في عالمٍ مضطربٍ، مضطرمٍ، تتبدّد فيه إنسانيّة الإنسان، ويتشيّأ الجوهر، وتندحر قيمٌ سادت عهودا مديدة، ويتبدّل فهمنا للذات وللآخر، وننحو نحو «الفكر البديل» و»الذكاء البديل»، و»الإنسان البديل»، تتفتّت اليقينيّات والثوابت ويحلّ الشكّ وتسود الرؤية الغائمة، فهل أنّ تفكّك الثوابت في عالمنا منبئ بإنسان مهترئ مهتز؟ كيف العمل مع دُعاة سيادة العقل، ونحن نتساءل اليوم عن ماهية العقل ودوره في تحديد المصائر؟ ألم يُعلن المعرّي من عقود ألّا إمام سوى العقل؟ ألم يعقد الفلاسفة حلول مسائلهم على العقل، وجعلوه الفاصل البائن بين الزيف والصدق، بين الحقّ والباطل، بين الصورة والأصل؟ فمن الهادي في هذه العواصف الحادثة التي تدفع إلى غلبة الانتحار وإلى هزّات نفسيّة في حياة الإنسان، وإلى كآبة صارت قسما من الحياة وإلى شعور بالتأزم وإلى فقدان ملح الحياة ومُلحها؟ ألم يُقطّع الرسّام المُفكّر فان جوخ أذنه ثمّ حثّ العزم على تصيّد الموت؟ ألم ينتهِ إرنست هيمنجواي الروائيّ الأمريكيّ الأشهر إلى إطلاق النار في فمه ليلتحق بعالم جديد يريد أن يكتشفه بعد أن «نجح» في عالم الدنيا وفاز بأعلى جائزة وهي نوبل؟ هل ما زال الإنسان ينعم بتفّاحة يأكلها لها رائحة مميّزة وطعم ذكيّ يفرقها من بقيّة الغلال، ويبذل النفس من أجلها حتّى يسقط من جنّة الخلد العليّة إلى وضيع المراتب وإلى حياة الفناء الزائلة؟ وهل ما زال الإنسان ينعم بنومة هانئةٍ خاليةٍ من القواصم والزوابع والتوابع وجواثيم الصحو والمنام؟ هل ما زال الإنسانُ يُفكّر في «حسن البقاء» و»جودة الحياة»، ويسهر ليله عاشقا ولِها في انتظار متعة مُرور حبيب أو بسمة خليل؟ أسئلةٌ جمّةٌ تنهال على المتدبّر في أمر الحياة.
فماذا فعلنا نحن شعوب الاستهلاك؟ هل بلغنا متعة الحياة؟ هل بلغنا لحظة التوافق بين ظاهرنا وباطننا؟ هل انتفى منّا الرياء؟ أعجب كيف يستلذّ مخلوق الحياة في حال الرياء، كيف يُمكن أن يُنافق المرءُ بكلّ صفاقة ووجه مُلوّث بالبهاء! لقد تفاعل الفنّانون والأدباء مع رتابة الحياة، وأدرك شقّ آيس منهم خلوّ الحياة من معنى، وفقدوا متعة الفنّ ولذّته مع فقدانهم بريق الحياة وجاذبيتها، وها هو تولستوي يُعبّر في اعترافاته عن هذا العقم الذي يسود الوجود، ويقرّ بالعدم قائلا: «إنّ سؤالي الذي حفزني إلى حافة الانتحار وأنا في الخمسين من عمري كان أيسر الأسئلة جميعا، وهو يتردّد في صدر كلّ إنسان من الطفل الغرّ إلى الراشد الحكيم: هو سؤال لا يستطيع المرء أن يحيا دون أن يجيب عنه -كما تبيّن لي من تجاربي، ذلك السؤال هو: «ما وراء ما أفعل اليوم أو سوف أفعل في غدي- بل ما وراء حياتي كلّها؟» وأستطيع أن أعبّر عن السؤال بصيغة أخرى فأقول: «لماذا ينبغي لي أن أعيش، ولماذا أرغب في أيّ شيء أو أعمل أيّ شيء؟» وأستطيع كذلك أن أعبّر عن السؤال بهذه العبارة: «هل في حياتي معنى لا يهدمه الموت الذي لا مفرّ منه والذي ينتظرني؟» ذاك هو السؤال الوجوديّ الأبديّ عن معنى الحياة وعن حتميّة الأدب، سؤالٌ أحسن الأدباء عبر التاريخ صوغه، وهبّروا عنه بطرق مختلفة، بسعادة الحياة كما في أدب المتصوّفة وفي شعر أبي نواس -وبين هذين الضدّين تقاربٌ عجيب-، وببؤس وانتحار صامت وغياب ويأس وهروب إلى المجهول -كما في تجربة التوحيدي-. كنتُ أفكّر دوما في موضوع للبحث مع طلبتي عن معنى الموت في الرواية العربيّة، وعن كيفيّة تمثّله وتقصيصه أو ترويته؛ لأنّ هناك تصوّرا فكريّا يذهب إلى أنّ الإنسان العربي مسكون بالموت أكثر من سكنه إلى الحياة، وعلى ذلك تجده إذا انعطف منعطف منتصف القرن عدّا وحسبانا في الحياة مال إلى «الرجوع إلى اللّه» وكأنّه كان قبل ذلك خارجا عن اللّه، «يأكل القوت وينتظر الموت» في حين أنّ شعوبا عديدة تبدأ حياة الإنسان الحقّة بعد أن يحصل على التقاعد، فيلتفت إلى ذاته التي أهملها طوال سنوات الشقاء والبذل والعطاء أسريّا واجتماعيّا وعمليّا، هي رؤى في نهاية المطاف، وكلّ له فيها مذهب ومقنع، ولكن يظلّ البحث عن معنى الحياة وجها ثابتا.
من جهة ثانية، أعتقد أنّ اليقينيّة والسكون والخنوع والاستسلام إلى الرأي السائد، إلى الرأي الواحد هو علّة فقدان معنى الحياة وأنّ الدخول أيضا في فقدان الثبات والاستسلام لمطلق الشكّ هو علّة عذاب الحياة، وما بينهما سبيل صعب الإدراك، ولقد صدق ميلان كونديرا في وسمه للفكر اليقيني الدوغمائي بالسذاجة وأنّ على المرء أن يحتفظ ببعض الأريحيّة ليتقبّل المختلف وأن يؤمن به -وهو ما يغيب في حياتنا- يقول: «لابدّ من قدر كبير من النضج لنفهم أنّ الرأي الذي تدافع عنه إنّما هو فرضيّتنا المفضّلة لا غير. وأنّه من ثمّة، وبالضرورة، غير كامل، ولعلّه مؤقّت أصلا، وأنّ ذوي العقول السخيفة الضعيفة، هم القادرون دون سواهم على إجرائه مجرى يقين أو حقيقة».
يتراوح الإنسان العربيّ في حياته بين إرضاء الجمع وإرضاء الذات، والجماعةُ دوما جحيم -على رأي سارتر-، سالبة لحريّة الذات، مُذهبة للفرديّة الخالصة، مذيبة للاختلاف، مُقيمةٌ للرأي الواحد والرؤية الواحدة، لا تقبل خلافا ولا جدالا، ولا من يخرج عن سبيلها «القويم». ولعلّ من أسباب تذبذب العقل العربيّ المراعاة الخالصة للمجموعة، وكأنّ قدر الإنسان العربيّ أن يُعطي وجها جمعيّا يُرضي العدد، وأن يعيش حياة فردٍ تُرضي الذات، وهذا الفعل هو لعمري قمّة الاغتراب، فماذا يتولّد عن ذلك؟ يتولّد النفاق الاجتماعي الذي صار سلوكا عاديّا مطلوبا في مجتمعاتنا، يُنافقك صاحبك في العمل، وينافقك قريبك في الأسرة، بل يُمكن أن ينافق الزوج زوجته، والعكس سليم، وكلّ سائرٌ في فلَكٍ رضيّ طيّب المنال، فعن أيّ صفاء نتحدّث في هذه المجتمعات؟ الأدب في أصل الأشياء لا يُجمّل واقعا وفي الآن ذاته لا يعكس واقعا، وإنّما هو الأقدر على تمثيل الواقع، إعادة تركيبه وفق منطقه الحالّ أو وفق منطقه الآتي. ولأنّه كذلك، فإنّ دعاة المجتمع الطاهر، الخالي من الخدوش يقفون صدّا منيعا مانعا، ضدّ الأدب وضدّ الفنّ، مدافعين عن «الأدب الخلوق»، عن «الأدب الطاهر»، ومتى كان الأدب طاهرًا وخلوقًا ونقيًّا وصفيًّا، وإنّما هو كما الإنسان حاملٌ لأدرانه وأطهاره. كلّ الأعمال الفنيّة التي غيّرت من المجتمع كانت خارجة عن أنساقه، وعن أطهاره تحديدا. مع الأسف ما زلنا نعيش الفكر اليقيني الطاهر، الوصيّ في البيت يدّعي أنّه الأعرف والأمكن ويرى الحقائق دون تنسيب، وأبناؤه دوما هم الضالّون، المُحتاجون إلى وصايته، المُعلّم في المدرسة هو مالك الحقيقة، حتّى الأستاذ الجامعيّ -وهو في الأصل داعية التفكير والتدبير -يظنّ- وبعض ظنّه إثم- أنّه الوصيّ على المعرفة، وأنّه العالم، وأنّ كلّ رأي من طالب يُخالفه مردود فمرفوض فملعون، ومن المُضحكات أنّ بعض «العارفين» يفتون في ما ليس لهم به علم، في «النسويّة»، في «الحداثة»، في «الفلسفة» في «علوم الحياة والممات»، ويردّون هذه المباحث إلى كُفر الكُفّار! ها نحن نبيح لأنفسنا أن نأخذ من الكُفّار ملابسنا ومراكبنا ومآكلنا ومهاتفنا، وهي من أبواب الضلال، فكيف لا نأخذ منهم علومهم؟ وكيف لعالم في الاجتماع أو في الأدب أو في الفلسفة أن يقرن ظلما وبهتانا بين مسالك في البحث مثل «النسويّة» أو «البنيوية» أو «الحداثيّة» أو «المقارنيّة» أو «الفلسفيّة» وبين الكفر والإلحاد؟ إنّه العجب العُجاب في بلادنا وعلماء بلادنا وأدمغة بلادنا، إلى متى نظلّ في حال التجاذب ذاته بين الحلال والحرام، والحالُ أنّ الحلال بيّن والحرام بيّن؟ متى نبلغ درجة القائل: لقد صار قلبي قابلا كل صورة/ فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ/ وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ/ وألواح توراةٍ، ومصحف قرآن/ أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ/ ركائبه، فالحب ديني وإيماني!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مركز أبوظبي الثقافي يستضيف حديثُا عن الأدب والزمن والرواية.. صور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
استضاف المركز الثقافي في أبوظبي، حديثًا عن الأدب والزمن والرواية وسر خلود العمل الأدبي، وذلك بتنظيم اتحاد كتاب الإمارات تناول الحديث.
وبحضور الكاتبة الإماراتية عائشة سلطان وادباء القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية ومنهم أزهر جريس صاحب رواية وادي الفراشات والكاتب المصري أحمد سمير ندا صاحب راية صلاة القلق والكاتبة اللبنانية حنين الصايغ صاحبة رواية ميثاق النساء والكاتبة الإماراتية نادية النجار صاحبة رواية ملمس الضوء.
لماذا تأخرنا؟حيث أوضح الكاتب أزهر جريس أن الرواية تتناول حياة شخوص قد تخطئ وقد تصيب، لكننا في بداية الأمر لم نكن نحلم بصناعة الرواية حتى جاءت الترجمات والتي أفادت بشكل كبير في صناعة الرواية العربية، فنحن كعرب عرفنا القصص.
تأخر فن الرواية
وتابع جريس عن أسباب تاخر الرواية العربية موضحًا أن هناك الكثير من الأدباء يستنكرون فعل الكتابه ومنهم من يقول: "أنا أكتب لنفسي" وإذا كان الكاتب يكتب لنفسه لماذا يقوم بالنشر كان من الأفضل أن يحتفظ بها لنفسه تحت وسادته، وأعتقد أن هذا هو سبب تأخر الكتابة العربية، وأن هذا يرجع إلى هذا الاستعلاء عن فعل الكتابه والذي لا بد وأن يحظى بالكثير من الاهتمام.
الترجمة والرواية
وفي سياق متصل أوضحت الكاتبة اللبنانية حنين الصايغ أن الترجمه تسهم بشكل كبير في خلود الرواية العربية وتناقلها عبر الثقافات المختلفة.
ولفتت الصايغ إلى أهمية الجوائز الأدبية، وأنها لم تكن تتوقع أن تصل للقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية وأن ناشرتها حذرتها من أن وصولها للقائمة القصيرة، والتي تجعل قراءة الرواية بشكل أكبر ما سيجعل الضوء مسلطًا بشكل أكبر هلىىارةاية خاصة أنها تعالج موضوعًا من الموضوعات المسكوت عنها بداخل المجتمع.
وأشارت الصايغ إلى أن الرسائل التي تلقيتها من مختلف العالم العربي خاصة النساء أكدن أن القضايا التي تحدثت عنها في روايتي هي قضايا تتعلق بالنساء في مختلف أرجاء الأرض وخاصة المرأة العربية، فالجميع يتشاركون نفس الهم.
فيما أشارت الكاتبة الإماراتية نادية النجار إلى أن الجوائز تسهم بشكل كبير في تسليط الضوء على العمل الأدبي، وأيضا الوصول للقائمة القصيرة تتيح فرصة أكبر للقراء والنقاد في قراءة العمل الأدبي، مؤكدًا تلة سعادتها بوصولها للثائيمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية.
وأكدت النجار أن الرواية تكشف من خلال أحداثها عن حواس الإنسان وكيف يستطيع أن يعرف؟
فيما أكد الكاتب المصري محمد سمير ندا أنه قد عايش فترة شرخ نكسه 67، وأنه على الرغم من أنه ولدت بعد النكسه إلى أن معايشته لأحد الأشخاص الذين عاصروها ما أصر بشكل كبير على تجربته الإنسانية، وجعله يتساءل حول حقيقة ما حدث في نكسه 67 أو حول هذا الجيل الذي فقد الكثيرمن مشاعره وأحساسيه، والتي قد تؤدي في بعض الأحيان تتوقف حياته.
وكانت الجائزة العالمية للرواية العربية قد أعلنت في الـ19 فبراير وصول الروايات الست للقائمة القصيرة هي: "دانشمند" لأحمد فال الدين، و"وادي الفراشات" لأزهر جرجيس، و"المسيح الأندلسي" لتيسير خلف، و"ميثاق النساء" لحنين الصايغ، و"صلاة القلق" لمحمد سمير ندا و"ملمس الضوء" لنادية النجار.
ومن المقرر أن يتم الإعلان عن الفائزة بالجائزة الكبرى ي، يوم غد الخميس الموافق 24 أبريل الجاري في أبوظبي.
وتضم لجنة تحكيم الحائزة كلًا من منى بيكر، رئيسة لجنة التحكيم، وعضوية بلال الأرفه لي، أكاديمي وباحث لبناني؛ وسامبسا بلتونن، مترجم فنلندي؛ وسعيد بنكراد، أكاديمي وناقد مغربي؛ ومريم الهاشمي، ناقدة وأكاديمية إماراتية، بالإضافة إلى ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة، وفلور مونتانارو، منسقة الجائزة، ومدير مكتبة الإسكندرية، أحمد زايد.
وضمت القائمة القصيرة لدورة الجائزة العالمية للرواية العربية الثامنة عشرة كُتّابًا من ستة بلدان عربية، هي الإمارات، وسوريا، والعراق، ولبنان، ومصر، وموريتانيا، وتتراوح أعمارهم بين 38 و58 عامًا. تتميز رواياتهم بالتنوع في المضامين والأساليب وتعالج قضايا راهنة ومهمة.
شهدت الدورة الحالية من الجائزة ترشيح كتّاب إلى القائمة القصيرة لأول مرة، هم: أحمد فال الدين، وحنين الصايغ، ومحمد سمير ندا، ونادية النجار. ويذكر أنه وصل كاتبان إلى المراحل الأخيرة للجائزة سابقًا، هما أزهر جرجيس (القائمة الطويلة عام 2020 عن "النوم في حقل الكرز" والقائمة القصيرة عام 2023 عن "حجر السعادة") وتيسير خلف (القائمة الطويلة عام 2017 عن "مذبحة الفلاسفة").