لجريدة عمان:
2025-03-25@12:29:29 GMT

ج. م. كوتزي.. «صورة الكاتب في شيخوخته»

تاريخ النشر: 19th, September 2023 GMT

ج. م. كوتزي.. «صورة الكاتب في شيخوخته»

لا شك أن الفن السردي (وأقصد به هنا القصة والرواية والمسرحية والسينما والدراما التلفزيونية...) نجح في إبداع شخصيات بقيت عالقة في ذاكرة الإنسانية، وسوف تبقى هي وغيرها، ما دامت الكتابة، والفن مستمرين في بناء حياة تسحرنا، ولن أقول حياة موازية؛ لأنها تبدو وقد أصبحت «بمعنى ما» هي الحياة الحقيقية، بينما انسحبت، تلك، الواقعية، إلى المشهد الخلفي.

كيف يمكن أن ننسى مثلا شخصية كمال عبد الجواد (في ثلاثية محفوظ) في مساراتها المتعرجة، وحتى المتناقضة؟ هل يمكن أن تغيب عن بالنا شهرزاد وأقاصيصها التي أفضت إلى استيهامات لا تُحصى عند كلّ الذين قرؤوا «ألف ليلة وليلة»؟ أين نضع «جلجامش» و«أنكيدو» في بحثهما عن عشبة الخلود، وحتى ساقية الحانة «سيدوري»، في الملحمة عينها؟ هل يمكن قراءة فلوبير من دون أن نقارنه بــ«مدام بوفاري»؟ ألم يقل هو نفسه «إن بوفاري هي أنا»؟ عديدة هي الأمثلة عن تلك الشخصيات، منذ الأساطير الإغريقية، وحتى، «تجاوزًا»، الكتب المقدسة، فيما لو انطلقنا حرفيا من الآية الكريمة (في «سورة يوسف»): «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ»...

تطرأ على بالي هذه الفكرة، مع قراءتي ترجمة فرنسية لرواية جون ماكسويل كوتزي (وفي ترجمة أخرى كوتسي وكويتزي، نوبل للآداب 2003) «مسلخ الزجاج» (العنوان الأصلي بالإنجليزية «حكايات أخلاقية» (Moral Tales) والسبب، عودة شخصية «إليزابيث كوستيللو» التي ظهرت في روايتين سابقتين له، الأولى تحمل الاسم عينه «إليزابيث كوستيللو» والثانية «الرجل البطيء» (التي يمكن قراءتها في نشر إلكتروني مجاني على موقع «مؤسسة هنداوي»)، وها هي تعود لتظهر في هذه الرواية الثالثة «مسلخ الزجاج» (منشورات «لوسوي»، باريس).

إليزابيث كوستيللو، كاتبة أسترالية تتقدم في السن، تدين بشهرتها لكتاب نُشر قبل 25 عامًا. وهي اليوم، تسافر حول العالم لإلقاء محاضرات «يأتي الكتاب على شكل 8 محاضرات» على متن سفن سياحية وفي مؤتمرات فاخرة. وبرغم تعبها، عليها أن تقدم «عروضها»: التفكير في معنى حياتها وكتابتها، لتتحول الخطب والحوارات التي تثيرها إلى ذريعة للتعبير عن الآراء والأفكار الفلسفية حول موضوعات متنوعة، من كيف نعامل الحيوانات حيث قتلها جريمة بشعة، إلى مكانة الأدب في أفريقيا أو حتى الدين في المجتمع المعاصر. صورة نابضة بالحياة عن امرأة عجوز مشوشة، يستهلكها الشك والأسئلة حول قوة الأدب في مواجهة العزلة والموت. «إنها، وهي تسمع صوتها، غير متأكدة عمّا إذا كانت لا تزال تؤمن بما تقوله». كتاب أشبه بتأبين نابض بالحياة المليئة بالشكوك، في عالم مليء باليقين والأحكام المسبقة.

الظهور الثاني لكوستيللو في رواية «الرجل البطيء» وهو بول رايمينت، في الستين من العمر؛ رجل وحيد من دون عائلة، يجد نفسه فجأة وقد بترت ساقه بعد تعرضه لحادث وهو على دراجته الهوائية. يرفض بعناد وضع طرف اصطناعي يسمح له بالعودة إلى قدر معين من الاستقلالية، وبالتالي أصبح غير قادر على إعالة نفسه، لذا احتاج إلى الرعاية اليومية التي تقدمها له ممرضة من أصل كرواتي، ماريانا يوكيتش هاجرت مؤخرًا مع عائلتها إلى استراليا، فتقوم بمهمتها على أفضل وجه، ما يجعل قلب بول رايمينت المتألم يحيا من جديد، وما يدفعه إلى حدّ عرض أخذ كل آل يوكيتش تحت جناح رعايته. فبدلا من الطرف الصناعي، يجد بول في أعضاء العائلة متكأً لعالمه المنكمش. في تلك اللحظة تطرق إليزابيث كوستيللو باب منزله، لتدعوه إلى إعادة النظام سريعا في حياته. هذا القرين الأنثوي الثرثار وغير المناسب والمهيمن على كل شيء، كان يحاول كتابة قصة عن هذا الرجل الذي بدأ بالضمور والذي يقترب من الشيخوخة بفتنة غير مفهومة، مرة أخرى نجد الثيمة عينها «قوة الأدب في مواجهة العزلة والموت». هنا تبدأ رواية أخرى، إذا جاز القول، قصة حياة رايمينت الماضية حين كان صبيا صغيرا انتقل من أوروبا إلى أستراليا، كما تقدمه الصعب نحو الرجولة، بين لغتين وثقافتين. لكن في النهاية سيدرك هذا الستيني، الذي تقبل الحادث تمامًا مثلما تقبل عزلته، أن الطرف الاصطناعي العاطفي، والأسرة، حتى لو تم تبنيها، لا تزال أفضل حماية ضد آلام الشيخوخة والإعاقة الجسدية.

في «مسلخ الزجاج»، تعود هذه المرأة / الكاتبة لتحضر مجددا. لقد بدأت تواجه هجمة «الشيخوخة العنيفة». كل يوم يمرّ يجعلها أقرب إلى الظل. لقد بدأت تلاحظ بهدوء ووضوح تدهور قدراتها العقلية. بدأ أولادها يشعرون بالقلق عليها، لذا لم يتوقفوا عن نصحها بمغادرة أستراليا للانضمام إليهم. ومع ذلك، ترفض وتفضل مواجهة ما لا مفر منه في حرية واستقلالية العزلة، وتتساءل حتى النهاية، بلا هوادة، عن معنى وجودها والطبيعة العميقة لإنسانيتنا.

يستمر كوتزي في تسليط الضوء على حقيقة الشيخوخة، ومن خلال كوستيللو يعود إلى موضوع عزيز عليه، ألا وهو مناهضة التمييز بين الأنواع، مع نداء حيوي لصالح إعادة تعريف علاقتنا بعالم الحيوان. «المسلخ الزجاجي» الذي يعطي عنوان الترجمة الفرنسية هو الأكثر إثارة للدهشة، مع انتقاد لاذع لتفكير هايدجر حول الحيوانات والحشرات. ووفقا له، فإن فهمها للعالم محدود أو منزوع. «إن حواس العث متنبهة، ولكن فقط لمحفزات معينة، على سبيل المثال رائحة الهواء أو الاهتزاز في الأرض الذي يدل على اقتراب كائن ذي دم دافئ». تعيد كوستيللو الحجة مرة أخرى إلى الفيلسوف، مشيرًا إلى أن ما كان يبحث عنه هايدجر من خلال عشيقاته مطابق لنبضات العث، «تلك اللحظة التي يتركز فيها الوعي في خفقان، بقوة لا لبس فيها قبل أن ينطفئ؟».

في سبع لوحات رومانسية، يقدم لنا كوتزي صورة مدهشة عن المرأة ودرسًا في الأدب؛ درسًا مكثفًا بقدر ما هو مختصر، بلغة نقية مثيرة للإعجاب، يمس قلب أسئلتنا الأكثر تعقيدًا وعالمية (ماذا سيبقى منا عندما نرحل؟ ماذا ننقل إلى أولئك الذين يبقون؟) ويواجهها من دون أن يتخلى أبدًا عن أناقته وكرامته وروحه المتواضعة.

كوتزي المولود في جنوب إفريقيا والذي هاجر إلى أستراليا وحاز جنسيتها عام 2006، ينجح في رسم شخصية لا بدّ أنها ستبقى حاضرة في الأدب الغربي، لتتحول إلى واحدة من تلك المراجع. في الواقع لا يكتب كوتزي سوى نفسه، عبر هذا القرين النسائي. إنها صورة الكاتب في شيخوخته، فيما لو حورنا عنوان رواية جيمس جويس «صورة الفنان في شبابه».

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

كيف يمكن فهم استراتيجية ترامب الخارجية؟

أثارت سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الخارجية جدلًا واسعًا، إذ وصفها البعض بأنها تجارية، انعزالية، أو حتى استبدادية ومدفوعة بالنزوات، إلى حدّ أنها تتعارض مع المصالح الوطنية الأمريكية. غير أن المستشار في الشؤون الدفاعية، الدكتور فيكتور أبراموفيتش، يرى أن هذه التحليلات تتجاهل بُعدًا أكثر عمقًا في سلوكيات ترامب، وهو إعادة تقييم استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى على مدى القرن الماضي، والتي ارتكزت على الهيمنة العالمية الليبرالية والتوازن الخارجي.

إعادة حسابات ترامب المحتملة تعني ثلاثة أمور رئيسية لحلفاء أمريكا

ما ملامح الاستراتيجية الأمريكية التقليدية؟

كتب أبراموفيتش في تقرير نشره "معهد لوي" الأسترالي أن أحد الأهداف الأساسية لاستراتيجية واشنطن كان منع أي قوة أخرى من السيطرة على مراكز النفوذ العالمية، خاصة في أوروبا، آسيا، والشرق الأوسط، حيث يمكن لدولة مهيمنة في إحدى هذه المناطق أن تحشد مواردها لتشكّل تهديداً لأمريكا مستقبلاً.

ترامب يعيد خلط أوراق اليمين المتشدد في أوروبا - موقع 24عندما اجتمع كبار القادة العسكريين لدول حلفاء أوكرانيا في لندن يوم 20 مارس (آذار) لمناقشة إمكانية تشكيل قوة لحفظ السلام، كان هناك غائب بارز: رئيس أركان الدفاع الإيطالي الجنرال لوتشيانو بورتولانو، الذي أوفد ممثلين أقل رتبة، في خطوة وصفتها مجلة "إيكونوميست" بأنها ذات دلالة.

ولتحقيق ذلك، اعتمدت الولايات المتحدة على دعم القوى المحلية لموازنة نفوذ أي قوة صاعدة، مما كان أقل كلفة من التدخل العسكري المباشر. لكن هذا النهج شهد تباينات عبر العقود. فبعد الحرب الباردة، تبنّت واشنطن هيمنة عالمية عبر قواعد عسكرية وتحالفات وتدخلات سريعة لاحتواء التهديدات، بينما كان النهج السائد قبل عام 1945 يقوم على التوازن الخارجي، حيث بقيت القوات الأمريكية داخل أراضيها ولم تتدخل إلا عند الضرورة القصوى، كما في الحربين العالميتين.

وفي كلتا الحالتين، سعت واشنطن إلى تعزيز اعتماد حلفائها عليها، لا سيما في المجالين النووي والعسكري، ما جعلهم أكثر تبعية للولايات المتحدة ودفعهم لدعم حروبها، في حين استفادوا من إنفاق أقل على الدفاع الذاتي.

حسابات ترامب الجديدة

استمرت هذه الاستراتيجية لعقود، مما جعل الكثيرين يعتقدون أن أمريكا لن تغيّر نهجها. لكن مع تصاعد التكاليف، بدأت تحذيرات من أن واشنطن قد تتخلى عن بعض أعباء الهيمنة العالمية، خصوصاً وأن موقعها الجغرافي يحميها من التهديدات المباشرة.

ترامب يطلق ثورة أمريكية ثانية.. ولكن ضد العالم هذه المرة - موقع 24بعد مرور شهرين فقط على تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية، بات واضحاً أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقود ثورة في السياسة الخارجية الأمريكية، ستؤدي إلى انقلاب النظام الدولي رأساً على عقب، من خلال زعزعته لاستقرار المؤسسات الراسخة، وأنماط التعاون الدولي المستقرة وتدميرها.

ويبدو أن ترامب تبنّى هذا المنظور، وهو ما يفسّر العديد من قراراته في السياسة الخارجية. فقد سعى إلى تقليص الإنفاق العسكري التقليدي مقابل تعزيز قدرات مثل "درع القبة الذهبية" لحماية أمريكا من التهديدات العابرة للحدود.

كما دفع الحلفاء لزيادة إنفاقهم الدفاعي وتحسين فرص واشنطن الاقتصادية، عبر مزيج من الضغوط والمجاملات للقوى الكبرى.

وفي أوروبا، رأى ترامب أن خطر الغزو ضعيف نظراً لتشرذم دول القارة وضعف روسيا، فلماذا الإبقاء على وجود عسكري هناك؟ أما في آسيا، فالصين تمثل تهديداً متزايداً يتطلب استثمارات أمريكية أكبر، ما يطرح خيار صفقة كبرى مع بكين تضمن مصالح واشنطن الاقتصادية مقابل تقليص وجودها العسكري في المنطقة.

إلحاح ترامب على حلول سريعة يصطدم بالوقائع الدبلوماسية     - موقع 24في النزاعات الدولية، يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عجلة من أمره. وحتى قبل أن يتسلم ولايته الثانية، ادعى فضله في "وقف النار الملحمي" في غزة. وسارع إلى الحصول على موافقة أوكرانيا وروسيا على هدنة، وبالنسبة لإيران، يريد ترامب اتفاقاً في غضون شهرين، لمنع طهران من تطوير سلاح نووي.       

تداعيات محتملة على الحلفاء

يرى أبراموفيتش أن إعادة تقييم ترامب للاستراتيجية الأمريكية تحمل ثلاثة تداعيات رئيسية لحلفاء واشنطن:

1- نهاية عهد الضمانات التقليدية

لم يعد بالإمكان الاعتماد على الهيمنة الأمريكية كما في السابق، فحتى لو كان نهج التوازن الخارجي منطقياً، فإن تغيّر الاستراتيجية قد يصبح نهجاً دائماً، ليس مع ترامب فقط، بل ربما مع إدارات أمريكية مستقبلية.

2- ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي

على الحلفاء تعزيز قدراتهم الدفاعية لمواجهة تراجع الدور الأمريكي. لكن هذا قد يكون سيفاً ذا حدين، إذ إن تحصّن الدول الإقليمية ضد موسكو وبكين قد يُشجّع واشنطن على الانسحاب أكثر.

3- التقليل من الاعتماد على أمريكا بذكاء

من الضروري أن تبحث الدول عن خيارات بديلة، لكن بحذر، خصوصاً في ظل إدارة غير متوقعة مثل إدارة ترامب. بالنسبة إلى أستراليا، على سبيل المثال، برزت دعوات لنهج أكثر استقلالية في السياسة الخارجية والدفاعية. ومن بين الخيارات المطروحة، تسريع شراء الأسلحة الأمريكية التي يمكن الحصول عليها بسرعة، مع تجنب الالتزامات طويلة الأمد مثل شراء غواصات نووية، إذ قد يتم إلغاؤها في أي لحظة بقرار أمريكي مفاجئ.

لن تعجب ترامب.. سيناريوهات محتملة لضم كندا إلى الولايات المتحدة - موقع 24يريد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضم كندا وجعلها الولاية الأمريكية الرقم 51، وإذا ما مضى في سبيل هذه الغاية، فثمة "عواقب غير مقصودة" ستحدث.      

وختم أبراموفيتش بالقول: "هناك الكثير مما يجب فعله، وبسرعة".

مقالات مشابهة

  • كيف يمكن فهم استراتيجية ترامب الخارجية؟
  • سلطات كولورادو تقرر إزالة صورة ترامب التي أثارت غضبه
  • الروائي الفلسطيني نافذ الرفاعي يكشف لـ "البوابة نيوز" مستقبل الرواية بعد حرب غزة
  • نافذ الرفاعي لـ "البوابة نيوز": حكايات الحب والحرب والنجاة والموت في غزة تستحق الكتابة عنها
  • معرض يكشف موهبة الكاتب الكبير فيكتور هوغو في الرسم
  • هيئة الكتاب تعيد إصدار صوت أبي العلاء للدكتور طه حسين
  • إدمان وزيجات ومرض خطير.. أسرار فى حياة إليزابيث تايلور بذكرى وفاتها
  • إنتخاب الكاتب الصحفي حاتم البطيوي أميناً عاماً لمنتدى أصيلة خلفاً للراحل محمد بنعيسى
  • أحمد فضل شبلول: المسيرة الحقيقية لأدب الطفل بدأت من الشاعر أحمد شوقي
  • الخطاب الوحيد الذي يمكن يطرق أذن العالم