لجريدة عمان:
2024-06-30@01:24:04 GMT

إعـادة التفكيـر فـي الحضـارة

تاريخ النشر: 20th, September 2023 GMT

إعـادة التفكيـر فـي الحضـارة

طوال أكثر فترات الوجود البشري، ظل جنسنا البشري يتجول على كوكب الأرض، ويعيش في مجموعات صغيرة، ويطارد الحيوانات ويجمع الثمار، وينتقل إلى مناطق جديدة عندما يكون المناخ ملائمًا، ويرجع إلى موطنه عندما يصبح الجو سيئًا.

لمئات الآلاف من السنين، استخدم أسلافنا النار للطهي وتدفئة أنفسهم. لقد صنعوا الأدوات الواقية من الطقس السيئ والملابس والمصوغات، على الرغم من أن ممتلكاتهم كانت مقصورة على ما يمكنهم حمله.

ثم، منذ حوالي 10 آلاف عام، بدأ كل شيء يتغير، ففي بقاع قليلة من العالم، بدأ الناس في زراعة المحاصيل، ومكثوا في المكان نفسه لفترة أكبر، وبنوا القرى والبلدات.

اخترع العديد من العباقرة، الذين لم تتح لنا الفرصة لمعرفتهم، الكتابة والمال والعجلة والبارود. في غضون بضعة آلاف من السنين فقط، وفي غمضة عين، انتشرت المدن والإمبراطوريات والمصانع في جميع أنحاء العالم.

اليوم، الأرض محاطة بالأقمار الصناعية التي تدور في مدارات وتتقاطع معها كابلات الإنترنت. لم يحدث شيء مثل هذا من قبل. سعى علماء الآثار والأنثروبولوجيا إلى تفسير سبب حدوث هذا التحول السريع وغير العادي، وهو أنّ ما حدث كان مثل الفخ، فبمجرد أن بدأ الناس بنشاط الزراعة، لم يكن هناك طريق للعودة من سلسلة من التعقيدات الاجتماعية المتزايدة التي أدت إلى ظهور التسلسل الطبقي البشري، وعدم المساواة، وتدمير البيئة.

لطالما كانت هذه النظرة القاتمة مسيطرة على قصة نهوض الحضارة، إلا أنه كلما زاد عدد دراساتنا على المجتمعات، تبين خطأ هذه النظرة، ومن أجل ذلك ولكي نثبت عدم صحة الأدلة غير المقنعة، فنحن مضطرون إلى إعادة سرد قصة أصل الإنسان. ومن خلال القيام بذلك، فإننا نعيد أيضًا التفكير في تصورنا لماهية المجتمع الذي نود أن نعيش فيه.

النوع البشري، (الإنسان العاقل)، موجود منذ حوالي 300 ألف عام، أي عشرات الآلاف من السنين تقريبا. طوال تلك الفترة، بما في ذلك أثناء الاضطرابات الجليدية، كنا نحصل على رزقنا من خلال صيد الحيوانات وجمعها. فلماذا تخلينا عن أسلوب الحياة الذي كان فعالا ومناسبا لفترة طويلة؟ هذا هو السؤال الرئيسي في جذور الحضارة الإنسانية.

تقول (لورا ديتريش) من المعهد الأثري النمساوي في فيينا: «لا يوجد سبب واضح لبدء حياة الناس في القرى وتدجين المحاصيل والحيوانات، وأن ذلك التحول كانت إحدى أكبر الاضطرابات في تاريخ البشرية.» إن مجرد مناقشة هذا الموضوع قد يكون صعبًا، فمن الناحية التاريخية، كان المفكرون الغربيون يميلون إلى النظر إلى المجتمع الصناعي الحديث على أنه أفضل بطبيعته من مجتمع الصيادين، بما في ذلك طريقة تفكيرهم.

يقول (دانيال هوير)، مدير المشروع في بنك بيانات التاريخ العالمي (سيشات)، «لا يمكننا أن نعتبر أن شيئًا ما هو دائما شيء جيد، أو أن شيئًا ما هو دائمًا سيئ». بنك (سيشات) هو الذي يحول الكم الهائل من المعلومات حول المجتمعات البشرية السابقة إلى شكل قابل للبحث في هذه القضايا، مع العلم بأن الكثير من المصطلحات المتعلقة بهذا التحوّل محمّلٌ بافتراضات غير جيدة حول العرق والجنس والإمبراطورية، فكلمة «حضارة» على وجه الخصوص، لها معنى مبطن، خاصة عند مقارنتها بكلمة «البرابرة» و«الهمجيين» و«البدائيين».

الزراعة.. وطريق العودة المسدود

وعلى الرغم من هذه الصعوبات، قام علماء الأنثروبولوجيا بوضع قصة لتفسير التغيرات الاجتماعية الهائلة في تاريخنا التطوري الحديث. كانت الفكرة السائدة هي أن الناس في بعض الأراضي الخصبة جربوا الزراعة؛ لأنها بدت فكرة جيدة، ثم وجدوا أنه لا سبيل للعودة.

من خلال إنتاج المزيد من الغذاء، تسببوا في النمو السكاني، مما أجبرهم على زراعة المزيد من الغذاء. الأفراد الذين كانوا يتحكمون في إمدادات الحبوب هم من كانوا يقومون بذلك، وأصبحوا أول الحكام والأباطرة في مجتمعات كانت أفرادها متساوين في السابق، وللحفاظ على السيطرة على الحكم، قاموا بإنشاء واستغلال أجهزة الدولة مثل جهاز الكتبة والجهاز التشريعي والجيوش، وعلى ذلك ، من وجهة النظر هذه، فإن للحضارة إيجابيات وسلبيات، فهي تجلب فوائد مثل الأدب والطب وموسيقى الروك، ولكن لها سلبيات أيضًا مثل عدم المساواة والضرائب والأمراض الوبائية الفتاكة التي تنتقل إلينا من الماشية، وكما تحكي رواية (دكتور فاوستس)، فإن أسلافنا عقدوا صفقة مع الشيطان، ولذلك فقصة الحضارة هي كوميديا تراجيدية مع بعض قوى الأساطير العظيمة.

تشير الأدلة المتزايدة الآن إلى أن تلك القصة هي خيال، فهي أولا تشوه صورة مجتمعات الصيد وجمع الثمار، والتي تبينَ أنها مجتمعات أكثر تنوعًا وتعقيدًا بكثير مما كنا نظن، وقد كشف هذا الخطأ عن طريق معبد (جوبيكلي تيبي)، الواقع على قمة تل في جنوب تركيا. بدءًا من منتصف التسعينيات، كشفت الحفريات هناك عن سلسلة من العبوات الدائرية التي تحتوي كل منها على أعمدة حجرية على شكل (T) يبلغ ارتفاعها عدة أمتار، بعضها يحتوي على نقوش حيوانات أو رموز أخرى. تحيط بهذه العبوات مبانٍ مستطيلةُ الشكل. كل هذا لن يكون مفاجئًا إلا إذا علمنا أن تاريخ معبد (جوبيكلي تيبي) يعود إلى ما بين 11500 و10000 سنة مضت أي قبل نشأة الزراعة. تقول الدكتورة (ديتريش): «ليس لدينا نباتات مزروعة أو حيوانات أليفة في تلك الحقبة»، وهذا دليل على أن الصيادين وجامعي الثمار قاموا أحيانًا بإنشاء مبانٍ ضخمة، وهو شيء كان يعتقد سابقا أنه خاص بالمجتمعات الزراعية المستقرة.

لا يمكننا معرفة سبب بناء معبد (جوبيكلي تيبي)، إلا أن الظاهر أنه لم يكن مكانًا للعيش، إذ لا يوجد مصدر للمياه ولا دليل على وجود مواقد دائمة، لذلك قلة من الناس يمكنهم الإقامة هناك على مدار العام، وفقًا لاستنتاجات الدكتورة (ديتريش).

ومع ذلك، فإن الأعمدة الحجرية الضخمة، أو النصب الصخرية، أكبر من أن تحملها مجموعات صغيرة. تقول (ديتريش): «هناك دليل على قدوم مجموعات من مناطق أخرى للالتقاء معا للقيام بشيء مشترك»، قد يكون دينيا، أو طقوسا غامضة.

عُثر أيضا على عدد قليل من الجماجم البشرية، ولكن من الصعب تحديد جنس أصحابها. هناك أيضًا أحواض حجرية كانت تُستخدم لمعالجة الحبوب البرية وتحويلها إلى عصيدة وكميات ضخمة من البيرة. يشك البعض في أنه كان مكانا تتجمع فيه مجموعات من الرجال لأداء طقوس تتعلق بالمواليد الجدد.

مجتمع الصيادين .. أكثر تعقيدًا مما نظن

تقول الدكتورة (ديتريش): لم يكن علماء الآثار يعلمون بوجود معبد (جوبيكلي تيبي). ومنذ اكتشافه، عثر على نصب صخرية من أعمار مماثلة في مواقع قريبة مثل موقع (تل كاراهان) في تركيا، كما هو الحال مع أشكال أخرى من النصب التذكارية التي بناها الصيادون، مثل أعمال الحفر الضخمة في موقع (بوفيتري بوينت) في لويزيانا في الولايات المتحدة. هذه أمثلة مثيرة على سلوك معقد وغير متوقع من قبل مجتمع الصيادين-جامعي الثمار، وهناك أمثلة أخرى

. في العقود الأخيرة، أدت الدراسات التي أُجريت على مجموعات الصيادين والجماعات الحديثة إلى قلب أفكارنا حول هياكلها الاجتماعية أيضًا.

يقول (أدريان ياغي) من جامعة زيورخ بسويسرا: «عادةً ما يعتقد الناس أن الصيادين وجامعي الثمار يعيشون في مجموعات بدوية صغيرة تتسم بالمساواة والتعاون إلى حد ما، ولكن في الواقع، هناك عدد كاف من الأمثلة لوجود ما يسميه البعض «الصيادين المعقدين». هؤلاء هم الأشخاص الذين كانوا مستقرين إلى حد ما ولديهم درجة عالية من التقسيم الطبقي السياسي، وقد يكون هناك طبقة حاكمة بالوراثة، إذ كان لديهم حكام بنظام وراثي ولديهم عبودية وحروب».

وقد تكون بعض الجماعات التي تعتمد على الصيد وقطف الثمار قد تصرفت بهذه الطرق لعشرات الآلاف من السنين. يقول (ياغي): ليس لدينا الكثير من الأدلة المباشرة. ولكن هناك بعض المدافن لأشخاص بزخرفة وأشياء بدت وكأنهم ربما كانوا حكامًا، يبلغ عمرها 20 ألفا أو 30 ألف عام». ربما تعفن الكثير من الأدلة أو أخفيت عمدا، بل حتى معبد (جوبيكلي تيبي) نفسه دفن عمدا لأسباب غير معروفة. في الوقت الذي تبقى فيه إجابات العديد من الأسئلة غير واضحة، هناك شيء واحد واضح، وهو أنّ القصة التقليدية التي تدّعي أن المجتمعات المعقدة بدأت مع تطور الزراعة قصة غير مقبولة، على الأقل ليس في جميع مراحل تلك الحقبة، إذ تمكن الصيادون وجامعو الثمار من تشكيل مجموعات كبيرة، وأداء الطقوس وبناء المعالم الأثرية المتقنة، ولم تكن الزراعة قد وجدت بعد.

السؤال الثاني المثير هو: لماذا بدأ الناس أصلا نشاط الزراعة؟ من المفيد أن نتخيل كيف كانت المزارع المبكرة. تقول (آيمي بوجات) من جامعة أكسفورد: «انسَ الزراعة الصناعية الحديثة واسعة النطاق، فهذا أشبه بالبستنة، وفكر في مقياس مكاني مختلف جذريًا، ولكن في مقابل كثافة أكبر للتركيز، وقوة دافعة محتملة لظروف الزراعة في ذاك النطاق الأصغر.

لاحظ أيضًا أن المزارعين الأوائل لم يكونوا مجرد مزارعين، إذ لا يزال هناك الكثير الأنشطة المصاحبة للزراعة مثل جمع الثمار ومطاردة الحيوانات وصيد الأسماك والطيور.

سيل جارف أم جفاف قاتل؟

السبب الظاهر وراء بدء الناس بنشاط الزراعة قد يكون الرغبة في الحصول على المزيد من الغذاء، أو على الأقل ضمان إمدادات مستدامة منه. ومع ذلك، ليست هناك أدلة ثابتة على ذلك، بل ما قيل هو عكس ذلك. يقول (جاريد دياموند) من جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس: إن «الزراعة كانت أسوأ خطأ في تاريخ الجنس البشري»، مشيرًا إلى أدلة على أن المزارعين البدائيين كانوا أقصر من معاصريهم من الصيادين وجامعي الثمار، وأكثر عرضة لسوء التغذية والأمراض ويموتون بسرعة، إلا أن هذه كلها ليست سوى تعميمات، وأنه بناء على الأدلة المتوفرة لدينا، يجب علينا إجراء تقييم على ما كان يحدث على المستوى الإقليمي.

لنأخذ، على سبيل المثال، مستوطنة (تشاتال هويوك) في تركيا، وهي عبارة عن مجتمع للمزارعين عاشوا في قرية مزدحمة بين عامي 7100 و5600 قبل الميلاد. تقول (بوجات) عن هذه المستوطنة: «إنها تمثل نوعًا من مجموعة كاملة من البيانات التجريبية مدتها 1500 عام لمستوطنة تعدّ ناجحة، وبالرغم من وجود بعض التقلبات في حجم المجتمع، لكن كان لديهم محصول متنوع يحتوي على خمسة أو ستة أنواع من الحبوب، وعلى عدد مماثل من البقول، ونشاط متواصل من البحث عن الكلأ.»

قد تكون هناك أسباب ثقافية للزراعة كما يقول (بوجارد): «يريد الناس البقاء في مكان معين، إذ إنهم مرتبطون بهذا الجزء من المناظر الطبيعية ويفعلون كل ما في وسعهم لجعل ذلك مقبولًا بيئيًا». إن الأنشطة مثل الدفن، التي تسمح للناس بالبقاء بالقرب من أقاربهم القتلى، هي دليل على ذلك.

لا يزال هناك سؤال محير حول السبب الذي يجعل أناسا في أماكن متباينة مثل بلاد ما بين النهرين وشمال الصين وأمريكا الجنوبية يركزون جميعًا على الزراعة في غضون بضعة آلاف من السنين من بعضهم البعض. قد يكمن الجواب في تغير المناخ، فخلال الفترة التي سبقت حوالي 10000 عام، أي في العصر الجليدي، تقلبت درجات الحرارة كثيرًا على مدار عقود وقرون.

يقول (ياغي): «إن أسلوب حياة البدو في الصيد والجمع هو أفضل طريقة لكسب العيش عندما تكون الظروف غير متوقعة». منذ ذلك الحين، خلال عصر الهولوسين الحالي، سمح المناخ المتوقع للزراعة بالازدهار. ومع ذلك، لم يبدأ البشر الزراعة وبناء مجتمعات معقدة في عصر الهولوسين فقط، بل على العكس من ذلك، «لقد كان هذا يحدث دائمًا»، كما يقول (هوير). كل ما في الأمر هو أن الناس لم يتمكنوا من تبني العيش الزراعي المستقر بشكل دائم بسبب أن المناخ كان غير مستقر. ولتلخيص ما مضى، نحن نعلم الآن أن مجتمعات الصيد وجمع الثمار كانت أكثر تنوعًا بكثير مما كنا نظن، بما في ذلك بعض المجتمعات التي لديها تسلسل هرمي عائلي وآثار لأبنية، وكذلك نعلم أن الزراعة لم تكن فخًا، ولم تكن جيدة أو سيئة بشكل قاطع، بل اعتمدت على مكان وكيفية القيام بها.

دراسات تستقصي الحقيقة

تقول (جينيفر كان) من كلية ويليام وماري في فيرجينيا: «الكثير مما كنا نعرفه عن عصور ما قبل التاريخ في العالم جاء من الشرق الأدنى وأوروبا، والآن، بعدما حصلنا على الكثير من البيانات الأثرية حول ما يحدث في مناطق أخرى من العالم، نرى أن هناك الكثير من الفروقات». خذ على سبيل المثال المجتمعات البولينيزية في (جزر سوسايتي) في المحيط الهادئ، حيث عملت (جينيفر كان) لسنوات. في حوالي عام 1650، ظهرت طائفة دينية تمنع أي قوة من شن الحرب على مجموعة من الحكام، والذين قاموا بعد ذلك بضم المشيخات الأصغر إلى مناطقهم. بعبارة أخرى، على الرغم من أن الحرب لعبت دورها في إنتاج مشيخات معقدة، إلا أن الدين كان مهمًا أيضًا.

تقول (كان): «كانت الأيديولوجيا وقوة الطقوس التقليدية عاملين مهمين جدا في وجود التسلسل الهرمي الاجتماعي في جزر سوسايتي». لدينا أيضا المزيد من المعلومات حول مجتمعات عدة تكشف أيضًا أن الناس قد تخلوا أحيانًا عن المجتمعات ذات التسلسل الهرمي المعقد، مثلما اختارت بعض المجموعات التوقف عن ممارسة نشاط الزراعة.

في (ميسا فيردي) جنوب غرب كولورادو، بنى الأمريكيون الأصليون المعروفون باسم الهنود الحمر مساكن وقصورا على جوانب المنحدرات الصخرية، ثم توقفوا عن استخدامها. قامت (كرابتري) بمحاكاة هذا التاريخ في نموذج حاسوبي، وتوصلت إلى أن «ما نراه هو أن الناس ينتقلون إلى مجتمع أكثر تراتبية وتعقيدًا، يتمتع بقيادة مركزية، إلا أن هذا لم ينجح بسبب الجفاف والاضطرابات الاجتماعية، لذلك قاموا بتفكيك هذا التسلسل الهرمي بسرعة» إن الدرس الذي نتعلمه من خلال كل هذا هي أن الصورة الحقيقية للحضارة مختلفة تماما عن الصورة السابقة التي كنا نعتقدها.

تقول (كان): «لا توجد نظرية واحدة حول الكيفية التي تصبح بها المجتمعات أكثر تعقيدًا». أو بعبارة أخرى فإن مسار قصة الحضارة أغنى بكثير وأكثر إبداعًا مما كنا نظن. إن فهم التقلبات وما بين السطور لا يلقي ضوءًا جديدًا على ماضينا فحسب، بل قد يساعدنا أيضًا في إنشاء مجتمعات أفضل في المستقبل.

إنه من المغري تصنيف المجتمعات في فئات مرتبة مثل مجتمع الصيد ومجتمع جمع الثمار مقابل المجتمع المعقد، والمساواة مقابل التسلسل الهرمي، والديمقراطية مقابل الاستبدادية، إلا أنه اتضح أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالمجتمع يمكن أن يتغير بشكل جذري إذا أراد أعضاؤه ذلك.

وقد وقعت إحدى هذه التحولات في جزيرة (رابا نوى)، المعروفة أيضًا باسم جزيرة (إيستر)، جنوب شرق المحيط الهادئ، إذ أسس المستوطنون الأوائل رؤساء فرعيين، لكل منهم سلطة على منطقة واحدة من الجزيرة وجميعهم تابعون لرئيس عام.

تقول (جينيفر كان) من كلية ويليام وماري في فيرجينيا: «كان من الممكن أن يكون الرئيس وراثيًا، إنه منصب متوارث مثل نظام ملكي، حيث يولد الفرد حاملا هذا اللقب». ومع ذلك، ثبت أن هذا النظام المركزي غير مستقر، لذلك انقلب عليه سكان (رابا نوى) حوالي عام 1600، وبدلا من ذلك أسسوا نظام (بيردمان). في كل عام، كان المحاربون يتنافسون من خلال السباحة إلى جزيرة صغيرة عبر المياه التي تنتشر فيها أسماك القرش ليصلوا إلى بيضة طائر، ثم يرجعون مرة أخرى. تقول (كان): «أول من يصل وبيضته غير مكسورة يصبح الرئيس، وبهذا يصبح شاغل المنصب قد حققه بجهده، ولذلك قد يكون المحارب شخصًا من رتبة وضيعة.»

من المسلم به أن التحولات في الحكم عادة ما تحدث بشكل تدريجي، لكن اللافت للنظر هو مدى اختلاف هياكل السلطة هذه من مجموعة إلى أخرى حتى عندما تبدو متشابهة ظاهريًا. خذ الولايات المتحدة ومنغوليا على سبيل المثال، كلاهما يرأسهما رئيس منتخب. يقول (ستيفاني كرابتري) من جامعة ولاية يوتا: «الولايات المتحدة لديها تسلسل هرمي واضح للغاية، لكنك تذهب إلى منغوليا وهي ذات مستوى هرمي أعلى بكثير. نعم، هناك رئيس، ولكن لديهم تلك الروح التي استلهموها من (جنكيز خان) والتي توحي أنه يمكن للجميع أن يكون لهم رأي».

تقدير أكبر للمرأة

يُنظر إلى المساواة عمومًا على أنها سمة من سمات مجتمعات الصيد وجمع الثمار، ومع تطور التسلسلات الهرمية الاجتماعية إلى مجتمعات، تصبح أكثر تعقيدا، وهذا يدل على أن الفكرة مبسطة: بعض أشكال التسلسل الهرمي الاجتماعي أكثر مساواة من غيرها. هناك أدلة من المجتمعات السابقة تغير رأينا حول فكرة أخرى تتعلق بالتسلسل الهرمي، وهو أن الرجال دائمًا في موضع السلطة.

إن غالبية المجتمعات المعقدة هي في الواقع أبوية، لكن الأبوية ليست حتمية. يقول (وينغرو): «في الواقع، يبدو أن بعض المجتمعات المبكرة التي تَبَنّت الزراعة قد منحت مكانة عالية أو على الأقل مساوية للمرأة». ويشير إلى موقع (تشاتال هويوك) في تركيا، وهو بقايا أحد أقدم الأمثلة للمعيشة الحضرية المكتظة بالسكان التي عاشت على الزراعة، حيث يقول: «لا يوجد ما يشير إلى وجود نظام أبوي، إذ تشير الأبحاث إلى أن الرجال والنساء عاشوا في أعمار متشابهة ويتمتعون بمستويات معيشية مماثلة، والكثير من الفن والرمزية في موقع (تشاتال هويوك) ومواقع العصر الحجري الحديث الأخرى تمنح المرأة مكانة مستقلة لا تكون فيها تابعة للرجل.»

ما وراء النظام الأبوي حتى الإمبراطوريات القوية لم تكن كلها ذات سلط ذكورية. بين حوالي 200 قبل الميلاد و100 بعد الميلاد، كانت السهول الشرقية الأوراسية تسيطر عليها إمبراطورية بدوية تسمى (سُنْ نْيو). توجد أدلة أثرية على قيام نساء (سُنْ نْيو) بركوب الخيل والرماية. علاوة على ذلك، وصفت دراسة نُشرت في أبريل الحمض النووي على 18 شخصًا من (سُنْ نْيو) ووجدت أن المقابر ذات المكانة الأعلى تحتوي على نساء، وكذلك دُفنت امرأة في تابوت خشبي مزخرف به 6 خيول وقطع صينية من البرونز ووعاء من البرونز، مما يوحي أن النساء شغلن مناصب سياسية وعسكرية رفيعة في مجتمع (سُنْ نْيو).

. نحتاج أيضًا إلى إعادة التفكير في خاصية أخرى مصاحبة للمجتمعات المعقدة وهي (التحضر)، فنحن نميل دائما أن نعرف مفهوم (التحضر) بأنه الآلاف أو حتى الملايين من الناس يعيشون في منطقة صغيرة، أحيانًا فوق بعضهم البعض حرفيًا كما يحدث في ناطحات السحاب. ومع ذلك، حتى في عالم اليوم، فإن عملية التحضر بعيدة عن التجانس.

وجدت دراسة أجريت عام 2020 بهدف معرف الكيفية التي تتغير بها المدن الكبيرة بين عامي 2001 و2018 أنماط نمو مختلفة بشكل كبير، فقد زاد عدد سكان بعض المدن بشكل أسرع بكثير من المباني، في حين تباينت معدلات تخضير المناطق الحضرية. علاوة على ذلك، تكشف الأدلة الأثرية أن المدن يمكن أن تتخذ أشكالًا مختلفة جذريًا عن بعضها البعض. لمئات الآلاف من السنين، كان جميع البشر صيادين وجامعين للثمار، يعيش معظمهم الآن في مجتمعات معقدة، وكما أننا نراجع أفكارنا حول كيفية حدوث هذا التحول، فكذلك نحتاج أيضًا إلى إعادة التفكير في هذه الثنائية البسيطة. إن الأشكال التي يمكن أن يتخذها المجتمع البشري عددها أكثر بكثير مما يدركه معظم الناس، ولا يوجد سبب للتوقف عن ابتكار أشكال أخرى للمجتمع في الوقت الحاضر. يقول (وينغرو): عندما نبدأ بالتفكير في جميع المسارات الممكنة التي لم نفكر فيها سابقا، فذلك يفتح لنا آفاقا للتفكير بحرية وإبداع في البدائل في الوقت الحاضر.

بناء المدن الفاضلة

مع توارد الأخبار السيئة، من السهل أن تشعر بالإحباط حيال مستقبل المجتمع البشري، إلا أنّ هناك سببين للاعتقاد بأن التغيير للأفضل ممكن. أولاً، وقع تغيير اجتماعي هائل في الماضي القريب، فالمزيد من الناس أصبحوا يعيشون في المدن أكثر من أي وقت مضى، وفي العديد من البلدان، يمكن للمرأة الآن التصويت، وإجراء عمليات الإجهاض، وتولي منصب رئيس الحكومة، كما أنه ينظر إلى التعصب، بشكل متزايد، على أنه غير مقبول، وأصبح الفقر وسوء التغذية أقل شيوعًا، على الأقل من ناحية بعض المقاييس، بينما يتزايد التأييد لاتخاذ إجراءات قوية بشأن تغير المناخ، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي موجودة.

وسواء اتفقنا مع كل هذه التغييرات أم لا، فقد حدثت وبسرعة. ثانيًا، تكشف دراسات الأنثروبولوجيا وعلم الآثار أن المجتمع البشري يمكن أن يتخذ أشكالًا لا تعد ولا تحصى.

يقول (ديفيد وينغرو) من جامعة كوليدج لندن: «هذا محيّر وملهم في آن واحد»، وهو يعتقد أن تنوع المجتمعات السابقة يفتح إمكانيات لإعادة تشكيل مجتمعاتنا الحديثة.

ولكننا بلا شك بحاجة إلى تقليل تأثير التغير المناخي إلى الحد الأدنى، لأن الزراعة وظهور المجتمعات المعقدة أصبح ممكنًا فقط عندما استقر المناخ منذ حوالي 10 آلاف سنة في بداية ظهور عصر (الهولوسين)، عصرنا الجيولوجي الحالي. يقول (بوغارد): «ما يميز عصر الهولوسين هو الاستقرار». كانت هناك بعض التحولات المناخية، لكنها أقل بكثير مما كانت عليه في العهود السابقة. يضيف (بوغارد): «ما يجعل الأزمة الحالية مخيفة للغاية هو إدراكنا أنها تفسد الاستقرار الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن على مدى العشرة آلاف سنة الماضية.»

وقد قدرت دراسة جديدة البيئة المناخية المثالية للمجتمعات البشرية، وخلصت إلى أن 9 في المائة من الناس قد رحلوا بالفعل بسبب تغير المناخ، مع احتمال زيادة هذه النسبة إلى 39 في المائة بحلول نهاية القرن. وجدت دراسة ثانية أن ارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يدفع الناس إلى الهجرة.

في هذا القرن، سوف يجلب تغير المناخ مخاطر هائلة، بما في ذلك تدمير البنية التحتية والنزوح الجماعي. سابقا، عندما كانت تواجه بعض المجتمعات تحديات بيئية، كان بعضها يتأقلم والبعض الآخر لا يستطيع. يقول (تيموثي كوهلر) من جامعة ولاية واشنطن: «يمكنهم مواجهة هذه التحديات بشكل جيد إذا كان مستوى العدل في توزيع الثروة مرتفعا للغاية، وعندما يكون مستوى العدل في توزيع الثروة منخفضا، يبدو أن ذلك سيؤدي على الأرجح إلى اضطراب اجتماعي وعنف».

مايكل مارشال

خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تغیر المناخ بما فی ذلک المزید من الکثیر من على الأقل بکثیر مما دلیل على من الناس من جامعة أن الناس قد یکون على ذلک یمکن أن ومع ذلک أشکال ا لا یوجد من خلال إلى أن یکون ا على أن إلا أن لم تکن ما کان

إقرأ أيضاً:

مناقشة هادئة لرسالة مشحونة بالعنف

كلام الناس
نورالدين مدني
noradin@msn.com
مناقشة هادئة لرسالة مشحونة بالعنف
*تسعدني المداخلات التي تصلني عبر بريدي الإلكتروني ولأنني للأسف لا أستطيع متابعة التعيقات التي تكتب مباشرة في مواقع النشر الإلكتروني‘ يكفي أن تحرك الكتابة الدواخل وتوقظ الهمم وتفتح طاقات الحوار والتشاور والدفع بالتي هي أحسن.
*إستوقفتني قبل فترة رسالة وصلتني عبر إيميلي من القارئ محمد عبد القادر حسن من حي العمدة بأمدرمان بكل ما فيها من حدة وعنف لفظي واتهامات وسخرية لاداعي لها‘ وذلك في معرض تعقيبه على كلام الناس بعنوان" من أجل أبنائنا وبناتنا ومعهم/ن وبهم/ن".
*كان كلام الناس موضوع التعقيب عن الندوة التي نظمها المنتدى الأدبي السوداني بسدني حول "تجسير الفجوة بين الأجيال وتحصين الشباب من عدوى تيارات التطرف والغلو ومن الإنحراف والرزيلة‘ التي عقدت في ليفربول في ذلك الوقت. ج
*بدأ محمد عبد القادر تعقيبه قائلاً : إننا لسنا في حاجة لندوات في أصقاع الدنيا ولا نحتاج لأنبياء جدد‘ وطمضى قائلاً انه بعد كل تلك السنوات من الحديث عن تطبيق الشريعة الإسلامية - في السودان - مازلنا نرزح تحت نير عدم تطبيق الشرع الإلهي‘ وقال إن كتابنا مكتمل والسنة واضحة‘ وأضاف قائلاً : الشباب يجدون "الفكرة" في الحركات المتطرفة لذلك ينضمون إليها!!.
* الغريب أن محمد عبد القادر يطالبنا في رسالته هذه بنشر الإسلام المعتدل وفي نفس الوقت يقول : "دعونا من ندوات ليفربول ..ليفربول قال"‘ هكذا ختم رسالته التي لاتخلوا من إشارات إيجابية رغم هجومه على إقامة الندوات في هذه الأصقاع البعيدة.
*إنه يعترف بانه بعدمرور سنوات عديدة من الحديث عن تطبيق الشريعة الإسلامية ما زلنا نرزح تحت نير عدم تطبيق الشرع الإلهي‘ وهذا يؤكد أن المعضلة ليست في الرسالة الإسلامية السمحة التي جاءت رحمة للعالمين ونوراً يهدي للتي هي أقوم بالتي هي أحسن‘ لكن للأسف فإن الحركات المتطرفة بأعمالها العدوانية وممارساتها السالبة تخصم من رصيد القبول العالمي للإسلام.
*نحن نرى أن العالم في حاجة ماسة لمثل هذه الندوات في ظل تنامي الحركات المتطرفة التي يدعي صاحبنا أن الشباب وجدوا عندهم " الفكرة"‘ لذلك نجتهد دون إدعاء وصاية أو حكمة أو إكراه في تحصين الأجيال الصاعدة من أبنائنا وبناتناخاصة في المجتمعات المفتوحة التي تتيح لهم حريات قد يسيئون استغلالهاسواء بالإنضمام لجماعات التطرف والعنف أو الوقوع في براثن الإنحراف والرزيلة والعياذ بالله.
*بل إننا نرى ضرورة تكثيف هذه الندوات في كل أصقاع الدنيا مصحوبة ببرامج جاذبة للأطفال والشباب يشاركون فيها بأنفسهم‘ ليس بهدف شغل وقت فراغهم ‘ وإنما بحسن إستغلاله لتنشئتهم/ن وتقويمهم/ن بالتي هي أحسن على هدى وبصيرة تنفعهم/ن وتعينهم/ن على بناء مستقبلهم/ن بعيداً عن التطرف والعنف والإنحراف والرزيلة.  

مقالات مشابهة

  • هل هناك حاجة لإعادة هيكلة قطاع العمل؟
  • عتاب إلى الشركة المختصة بإدارة النفايات
  • مناقشة هادئة لرسالة مشحونة بالعنف
  • بالفيديو.. محمد القرش: ملف الزراعة بات من أهم الأولويات لدى الدولة المصرية
  • الرابطة الدولية للإبداع الفكري والثقافي بفرنسا تقدم أمسية ثقافية مصرية في قلب فرساي
  • المناظرة بين بايدن وترامب.. "بي بي سي" تسلط الضوء على تقدم سن الرئيس الأمريكي.. و"سي إن إن": هناك فجوة كبيرة بين الرجلين
  • من طرف المسيد: حديث عن النخيل (4)
  • شركة أبوقير والخيارات الصعبة
  • أستاذ اقتصاد: كانت هناك فجوة تنموية بالصعيد وجرى القضاء على فكرة الهجرة
  • متحدث باسم نتنياهو لـCNN: تلقينا تطمينات من أمريكا بشأن شحنات الأسلحة