ج. م. كوتزي.. «صورة الكاتب في شيخوخته»
تاريخ النشر: 19th, September 2023 GMT
لا شك أن الفن السردي (وأقصد به هنا القصة والرواية والمسرحية والسينما والدراما التلفزيونية...) نجح في إبداع شخصيات بقيت عالقة في ذاكرة الإنسانية، وسوف تبقى هي وغيرها، ما دامت الكتابة، والفن مستمرين في بناء حياة تسحرنا، ولن أقول حياة موازية؛ لأنها تبدو وقد أصبحت «بمعنى ما» هي الحياة الحقيقية، بينما انسحبت، تلك، الواقعية، إلى المشهد الخلفي.
كيف يمكن أن ننسى مثلا شخصية كمال عبد الجواد (في ثلاثية محفوظ) في مساراتها المتعرجة، وحتى المتناقضة؟ هل يمكن أن تغيب عن بالنا شهرزاد وأقاصيصها التي أفضت إلى استيهامات لا تُحصى عند كلّ الذين قرؤوا «ألف ليلة وليلة»؟ أين نضع «جلجامش» و«أنكيدو» في بحثهما عن عشبة الخلود، وحتى ساقية الحانة «سيدوري»، في الملحمة عينها؟ هل يمكن قراءة فلوبير من دون أن نقارنه بــ«مدام بوفاري»؟ ألم يقل هو نفسه «إن بوفاري هي أنا»؟ عديدة هي الأمثلة عن تلك الشخصيات، منذ الأساطير الإغريقية، وحتى، «تجاوزًا»، الكتب المقدسة، فيما لو انطلقنا حرفيا من الآية الكريمة (في «سورة يوسف»): «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ»...
تطرأ على بالي هذه الفكرة، مع قراءتي ترجمة فرنسية لرواية جون ماكسويل كوتزي (وفي ترجمة أخرى كوتسي وكويتزي، نوبل للآداب 2003) «مسلخ الزجاج» (العنوان الأصلي بالإنجليزية «حكايات أخلاقية» (Moral Tales) والسبب، عودة شخصية «إليزابيث كوستيللو» التي ظهرت في روايتين سابقتين له، الأولى تحمل الاسم عينه «إليزابيث كوستيللو» والثانية «الرجل البطيء» (التي يمكن قراءتها في نشر إلكتروني مجاني على موقع «مؤسسة هنداوي»)، وها هي تعود لتظهر في هذه الرواية الثالثة «مسلخ الزجاج» (منشورات «لوسوي»، باريس).
إليزابيث كوستيللو، كاتبة أسترالية تتقدم في السن، تدين بشهرتها لكتاب نُشر قبل 25 عامًا. وهي اليوم، تسافر حول العالم لإلقاء محاضرات «يأتي الكتاب على شكل 8 محاضرات» على متن سفن سياحية وفي مؤتمرات فاخرة. وبرغم تعبها، عليها أن تقدم «عروضها»: التفكير في معنى حياتها وكتابتها، لتتحول الخطب والحوارات التي تثيرها إلى ذريعة للتعبير عن الآراء والأفكار الفلسفية حول موضوعات متنوعة، من كيف نعامل الحيوانات حيث قتلها جريمة بشعة، إلى مكانة الأدب في أفريقيا أو حتى الدين في المجتمع المعاصر. صورة نابضة بالحياة عن امرأة عجوز مشوشة، يستهلكها الشك والأسئلة حول قوة الأدب في مواجهة العزلة والموت. «إنها، وهي تسمع صوتها، غير متأكدة عمّا إذا كانت لا تزال تؤمن بما تقوله». كتاب أشبه بتأبين نابض بالحياة المليئة بالشكوك، في عالم مليء باليقين والأحكام المسبقة.
الظهور الثاني لكوستيللو في رواية «الرجل البطيء» وهو بول رايمينت، في الستين من العمر؛ رجل وحيد من دون عائلة، يجد نفسه فجأة وقد بترت ساقه بعد تعرضه لحادث وهو على دراجته الهوائية. يرفض بعناد وضع طرف اصطناعي يسمح له بالعودة إلى قدر معين من الاستقلالية، وبالتالي أصبح غير قادر على إعالة نفسه، لذا احتاج إلى الرعاية اليومية التي تقدمها له ممرضة من أصل كرواتي، ماريانا يوكيتش هاجرت مؤخرًا مع عائلتها إلى استراليا، فتقوم بمهمتها على أفضل وجه، ما يجعل قلب بول رايمينت المتألم يحيا من جديد، وما يدفعه إلى حدّ عرض أخذ كل آل يوكيتش تحت جناح رعايته. فبدلا من الطرف الصناعي، يجد بول في أعضاء العائلة متكأً لعالمه المنكمش. في تلك اللحظة تطرق إليزابيث كوستيللو باب منزله، لتدعوه إلى إعادة النظام سريعا في حياته. هذا القرين الأنثوي الثرثار وغير المناسب والمهيمن على كل شيء، كان يحاول كتابة قصة عن هذا الرجل الذي بدأ بالضمور والذي يقترب من الشيخوخة بفتنة غير مفهومة، مرة أخرى نجد الثيمة عينها «قوة الأدب في مواجهة العزلة والموت». هنا تبدأ رواية أخرى، إذا جاز القول، قصة حياة رايمينت الماضية حين كان صبيا صغيرا انتقل من أوروبا إلى أستراليا، كما تقدمه الصعب نحو الرجولة، بين لغتين وثقافتين. لكن في النهاية سيدرك هذا الستيني، الذي تقبل الحادث تمامًا مثلما تقبل عزلته، أن الطرف الاصطناعي العاطفي، والأسرة، حتى لو تم تبنيها، لا تزال أفضل حماية ضد آلام الشيخوخة والإعاقة الجسدية.
في «مسلخ الزجاج»، تعود هذه المرأة / الكاتبة لتحضر مجددا. لقد بدأت تواجه هجمة «الشيخوخة العنيفة». كل يوم يمرّ يجعلها أقرب إلى الظل. لقد بدأت تلاحظ بهدوء ووضوح تدهور قدراتها العقلية. بدأ أولادها يشعرون بالقلق عليها، لذا لم يتوقفوا عن نصحها بمغادرة أستراليا للانضمام إليهم. ومع ذلك، ترفض وتفضل مواجهة ما لا مفر منه في حرية واستقلالية العزلة، وتتساءل حتى النهاية، بلا هوادة، عن معنى وجودها والطبيعة العميقة لإنسانيتنا.
يستمر كوتزي في تسليط الضوء على حقيقة الشيخوخة، ومن خلال كوستيللو يعود إلى موضوع عزيز عليه، ألا وهو مناهضة التمييز بين الأنواع، مع نداء حيوي لصالح إعادة تعريف علاقتنا بعالم الحيوان. «المسلخ الزجاجي» الذي يعطي عنوان الترجمة الفرنسية هو الأكثر إثارة للدهشة، مع انتقاد لاذع لتفكير هايدجر حول الحيوانات والحشرات. ووفقا له، فإن فهمها للعالم محدود أو منزوع. «إن حواس العث متنبهة، ولكن فقط لمحفزات معينة، على سبيل المثال رائحة الهواء أو الاهتزاز في الأرض الذي يدل على اقتراب كائن ذي دم دافئ». تعيد كوستيللو الحجة مرة أخرى إلى الفيلسوف، مشيرًا إلى أن ما كان يبحث عنه هايدجر من خلال عشيقاته مطابق لنبضات العث، «تلك اللحظة التي يتركز فيها الوعي في خفقان، بقوة لا لبس فيها قبل أن ينطفئ؟».
في سبع لوحات رومانسية، يقدم لنا كوتزي صورة مدهشة عن المرأة ودرسًا في الأدب؛ درسًا مكثفًا بقدر ما هو مختصر، بلغة نقية مثيرة للإعجاب، يمس قلب أسئلتنا الأكثر تعقيدًا وعالمية (ماذا سيبقى منا عندما نرحل؟ ماذا ننقل إلى أولئك الذين يبقون؟) ويواجهها من دون أن يتخلى أبدًا عن أناقته وكرامته وروحه المتواضعة.
كوتزي المولود في جنوب إفريقيا والذي هاجر إلى أستراليا وحاز جنسيتها عام 2006، ينجح في رسم شخصية لا بدّ أنها ستبقى حاضرة في الأدب الغربي، لتتحول إلى واحدة من تلك المراجع. في الواقع لا يكتب كوتزي سوى نفسه، عبر هذا القرين النسائي. إنها صورة الكاتب في شيخوخته، فيما لو حورنا عنوان رواية جيمس جويس «صورة الفنان في شبابه».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جاءت الخربة في 49 فصلا
عيسى الشيخ حسن، شاعر وكاتب سوري، يقيم في دولة قطر، منذ تسعينيات القرن الماضي. من مواليد قرية أم الفرسان بريف مدينة القامشلي، شمال شرقي سورية عام 1965.
يعد الشيخ حسن من الشعراء السوريين في المهجر، وهو حاصل على إجازة في اللغة العربية. نشر كثيرا من النصوص والمقالات الأدبية في الصحف القطرية والمجلات العربية، وتأثر ببيئته البدوية الممتدة باتجاه بوابة بلاد الرافدين.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أدب السجون السورية.. شهادات على جحيم معتقلات نظام الأسدlist 2 of 2فدوى طوقان سنديانة فلسطين.. سيرة امرأة عربية ورحلتها الصعبةend of listبدأ شاعرا من خلال ديوانه "أناشيد مبللة بالحزن"، الذي غير مساره الأدبي ونقله إلى عالم الشعر، ويؤكد أن الرواية "بالنسبة إليّ أرض بكر، أقيم فيها الآن"، ويبين في حوارنا معه أن "الجوائز لا تصنع المبدع في خاتمة الأمر، ولكنها بكل تأكيد تساهم في تعرف المتلقي إلى نتاجه".
وحول نشأته الريفية وانعكاس ذلك في شعره، يقول الكاتب عيسى الشيخ حسن للجزيرة نت "عاشت القرى فيّ بجدرانها وشخوصها. في ديواني الأول تسللت إلى القرية، وتعبيراتها المتمردة على أبنية الصرف العربية: "الفلاليح، الدراريب، مثلا".
صدرت له 6 دواوين شعرية هي "أناشيد مبللة بالحزن" 1998، و"يا جبال أوبي معه" 2001، و"أمويون في حلم عباسي" 2005، "كأن الريح" 2006، وديوان "مروا علي"، 2015 وهي مجموعة أصدرتها جماعة قلق الشعرية، وكان آخرها ديوان "حمام كثيف" دار المتوسط، ميلانو-إيطاليا 2016، كما صدرت له رواية "خربة الشيخ أحمد" (2022).
إعلانحاز العديد من الجوائز بينها جائزة الشارقة في دورتها الخامسة وجائزة عبد الوهاب البياتي في دورتها الأولى، فإلى الحوار:
ماذا عن البدايات.. هل من حدث ما أو كتاب أدى إلى دخولك إلى عالم الكتابة؟ ما قصة الكتاب الأول الذي غيّر مسارك الأدبي؟نشأت في أسرة متدينة وفي وسط ريفي قريب الصلة بالبداوة، وكان رف الكتب في "الدار الغربية" مكتبة الحي الوحيدة. في الصف الثاني أتقنت تهجئة الحروف، والقراءة الطليقة، بفضل حلقة الكتاب التي انتظمت فيها صيفا، وكانت الشهور الطويلة التي قضيناها من دون مدرسة بسبب "الغمر" فرصة عظيمة لطفل في الثانية قرأ ما وقع بين يديه من كتب ذلك الرف "سيرة ابن هشام" و"السندباد البحري" و"تنوير القلوب"، وأزعم أن تلك القراءات الأولى هي التي رسمت لي طريقي نحو الأدب.
بدأت شاعرا، ومن ثم اتجهت إلى عالم الرواية، هل أنت شاعر أم روائي؟الشعر والسرد أداتا تعبير، وجل مبدعينا كتبوا الشعر والسرد، الروائي الراحل عبد السلام العجيلي له ديوان شعر سابق على اشتغاله بالسرد، إبراهيم ناجي صاحب الأطلال له رواية لا يعلم بها كثير من المتابعين، سميح القاسم له رواية قصيرة "الصورة الأخيرة في الألبوم"، أمير تاج السر له ديوان أو أكثر، وكثير غيرهم.
يبدأ المرء شاعرا، في الغالب، مهموما بحبه الأول وفقده الأول، يعزف على وتر واحد، ويرى الأشياء من جانب واحد، ولكن طول التجربة وعمقها تريه أن الأمر أكبر من تعبير وجداني في ثوب قصيدة، إذ لم يعد ذلك العازف الوحيد، هو الآن مايسترو يقود مجموعة هائلة من الأسماء والأصوات، يرصدهم بعين واعية، ويعطي كلا منهم الفسحة ليأخذ دوره في السردية.
هل أنا شاعر أم روائي؟ أترك التوصيف الإبداعي للقارئ والناقد معا، برغم تجربتي الفقيرة في السرد فإن الرواية بالنسبة إلي أرض بكر، أقيم فيها الآن، وأهرب من حين إلى آخر إلى الشعر في مغامرات عابرة.
رواية "خربة الشيخ أحمد" لكاتبها عيسى الشيخ حسن صدرت عن دار موزاييك للدراسات والنشر (الجزيرة) جاءت رواية "خربة الشيخ أحمد" في 49 فصلا، تبدو الرواية طويلة، ويبدو لهذا العدد من الفصول رمزيته، ما سر هذا العدد؟ إعلانأشكرك على هذا السؤال، فالرقم 49 يدل على عدد حجارة المنقلة، التي أعدها اللعبة الوطنية للفراتيين وأبناء الجزيرة عموما، وهي نصف حجارة اللعبة وتماثلها 49 أخرى. في الرواية رميت الحجارة التي تحق لي، في بيوت من طين، وتاريخ مليء بالرحيل والدم، وقد كسبت مقالات نقد، وأصدقاء، وقراء، وفي رأيي فإن الرواية هي لعبة منقلة، بين الراوي والقارئ، يتبادلان تبييت الأفكار، ونقلها. وهذا ما حصل تماما حين تبادلت أفكار الخربة مع قراء مدهشين، فقد كتبت الرواية فصلا بفصل، على مدونتي في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وتبادلت وقارئي لعبة النقد والإطراء والانتظار.
لماذا تأخر نشر كتابك الأول؟صدر كتابي الأول "أناشيد مبللة بالحزن" عام 1998 عن جائزة البياتي الشعرية، كنت يومذاك في الـ33 من عمري، حاولت قبل ذلك، ولم تكن التجربة قد نضجت تماما، ومر وقت ضربت فيه صفحا عن التجربة. جائزة البياتي أنقذت تلك القصاصات المتناثرة على مر السنين. جمعت تلك القصاصات واستفتيت فيها مجموعة صغيرة من المقربين، ثم كتبتها بخط اليد، وأرسلتها في وقت متأخر، وكان كل رجائي أن تحظى بتنويه صغير، يشير إليها على أنها عمل أدبي ناجز ومجاز.
لجائزة البياتي دور كبير في تغيير وجهة حياتي من فلاح يعمل في أوقات فراغه مدرسا للغة العربية، إلى مشروع كاتب عاش رهانات الكتابة وخيباتها.
يوجد اليوم على الساحة الأدبية في العالم العربي عدد من الجوائز الكبرى.. فهل يحتاج الإبداع في العالم العربي إلى جوائز بهذا الحجم؟ وهل تؤمن بأن الروائي الناجح، يجب أن يكون أكبر من الجوائز؟يعد الربع الأخير القرن الماضي مولدا لظاهرة الجوائز الأدبية، في ظل أوضاع سياسية واجتماعية ألقت بظلالها على الأدب. جاءت الجوائز لتمد المشهد الأدبي بالأكسجين الكافي كي تستمر حياة الكلمة. منذ البداية، تزاحمت الجوائز وباتت الأطباق أكثر من الطعام. ولكن لا بأس، سيستقر الأمر بعد وقت على مجموعة من مؤسسات الجوائز الجادة.
إعلانالجوائز لا تصنع المبدع في خاتمة الأمر، ولكنها بكل تأكيد تساهم في تعرف المتلقي إلى نتاجه، ولكنها لا تضمن له بقاء هالة الضوء فوقه. عالميا: ظلت أسماء كبيرة خارج نطاق "نوبل"، ميلان كونديرا مثلا، عربيا لا تحضرني أمثلة، ولكني أشير إلى "خيري شلبي" مثلا.
"حمام كثيف" هو عنوان المجموعة الشعرية الخامسة لعيسى الشيخ حسن التي صدرت عن "منشورات المتوسط" (الجزيرة) هل نحن أمام فورة روائية عربية إن صح التعبير، بدون ضوابط؟ليس تماما، إن ما يحدث الآن هو تحول إبداعي في استبدال السرد بأنماط الكتابة القديمة، بعدما تزعزعت كثير منها، كقصيدة التفعيلة بوصفها كتابة نخبوية. أضف إلى ذلك أن الرواية باتت المدونة الحصرية لاستنطاق الهامش، بمكوناته من الإثنيات والأقليات والطوائف والشرائح الاجتماعية؛ فتدفقت روايات جديدة كتابها شعراء سابقون ونساء وموظفون محالون على التقاعد وسياسيون وناشطون اجتماعيون ومثقفون ومفكرون ونقاد أيضا. كل هذا أربك حركة سوق التلقي، ولكن هذا شيء طبيعي أيضا، لأن مرونة السرد تجعله قابلا أشكالا متعددة ومختلفة.
هل أثرت البيئة الريفية القاسية التي عاشها الكاتب عيسى الشيخ على نتاجه الأدبي؟ وهل شكلت القرية البنية الكتابية الأولى بالنسبة لك؟بوصلة الكاتب عموما موجهة إلى حزمة ضوء بعيدة هي منطقة الذكريات. منذ ربع قرن، أعيش في واحدة من أكثر عواصم العالم حيوية، ولكني ما زلت أعيش في تلك القرى البعيدة "الحرملة، أبو الكالات، بصلجة، وأم الفرسان" عاشت تلك القرى في بجدرانها وشخوصها. في ديواني الأول تسللت إلي القرية، وتعبيراتها المتمردة على أبنية الصرف العربية: "الفلاليح، الدراريب" مثلا. وفي الأعمال التالية كان حضورها أكبر بفعل عاملين: أولهما الغربة الطويلة، وثانيهما تراجيديا الحرب التي نعيش تفاصيلها المرهقة، وربما كانت "خربة الشيخ أحمد" مرثية غير معلنة لتلك الرسوم.
إعلان بداياتك الشعرية كانت مع ديوان "أناشيد مبللة بالحزن" الفائز بجائزة الشاعر عبد الوهاب البياتي، هل تحن إلى تلك البدايات؟ وهل يعد ذلك الديوان بيانك الشعري الأول؟الحنين منطقة خضراء في تجربتي مع الحياة والكتابة، وبخاصة مع الأناشيد، التي أعادت لتجربتي الاعتبار، كان أستاذي وأبي حسين عساف يقول: "أعرف أن هذا الشاب يكتب بصمت"، وأظن أن أستاذي قد رسم لي الصمت طريقا وطريقة في الإنجاز. نعم، أحن إلى تلك البدايات الصعبة المليئة بالجهد والتعب والرهان الصامت على الكتابة، وأحن إلى أيام النجاح التي عشتها منذ إعلان الجائزة، أحن إلى نشوة الفرح الأولى يومذاك، والنجاحات التي تلت، والناجز الذي تحقق في مجموعة من الكتب.
ديوان "أناشيد مبللة بالحزن" حصل على جائزة عبد الوهاب البياتي الشعرية عام 1998 (الجزيرة) أيهما يغلب على مسيرة عيسى الشيخ حسن: الشعر أم الرواية؟الشعر عرس اللغة في داخلي، وهي تقترح أنماطا من المجاز، والترانيم، والرواية شبكة علاقات معقدة بين الوجوه والأفكار محبوكة بخيط الماضي. في مرات قليلة، يحضر الصوفي وتنعقد حلقة ذكر لغوية تترك لي بعدها نصا اسمه قصيدة، وفي مرات أقل أجدني خلف ذلك الصوفي أصلح له طعامه وثيابه وأصدقاءه في نص مكتوب بين الوعي واللاوعي، ذلك ما هو السرد.
هل تعبر عن نفسك في شعرك أم تعبر عن مصائر الآخرين؟ ومن هم الشعراء الأقرب إلى عيسى الشيخ حسن؟ينطلق الشاعر من ذاته، وبقدر ما كان ينتمي إلى الآخرين أو المجموع العام، فهو يعبر عنهم، وأظن أني واحد من الناس أستمتع ببساطتي، وأكتب نصي والآخرون حاضرون معي يصوبون لي، وقد يصفقون أحيانا. هناك أرخبيل من الشعراء أستمتع بنصوصهم من امرئ القيس. أحب قصائد معينة لهم بالتحديد، وأخاف أن أذكر كل جزر هذا الأرخبيل، فأنسى جزيرة أو جزيرتين.
هل توافق على أن زمن الشعراء الرواد والتنظير المقدس في الشعر العربي ولى من دون رجعة؟ إعلانلا أظن أن فكرة ما، أو ظاهرة ما، تذهب إلى غير رجعة، الأفكار أمواج متتالية، وما يكون اليوم "بضاعة مزجاة" سيأتيه وقت ويصبح حجة طلاب الشعر، لا أحب الحكم الصارم والعجول، ولا أحب لغيري أن يذهب فيه. نصوص اليوم تعبير عن "عالم مريض" مشتت، بأدوات جديدة، قد لا يكون الشعر شاهدها الأول. التنظير والتقعيد يعني المدرسية، ولم يكن أحد منا يحب الذهاب إلى المدرسة، لكننا جميعا مررنا من خلال صفوفها.
ماذا يعني أن يكرس عيسى الشيخ حسن روائيا؟ وهل تعد نفسك شاعرا يكتب رواية مثل شعراء كثر على مستوى العالم؟لا أظن أن الروائي الذي فيّ سيقدم نفسه روائيا، الرواية مغامرة وقد اندفعت إليها بفعل تبعات الحرب، كان يجب أن أكتب وثيقة ما، شيئا ما، والبلاد على شفا حفرة من الكارثة. كنت أؤرخ -إن صح القول- للمكان وأهله بطعامهم وشرابهم وأحاديثهم، وأعيش معهم ذلك الحيز الزماني الجميل. الشعر هو الجدار الذي أستند إليه بعد مغامراتي في وسائل الكتابة الأخرى "الرواية- القصة- المقال الصحفي".
هل كانت روايتكم "خربة الشيخ أحمد" (موازاييك، 2022)، بمثابة سيرة شخصية غير معلنة؟ وما رأي الشيخ حسن بما كتبه حتى اليوم؟لا يكتب الكاتب من الفراغ، العمل سيرة المجموع العريض من أهلنا، سيرة رعاة الماشية عندما استقروا في القرى، واستبدلوا ببيوت الشعر خياما من الطين. وكان من الضروري أن أستعير من تجربتي المعلم والشاعر والحفيد والابن. كثير من القراء قال لي: إن فيها جزءا من سيرتي، أو أن جدي كان هنا، أو إن الفتاة التي خطبتها تبين أنها أختي في الرضاعة.
الكتابة مغامرة كبيرة، وما زلت أكتب. أنظر إلى الناجز بعين العتب، أمامي كثير من المشاريع في توثيق حياة أهلنا، والعمل الذي أنجزته في هذا المجال يحتاج مني أن أتوقف لأجمعه بهدوء، أنا مدين لأهلي هناك بكل ما كتبت، وأشعر أن الطريق ما زال طويلا، ولكن السير فيه مبهج.
إعلان