونجو لهذا الحد؟ وكيف يمكن تفسير هذا الضعف؟ وللإجابة على التساؤلات السالف ذكرها، تتبنى الدراسة تعددية منهجية تقوم في الإطار العام على كل من الاقتراب البنائي ونظريات اقتصادات الحرب والمصالح.
الاقتراب البنائي: يرتكز الاقتراب البنائي في دراسة الدولة في أفريقيا عامة وفي الكونجو الديمُقراطية بصفة خاصة على مثلث صراعي يتكون من: التنافس على سلطة الدولة، الصراع على توزيع الموارد، التفاوت الاجتماعي والتنوع القائم على الهوية، وبالنظر إلى جمهورية الكونجو الديمُقراطية يلاحظ طبيعة التنافس على سلطة الدولة وعلى حجم الفوائد التي تجنيها القُوى السياسية والمجتمعية والرأسمالية العالمية، واستنادًا إلى الاقتراب البنائي، تتمتع جمهورية الكونجو الديمُقراطية بثراء في الموارد الطبيعية.
وتدرك النظم السياسية بها والرأسمالية العالمية والقُوى السياسية والمجتمعية الأخرى أن الإمساك بالسلطة والاحتفاظ بها يشكل الميدان الرئيسي لتراكم الثروة، ولذلك؛ يكون التنافس للسيطرة على سلطة الدولة، لا سِيَّما السيطرة على المدن الاستراتيجية، مثل: جوما، وكينشاسا وكيفو، ومن يسيطر على كينشاسا، يظل في السلطة بضمان من قِبل الأمم المتحدة نفسها. ومن يسيطر على باقي المدن الأخرى يضمن لنفسه مكانًا على قائمة التفاوض والاستراتيجيات المتعددة.
ونظريات اقتصادات الحرب والمصالح لديفيد كين Economics of War Theories: ينظر أصحاب هذا الاقتراب للحرب والصراعات الأهلية على أنها تمثل استجابة للأحوال الاقتصادية المتغيرة الناجمة عن الأزمة الاقتصادية والتدهور الذي حدث في الثمانينيات والتسعينيات.
ومن هنا، يمكن القول إن الحرب لا تعكس عملًا غير رشيد، ومن ثَمَّ، يقدم الاقتراب تفسيرًا للديناميات قصيرة الأجل للحرب، بما في ذلك صعوبات حل الصراع، ويجيب على مسائل مثل ظاهرة لوردات الحرب، وعملية تجنيد من لا عمل له، والتواطؤ الذي يحدث بين الجيوش النظامية والميليشيات والصراع على المناطق الغنية بالمعادن.
ولفهم العنف في الحروب الأهلية ينبغي تفسير الاقتصاديًّات التي تدعمها وتشكل جزءًا منها، حيث يمكن للعنف أن يأتي بمصالح أو فرص اقتصادية لبعض الجماعات سواء في قمة المجتمع أو في قاعدته؛ حيث أصبحت الحرب استمرارًا للاقتصاد بطرق أخرى.