(1)
فكرة الكتابة عن جدتي لأمي فكرة توقيتها غير صائب. لأن الجدة إذا علمت بذلك أطال الله في عمرها، لن تسكت.
لكنني، وعطفا على محادثة هاتفية مع ابنتها (نهلات) التي هي أمي - هذا الاسم المختزل لكل نساء الأرض في دلعهن وغنجهن وجمال تحملهن على مكاره الدهر اللئيم وسياطه ما جعلني أتشَجن عميقا؛ وأنا أسأل الأم عن أمها المريضة: كيف صحتها؟ فأجابت بتعب وأسى: «على حالها.
ثم أخذني الحديث حول سؤالي المتكرر: أما زالت جدتي تسأل عني؟ فتجيب أمي: نعم. وتكرر سؤالها عنك «آمنة عادها في مسقط؟» فأجيبها بنعم. لا تزال في مسقط. ثم يَحين دوري أنا آمنة لأسأل سؤالي الثاني المتكرر أيضا: هل أمك تتذكركِ يا أمي، أو تتذكر أحفادها؟ فتجيب نهلات وهي تضحك: نعم. تتذكرنا وتتذكرهم جميعًا، وتسأل باهتمام عن بعض التفاصيل.
مِن نعم الله على جدتي، أنها الحمد لله ليست مصابة بالزهايمر، ولكنه الخرف بفعل الزمن وتقلب الدهر. لقد عادت إلى أرذل العمر، فصارت ابنتاها اليوم تقومان بخدمتها، مثلما فعلت هي لهما في طفولتهما، وترعرع شبابهما.
في محادثتي مع الأم عبر الهاتف سألتها لأجرها إلى الكلام؛ فأمي تعتقد كأمهات كثيرات كسولات أن الذاكرة تَفلت منهن، ولذا باغتها بسؤالي: ما الدرجة التي بَلغتها جدتي مع أحفادها؟ فردت بابتهاج كبير: «شِيشِه»، جَدتك قِدها «شيشة». فقلت بانشراح: يا سلام عليها! يا رب العمر كله لكي ترى أحفاد أحفادها من الجيل الخامس، وينعمون بالتقاط صورة تذكارية معها.
«شِيشِة» كما تنطق محليا عندنا في ظفار، لقب أو رتبة أو درجة اجتماعية تُمنح للجدات لبلوغهن الجيل الثالث لأحفادهن. وقد نالت جدتي (عروس) هذه المرتبة، ويا سبحان الله ما زالت عنيدة. وعنادها المتوارث عن أجيال، وحياة عمل سابقة في زراعة الأرض وفلاحتها، وإعداد الخبز الظفاري للعجين وتحضير التنور، من شأنه التعجيل بانتهاء عمرٍ وابتداء عمرٍ جديد.
جدتي «شِيشِه» لحفيدتها «سجى» ابنة ابن أخي. حينما أنظر إلى هذه الطفلة، أعود مع ذاكرتي لأيام طفولتي في حارة «الحصن»، وأتذكر الهيئة التي كانت عليها جدتي عروس. وأسأل نفسي: يا ترى ما المقدار الذي أسهمت فيه جدتي لتنشئتي وتكويني؟ ألا يقولون إننا إذا كبرنا نعود نتصرف كما فعلت أمهاتنا وجداتنا؟ يا تُرى أين الكلمات التي قالتها سواء في لحظة حب أو غضب، وسكنت في الوعي عندي وكونت أفكاري، عن ذاتي وعن العالم والوجود والمجتمع؟
هل عشتُ طفولة حقيقية أم كانت متوهمة؟ أين تعمقت حياة الآخرين في حياتي؟ أذكر جيدًا أن المصدر الأول الذي تعرفتُ من خلاله على مأساة الملك (أوديب) التراجيدية لم تكن جدتي (عروس)، بل كانت أمها. لقد سَمعتها من الراديو، على إذاعة B.B.C اللندنية.
ربما كانت حياة جدتي حياة بسيطة وعادية، كأي امرأة عادية تزوجت برجل عادي. لكن هناك حبكة مخفية في حياة النساء كلهن. أين يُمكن أن تكون حبكة هذه الجدة ذات التفاصيل الكثيرة؟ إنها امرأة/ أم/ جدة من حارة (الملح) في صلالة - لاحظوا دلالة المِلح- حارة قد لا ترى أن للمرأة شأنًا خاصًا واستثنائيًا داخل مجموع التكوينات الاجتماعية هي الأجدر بالاهتمام.
حظيت جدتي كأي امرأة بالزواج في وقت مبكر، والإنجاب، فأنجبت أمي وخالتي. ثم تعرضت جدتي للطلاق، حال بعض النساء. بدأتُ أقتربُ من عنصر الحبكة، والذهاب إلى المجهول، إلى صَك حرية ابنتها، ثم إلى عملها في مزارع قصر الرباط آنذاك.
تنثال أفكار الحبكات التي يُمكن أن تُستخرج منها لتُكتب عنها مسرحية أو رواية أو تُرسم لوحة تشكيلية؛ مثلا لحظة وفاة والدها، ثم أمها، وبعد ذلك وفاة أخيها، ثم خالاتها، ثم بعض أحفادها.
(2)
كُلما تأملتُ وجه جدتي وكفيها وقدميها وجسدها الهزيل أتذكر صورة متخيلة للجدة العتيدة (أورسولا إجواران) زوجة (خوسيه أركاديو بوينديا). لم تحظ جدتي بزوج يحلم كما حلم خوسيه أركاديو ببناء المدينة الفاضلة.
أذكر عندما أنهيت قراءة رواية «مائة عام من العزلة» قبل سنوات مضت، بكيت كثيرًا، وقلتُ لنفسي: ثمة ما يتقاطع بين حياة (أورسولا وجدتي (عروس)). وسأكتب في يوم ما عن هذا التقاطع. بعد إمعان حاد في ذاكرتي، وتأمل للتاريخ الاجتماعي وتفاصيل اليوم المعيشي لِامرأة قد بلغت من العُمر مبلغه، أجزم أن حياة النساء التي تتشابه في مجتمعات العالم، تنطلق حبكات بعضهن الخاصة من موقع متفرد ساهم بقدر من الأقدار في بناء المجتمعات والدول. ذلك الموقع المتفرد تعرضت فيه المرأة لمواقف وامتحانات ووقائع سببت لها الألم الذي لا تتكلم عنه، وقومَ معدنها الصلب، وهي تسير في حياة لا تُدرك كنهها؟
أسأل: لماذا عملت جدتي في المزارع وفلاحة الأرض، وكان زوجها يعمل، وأمها أيضا كانت تعمل؟ لانتزاع الكرامة لا سواها. هذه حبكة من الحبكات التي تصلح بروفايل لوجه جدتي.
من الأشياء الجميلة التي حافظت عليها جدتي وهي تعيش في حارة الملح، حيث البيوت المتلاصقة، التي صارت اليوم عمارات سكنية للإيجار، امتلاكها لقطع من (مواعين الصيني الأصليات) كانت البيوت قديما، تُزين جدرانها بهذه المواعين الصينية. لقد أجدتُ إجادة كبيرة في أخذها مِنها لاستخدمها في التقديم للضيوف. كنتُ في كل زيارة أذهب فيها إلى ظفار، لا بد من زيارة جدتي وتقبيل وجهها ويديها وشم رائحة طفولتي معها، وبعد الاطمئنان على صحتها وذاكرتها أسألها عن حاجتها إلى تلك المواعين! فتجيب بعدما «تحزقني» بطرف عينها بسؤال المُستنكر: «أنتِ بغيتيهن؟»، نعم.
لا تتخيلني جدتي كاتبة. إذ لم تكن تعرف شغفي كأمها بالحكايات والقصص والتفكير في أسرار الكون والمجتمع والسلطة. لكنها كلما قلتُ لها عندما يحين موعد انتهاء إجازتي في ظفار، وتحضيري للعودة إلى مسقط، تسألني بعينين غارقتين في الماء: «عادش بتكتبين؟ ما عاد بغيتي ترجعين؟ ما عاد بنشوفش إلا في التلفزيون. الله يسعدك وجعليني بحْل.»، باختناق أقول: «وأنتِ بحل يا حبوبة»
كتب ماركيز التالي: «الزمن لا يسير في خط مستقيم، بل يدور ضمن دائرة»
سألتُ جدتي في زيارة سابقة: «إذا أتيح لك يا عروس أن تحكي عن الحياة وتقلبات الوقت معكِ فماذا عساك ستحكين؟»
هذا السؤال كان يجرها إلى فكرة نشاطها. وهذا ما يتقاطع بين جدتي وأورسولا. النشاط والاستيقاظ المبكر والتزيين بالكحل وأحمر الشفاه. شُرب كوب الشاي بالحليب الطازج من الغنم، وتناول كسرة خبز ظفاري، ثم الذهاب إلى العمل في المزرعة.
جدتي كانت من أوائل النساء اللواتي عملن في الزراعة وخدمة القصر، ولا شك ساهمت كغيرها من العاملات أن يكن نساء مختلفات، حتى إذا لم يكتب عنهن المؤرخون أو التاريخ. سعت مع غيرها من «الشِيشِات» ألا يُقدمن لنا شخصيات نمطية للمرأة العاملة، فلم تكن جدتي أطال الله في عمرها، امرأة ضعيفة، ولم تكن خاضعة، ولا مُستغِلة، ولا مثالية ولا متكبرة. كانت معتدة بجمالها وبعينيها الشهلاوين، وبصرامتها.
وفي الكثير من الأوقات، عندما كنتُ أختلسُ النظر إلى الصورة التي تعلقها على جدار غرفتها؛ صورة تجمعها وأمها في شبابهما، لا أعرف متى علقت جدتي تلك الصورة، هل علقتها بنفسها أم طلبت من أحفادها أن يعلقوها لها؟ لكنني في تلك الصورة أشاهد ابتسامتها الجميلة المليئة بالعطف والبساطة والتفرد وحبكة لسرد لا يتوقف أو ينتهي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لم تکن
إقرأ أيضاً:
العليا للدعوة بالبحوث الإسلامية تواصل فعالياتها بعقد لقاء بأسيوط بعنوان: «الإسلام منهج حياة»
واصلت اللجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية في يومها الثاني بمحافظة أسيوط نشاطها الدعوي بالمساجد، حيث حاضر الدكتور حسن يحيى الأمين العام للجنة العليا للدعوة بالأزهر، والشيخ يوسف منسي ود. مصطفى الطحان، عضوا أمانة اللجنة العليا للدعوة بالأزهر الشريف، وذلك بعد صلاة المغرب بمسجد "حراء" بحي الوالدية.
وأكد الدكتور حسن يحي الأمين العام المساعد للجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية، جاء الإسلام يحمل منهجًا متكاملًا للحياة، ووضع لها الإطار والمعالم التي تضبط مسارها، كما وضع منهجًا يرتكز على العقيدة السليمة والعبادات الخالصة والأخلاق الحسنة والأدب الذي يجمل الحياة، لافتًا إلى أن من الشباب من ينحرف فكره عن المنهج القويم نظرًا لكثرة الفتن وانغماسه في اللهو، وعلى الرغم من ذلك نراه في الصفوف الأولى بالمسجد في كل صلاة، وهذا التباين مؤشر خطير، وعلى الشباب أن يتمسك بمنهج الإسلام كليًا، وليعلم أن الإسلام لم يترك شيئًا إلا ورصده وقومه، فأي خلل في التدين وضع الدين له الحل الدواء.
وأضاف "يحيى" أن حياة الشباب في الإسلام لها ضوابط ومكونات، وأول مكون يطهر العبد من الشهوات والانحراف عن الطريق، هي حفظ الله، ووضع الله نصب أعيننا أينما كنا، ثم تتوالى بعد ذلك العبادات الزمانية والمكانية والمالية، وغيرها من العبادات التي تعد علاجا شافيا للأمراض القلبية والمطهرة للنفوس.
ولفت "يحي" أن من المكونات أيضًا شريعة تقيم العدل، شريطة ألا نتلمس العدل في غير منهج الإسلام، بأن نطلبه من العادات وأفعال الآباء والأجداد، ومن المكونات أيضا "الأدب" الذي يزين ويجمل الحياة، ثم تقويم السلوك بأسلوب حسن كما جاء في رد النبي صلى الله عليه وسلم على ممن طلب إذنه في الزنا، فجاء رد الرسول جميلًا حتى اطمأن الرجل.
تأتي لقاءات «أسبوع الدعوة الإسلامية»، التي تستمر على مدار هذا الأسبوع في رحاب جامعة ومساجد أسيوط، في إطار مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، "بداية جديدة لبناء الإنسان"، وتهدف إلى إعداد خريطة فكرية تتناول بناء الإنسان من جميع جوانبه الفكرية والعقدية والاجتماعية، وترسيخ منظومة القيم والأخلاق والمُثُل العليا في المجتمع، وذلك بمشاركة نخبة من علماء الأزهر