لجريدة عمان:
2025-03-07@03:22:23 GMT

«الشِيشِة»

تاريخ النشر: 19th, September 2023 GMT

(1)

فكرة الكتابة عن جدتي لأمي فكرة توقيتها غير صائب. لأن الجدة إذا علمت بذلك أطال الله في عمرها، لن تسكت.

لكنني، وعطفا على محادثة هاتفية مع ابنتها (نهلات) التي هي أمي - هذا الاسم المختزل لكل نساء الأرض في دلعهن وغنجهن وجمال تحملهن على مكاره الدهر اللئيم وسياطه ما جعلني أتشَجن عميقا؛ وأنا أسأل الأم عن أمها المريضة: كيف صحتها؟ فأجابت بتعب وأسى: «على حالها.

» فقلت لها يا نهلات لا تقولي هذا الرد لكل من يسألك عن أمك، بل قولي: هي بخير، فالناس يقولون عن المريض: إنه بخير.

ثم أخذني الحديث حول سؤالي المتكرر: أما زالت جدتي تسأل عني؟ فتجيب أمي: نعم. وتكرر سؤالها عنك «آمنة عادها في مسقط؟» فأجيبها بنعم. لا تزال في مسقط. ثم يَحين دوري أنا آمنة لأسأل سؤالي الثاني المتكرر أيضا: هل أمك تتذكركِ يا أمي، أو تتذكر أحفادها؟ فتجيب نهلات وهي تضحك: نعم. تتذكرنا وتتذكرهم جميعًا، وتسأل باهتمام عن بعض التفاصيل.

مِن نعم الله على جدتي، أنها الحمد لله ليست مصابة بالزهايمر، ولكنه الخرف بفعل الزمن وتقلب الدهر. لقد عادت إلى أرذل العمر، فصارت ابنتاها اليوم تقومان بخدمتها، مثلما فعلت هي لهما في طفولتهما، وترعرع شبابهما.

في محادثتي مع الأم عبر الهاتف سألتها لأجرها إلى الكلام؛ فأمي تعتقد كأمهات كثيرات كسولات أن الذاكرة تَفلت منهن، ولذا باغتها بسؤالي: ما الدرجة التي بَلغتها جدتي مع أحفادها؟ فردت بابتهاج كبير: «شِيشِه»، جَدتك قِدها «شيشة». فقلت بانشراح: يا سلام عليها! يا رب العمر كله لكي ترى أحفاد أحفادها من الجيل الخامس، وينعمون بالتقاط صورة تذكارية معها.

«شِيشِة» كما تنطق محليا عندنا في ظفار، لقب أو رتبة أو درجة اجتماعية تُمنح للجدات لبلوغهن الجيل الثالث لأحفادهن. وقد نالت جدتي (عروس) هذه المرتبة، ويا سبحان الله ما زالت عنيدة. وعنادها المتوارث عن أجيال، وحياة عمل سابقة في زراعة الأرض وفلاحتها، وإعداد الخبز الظفاري للعجين وتحضير التنور، من شأنه التعجيل بانتهاء عمرٍ وابتداء عمرٍ جديد.

جدتي «شِيشِه» لحفيدتها «سجى» ابنة ابن أخي. حينما أنظر إلى هذه الطفلة، أعود مع ذاكرتي لأيام طفولتي في حارة «الحصن»، وأتذكر الهيئة التي كانت عليها جدتي عروس. وأسأل نفسي: يا ترى ما المقدار الذي أسهمت فيه جدتي لتنشئتي وتكويني؟ ألا يقولون إننا إذا كبرنا نعود نتصرف كما فعلت أمهاتنا وجداتنا؟ يا تُرى أين الكلمات التي قالتها سواء في لحظة حب أو غضب، وسكنت في الوعي عندي وكونت أفكاري، عن ذاتي وعن العالم والوجود والمجتمع؟

هل عشتُ طفولة حقيقية أم كانت متوهمة؟ أين تعمقت حياة الآخرين في حياتي؟ أذكر جيدًا أن المصدر الأول الذي تعرفتُ من خلاله على مأساة الملك (أوديب) التراجيدية لم تكن جدتي (عروس)، بل كانت أمها. لقد سَمعتها من الراديو، على إذاعة B.B.C اللندنية.

ربما كانت حياة جدتي حياة بسيطة وعادية، كأي امرأة عادية تزوجت برجل عادي. لكن هناك حبكة مخفية في حياة النساء كلهن. أين يُمكن أن تكون حبكة هذه الجدة ذات التفاصيل الكثيرة؟ إنها امرأة/ أم/ جدة من حارة (الملح) في صلالة - لاحظوا دلالة المِلح- حارة قد لا ترى أن للمرأة شأنًا خاصًا واستثنائيًا داخل مجموع التكوينات الاجتماعية هي الأجدر بالاهتمام.

حظيت جدتي كأي امرأة بالزواج في وقت مبكر، والإنجاب، فأنجبت أمي وخالتي. ثم تعرضت جدتي للطلاق، حال بعض النساء. بدأتُ أقتربُ من عنصر الحبكة، والذهاب إلى المجهول، إلى صَك حرية ابنتها، ثم إلى عملها في مزارع قصر الرباط آنذاك.

تنثال أفكار الحبكات التي يُمكن أن تُستخرج منها لتُكتب عنها مسرحية أو رواية أو تُرسم لوحة تشكيلية؛ مثلا لحظة وفاة والدها، ثم أمها، وبعد ذلك وفاة أخيها، ثم خالاتها، ثم بعض أحفادها.

(2)

كُلما تأملتُ وجه جدتي وكفيها وقدميها وجسدها الهزيل أتذكر صورة متخيلة للجدة العتيدة (أورسولا إجواران) زوجة (خوسيه أركاديو بوينديا). لم تحظ جدتي بزوج يحلم كما حلم خوسيه أركاديو ببناء المدينة الفاضلة.

أذكر عندما أنهيت قراءة رواية «مائة عام من العزلة» قبل سنوات مضت، بكيت كثيرًا، وقلتُ لنفسي: ثمة ما يتقاطع بين حياة (أورسولا وجدتي (عروس)). وسأكتب في يوم ما عن هذا التقاطع. بعد إمعان حاد في ذاكرتي، وتأمل للتاريخ الاجتماعي وتفاصيل اليوم المعيشي لِامرأة قد بلغت من العُمر مبلغه، أجزم أن حياة النساء التي تتشابه في مجتمعات العالم، تنطلق حبكات بعضهن الخاصة من موقع متفرد ساهم بقدر من الأقدار في بناء المجتمعات والدول. ذلك الموقع المتفرد تعرضت فيه المرأة لمواقف وامتحانات ووقائع سببت لها الألم الذي لا تتكلم عنه، وقومَ معدنها الصلب، وهي تسير في حياة لا تُدرك كنهها؟

أسأل: لماذا عملت جدتي في المزارع وفلاحة الأرض، وكان زوجها يعمل، وأمها أيضا كانت تعمل؟ لانتزاع الكرامة لا سواها. هذه حبكة من الحبكات التي تصلح بروفايل لوجه جدتي.

من الأشياء الجميلة التي حافظت عليها جدتي وهي تعيش في حارة الملح، حيث البيوت المتلاصقة، التي صارت اليوم عمارات سكنية للإيجار، امتلاكها لقطع من (مواعين الصيني الأصليات) كانت البيوت قديما، تُزين جدرانها بهذه المواعين الصينية. لقد أجدتُ إجادة كبيرة في أخذها مِنها لاستخدمها في التقديم للضيوف. كنتُ في كل زيارة أذهب فيها إلى ظفار، لا بد من زيارة جدتي وتقبيل وجهها ويديها وشم رائحة طفولتي معها، وبعد الاطمئنان على صحتها وذاكرتها أسألها عن حاجتها إلى تلك المواعين! فتجيب بعدما «تحزقني» بطرف عينها بسؤال المُستنكر: «أنتِ بغيتيهن؟»، نعم.

لا تتخيلني جدتي كاتبة. إذ لم تكن تعرف شغفي كأمها بالحكايات والقصص والتفكير في أسرار الكون والمجتمع والسلطة. لكنها كلما قلتُ لها عندما يحين موعد انتهاء إجازتي في ظفار، وتحضيري للعودة إلى مسقط، تسألني بعينين غارقتين في الماء: «عادش بتكتبين؟ ما عاد بغيتي ترجعين؟ ما عاد بنشوفش إلا في التلفزيون. الله يسعدك وجعليني بحْل.»، باختناق أقول: «وأنتِ بحل يا حبوبة»

كتب ماركيز التالي: «الزمن لا يسير في خط مستقيم، بل يدور ضمن دائرة»

سألتُ جدتي في زيارة سابقة: «إذا أتيح لك يا عروس أن تحكي عن الحياة وتقلبات الوقت معكِ فماذا عساك ستحكين؟»

هذا السؤال كان يجرها إلى فكرة نشاطها. وهذا ما يتقاطع بين جدتي وأورسولا. النشاط والاستيقاظ المبكر والتزيين بالكحل وأحمر الشفاه. شُرب كوب الشاي بالحليب الطازج من الغنم، وتناول كسرة خبز ظفاري، ثم الذهاب إلى العمل في المزرعة.

جدتي كانت من أوائل النساء اللواتي عملن في الزراعة وخدمة القصر، ولا شك ساهمت كغيرها من العاملات أن يكن نساء مختلفات، حتى إذا لم يكتب عنهن المؤرخون أو التاريخ. سعت مع غيرها من «الشِيشِات» ألا يُقدمن لنا شخصيات نمطية للمرأة العاملة، فلم تكن جدتي أطال الله في عمرها، امرأة ضعيفة، ولم تكن خاضعة، ولا مُستغِلة، ولا مثالية ولا متكبرة. كانت معتدة بجمالها وبعينيها الشهلاوين، وبصرامتها.

وفي الكثير من الأوقات، عندما كنتُ أختلسُ النظر إلى الصورة التي تعلقها على جدار غرفتها؛ صورة تجمعها وأمها في شبابهما، لا أعرف متى علقت جدتي تلك الصورة، هل علقتها بنفسها أم طلبت من أحفادها أن يعلقوها لها؟ لكنني في تلك الصورة أشاهد ابتسامتها الجميلة المليئة بالعطف والبساطة والتفرد وحبكة لسرد لا يتوقف أو ينتهي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لم تکن

إقرأ أيضاً:

بيت شفعات غير أي بيت.. «غادة عبد الرزق» تروج لـ مسلسل «شباب امرأة»

روجت الفنانة غادة عبد الرازق لمسلسلها شباب امرأة، استعداد لطرحه ضمن مسلسلات النصف الثاني من شهر رمضان الجاري.

ونشرت غادة عبد الرازق عبر حسابها بموقع الصور والفيديوهات «إنستجرام» ريلز يتضمن مشاهد من مسلسل شباب امرأة وعلقت قائلة: «بيت المعلمة شفعات غير أي بيت في الحارة.. وعشان تعرفوا ليه لازم تتفرجوا على مسلسل شباب امرأة».

View this post on Instagram

A post shared by Phenomena Media Production (@phenomena_media)

أبطال مسلسل شباب امرأة

ويشارك غادة عبد الرزاق في بطولة مسلسل «شباب امرأة»، عدد من الفنانين أبرزهم: محمد محمود، رانيا منصور، احمد فتحي، محمود حافظ، چوري بكر، حسن أبو الروس، داليا شوقي، و يوسف عمر، وهو من تأليف محمد سليمان عبد الملك، وإخراج أحمد حسن.

ويسجل مسلسل «شباب امرأة»، التعاون الثاني على التوالي بين المخرج أحمد حسن والفنانة غادة عبد الرازق، بعد النجاح الكبير الذي حققاه في مسلسل "صيد العقارب" رمضان الماضي.

أحداث مسلسل «شباب امرأة»

أحداث مسلسل شباب امرأة مأخوذة من فيلم «شباب امرأة» بطولة النجمة تحية كاريوكا، والذي دار حول أم ريفية تبيع بقرتها الوحيدة من أجل إلحاق ابنها إمام، بكلية دار العلوم، وعندما يصل إمام إلى القاهرة يستأجر غرفة بمنطقة القلعة من امرأة متسلطة تُدعى شفاعات، تُفتن بشبابه وحيويته وتستدرجه إلى علاقة عاطفية معها، ونتيجة لهذا يتعثر في دراسته وتتدهور صحته، وتتوالى الأحداث.

وفي هذا الوقت تساعده فتاة تدعى سلوى، يعرفها هي ووالدها منذ الصغر في التخلص من جميع مظاهر الفساد التي يعيش فيها، كما يقدم له والدها النصيحة بالابتعاد عن شفاعات، إلا أن شفاعات تكيد له المكائد في محاولة منها ليظل معها.

آخر أعمال غادة عبد الرازق

شاركت غادة عبد الرازق في موسم رمضان 2024، بمسلسل صيد العقارب بجانب عدد من نجوم الفن، والذي لاقي نجاحا كبيرا أثناء عرضه على قنوات cbc.

ودارت قصة مسلسل صيد العقارب، حول شخصية الدكتورة عايدة، التي تجسد شخصيتها الفنانة غادة عبد الرازق، وهي امرأة تعمل في مجال استخلاص السموم من العقارب، وتواجه عايدة بطلة مسلسل صيد العقارب، سيدة أعمال ناجحة في مجال الأعمال التجارية، وتتعرض لأزمة مالية كبيرة، تدفعها إلى الدخول في صراع مع مجموعة من رجال الأعمال.

اقرأ أيضاًمسلسل «الكابتن» الحلقة 7.. حسام يعثر على عريس لـ خطيبة الشبح

مسلسل «حكيم باشا» الحلقة 7.. مواعيد العرض والأحداث المثيرة

مقالات مشابهة

  • بيت شفعات غير أي بيت.. «غادة عبد الرزق» تروج لـ مسلسل «شباب امرأة»
  • مركز الأزهر العالمي يسلط الضوء على كيفية تعظيم كتاب الله في حياة المسلمين
  • أحمد عمر هاشم: أخلاق النبي قبل البعثة كانت على الفطرة النقية
  • مدير أمن محافظة اللاذقية لـ سانا: المجموعات المسلحة التي تشتبك معها قواتنا الأمنية في ريف اللاذقية كانت تتبع لمجرم الحرب “سهيل الحسن” الذي ارتكب أبشع المجازر بحق الشعب السوري
  • بين جحيم ترامب، وتهديد حميدتی!!
  • الحسيني يكشف عن الدولة التي اغتالت حسن نصر الله| ويؤكد: ليست إسرائيل
  • وكيل تعليم قنا يشهد احتفالية «يلا نفرح إبنى وإبنك» التي نظمتها وحدة وحدة التواصل ودعم المعلمين
  • قنا تزف 1296 عروسًا يتيمة.. الأورمان تحقق حلمهن تحت مظلة «أكفل واستر وجوز»
  • امرأة تكتشف خيانة زوجها في شاحنة والده بعد 17 عامًا من الزواج .. فيديو
  • أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان.. المهاجرة التي زوّجها النجاشي لرسول الله