يروق لي بين الفينة والأخرى أن أستعيد قصيدة للشاعرة السورية التي تعيش في ألمانيا وداد نبي «قبل الثلاثين بقليل... قبلني» لأنسج تنويعاتي الخاصة عما يعنيه الوقوف عند الثلاثين أو ما بعدها بقليل. كتبت وداد نبي: «أبيع تلك الأعوام مجّانًا لحرس الحدود في الدول التي قطعتها هربًا من حربٍ لم أردها لرجال الضرائب في ألمانيا الرأسمالية التي أقيم فيها للنازيين الجدد وهم يهتفون: لا نريد لاجئين/ للرجال الذين تعلّقوا بقفطاني الكردي الملوّن كأزهار توليب لحظةَ الوداع فأرسلتُهم للجحيم مبتسمين بعد أن دفنت زهورهم».
قلما نكتب عن التقدم في العمر، وإذا ما تحدثنا عنه في المواقع الرسمية، فإننا وعلى الفور نفتشُ عن الثقوب التي سندسُ فيها الحكم والدروس التي لقنتنا إياها الحياة، وفي أسوأ الأحوال سنعظُ القراء عما ينبغي فعله في عمر ما أما في أحسنها فإننا سنصف التغييرات الجسدية والسيكولوجية التي تظهر مثل لحظات التنوير بينما نكبر ونشيخ. لكن ماذا عما نشعر به؟ عن التراث الطويل الذي نقطعه باتجاه أعمارنا الجديدة، خصوصا كنساء؟ ما الذي نعرفه عن العشرينيات فعلا والثلاثينيات ثم الأربعينيات فما بعد؟ ما الخبرات التي نتكتم عن مشاركتها؟ وما الذي يفوتنا لكي نقول وفي لحظة معينة: كان ينبغي أن أعيش هذا في العشرينيات لكنني أختبره متأخرة في الثلاثينيات بسبب من طبيعتي المقموعة الناتجة وبطبيعة الحال عن تاريخي الشخصي الذي ما هو إلا امتداد لتاريخ النساء في هذا المكان. ماذا عن الصوت الذي يعكسُ خبرتنا من موقع طبقتنا الاجتماعية أو حضورنا في السلم الاجتماعي كناجحات أو مخفقات، جميلات أو قبيحات، متزنات أو هستيريات؟
الشاعرة المصرية إيمان مرسال كتبت في مجموعتها الشعرية الأثيرة: ممر معتم لتعلم الرقص الذي صدر في طبعته الأولى عام 1995 «كيف أسمح لنفسي أن أكون وحيدة قبل الثلاثين؟» لتقتبس في مجموعتها الشعرية - «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» التي صدرت عام 2013 في قصيدة حياة «هكذا استيقظتُ في أرضٍ غريبةٍ ذلك الصباح الذي بلغتُ فيه الأربعين، ولولا أنّ الله لم يرسل نساء من قبل لقلت إنّها أول إشارات النبوة، ولولا مزاجي الخاص لاستشهدتُ بكلام محمود درويش عن «امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها» أو بكلام ميلوش عن الباب الذي فُتح بداخله فدخل. أمامي طابور من الموتى الذين ماتوا ربما لأنّني أحببتهم، بيوت للأرق داومتُ على تنظيفها بإخلاص في أيام الإجازات، هدايا لم أفتحها لحظة وصولها، قصائد سُرقت مني سطرا سطرا حتى أنني أشك في انتمائها لي، رجال لم أقابلهم إلا في الوقت الخطأ ومصحّات لا أتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك. أمامي حياتي كلّها؛ حتى أنه يمكنني ضمّها إذا شئتُ، يمكنني حتى الجلوس على ركبتيها والغناء أو العويل. لنرى ما الذي حدث للشاعرة في لحظة ثمينة في الكتابة العربية قبل بلوغها الثلاثين وتوقعاتها عنها، وفي الشعر نفسه تكبرُ وتدخل باب الأربعين من بوابة كلمة شاعر آخر كرس نفسه وكلمته في ثقافتها وفي رؤيتها لنفسها والعالم.
لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال أن أتجاوز شخصيا واحدة من أهم الكتابات التي أثرت فيّ، للكاتبة السعودية التي لن تجد لها إلا صورة أو صورتين مغبشتين على الإنترنت «ليلى الجهني» والكثير من الشائعات عن أسماء مستعارة اختبأت خلفها لتكتب بحرية أكبر مما يمكنها أن تفعله باسمها الحقيقي، في كتابها 40 في معنى أن أكبر، والذي صدر في الزمن الجميل لإصدار: «كتاب في جريدة» المشروع العربي الذي بدأ عام 1998 وتوقف عام 2003. تصدرُ الجهني كتابها غير «المجنس» بآية من سورة الأحقاف: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ» لتنثال بعد هذا التصدير اعترافات الكاتبة الحميمة عن سنوات عمرها، إنها لم تكن أما، لم تنخرط كثيرا في الحياة الاجتماعية التي نعدها ومن باب البديهة «طبيعية» ومعيارية، عن الخسارات الفادحة التي لا تعوض، والحب الذي ينبغي أن نخسر في معركته وحده، أو كما كتب درويش «انتصر انت انتصر».
تكتب الجهني «لم أعد أريد شيئا غير أن أعرف أكثر، كي أعي مبلغ جهلي الفادح، فأحزن أكثر مما حزنت.» وفي موقع آخر «ما أفهمه الآن من: شرق المتوسط، ليس ما فهمته منها عندما قرأتها أول مرة قبل أعوام طويلة خلت.» وكأن علاقتها بهذا العمل المهم في الرواية العربية للروائي السعودي عبد الرحمن منيف، يعكسُ تحولا مهما لا في النظر إلى نفسها فحسب بل في النظر للعالم أيضا، ومرة أخرى نلاحظ كيف أن المرأة تستلُ موقف كاتب آخر كما حدث مع مرسال في اقتباسها لدرويش، لتحديد موقعها داخل هذه الثقافة وعلاقتها بما هو راسخ فيها ومحقق. إنه في وجه ما ضياع محقق، وفي وجه آخر وصولٌ اقتضى عمرا طويلا وتجربة ممتدة للتلاقي أخيرا ما يعكسُ تمثلا لأرواح الكاتبات الممزقة. تكتب ليلى: أكبر في ظل الحروب، وقد وسم الخراب كل عشرة أعوام من عمري بطريقة لا يمكنني إغماض عيني عنها. عاصرت ثلاث حروب غيرت العالم من حولي ودارت كلها قريبا مني، على ضفاف الخليج: الأولى بين العراق وإيران، والثانية عقب اجتياح العراق للكويت، والثالثة عندما اجتاحت أمريكا العراق».
الآن، تُرى كيف أرى نفسي في مطلع الثلاثينيات بدوري؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
اسطورة حزب الله: بين الواقعية والتحطيم
كتب سامر زريق في"نداء الوطن": من الصعوبة بمكان على "حزب الله" الاعتراف بانتهاء صلاحية أسطورته، وبالتخبط الذي يعانيه في كيفية التعامل مع الوقائع السياسية المستجدة على الساحة المحلية وتوازناتها الجديدة.
هذا ما دفع "حزب الله" إلى الهروب لحظة انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية نحو مشهدية الدورتين والوقت المستقطع بينهما، لدفع الرأي العام إلى تصديق شائعة حصوله على ضمانات سعودية وأميركية حول الحكومة رئيساً ونهجاً، وتوازنات وحقائب، على اعتبار أن مستوى مخاطبه لا يمكن أن يكون إلا إقليمياً أو دولياً. لكن هذه الشائعة التي عملت الآلة الدعائية نفسها على ترويجها خلال الأيام القليلة الفاصلة عن الاستشارات النيابية، دحضتها وقائع يوم التكليف الطويل، والذي يمكن اعتباره لحظة مفصلية في تاريخ لبنان، حطمت أسطورة "الحزب" واضعة إياها على طريق الزوال. ولهذا السبب بالذات، بدا الإرباك واضحاً في كيفية تعامله مع التطور الراهن، فحاول التغطية عليه بالصخب الكلامي لرئيس كتلته محمد رعد، من دون أن ينجح في تخفيف أمارات الهزيمة البادية على وجهه وصَحْبه.
أنّى لـ "حزب الله" الاعتراف بقدرة تفاهمات محلية نسجت بعجالة على تعرية هشاشته، وفضح ما يعانيه من وحدة لم يألف مثلها، فكان لا بد من إقحام عوامل إقليمية أو دولية لن تنجح في حجب حقيقة أنه صار "صرحاً من خيال" ليس لخصومه، إنما لـ "أعدقائه" وحلفائه.