صفر كهرباء وأمان.. حصاد سنوات الملء الأربع في سد النهضة.. السد الإثيوبي مرشح للانهيار بعد الزلازل المتكررة
تاريخ النشر: 19th, September 2023 GMT
وزير الري الأسبق: إثيوبيا لن تستطيع الاستفادة من السد إلا بالتعاون مع مصر.. "الملء الأخير" خطأ في الترجمة
شراقي: الملء الرابع ليس الأخير والدليل "بوابات السد".. مشاكل فنية وهندسية في السد الإثيوبي تمنع تشغيل التوربينات.. انهيار سد النهضة يدمر السودان والمياه تصل إلى مصر بعد 6 أيام
يقول العالم المصري الراحل جمال حمدان في الجزء الثاني من موسوعته الخالدة «شخصية مصر»: «مياه مصر ليست منحة أو منة من أحد ولا هي فضل أو فضلة، إنما حقوق مكتسبة لا مغتصبة كما فلسف وروج بعض الوقت بعض العملاء من أصحاب تلك الصيحات الهوجاء أو التخرصات الشوهاء عن منع أو بيع مياه النيل لمصر، فهي جهل يكشف عن حقد أو حقد يكشفه جهل».
وأورد «حمدان» في موسوعته مقولة عالم الجغرافيا والفيلسوف والمؤرخ اليوناني استرابوا: «لو أنك ناقشت القضاء والقدر، فستجد أشياء كثيرة في شئون الناس والطبيعة قد تفترض أنها قد يمكن أن تؤدي أداء أفضل بهذه الطريقة أو تلك، مثلا لو أن مصر تكون لها كفايتها من المطر بنفسها دون أن تروى من أرض إثيوبيا».
العالم المصري الراحل جمال حمدانويؤكد «حمدان»، أن حق مصر في مياه النيل آمن ومؤمن، وكأنه يرد على «استرابوا»: «بالنسبة إلى هضبة الحبشة التي تعد المصدر الأساسي كميا لمياه الفيضان، إلا أنها التضاريس والهيدرولوجيا بدل السد والنبات، فقد انتهت الأبحاث العلمية المستفيضة لإخصائيي الري إلى أن من المستحيل فيزيقيا وتكنولوجيا أن يعترض عدو أو غير عدو، مهما حاول تدفق مياه الفيضان الموسمية الكاسحة المندفعة، إذ يصيب نفسه بالغرق المدمر والاكتساح قبل أن يصيب مصر بالجفاف، ذلك أن مياه أنهار الحبشة أثناء الفيضان تكون محملة بحمولة غزيرة وكثيفة من الطمي بحيث يستحيل تخزين هذه المياه حينذاك».
ويضيف «حمدان»: «أي سد يقام لذلك سوف ينطمي وينسد تمامًا بالطمي في سنوات معدودات، يفقد بعدها سعة التخزين كلية ويحيل الماء عليه إلى طوفان مغرق مهلك، وإلا فإن عليه أن ينتظر إلى آخر نهاية الفيضان بعد أن تكون حمولة الطمي قد تصرفت وهنا لا يكاد السد يجد ماء ويصبح مشروعًا هزيلًا هيدرولوجيًا غير مجدٍ اقتصاديًا غير مُهدد لمصر سياسيًا».
في السطور السالفة يتكئ العالم المصري جمال حمدان، على الأبحاث العلمية المستفيضة لإخصائيي الري، في حديثه عن مياه النيل المتدفقة إلى مصر، فيما أنشأت إثيوبيا سدها فوق النيل الأزرق بدون أي دراسات أو أبحاث علمية تسترشد بها في البناء وكميات المياه التي تسعى لتخزينها.
التعصب الإثيوبي
واصلت أديس أبابا التعنت في أزمة سد النهضة ضد دولتي المصب السودان ومصر، وأعلنت الانتهاء من الملء الرابع للسد الذي تبنيه على النيل الأزرق الذي يعد الرافد الأكبر لموارد المياه العذبة لشعبي وادي النيل، ما يهدد أكثر من ١٥٠ مليون إنسان بالعطش، نتيجة الإجراءات الإثيوبية الأحادية المخالفة لكل الاتفاقيات الدولية بشأن الأنهار العابرة للحدود إلى جانب الاتفاقيات الموقعة بين دول حوض النيل.
وجاء إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عن الانتهاء من الملء الرابع للسد دون الأفصاح عن كمية المياه التي خزنتها أديس أبابا مثلما جرت العادة في السنوات الثلاثة الماضية.
وهناك عدد من التساؤلات بشأن الكمية الحقيقية المخزنة في السد خلال كل ملء، ومجموع المياه المخزنة حاليا، في ظل الغموض الكبير بشأن بيانات التشغيل والملء التي تكون في أحيانا كثيرة مغلوطة أو غير موجودة من الأساس، إلى جانب عدم توليد الكهرباء من السد إلى اليوم رغم مرور كل هذه السنوات.
تكوين السد الإثيوبي
في نهاية عام ٢٠١٠ أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي، عن عزم أديس أبابا إنشاء سد بوردر أو الحدود بسعة تخزينية تبلغ ١٤.٥ مليار متر مكعب من المياه، وبارتفاع ٩٠ مترا لتوليد حوالي ١٤٠٠ ميجا وات من الكهرباء، وفي خضم أحداث يناير ٢٠١١ في مصر، عدلت إثيوبيا من خططها بشأن السد.
ففي نهاية مارس ٢٠١١ تعاقدت إثيوبيا مع شركة "ساليني" الإيطالية لإنشاء السد بتكلفة ٤.٨ مليار دولار، ما يمثل نحو نصف ميزانية إثيوبيا آنذاك، وعدلت مواصفات السد ليتسع إلى ٧٤ مليار متر مكعب من المياه بزيادة قدرها ٦٠ مليار، ويعلن "زيناوي" في الثاني من أبريل ٢٠١١ وضع حجر الأساس للسد في ولاية بني شنقول جوموز على الحدود مع السودان.
سد النهضةوفيما يتعلق بالإنشاءات فقد بدأت إثيوبيا في بناء سد خرساني على النيل الأزرق بارتفاع ١٤٥ مترا، وبطول ١.٨ كيلو متر، وتقع أمامه بحيرة التخزين بمساحة ١٩٠٠ كم مربع، وهناك سد آخر ركامي، بارتفاع ٥٠ متر وبطول ٤.٨ كم يقع أمام السد الرئيسي بعد كيلو مترات على الجانب الأيمن لغلق مصب وادي جانبي لمنع هروب مياه البحيرة عبر هذا الوادي. بالإضافة إلى محطتي توليد كهرباء، الأولى على يمين السد وبها ٦ توربينات، والثانية على يسار السد وبها ١٠ توربينات، بسعة تصل إلى ٣٧٥ ميجا وات لكل توربين، أي أن السعة الإجمالية لمحطتي الكهرباء تصل إلى ٦٠٠٠ ميجا وات، والتوربينات من طراز فرانسيس الموردة من شركة ألستون الفرنسية.
ويبعد سد النهضة مئات الكيلو مترات عن المدن الإثيوبية، حيث يصعب نقل الكهرباء إلا بكميات محدودة، إلى جانب أن إثيوبيا لا تملك شبكة كهرباء وطنية لنقل الطاقة من السد إلى المدن.
والسد الإثيوبي ممول من خمس جهات هي البنك الدولي، الحكومة الإيطالية، بنك الاستثمار الأوروبي، بنك التنمية الأفريقي، الحكومة الصينية، وتدعي أديس أبابا أنها تموله من أموال التبرعات التي تجمعها من الإثيوبيين في الداخل والخارج.
حصاد السنوات الأربع
وفي سبتمبر الجاري، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الانتهاء من المرحلة الرابعة لملء سد النهضة، حيث كان الملء الأول في عام ٢٠٢٠.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور عباس شراقي أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا بجامعة القاهرة، إن السد الإثيوبي ممتلئ الآن بكمية مياه قدرها ٤١ مليار متر مكعب، بعدما خزنت إثيوبيا ٢٤ مليار متر مكعب من المياه في الملء الرابع، عند منسوب ٦٢٥ مترا فوق سطح البحر.
السد الإثيوبي | البدء | الانتهاء | عدد الأيام | المعلن | الحقيقي |
الملء الأول | 1 يوليو 2020 | 21 يوليو 2020 | 21 يوما | 4.8 مليار م3 | 4.8 مليار م3 |
الملء الثاني | 4 يوليو 2021 | 18 يوليو 2021 | 12 يوما | 13.5 مليار م3 | 4 مليار م3 |
الملء الثالث | 11 يوليو 2022 | 11 أغسطس 2022 | 30 يوما | 22 مليار م3 | 9 مليار م3 |
الملء الرابع | 14 يوليو 2023 | 9 سبتمبر 2023 | 57 يوما | غير معلن | 24 مليار م3 |
وأوضح «شراقي» في تصريحات خاصة لـ«البوابة»، أن التخزين استغرق ما يقرب من ٥٨ يوما، بين ١٤ يوليو إلى ٩ سبتمبر لأن الكمية التي كانت مستهدفة للملء كبيرة وهي تبلغ ٤٥٪ من حصة مصر المائية من مياه النيل الأزرق، مشيرا إلى أن التخزين الأول للسد بدأ في الأول من يوليو ٢٠٢٠ حتى ٢١ من الشهر نفسه، وخزنت أديس أبابا آنذاك ٤.٨ مليار متر مكعب من المياه، لأن إيراد النيل في هذا الشهر يكون قليل. وأوضح أن التفاوت في أيام الملء يعود إلى التفاوت في إيراد النيل حيث إن شهر يوليو بالكامل يكون الإيراد ٧ مليارات وفي أغسطس يرتفع إلى ١٦ مليارا، و١٢ مليارا في شهر سبتمبر.
ونوه الدكتور عباس شراقي، إلى أن إثيوبيا بدأت الملء الثاني في ٤ يوليو ٢٠٢١ حتى ١٨ من الشهر ذاته، وخزنت ٤ مليارات متر مكعب من المياه فقط، خلافا لما هو معلن من أديس أبابا التي ادعت تخزين ١٣.٥ مليار، مبديا استغرابه من أن إيراد النيل خلال شهر يوليو بالكامل يبلغ ٧ مليارات فكيف يستقبل السد الإثيوبي كمية ضعف الإيراد الحقيقي؟.
الدكتور عباس شراقي أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا بجامعة القاهرةوفيما يتعلق بالملء الثالث فأكد «شراقي»، أنه بدأ في ١١ يوليو ٢٠٢٢ وانتهى بعد شهر في ١١ أغسطس ٢٠٢٢، وخزنت إثيوبيا ٩ مليارات متر مكعب من المياه، في الوقت الذي زعمت فيه إثيوبيا تخزين ٢٢ مليار متر مكعب في الملء الثالث فقط.
مشاكل فنية في التوربينات
وأشار إلى أن هناك مشاكل فنية في تشغيل التوربينات الموجودة في السد مستدلا على ذلك بفتح بوابتين من البوابات الخالية من التوربينات، قبل البدء في الملء الرابع من أجل تصريف كمية من المياه المخزنة لاستكمال الأعمال الإنشائية في السد، في حين لو أن التوربينات تعمل بشكل سليم كانت المياه ستصرف من خلالهم، ولكن لعيوب فنية وهندسية اضطرت إثيوبيا إلى فتح بوابات السد لتصريف المياه وهو ما يمثل خسارة بالنسبة لهم. وأوضح أن الصور الفضائية تكشف أن توربيني سد النهضة يعملان بشكل متقطع وغير دائم، ويبدو أن تشغيلهم ضعيف.
جدل الملء الرابع
أثار تصريح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في العاشر من سبتمبر الجاري، الجدل بشأن انتهاء الملء الرابع لسد النهضة، حيث قال إنه "الرابع والأخير"، وحسما لهذا الجدل أكد وزير الري الأسبق محمد نصر علام، أنها ترجمة خاطئة لخطاب رئيس الوزراء الإثيوبي وأن أديس أبابا ماضية في استكمال سد النهضة.
واستدل «شراقي» على خطأ ما نقل عن آبي أحمد، بأن بوابات سد النهضة موضوعة على ارتفاع ٦٤٥ مترا من سطح البحر، وهو الارتفاع النهائي للسد بينما المنشآت الخرسانية وصلت إلى ٦٢٥ مترا فقط، ومن المفترض أن تصبح في نفس مستوى البوابات لتستوعب الـ٧٤ مليار متر مكعب من المياه التي تخطط إثيوبيا لتخزينها.
وحسما للجدل في هذا اللغط، أكد وزير المياه والطاقة الإثيوبي المهندس هبتامو إيتيفا، أن الملء الرابع ليس الأخير وإنما، المقصود بكلمة "الأخير"، هو أن عمليات الملء القادمة لن تمر عبر الممر الأوسط، بعد أن شارفت أعمال البناء في الممر الأوسط بسد النهضة على الانتهاء.
وأكد في تصريحات نشرتها وكالة "فانا" الإثيوبية في ١٤ سبتمبر ٢٠٢٣ أن كلمة "الأخير" في البيان لاتعني توقف عمليات ملء السد، حيث ستستمر عمليات الملء في السنوات القادمة، وستمر المياه عبر المخارج السفلية، بما لا يسبب ضررا لدولتي المصب السودان ومصر.
الملء الأخير
وفي ظل هذا اللغط الكبير بشأن الملء الأخير، أعلن مدير سد النهضة الإثيوبي كيفلي هورو أن أعمال البناء الرئيسية بالسد وصلت إلى ٩٨٪، وقال إن مستوى الجانب الأيمن من السد سيكون من ٦٣٥ إلى ٦٤٥ مترا مربعا مشيرا إلى أنه تبقى عشرة أمتار فقط لإكمال القسمين الأيسر والأيمن.
وأكد أنه يتبقى ٢٠ مترا لاستكمال الجزء الأوسط من السد وسيتم الانتهاء منه بعد عام واحد، وهو ما نفس ما ذهب إليه الدكتور عباس شراقي، بأن المتبقي في الممر الأوسط ٢٠ مترا ليصبح مستوى البناء الإسمنتي بنفس ارتفاع البوابات.
التعاون بين مصر وإثيوبيا
تزعم أديس أبابا أنها تسعى إلى تصدير كهرباء السد إلى الخارج، وقال وزير الطاقة الإثيوبية في مايو ٢٠١٢ إن إثيوبيا تسعى إلى تصدير ٤٠ ألف ميجا وات بحلول عام ٢٠٣٥، إلا أن هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا بالتعاون مع السودان ومصر، وهو ما أكده وزير الري الأسبق محمد نصر علام، بأن إثيوبيا لن تستطيع الإستفادة من مشروع سد النهضة إلا بالتعاون مع السودان ومصر، لأن الهدف المعلن منه هو تصدير الكهرباء للخارج، مشيرا إلى أن مصر هي الدولة الوحيدة التي تملك شبكة كهرباء يمكنها استيعاب الطاقة المنتجة من السد الإثيوبي.
وزير الري الأسبق محمد نصر علاموأضاف وزير الري الأسبق في تصريحات خاصة لـ«البوابة»، أن أي مسار آخر تسعى إثيوبيا لاتخاذه وتجنب المرور عبر مصر، يفقد جدواه الاقتصادية وسيكون مكلفا للغاية عليها وعلى الدول التي سوف تستورد الكهرباء، في حال اكتمال المشروع.
وكان وزير الري الأسبق أكد في مقال سابق له في يوليو ٢٠٢٠ منشور في إصدار خاص للمركز المصري للفكر والاستراتيجية تحت عنوان «سد النهضة.. المخاطر والمغالطات والشراكة الممكنة»، إنه إذا فشلت إثيوبيا في استغلال السد لتصدير الكهرباء أو استغلالها محليا، ستضطر إلى إغلاق معظم أنفاق توربينات السد، فترتفع مياه السد نتيجة تخزينها إلى أن تخرج من مهارب فيضانات السد الإنشائية وتؤدي إلى خسائر اقتصادية وسياسية جسيمة وكذلك عرقلة مشاريع السدود المستقبلية على النيل الأزرق.
انهيار السد.. الطوفان قادم
وفي اليوم الذي أعلنت فيه إثيوبيا اكتمال الملء الرابع للسد، ضربت العاصفة دانيال مدينة درنة الليبية وانهار سدين وقبل هذه الكارثة بيومين شهدت المغرب زلزالا قويا بلغت شدته ٦.٨ على مقياس ريختر، وبعد يومين من انهيار سدين في درنة، كشفت وسائل إعلام إثيوبية أن بعض مناطق جنوب إريتريا وشمال إثيويبا، ضربها زلزال ق ٤.٩ على مقياس ريختر.
وكان مركز هذا الزلزال على عمق ضحل للغاية حيث يبلغ ١٥ كيلومترا وعادة ما يكون للزلازل السطحية تأثير أكبر من الزلازل العميقة في الأرض.
في خضم كل هذه التطورات المتلاحقة كانت الأسئلة ملحة بشأن الموقف الذي يمكن أن تواجهه مصر والسودان، في حال انهار سد النهضة الذي شيدته إثيوبيا بدون أي دراسات بشأن سلامته خاصة وأن حجمه وكمية المياه المخزنة تغير أكثر من مرة، تأثرا بالأحداث السياسية في مصر.
في هذا السياق، أوضح الدكتور عباس شراقي أن هناك أزمة كبيرة ستحدث في حال انهيار سد النهضة لأنه مبني في مناطق زلازل بها تشققات وفوالق إلى جانب السعة الضخمة التي يحتويها السد حاليا وهي ٤١ مليار متر مكعب من المياه.
الفالق الأفريقي العظيموأضاف «شراقي»، أن خلال شهر مايو الماضي وقع زلزال على الحدود بين إريتريا وإثيوبيا، قرب الأخدود الأفريقي العظيم وهو أكبر فالق على سطح الأرض، وما يزيد من احتمالية النشاط الزلزالي في هذه المنطقة هو كمية المياه المخزنة حاليا في السد، وأن بحيرة السد يمكن أن تنشئ زلازل جديدة.
وأكد أن انهيار سد النهضة سيشكل طوفان على السودان، لا يقارن بما حدث في مدينة درنة الليبية، التي انهار فيها سدان، مشيرا إلى أن السد العالي يمكنه استيعاب مياه الفيضان التي يمكن أن تصل جراء انهيار السد، حيث سيبدأ التأثر بعد ستة أيام.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: إثيوبيا التوربينات سد النهضة الملء الرابع ملیار متر مکعب من المیاه رئیس الوزراء الإثیوبی الدکتور عباس شراقی السد الإثیوبی السودان ومصر الملء الرابع النیل الأزرق الانتهاء من أدیس أبابا میاه النیل انهیار سد سد النهضة آبی أحمد میجا وات إلى جانب یمکن أن فی السد من السد فی هذا
إقرأ أيضاً:
طوفانٌ في بلاد البعث
لم أجد عنوانًا معبِرًا عن مشهدية الأيام الأخيرة من سنوات البعث في سوريا سوى العنوان «الاستفزازي» الصارخ الذي تقدم به عُمر أميرلاي إلى لجنة التحكيم في مهرجان قرطاج السينمائي قبل عشرين عامًا في تونس. ففي تلك السنة التي اجتثَّ خلالها طوفانُ قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة نسخةَ البعث الصَّدامية في العراق، كان المخرج السوري الراحل قد أنجز خاتمة أعماله الوثائقية «طوفان في بلاد البعث» الفِلم الذي يُنذر في سخرية داكنة رمزية بعلامات انهيار النظام البعثي الوشيك في سوريا. يومها هاجمت صحيفة «الشروق» التونسية الفِلم، معتبرةً أنه يتساوق مع «الحملة على سوريا التي بدأت منذ أشهر عبر العديد من الافتراءات، وهي تذكّرنا إلى حدّ كبير ببداية التمهيد للعدوان على العراق وغزوه» بل وحرَّضت الصحيفة في مقالها على منع الفِلم من العرض «كي لا تكون أيام قرطاج السينمائية منبراً للدعاية الصهيونية التي تستهدف سوريا»!
لعل وصفنا لذلك الفِلم المتهكم بـ «النبوءة» المبكرة قد يبدو اليوم من «كليشيهات» القول، أو هرولةً مع من تسابقوا منذ فجر الثامن من ديسمبر على إثبات ملكياتهم الفكرية الخاصة بنبوءاتهم السياسية «الاستشرافية» و»السبَّاقة» حول اقتراب موعد سقوط النظام الأسدي في الشام. بيد أن إطلاق التوقعات عن احتمال سقوط النظام في سوريا، إثر أحداث «الربيع العربي» وما تلاها، لم يكن بالأمر المتطلّب حدسًا ثاقبًا أو نباهة سياسية من نوع نادر، وخاصة بعد مسلسل التساقط المتلاحق في تونس ومصر وليبيا واليمن، وصولًا إلى السودان في عام 2019. ربما كان من الصعب التكهن بشكل النهاية وتوقيتها، إلا أنها ظلَّت حدثًا مرتقبًا طيلة الأعوام الثلاثة عشر الماضية. ولكن ما يرفع فِلم أميرلاي حقًا إلى مرتبة النبوءة هو توقيته الذي تزامن آن ذاك مع حالة من الانفراج النسبي والتفاؤل السياسي الحذر بقدوم الشاب «المثقف» و «المنفتح» إلى سدة الحكم في دمشق؛ فأن تعلن عن طوفان وشيك في بلاد البعث السورية، في ذلك التوقيت السياسي الحذر والمتفائل من عمر البلاد، وبعد ثلاث سنوات فقط من وصول بشار الأسد إلى السلطة، فتلك جُرأة غير معهودة لخيالٍ متقدم التوقيت على ساعة الراهن ومزاجه العام.
وصل الأسد الابن إلى السلطة بينما كان سدُّ الفرات يتشقق ببطء منذرًا بالطوفان. وهناك، كانت «الكاميرا المتشيطنة» لعمر أميرلاي، كما يصفها فجر يعقوب، ترصد بتأنٍ وصبر هدوء «بحيرة الأسد».. هدوء ما قبل الكارثة الوشيكة. عبقرية أميرلاي السينمائية ستُحول هذا السد إلى رمز، رمز لقصة سوريا البعثية، ورمز أشمل لبداية القصة ونهايتها، شخصي وعام في آن بالنسبة إلى عُمر. فمشروع السد الذي وقفت عليه الدولة مطلع السبعينيات بمساعدة السوفييت، وتغنى به البعثيون بوصفه الإنجاز التنموي الأعظم، كان النافذة الأولى للمخرج الشاب العائد من دراسة السينما في فرنسا متحمسًا لخطاب البعث الجديد ووعود الحركة التصحيحية. فكان فِلمُه الأول القصير «محاولة عن السد الفرات» محاولة متحمسة سرعان ما انقلب عليها في أعماله اللاحقة التي توَّجها بفلمه الأخير، عائدًا إلى السد- الرمز ذاته.
في مشاهد من الفِلم نرى التلاميذ وهم يقرأون من المنهاج المدرسي قصة حياة نهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويقطع الأراضي السورية صوب العراق: «في الخامس من تموز دخل نهر الفرات إلى المدرسة الجديدة ليتعلم كيف يقرأ وكيف يكتب، وكيف يمارس الحب مع الحقول والأشجار بطريقة عصرية. وعلى باب المدرسة نزع الرئيس حافظ الأسد من الفرات عباءته الطينية، وقص له شعره الأشعث وأظافره الطويلة، وأعطاه قلمًا ودفترًا وحبرًا أخضر، ليكتب يومياته كنهر متحضر، وأعلن وهو يحول مجرى النهر أن سد الفرات ليس عملًا هندسيًا خاصًا بسوريا، ولكنه عمل قوميّ من أعمال التحرير، وهذا الكلام يعني بوضوح أن لفلسطين حصتها من السد السوري». هكذا، بزخرفة إنشائية طريفة، تكتب الدولة قصة مشروعها الذي غمر قرى بكامل ذكريات سكانها تحت بحيرة الأسد. إنها لغة التدجين المدرسي وهي التؤنسن النهر بالمجاز والاستعارات وتحوله إلى كائن «متحضر» بأمر من «الزعيم الخالد»، فيما تحشو اللغة ذاكرة الطفل السوري بكلمات لا يفقه أبعادها مثل «القومية» و»التحرير». أما كلمة «فلسطين» فلا تبدو إلا كلمةً زائدةً في قصة النهر، مدفوعة عنوةً في متن النص المدرسي لأسباب تتعلق غالبًا بالتلقين السياسي الأعمى منذ الصغر وبدعاية الدولة الشمولية لنفسها.
رحل عمر أميرلاي عن عالمنا قبل أيام قليلة من انتفاضة المدن السورية التي صدَّعت سد البعث. أقفل المخرج عدسته عن المشهد وغادر، فلم يشهد خراب الإنسان والعمران الذي جرَّه الطوفان على البلاد والعباد حتى آخر لحظة من اليوم الأخير. لكن حكاية السد والطوفان التي صنعها بنباهته الحادة ستظل نبوءة خالدة في ذاكرة السوريين الحالمين بحرية النهر وعودته إلى مجراه الطبيعي.