قراءة في استقالة فولكر وتحركات البرهان

رمضان أحمد بريمة

 

أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (13 سبتمبر/أيلول 2023) قبول استقالة فولكر بيرتس من منصبه رئيسا لبعثة يونتاميس في السودان.

وتتزامن هذه الاستقالة مع حراك محموم يقوم به رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى الخارج، مع غياب كامل للقوى السياسية.

الاستقالة كونها تؤشر على بداية مرحلة جديدة في مسار العمل السياسي في السودان، فإنها أيضا بمثابة إعلان بفشل مهمة المبعوث الأممي في السودان، بل فشل المجتمع الدولي في إرساء الديمقراطية هناك.
أهم التطورات هو فشل محاولات حجز مقعد للدعم السريع في المشهد السياسي عبر البندقية

سننظر في هذا المقال في انعكاسات هذه الاستقالة على واقع المشهد السياسي في السودان على ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة، بالتزامن مع زخم الزيارات الخارجية التي قام بها رئيس المجلس السيادي، وما إذا كان ذلك تمهيدا لقبوله بصورة رسمية دوليا، وما هو دور القوى السياسية وهي تشاهد هذا المنظر؟

تأتي هذه الاستقالة بعد تطورات محلية وإقليمية ودولية جعلت مهمة السيد فولكر صعبة إن لم تكن مستحيلة.

أهم التطورات هو فشل محاولات حجز مقعد لقوات الدعم السريع في المشهد السياسي عبر البندقية، وكان هذا الفشل نتيجة عوامل كثيرة، أبرزها ثلاث نقاط أساسية:

أولاها، فشل الدعم السريع في إقامة حكومة الأمر الواقع المرتقبة التي كانت ستتلقى بعض الإدانات الخجولة ثم ينتهى العزاء بانتهاء مراسم الدفن ليبدأ السيناريو.

الثانية، السلوك البربري لقوات الدعم السريع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإدانة المجتمع الدولي لها، مما جعل المؤملين في مستقبل الدعم السريع يزهدون.

لكن فوق ذلك كله تأتي النقطة الثالثة ممثلة في الموقف الأميركي الذي تجلى مؤخرا ضد الدعم السريع، وهو الموقف الأقوى حتى الآن، إذ لم تكتف أميركا بإدانة حالات القتل على أساس عرقي، وإنما فرضت عقوبات على عبد الرحيم دقلو الرجل الثاني في الدعم السريع.

كل هذه العوامل مجتمعة وغيرها جعلت مهمة فولكر عسيرة إن لم تكن مستحيلة.

قوات الدعم السريع خسرت سياسيا ولن تستطيع أن تسوق نفسها عالميا كما كان يفعل مستشاروها الذين جابوا العالم، ولكن ميدانيا لا تزال قوات الدعم السريع تشكل مهددا أمنيا خطيرا. فبالإضافة إلى انتشارها الواسع في ولاية الخرطوم واستيلائها على بيوت المواطنين ونهب ممتلكاتهم، فإنها أيضا تسيطير على بعض المدن، وتحاصر بعضها في ولايتي دارفور وكردفان.

الحل المثالي الذي يجب أن يجتمع عليه الطرفان هو الاتفاق على تسليم قوات الدعم السريع سلاحها، شريطة تحولها إلى كيان سياسي وعدم التعرض لعناصرها المنتشرة أو مساعدتهم في العودة إلى أهلهم

من الصعوبة القول بأنها ستهزم الجيش -كان ذلك ممكناً في الساعة الأولى أو اليوم الأول أو الأسبوع الأول من اندلاع الحرب-، ومن الصعوبة بمكان أيضا القول إن الجيش سيبيد قوات الدعم السريع، ولكن بين هذا وذاك سيحصل استنزاف وخسائر كبيرة كلما امتدت الحرب، علاوة على زيادة معاناة المواطنين.

الحل المثالي الذي يجب أن يجتمع عليه الطرفان هو الاتفاق على تسليم قوات الدعم السريع سلاحها، شريطة تحولها إلى كيان سياسي وعدم التعرض لعناصرها المنتشرة أو مساعدتهم في العودة إلى أهلهم. أدرك أن هذا السيناريو سيكون صعبا على الدعم السريع وأنصاره باعتبار خسارة السلاح هي هزيمة، وكذلك على الجيش وأنصاره باستحضار الرغبة العارمة في محو الدعم السريع من الخارطة.

هذا لا يعني أن هناك قوة خارجية أخرى تستطيع أن تحدث اختراقا، سواءً أكانت إقليمية أم دولية، علما بأن الرباعية وإيغاد والاتحاد الأفريقي جميعهم لا يستطيعون فعل شيء، نظراً لأن أجنداتهم متقاطعة ومتضاربة أحيانا، مما أحدث بطئا شديدا في مفاوضات جدة بما لا يواكب سرعة إيقاع الوضع الميداني.

هذا فضلا عن أن أميركا من خلال موقفها الأخير يبدو أنها نفضت يدها من منبر جدة، وهو المنبر الذي يساوي بين الجيش السوداني والدعم السريع.

وعلى صعيد آخر، فإن الجولات التي يقوم بها البرهان في الخارج أحدثت زخما في دوائر القرار العالمي بما يعزز عمل مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الذي يقود جهودا جبارة اتضح أثرها في الإدانات الواسعة لانتهاكات الدعم السريع.

جولات البرهان هذه عززت موقفه المدعوم من بعض القوى السياسية كالكتلة الديمقراطية وأنصار النظام السابق، مقابل إضعاف موقف الدعم السريع والمتهمين بدعمه من القوى السياسية كقوى إعلان الحرية والتغيير (قحت)، التي وجدت نفسها في موقف حرج، لأن كثيرا من السودانيين ينظرون إليها باعتبارها الجناح السياسي للدعم السريع، ويعززون هذا الادعاء بمواقف قوى إعلان الحرية والتغيير إزاء في ما يجري في البلاد، إذ إنها لم تدن حتى الآن انتهاكات الدعم السريع، على الرغم من نقدها اللاذع للجيش، بالإضافة إلى حضور مندوب الدعم السريع اجتماع “قحت” المنعقد في أديس أبابا منتصف أغسطس/آب 2023.

إن الجولات التي يقوم بها البرهان في الخارج أحدثت زخما في دوائر القرار العالمي بما يعزز عمل مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الذي يقود جهودا جبارة اتضح أثرها في الإدانات الواسعة لانتهاكات الدعم السريع

القوى السياسية السودانية بكل ألوانها ما زالت غائبة تماما ولم تدرك بعد خطورة الموقف، ومن ثم التنازل عن مواقفها المتشددة تجاه بعضها بعضا بغية إنقاذ البلاد من كف العفريت العسكري، من أجل إحداث اختراق سياسي قادر على ترجيح كفة الدولة المدنية على الدولة العسكرية.

بعض القوى السياسية، خاصة “قحت”، ما زالت تعول على الحل الخارجي غير مدركة للتحول الهائل الذي حصل في المسرح العالمي، وهو أن الجولات التي يقوم بها البرهان في الخارج أحدثت زخما في دوائر القرار العالمي بما يعزز عمل مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الذي يقود جهودا جبارة اتضح أثرها في الإدانات الواسعة لانتهاكات الدعم السريع، ذلك بأن الأحادية القطبية قد انتهت وأصبح العالم متعدد الأقطاب، وبالتالي هناك دول لها نفوذ على المستوى العالمي تبحث عن حلفاء جدد ولا تعنيها مصطلحات الديمقراطية في شيء.

يكفي إلقاء نظرة على ما يحدث في غرب أفريقيا حيث أصبحت الانقلابات العسكرية تبرز “العين الحمراء” لفرنسا.

مٓن كان يتوقع أن يفرض الانقلاب العسكري في النيجر على فرنسا أن تدفع لسعر كيلوغرام واحد من اليورانيوم 200 يورو بدلا من 50 سنتا، وهو المبلغ الذي ظلت تدفعه فرنسا لسعر الكيلوغرام منذ “الاستغلال”؟! من أين لهؤلاء العساكر بهذه الجرأة لولا التحول في المسرح العالمي؟! إذًا، على القوى السياسية السودانية أن تدرك أن سجالها السياسي المقيت سيفوت عليها فرصة إقامة نظام مدني ديمقراطي إلى الأبد كما حصل في مصر.

ذلك لأن الحماقة نفسها التي كبلت قدرة القوى السياسية في مصر ومنعتها من التفكير السليم، تهيمن تماما على القوى السياسية في السودان.

لذلك أقول إن استقالة فولكر إيذان ببداية مرحلة جديدة في السودان، معالمها غير واضحة، ولكن المؤشرات تقول: إنه طالما القوى السياسية عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني بغية تجميع قواها وتقديم برنامج سياسي توافقي مقنع للمجتمع الدولي والإقليمي، فإن البرهان يجهز نفسه وربما خطا خطوة بعيدة بالفعل.

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل البرهان هو الشخصية المناسبة للمرحلة القادمة وما يكتنفها تحديات؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من استعراض دور البرهان في المرحلة الماضية لنعرف بالضبط دوره هو شخصيا في كل ما يحصل حالياً.

البرهان مهووس بعقدة المشاركة -مع قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو- في كل الجرائم التي ارتكبت في دارفور إبان عهد حكومة الإنقاذ، وهما الشخصيتان الرئيسيتان في كل ما جرى.

وربما هذا الارتباط المصيري بقائد قوات الدعم السريع هو الذي جعله يركتب أخطاء كارثية خلال المرحلة الانتقالية التي بدأت بسقوط حكومة الجنرال عمر البشير في السادس من أبريل/نيسان 2019، مرورا بمجرة فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو/حزيران 2019 وتعيين قائد الدعم السريع نائبا له في المجلس السيادي، على الرغم من أن الوثيقة الدستورية التي أسست للمرحلة الانتقالية لم تنص على هذا المنصب.

ولكن فوق هذا كله، فإن البرهان هو الذي أعفى قوات الدعم السريع من التبعية للقوات المسلحة، وسمح لها بالتسلح والتجنيد خلال المرحلة المرحلة الانتقالية لتبلغ قوتها القتالية من 20 ألفا في عهد الإنقاذ إلى أكثر من 120 ألف جندي، مما أدى إلى وجود جيشين متوازيين في الدولة.

أغلب القادة العسكريين والنخب السياسية المستبدة يسلمون أمرهم للخارج إما لأنهم يفتقدون إلى الشرعية، وإما أنهم ارتكبوا أخطاء يخشون المحاسبة عليها

كل الأسلحة الفتاكة التي تسلحت بها قوات الدعم السريع كانت بموافقة مباشرة من البرهان، على الرغم من امتعاض بعض القادة العسكريين الذين أحيلوا إلى المعاش بتوجيه مباشر من قائد الدعم السريع. دور البرهان في ما جرى في المشهد السياسي يقترب من التواطؤ، مما يستوجب المساءلة لو كانت هناك دولة مؤسسات. وبالتالي فإن البرهان -من منظور المواطن السوداني الذي يتطلع إلى دولة المؤسسات والقانون والتقدم والازدهار- لا يصلح لقيادة المرحلة القادمة.

ولكن من منظور الدول الطامعة في خيرات السودان والحريصة على بقائه متخلفا من أجل نهب ثرواته، فإن البرهان هو الشخص المثالي تماما، لأنهم يستغلون فيه نقطة الضعف هذه ليملوا عليه ما يريدون.

أغلب القادة العسكريين والنخب السياسية المستبدة يسلمون أمرهم للخارج إما لأنهم يفتقدون إلى الشرعية وبالتالي فإن الخارج سيحميهم من شعبهم، وإما أنهم ارتكبوا أخطاء يخشون المحاسبة عليها وبالتالي بحتمون بالخارج، وفي كلا الحالين ينطبق عليهم مقولة “العملاء”.

أعتقد أن القوى السياسية لو تابت إلى رشدها، يتعين عليها أن توسع صدرها وتقبل ببعضها بعضا -بما في ذلك فلول النظام السابق لأن الفلول في النهاية مدنيون- وكل من يرتضي بالتبادل السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع.

هذا التوافق لو حصل سيقطع الطريق على المؤسسة العسكرية، وسيحجم تطلعاتها السياسية التي تلبي رغبة الخارج، بل ستقطع الطريق على أي فولكر جديد يشكل غطاء لمصالح خارجية.

نقلاً عن الجزيرة نت

الوسومإستقالة المؤسسة العسكرية اليونتامس فولكر قوات الدعم السريع

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: إستقالة المؤسسة العسكرية فولكر قوات الدعم السريع

إقرأ أيضاً:

لماذا ذهب الدعم السريع إلى الحرب؟

الواثق كمير

المشكلة الرئيسة التى تجابه قوات الدعم السريع ليست هي تشكيل حكومة مدنية موازية. إنما التحدي الجسيم هو افتقار المؤسسة، كما يسميها مستشارو قائدها، إلى مشروع رؤية سياسية تم طرحها قبل الحرب، وترجمته في مانيفستو يعبر عن أهدافها ووسائل تحقيقها.
ذلك، بجانب اِفْتِقَاد المؤسسة لنظام أساسي ولائحة تنظيمية وهيكل إداري وهيئة تنفيذية، وقيادة سياسية-عسكرية ترسم سياساتها وخططها، وتشكل تحالفاتها السياسية مع القوى الأخرى. فالمؤسسة تعتمد فقط على فيديوهات القادة الميدانيين واستضافات المستشارين الاسفيريين .

لو كانت المليشيا تَمَلَّكَ هذه المقومات، فما هي، وأين إذن تكمن المشكلة في إعلان الدعم السريع عن حكومة موازية أو إدارة مدنية، طالما كانت تحقق أهداف المشروع بعد تعريفه؟ ففي كل الاحوال، فإن قيادة الدعم السريع هي من تمتلك سلطة التأسيس بدون منازع، واصدار مرسوم بتنصيب الحكومة أو السلطة المدنية.

لم تكن الحركة الشعبية لتحرير السودان تعترف بشرعية حكومة البشير، ولا حتى بحكومة السيد الصادق المنتخبة، لكنها لم تقدم أبدا على إعلان حكومة موازية لحكومة الخرطوم. بل كانت الحركة تقبل بالتفاوض مع أي حكومة بحسبانها حكومة أمر واقع، عسكرية كانت أم مدنية.
وكان للحركة قيادة سياسية-عسكرية عليا، ومجلس تنفيذي قومي، ومجلس تحرير قومي (تشريعي)، تمثل كافة وحدات الجيش الشعبي والمكونات الاجتماعية للحركة. فلم يكن من العسير إصدار مرسوم بتشكيل
سلطة مدنية في الأراضي المحررة، المسماه بالسودان الجديد، في الأقاليم الجنوبية الثلاثة وفي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. هذه السلطة كانت بمثابة الجهاز التنفيذى للمجتمع المدنى المسئولة عن تنفيذ سياسات الحركة والسودان الجديد.

صحيح كانت هناك قوى سياسية ومجتمعية ومدنية نقابية، لم تحمل السلاح، مناصرة للمشروع السياسي للحركة أو متحالفة ومتوافقة معها على قضايا تأسيسية للدولة (التجمع الوطني الديمقراطي). ومع ذلك، لم تكن لهذه القوى أي علاقة مطلقا بالسلطة المدنية في المناطق المحررة. فلم تكن الحركة تستشير هؤلاء الحلفاء في أمر تكوين هذه السلطة في مناطق سيطرتها، أو تطلب دعمهم لها. كما لم يتسبب قرارها في هذا الشأن في انقسام هذه القوى السياسية والمجتمعية، كما يحدث الآن على خلفية الدعوة لتشكيل حكومة موازية.

إن الكرة الآن في ملعب قيادة الدعم السريع لحسم الجدل، حول تشكيل حكومة موازية في مناطق نفوذها، دون إقحام للقوى السياسية و*المدنية* في هذا الخيار. إن المدنيين لا يسيطرون على هذه الأراضي، ولا سلطة لهم ولا قوة، حتى يتم إلقاء اللوم عليهم وتحميلهم مسؤولية أي اخفاقات مرتقبة من مثل هذه خطوة. ولا تثريب على من أراد طوعا من السياسيين والمدنيبن الإنضمام إلى، أو التحالف سياسيا مع المؤسسة.

السؤال الجوهري والجدير بالإجابة عليه هو: لماذا ذهبت إلى، وماذا تريد “مؤسسة” الدعم السريع من هذه الحرب؟

الواثق كمير
تورونتو، 5 يناير 2025

الوسومالواثق كمير

مقالات مشابهة

  • «المشتركة»: القبض على مقربين من قيادة الدعم السريع وإحباط إمدادات عسكرية
  • لماذا ذهب الدعم السريع إلى الحرب؟
  • البرهان يرحّب بالعرض التركي لحلّ النزاع في السودان
  • «البرهان» يرحّب بالعرض التركي لحلّ النزاع في السودان
  • البرهان يرحّب بالعرض التركي لحلّ النزاع في السودان  
  • الدعم السريع تقصف المستشفى السعودي في الفاشر للمرة الـ “14”
  • قتلى وجرحى جراء قصف الدعم السريع 3 مناطق بالسودان
  • بالفيديو.. “كيكل” يفضح قوات الدعم السريع: (أفراد المليشيا عندما كنت معهم ينتهكون الأعراض والفرد منهم لا يتحرك إلا وهو مسطول ومتعاطي للمخدرات بينما فارسنا لا يفوت أوقات الصلاة)
  • توسع أحكام الإعدام في السودان بمزاعم التعاون مع «الدعم السريع» .. هيئة حقوقية: ما يحدث للنساء في ولاية النيل الأزرق «جرائم ضد الإنسانية»
  • ارتداد مسيرة إنتحارية على قوات الدعم السريع ومقتل قادة ومقاتلين أجانب